حتى إذا حططت رحلي بالقرى ، وقنعت بالزّاد الذي كفى معيارا والقرى ؛ أدخلت إلى دار ضيقة المسالك ، شديدة الظّلمة كالليل الحالك ، تذكّرني القبر وأهواله وتنسيني الذي أهواه ، بل تزيد على القبر برفل لا يتخلّص ، وبراغيث كزريعة الكتّان حين تمحّص ؛ وبعوض يطيل اللهز (١) ، ولا تغنّي حتى تشرب ، وبوق يسقط سقوط النّدى ، ويزحف إلى فراشي زحف العدا ؛ وأراقم خارجة من الكوى ، وحيّات بلدغها نزّاعة للشّوى ؛ وجنون يسمع عزيفها ، وسرّاق لا يعدم تخويفها ؛ هذا ولا قرق لمن بالقهر حبس ، إلّا حصير قد اسودّ من طول ما لبس ؛ لا يجتزى في طهارته بالنّضح ، ولا يحشد من جلس عليه إلّا بالجرح ؛ حتى إذا سجا الليل ، وامتدّ منه على الآفاق الذيل ، فارقني العون فراق الكرى ، ورأيت الدمع لما جرى قد جرى ؛ فأتوسّد والله ذراعي ، ولأحمد والله اضطجاعي ؛ فكلا ليليّ محمومين (٢) ، والوجع والسّهر محمولان على الرأس والعين ؛ حتى إذا طلع الصبح ، وآن لبالي وعيون الخصوم الفتح ، أتاني عون قد انحنى ظهره ظهره ، ونيّف عن المائة عمره ، لا يشعر بالجون الصّيّب ، ولا تسمعه كلمات أبي الطيّب ؛ بربري الأصل ، غير عارف بالفصل ؛ حتى إذا أذنت للخصوم ، وأردت إحياء الرسوم ، دخل عليّ غولان عاقلان ، وأثقل كتفي منهما مائلان ، قد أكلا الثّوم النّيء والبصل ، وعرقا في الزّنانير عرقا اتّصل ، يهديان إليّ تلك الروائح ، ويظهران لي المخازي والفضائح ؛ فإذا حكمت لأحدهما على خصمه ، وأردت الفصل الذي لا مطمع في فصمه ؛ هرب العون هربا ، وقضى من النجاة بنفسه أربا ؛ واجتمع إلى النصحاء ، وجاء المرضى والأصحّاء ، كلّ يقول أتريد تعجيل المنايا ، وإثكال الولايا ، وإتعاب صديقك السّيد العماد ، بمرتبة كما فعل مع القاضي الحدّاد ؛ فأقول هذا جهاد ، وما لي في الحياة مراد ، فأرتكب الخطر ، وأقضي في الحكم الوطر ، والله يسلّم ، ويكمل اللطف ويتمّم. وأما إذا جاء أحدكم لكتب عقد ، وطمعت في نسيئة أو نقد ، قطعت يومي في تفهّم مقصده ، مستعيذا بالله من غضبه وحرده ؛ حتى إذا ما تخلّصت منه ، وملأت السّجل بما أثبته عنه ، كشف عن أنياب عضل ، وعبس عبوس المحب لانقطاع وصل ؛ وقال : لقد أخطأت فيما كتبت ، ورسمت ما أردت وأحببت ؛ فأكتب عقدا ثانيا وثالثا ، وأرتقب مع كل كلام حادث حادثا ؛ فإذا رضي ، فأسأله كيف ؛ وسنّ السّالي الذي أظهره ، أو اسمه أو السيف ، أخرج من فمه درهما نتنا ، قد لزم ضرسا عفنا ؛ فأعاجله في البخور ، وأحكّه في الصّخور ، حتى إذا حمل لمن يبيع
__________________
(١) اللهز : الطّعن ، يقال : لهزه بالرمح إذا طعنه في صدره. لسان العرب (لهز).
(٢) تقتضي قواعد الإعراب أن ترفع هكذا : «محمومان».