كل من في الجامع إلا القاضي والمشايخ وهدموا الماخور وأخذوا خشبه ونهبوه ، وكان أسد الدولة صالح في نواحي صيدا. ثم قال في هذا التاريخ : سنة ثمان عشرة وأربعمائة : فيها وصل الأمير أسد الدولة صالح بن مرداس إلى حلب وأمر باعتقال مشايخ المعرة وأماثلها ، فاعتقل سبعون رجلا في محبس الحصن سبعين يوما ، وذلك بعد عيد الفطر بأيام ، وكان أسد الدولة غير مؤثر لذلك ، وإنما غلب تاذرس على رأيه ، وكان يوهمه أنه يقيم عليهم الهيبة. ولقد بلغنا أنه خاطبه في ذلك فقال له : أقتل المهذب وأبا المجد يعني أخا أبي العلاء بسبب ماخور ، فما أفعل. وقد بلغني أنه دعي لهم في آمد وميّافارقين ، وقطع عليهم ألف دينار ، واستدعى الشيخ أبا العلاء بن عبد الله بن سليمان رحمهالله بظاهر معرة النعمان ، فلما حصل عنده في المجلس قال له أبو العلاء : مولانا الأمير السيد الأجل أسد الدولة ومقدمها وناصحها ، كالنهار الماتع اشتد هجيره وطاب أبرداه ، وكالسيف القاطع لأن صفحه وخشن حداه (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) فقال صالح : قد وهبتهم لك أيها الشيخ ، ولم يعلم الشيخ أبو العلاء أن المال قطع عليهم ، وإلا كان قد سأل فيه. ثم قال الشيخ أبو العلاء بعد ذلك شعرا :
تغيبت في منزلي برهة |
|
ستير العيوب فقيد الحسد |
فلما مضى العمر إلا الأقلّ |
|
وحمّ لروحي فراق الجسد |
بعثت شفيعا إلى صالح |
|
وذاك من القوم رأي فسد |
فيسمع مني سجع الحمام |
|
وأسمع منه زئير الأسد |
فلا يعجبنّي هذا النفاق |
|
فكم نفّقت محنة ما كسد |
وقد ذكر بعض الرواة أن صالحا قال له عند ما أنشده هذا الشعر : نحن الذين تسمع منا سجع الحمام وأنت الذي نسمع منك زئير الأسد.
وهذا تاذرس المشار إليه في هذه الحكاية هو تاذرس بن الحسن النصراني ، وكان وزير صالح بن مرداس وصاحب السيف والقلم ، وكان متمكنا عنده ، وكان في نفسه من أهل المعرة شيء لأنهم قتلوا حماه الخوري ، وكان يؤذيهم فتتتبع قتلته وصلبهم وقتلهم ، فلما أنزلوا عن الخشب ليصلى عليهم ويدفنوا قال الناس حينئذ يكايدون النصارى : قد رأينا عليهم طيورا بيضا ، وما هي إلا الملائكة. فبلغت هذه الكلمة تاذرس فنقمها على أهل المعرة واعتدّها ذنبا لهم ، فلما اتفقت هذه الواقعة من نهب الماخور شدد تاذرس عليهم لذلك.