خلقته ، وحسن صنعته ، وصواب تهيئته ، وربّما وقف بعضهم على الشيء لجهل سببه ، والإرب فيه ، فيسرع إلى ذمّه ، ووصفه بالإحالة والخطأ كالّذي أقدمت عليه المنّانيّة الكفرة ، وجاهرت به الملاحدة الماردة الفجرة ، وأشباههم من أضلّ الضلّال.
يا مفضّل ، أوّل العبر والأدلّة على الباري تهيئة هذا العالم ، وتأليف أجزائه ، ونظمها على ما هي عليه ، فإنّك إذا تأمّلت العالم بفكرك ، وميّزته بعقلك ، وجدته كالبيت المبنيّ المعدّ فيه جميع ما يحتاج إليه عباده ، فالسماء مرفوعة كالسقف ، والأرض ممدودة كالبساط ، والنجوم منضودة كالمصابيح ، والجواهر مخزونة كالذخائر ، وكلّ شيء فيها لشأنه معدّ ، والإنسان كالمملّك ذلك البيت ، والمحوّل جميع ما فيه ، وضروب النبات مهيّأة لمآربه ، وصنوف الحيوان مصروفة في مصلحه ومنافعه.
ففي هذا دلالة واضحة على أنّ العالم مخلوق بتقدير وحكمة ، ونظام وملاءمة ، وأنّ الخالق له واحد ، وهو الّذي ألّفه ونظّمه بعضا إلى بعض ؛ جلّ قدسه ، وتعالى جدّه ، وكرم وجهه ، ولا إله غيره ، تعالى عمّا يقول الجاحدون ، وعظم عمّا يتّخذه الملحدون ، وسنبتدئ يا مفضّل بذكر خلق الإنسان فاعتبر به.
فأوّل ذلك ما يدبّر به الجنين في الرحم ، وهو محجوب في ظلمات ثلاث : ظلمة البطن ، وظلمة الرحم ، وظلمة المشيمة ، لا حيلة عنده في طلب غذاء ، ولا دفع أذى ، ولا استجلاب منفعة ، ولا دفع مضرّة ، فإنّه يجري إليه دم الحيض ما يغذوه كما يغذوه الماء النبات ، فلا يزال ذلك غذاءه ، حتّى إذا كمل