المعنى : أفأنت تقدر على إكراههم على الإيمان؟ أو أفأنت تقدر على هدايتهم على سبيل القسر والإلجاء؟ أي : إنما يقدر على ذلك الله ، لا أنت.
وحمل السكاكي تقديم الاسم في هذه الآيات الثلاث على البناء على الابتداء دون تقدير التقديم والتأخير ، كما مرّ في نحو : أنا ضربت ، فلا يفيد إلا تقوّي الإنكار.
ومن مجيء الهمزة للإنكار نحو قوله تعالى : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) [الزّمر : الآية ٣٦] ، وقول جرير :
ألستم خير من ركب المطايا |
|
وأندى العالمين بطون راح (١) |
أي : الله كاف عبده ، وأنتم خير من ركب المطايا ؛ لأن نفي النفي إثبات ، وهذا مراد من قال : إن الهمزة فيه للتقرير ، أي للتقرير بما دخله النفي ، لا للتقرير بالانتفاء.
وإنكار الفعل مختص بصورة أخرى ، وهي نحو قولك : أزيدا ضربت أم عمرا؟ لمن يدّعي أنه ضرب إمّا زيدا وإمّا عمرا ، دون غيرهما ؛ لأنه إذا لم يتعلّق الفعل بأحدهما ، والتقدير أنه لم يتعلق بغيرهما ؛ فقد انتفى من أصله لا محالة.
وعليه قوله تعالى : (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) [الأنعام : الآية ١٤٣]؟ أخرج اللفظ مخرجه إذ كان قد ثبت تحريم في أحد الأشياء ، ثم أريد معرفة عين المحرّم ، مع أن المراد إنكار التحريم من أصله.
وكذا قوله : (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ) [يونس : الآية ٥٩]؟ إذ معلوم أن المعنى على إنكار أن يكون قد كان من الله تعالى إذن فيما قالوه ، من غير أن يكون هذا الإذن قد كان من غير الله ، فأضافوه إلى الله ، إلا أن اللفظ أخرج مخرجه إذا كان الأمر كذلك ؛ ليكون أشدّ لنفي ذلك وإبطاله ، فإنه إذا نفي الفعل عما جعل فاعلا له في الكلام ولا فاعل له غيره ، لزم نفيه من أصله.
قال السكاكي رحمه الله : وإياك أن يزول عن خاطرك التفصيل الذي سبق في نحو : أنا ضربت ، وأنت ضربت ، وهو ضرب ؛ من احتمال الابتداء ، واحتمال التقديم ، وتفاوت المعنى في الوجهين ؛ فلا تحمل نحو قوله تعالى : (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ) [يونس : الآية ٥٩]؟ على التقديم ؛ فليس المراد أن الإذن ينكر من الله دون غيره ، ولكن احمله على الابتداء ، مرادا منه تقوية حكم الإنكار.
__________________
(١) البيت من الوافر ، وهو لجرير في ديوانه ص ٨٥ ، ٨٩ ، والجنى الداني ص ٣٢ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٤٢ ، ولسان العرب (نقص) ، ومغني اللبيب ١ / ١٧ ، وبلا نسبة في الخصائص ٢ / ٤٦٣ ، ٣ / ٢٦٩ ، ورصف المباني ص ٤٦ ، وشرح المفصل ٨ / ١٢٣ ، والمقتضب ٣ / ٢٩٢.