نحو (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) [البقرة : الآية ١١] ادّعوا أن كونهم مصلحين ظاهر جليّ ، ولذلك جاء : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) [البقرة : الآية ١٢] للرد عليهم مؤكدا بما ترى : من جعل الجملة اسمية ، وتعريف الخبر باللام ، وتوسيط الفصل ، والتصدير بحرف التنبيه ، ثم بـ «إنّ» ومثله قول الشاعر :
إنّما مصعب شهاب من الله |
|
تجلت عن وجهه الظّلماء (١) |
ادّعى أن كون مصعب كما ذكر جليّ معلوم لكل أحد ، على عادة الشعراء إذا مدحوا أن يدّعوا في كل ما يصفون به ممدوحيهم الجلاء ، وأنهم قد شهروا به حتى إنه لا يدفعه أحد ، كما قال الآخر : [الحطيئة]
وتعذلني أفناء سعد عليهم |
|
وما قلت إلّا بالتي علمت سعد (٢) |
وكما قال البحتري :
لا أدّعي لأبي العلاء فضيلة |
|
حتّى يسلّمها إليه عداه (٣) |
واعلم أن لطريق «إنما» مزيّة على طريق العطف ، وهي أنه يعقل منها إثبات الفعل لشيء ونفيه عن غيره دفعة واحدة ، بخلاف العطف ، وإذا استقريت وجدتها أحسن ما تكون موقعا إذا كان الغرض بها التعريض بأمر هو مقتضى معنى الكلام بعدها ، كما في قوله تعالى : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) [الرّعد : الآية ١٩] فإنه تعريض بذمّ الكفار ، وأنهم من فرط العناد وغلبة الهوى عليهم في حكم من ليس بذي عقل ، فأنتم في طمعكم منهم أن ينظروا ويتذكروا ، كمن طمع في ذلك من غير أولي الألباب ، وكذا قوله تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) [النّازعات : الآية ٤٥] وقوله تعالى : (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) [فاطر : الآية ١٨] المعنى على أن من لم تكن له هذه الخشية فكأنه ليس له أذن تسمع ، وقلب يعقل ، فالإنذار معه كلا إنذار.
قال الشيخ عبد القاهر : ومثال ذلك من الشعر قوله : [العباس بن الأحنف]
أنا لم أرزق محبّتها |
|
إنّما للعبد ما رزقا (٤) |
__________________
(١) البيت من المتقارب ، وهو لعبيد الله بن قيس الرقيات في مصعب بن الزبير بن العوام. والبيت في مفتاح العلوم ص ١٢٨ ، ودلائل الإعجاز ص ٢٥٥ ، والعقد الفريد (١ / ٢٤) ، والكامل للمبرد (١ / ٣٩٩).
(٢) البيت من الطويل ، وهو للحطيئة في ديوانه ص ٤١.
(٣) البيت من الكامل ، وهو في الدلائل ص ٢٥٥ و٣٧٦ ، والمفتاح ص ١٢٨.
(٤) من الرجز ، وهو في دلائل الإعجاز ص ٢٧٢.