وأخبرني القاضي شهاب الدين أبو المعالي أحمد بن مدرك بن سليمان يأثره عن المعريين أن الخطيب أبا زكريا التبريزي قدم على الشيخ أبي العلاء وأقام عنده مدة يقرأ عليه ، وأعطاه الخطيب صرة فيها ذهب وقال له : أوثر من الشيخ أن يدفعها إلى بعض من يراه ليشتري لي بها خبزا ولحما وما تدعو حاجتي إليه ، ويجري ذلك علي في كل يوم لأتناوله مدة مقامي عنده للقراءة ، وأتوفر بذلك على الاشتغال ، ويتفرغ بالي للاستفادة ، ويترفه خاطري ، ولا يكون لي شغل غير ما أنا بصدده. فأخذ الشيخ أبو العلاء الصرة منه ووضعها عنده ، وتقدم إلى وكيله وأجرى للخطيب ما تدعو إليه حاجته ، فتناول ذلك مدة مقامه بمعرة النعمان وهو يظن أنه من ذهبه الذي دفعه إلى الشيخ ، فلما أراد الانصراف ودّع الشيخ أبا العلاء فدفع إليه صرته بعينها ، فقال الخطيب للشيخ : ما ظننت أنك تفعل هذا ولا أردت التثقيل عليك بغير الاستفادة من علمك. وعرّض له بأخذه ، فقال الشيخ : قد كان ذلك ولا سبيل إلى ردّ هذه الصرة عليّ ، وهذا ذهبك بعينه. فأخذه الخطيب وانصرف رحمهماالله تعالى. وكان الخطيب فقيرا محتاجا.
فصل
في ذكر قناعة نفسه وشرفها وعفّتها عن أخذ صلات الناس وظلفها
قد ذكر أبو العلاء في مقدمة سقط الزند أنه لم يكن من طلاب الرفد والصلة ، ولم يمدح أبو العلاء إلا اليسير من الناس في صدر عمره قبل انقطاعه عن الناس ، وكان ذلك في مقارضة تقع بينه وبين رجل كبير فاضل مثل الشريف أبي إبراهيم ، أو أن يكون ذلك الرجل من أهله من تنوخ مثل أبي الرضا الفصيصي التنوخي ، أو الملك مطاع أو وزير معظم. ولم يمدحهم لعطاء ولا نايل ، ولم يقبل هدية ولا صلة من شريف ولا وضيع.
وقد ذكر في رسالته التي ذكرناها فيما قبل وكتبها إلى أهل معرة النعمان حين عزم على الانقطاع في منزله والاحتجاب عن الناس : «وأحلف ما سافرت أستكثر من النشب ولا أتكثر بلقاء الرجال» ثم قال بعد ذلك فيها : «ويحسن جزاء البغداديين ، فلقد وصفوني بما لا أستحق وشهدوا لي بالفضيلة على غير علم ، وعرضوا عليّ أموالهم عرض الجد ، فصادفوني غير جذل بالصفات ولا هشّ إلى معروف الأقوام» ا ه.