«لعل» متعلقة بـ «خلقكم» لا بـ «اعبدوا» وهذا من غوامض التغليب ، وكقوله
تعالى : (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) [الشّورى : الآية ١١] فإن الخطاب فيه شامل للعقلاء والأنعام ، فغلّب فيه
المخاطبون على الغيّب ، والعقلاء على الأنعام ، وقوله تعالى : (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) أي يبثّكم ، ويكثّركم في هذا التدبير ، وهو أن جعل
للناس والأنعام أزواجا ، حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل ، فجعل هذا
التدبير كالمنبع والمعدن للبثّ والتكثير ، ولذلك قيل : (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) [الشّورى : الآية ١١] ولم يقل : «به» كما في قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) [البقرة : الآية ١٧٩].
واعلم أنه لما
كانت هاتان الكلمتان لتعليق أمر بغيره ـ أعني الجزاء بالشرط ـ في الاستقبال ؛
امتنع في كل واحدة من جملتيهما الثبوت ، وفي أفعالهما المضيّ ، أعني أن يكون كلتا
الجملتين أو إحداهما اسميّة أو كلا الفعلين أو أحدهما ماضيا.
ولا يخالف ذلك
لفظا ـ نحو إن أكرمتني أكرمتك ، وإن أكرمتني أكرمك ، وإن تكرمني أكرمتك ، وإن
تكرمني فأنت مكرم ، وإن أكرمتني الآن فقد أكرمتك أمس ـ إلا لنكتة ما ، مثل إبراز
غير الحاصل في صورة الحاصل ، إما لقوة الأسباب المتآخذة في وقوعه ، كقولك : «إن
اشترينا كذا» حال انعقاد الأسباب في ذلك ، وإما لأن ما هو للواقع كالواقع ، كقولك
: «إن متّ كان كذا وكذا» كما سبق ، وإما للتفاؤل ، وإما لإظهار الرغبة في وقوعه ،
نحو : إن ظفرت بحسن العاقبة فهو المرام ؛ فإن الطالب إذا تبالغت رغبته في حصول أمر
، يكثر تصوّره إياه ، فربما يخيّل إليه حاصلا ، وعليه قوله تعالى : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى
الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) [النّور : الآية ٣٣]. وقد يقوى هذا التخيل عند الطالب حتى إذا وجد حكم
الحسّ بخلاف حكمه غلّطه تارة واستخرج له محملا أخرى ، وعليه قول أبي العلاء المعري
:
ما سرت إلّا
وطيف منك يصحبني
|
|
سرى أمامي ،
وتأويبا على أثري
|
يقول : لكثرة
ما ناجيت نفسي بك انتقشت في خيالي ، فأعدّك بين يديّ مغلّطا للبصر بعلّة الظلام
إذا لم يدركك ليلا أمامي وأعدّك خلفي إذا لم يتيسّر لي تغليطه حين لا يدركك بين
يديّ نهارا ، وإما لنحو ذلك.
قال السكاكي :
أو للتعريض كما في قوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزّمر : الآية ٦٥] ، وقوله تعالى : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ
أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً
__________________