يقدّمان أبدا على الفعل إذا نحي بهما نحو ما ذكرناه ، ولا يستقيم المعنى فيهما إذا لم يقدما.
والسر في ذلك أن تقديمهما يفيد تقوّي الحكم كما سبق تقريره ، وسيأتي أن المطلوب بالكناية في مثل قولنا : «مثلك لا يبخل» و «غيرك لا يجود» هو الحكم ، وأن الكناية أبلغ من التصريح فيما قصد بها ، فكان تقديمهما أعون للمعنى الذي جلبا لأجله.
قيل : وقد يقدّم لأنه دال على العموم ، كما تقول : «كل إنسان لم يقم» فيقدّم ليفيد في نفي القيام عن كل واحد من الناس ؛ لأن الموجبة المعدولة المهملة في قوة السالبة الجزئية المستلزمة نفي الحكم عن جملة الافراد ، دون كل واحد منها ، فإذا سوّرت بـ «كل» وجب أن تكون لإفادة العموم ، لا لتأكيد نفي الحكم عن جملة الافراد ، لأن التأسيس خير من التأكيد ، ولو لم تقدم فقلت : «لم يقم كل إنسان» كان نفيا للقيام عن جملة الأفراد ، دون كل واحد منها ؛ لأن السالبة المهملة في قوة السالبة الكلية المقتضية سلب الحكم عن كل فرد ؛ لورود موضوعها في سياق النفي ، فإذا سوّرت بـ «كل» وجب أن تكون لإفادة نفي الحكم عن جملة الأفراد ؛ لئلا يلزم ترجيح التأكيد على التأسيس.
وفيه نظر ؛ لأن النفي عن جملة الأفراد في الصورة الأولى ، أعني الموجبة المعدولة : المهملة ، كقولنا : «إنسان لم يقم» وعن كل فرد في الصورة الثانية ، أعني السالبة المهملة ، كقولنا : «لم يقم إنسان» إنما أفاده الإسناد إلى «إنسان» فإذا أضيف «كل» إلى «إنسان» وحوّل الإسناد إليه ، فأفاد في الصورة الأولى نفي الحكم عن جملة الافراد ، وفي الثانية نفيه عن كل فرد منها ؛ كان «كل» تأسيسا لا تأكيدا ؛ لأن التأكيد لفظ يفيد تقوية ما يفيده لفظ آخر ، وما نحن فيه ليس كذلك.
ولئن سلمنا أنه يسمّى تأكيدا كقولنا : «لم يقم إنسان» إذا كان مفيدا للنفي عن كل فرد ؛ كان مفيدا للنفي عن جملة الافراد لا محالة ، فيكون «كل» في «لم يقم كل إنسان» إذا جعل مفيدا للنفي عن جملة الافراد تأكيدا لا تأسيسا كما قال في «كل إنسان لم يقم» ؛ فلا يلزم من جعله للنفي عن كل فرد ترجيح التأكيد على التأسيس.
ثم جعله قولنا : «لم يقم إنسان» سالبة مهملة في قوة سالبة كلية ـ مع القول بعموم موضوعها لورودها نكرة في سياق النفي ـ خطأ ؛ لأن النكرة في سياق النفي إذا كانت للعموم كانت للقضية التي جعلت هي موضوعا لها سالبة كلية ، فكيف تكون سالبة مهملة؟.
ولو قال : «لم يكن الكلام المشتمل على كلمة «كل» مفيدا لخلاف ما يفيده الخالي عنها ؛ لم يكن في الإتيان بها فائدة» لثبت مطلوبه في الصورة الثانية دون الأولى ، لجواز أن يقال : إن فائدته فيها الدلالة على نفي الحكم عن جملة الافراد بالمطابقة.