ما عند الله فانتدبوا إليهم حتّى تلاقوهم فإن أصبتم منهم طرفاً فانكلوهم عن العراق ، ثمّ سكت رجاء أن يجيبوه أو يتكلّم منهم متكلّم بخير ، فلمّا رأى صمتهم على ما في أنفسهم خرج بنفسه ماشياً حتّى أتى النخيلة ، فأدركه الناس فقالوا : نحن نكفيكهم ، فقال (عليه السلام) : والله ما تكفوني أنفسكم فكيف تكفوني غيركم. وفي رواية اُخرى (١) : خرج يمشي راجلا حتّى أتى النخيلة والناس يمشون معه حتّى أحاط به قوم من أشرافهم فلم يزالوا به حتّى صرفوه إلى منزله وهو واجم كئيب.
فهذه الرواية قاضية بأنّ النخيلة لم يبلع البُعد بها عن الكوفة بمقدار بريدين مسيرة يوم ، وكيف يترك الناس أمير المؤمنين (عليه السلام) وإمام المسلمين يمشي إليها راجلا ولا يردّونه من الطريق وهي بهذه المثابة من البُعد.
وأظنُّ أنّ النخيلة هي هذا الموضع المعروف اليوم بالكِفل أو فوقه بقليل للخارج من الكوفة فإنّه محلّ واقع في طريق المسافر منها إلى الشام ، والطريق منها يمرّ على الطفّ وبه آثار قديمة باقية إلى الآن ، والمسافة بينه وبين الكوفة للخارج من أطراف المساجد وأوساط البلد يوشك أن يكون بريداً.
ويشهد لذلك ما رواه نصر بن مزاحم في كتاب «صفين (٢)» بإسناده عن الأصبغ ابن نباتة قال : مرّت جنازة على عليّ (عليه السلام) وهو بالنخيلة ، فقال : ما يقول الناس في هذا القبر؟ ـ وفي النخيلة قبر عظيم يدفن اليهود موتاهم حوله ـ فقال الحسن بن عليّ (عليهما السلام) : يقولون هذا قبر هود النبيّ (عليه السلام) لمّا أن عصاه قومه جاء فمات هاهنا. فقال : كذبوا لأنا أعلم به منهم ، هذا قبر يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم بكر يعقوب ، ثمّ قال : هاهنا أحد من مهرة * قال : فأُتي بشيخٍ كبير فقال : أين منزلك؟
__________________
* ـ مهرة بن حيدان ـ بالفتح ـ : حيُّ ، والإبل المهرية منه. (القاموس المحيط : ج ٢ ص ١٣٧ مادّة «مهر»).
__________________
(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ٢ ص ٨٧ ـ ٨٨.
(٢) وقعة صفين : ص ١٢٦ ـ ١٢٧.