فإنّ أهاليهم يحنّون إليهم حنين العشار ، وتهتزّ لهم منهم الأشعار والأبشار ، وتتحدّر مدامعهم عندما إليهم يشار ، ومع ذلك فإنّنا نعيذهم بالله من قول بشّار [من الطّويل] :
وأوبة مشتاق بغير دراهم |
|
إلى أهله من أعظم الحدثان |
ومما أمرى العيون ، وأشوى الجفون من كتاب سيّره جدّنا المحسن لأحبابه بجاوة من روضة العلوم إذ ذاك مسجد طه حينما أخذه الطّرب ، وملأه الأنس بالرّب ، يصف لهم ما يجنون من المعارف ، ويتمتّعون به في ظلّها الوارف ، يحدوهم لناديهم ، ويشوقهم لواديهم ، ولا بدّ أن يصيب مهزّهم ، ويطبق محزّهم ، ويسيل شؤونهم ، ويرعف عيونهم ، ولئن انتثر الجمان ، وانحطّ الزّمان .. فلا يزال حبّ الأوطان من الإيمان.
بلادي ـ وإن هانت مقاما ـ عزيزة |
|
وأهلي وإن جاروا عليّ كرام (١) |
وقال بعض من أغزاه عثمان وجمّره (٢) [من الطّويل] :
بلغنا إلى حلوان والقلب نازع |
|
إلى أهل نجد أين حلوان من نجد |
لجثجاث نجد حين يضربه النّدى |
|
أحبّ وأشهى عندنا من جنى الورد (٣) |
وغنّت حبابة بقول الأحوص (٤) [من الوافر] :
لعمري إنّني لأحبّ سلعا |
|
ومن قد حلّ في أكناف سلع |
حلفت بربّ مكّة والمصلّى |
|
وأيدي السّابحات غداة جمع |
لأنت على التّداني والتّنائي |
|
أحبّ إليّ من بصري وسمعي |
ثم تأوّهت آهة كادت تقضّب ضلوعها ، فقال لها الوليد : ما هذا؟ وأنا لو شئت حملت إليك سلعا حجرا حجرا ، فقالت : إنّما أحبّ المكان لأجل السّكّان ، وكان لها رباء بالمدينة.
__________________
(١) البيت من الطويل.
(٢) جمّره : حبسه في الثغر ومنعه عن العود إلى أهله.
(٣) الجثجاث : شجر أصفر ، مرّ ، طيب الريح.
(٤) القصة والأبيات في «الأغاني» (١٥ / ١٣٥).