معاني القرآن

أبي الحسن سعيد بن مسعدة المجاشعي البلخي البصري [ الأخفش الأوسط ]

معاني القرآن

المؤلف:

أبي الحسن سعيد بن مسعدة المجاشعي البلخي البصري [ الأخفش الأوسط ]


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3518-X
الصفحات: ٣٦٠

ويجعلون عليها حركة الدال التي في موضع العين. وبعضهم لا يكسر الراء ولكنه يشمها الكسر كما يروم في «قيل» الضم. وقال الفرزدق (١) : [الطويل]

٢٣ ـ وما حلّ من جهل حبا حلمائنا

ولا قائل المعروف فينا يعنّف (٢)

سمعناه ممن ينشده من العرب هكذا.

وأما قوله (أنؤمن كماءامن السّفهاء ألا إنّهم هم السّفهاء) [الآية ١٣] فقد قرأهما قوم مهموزتين جميعا ، وقالوا (سواء عليهم أنذرتهم) [البقرة : ٦] و (ولا يحيق المكر السّيّئ إلّا بأهله) [فاطر : الآية ٤٣] وقالوا (أإذا) [الواقعة : ٤٧] (أإنا) [الواقعة : ٤٧] كل هذا يهمزون فيه همزتين ، وكل هذا ليس من كلام العرب إلا شاذا. ولكن إذا اجتمعت همزتان شتى ليس بينهما شيء فإن إحداهما تخفف في جميع كلام العرب إلا في هذه اللغة الشاذة القليلة وذلك أنه إذا اجتمعت همزتان في كلمة واحدة أبدلوا الآخرة منهما أبدا فجعلوها إن كان ما قبلها مفتوحا ألفا ساكنة نحو «آدم» و «آخر» و «آمن» ، وإن كان ما قبلها مضموما جعلت واوا نحو «أوزز» إذا أمرته أن يؤز ، وإن كان ما قبلها مكسورا جعلت ياء نحو «إيت» ، وكذلك إن كانت الآخرة متحركة بأي حركة كانت والأولى مضمومة أو مكسورة فالآخرة تتبع الأولى نحو «أن أفعل» من «أأب» فتقول «أووب». ونحو «جاء» في الرفع والنصب والجر.

فأما المفتوحة فلا تتبعها الآخرة إذا كانت متحركة لأنها لو تبعتها جعلت همزة مثلها. ولكن تكون على موضعها. فإن كانت مكسورة جعلت ياء ، وإن كانت مضمومة جعلت واوا ، وإن كانت مفتوحة جعلت أيضا واوا لأن الفتحة تشبه الألف. وأنت إذا احتجت إلى حركتها جعلتها واوا ما لم يكن لها أصل في الياء معروف فهذه الفتحة ليس لها أصل في الياء فجعلت الغالب عليها الواو نحو «آدم» و «أوادم». فلذلك جعلت الهمزتان إذا التقتا وكانتا من كلمتين شتى مخففة

__________________

(١) الفرزدق : هو همام بن غالب بن صعصعة التميمي الدارمي ، أبو فراس شاعر من النبلاء عظيم الأثر في اللغة ، يقال : لو لا شعر الفرزدق لذهب ثلث لغة العرب ، توفي سنة ١١٠ ه‍ (الأعلام ٨ / ٩٣).

(٢) البيت للفرزدق في ديوانه ٢ / ٢٩ ، وجمهرة أشعار العرب ص ٨٨٧ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٣٨١ ، والكتاب ٤ / ١١٨ ، ولسان العرب (حلل) ، (حبا) ، والمحتسب ١ / ٣٤٦ ، والمنصف ١ / ٢٥٠ ، وتاج العروس (حلل) ، (حبا).

٤١

إحداهما ، ولم يبلغ من استثقالهما أن تجعلا مثل المجتمعتين في كلمة واحدة. ولأن اللتين في كلمة واحدة لا تفارق إحداهما صاحبتها ، وهاتان تتغيران عن حالهما وتصير كل واحدة منها على حيالها أثقل منهما في كلمتين لأنّ ما في الكلمتين كلّ واحدة على حيالها فتخفيف الآخرة أقيس ، كما أبدلوا الآخرة حين اجتمعتا في كلمة واحدة ، وقد تخفف الأولى.

فمن خفف الآخرة في قوله (كماءامن السّفهاء ألا) [الآية ١٣] قال «السفهاء ولا» فجعل الألف في «ألا» واوا. ومن خفف الأولى جعل الألف التي في «السفهاء» كالواو وهمز ألف «ألّا». وأما (ءأنذرتهم) [الآية ٦] فإنّ الأولى لا تخفف لأنها أول الكلام. والهمزة إذا كانت أول الكلام لم تخفف لأن المخففة ضعفت حتى صارت كالساكن فلا يبتدأ بها.

وقد قال بعض العرب «آإذا» و «آأنذرتهم» و «آأنا قلت لك كذا وكذا» فجعل ألف الاستفهام إذا ضمت إلى همزة يفصل بينها وبينها بألف لئلا تجتمع الهمزتان. كل ذا قد قيل وكل ذا قد قرأه الناس.

وإذا كانت الهمزة ساكنة فهي لغة هؤلاء الذين يخففون إن كان ما قبلها مكسورا ياء نحو (أنبيهم بأسمايهم) [البقرة : ٣٢] ونحو «نبيّنا». وإن كان مضموما جعلوها واوا نحو «جونه» وإن كان ما قبلها مفتوحا جعلوه ألفا نحو «راس» و «فاس». وإن كانت همزة متحركة بعد حرف ساكن حرّكوا الساكن بحركة ما بعده وأذهبوا الهمزة يقولون في «في الأرض» : (فلرض) وفي (ما لكم مّن إله) [الأعراف : الآية ٥٩] : (منلاه) يحركون الساكن بالحركة التي كانت في الهمزة أي حركة كانت ويحذفون الهمزة.

وإذا اجتمعت همزتان من كلمتين شتى والأولى مكسورة والآخرة مكسورة فأردت أن تخفف الآخرة جعلتها بين الياء الساكنة وبين الهمزة ، لأن الياء الساكنة تكون بعد المكسورة نحو «هؤلاء يماء الله» ، تجعل الآخرة بين بين والأولى محققة. وإن كانت الآخرة مفتوحة نحو «هؤلاء أخواتك» ، أو مضمومة نحو «هؤلاء أمّهاتك» لم تجعل بين بين ، وجعلت ياء خالصة لانكسار ما قبلها لأنك إنما تجعل المفتوح بين الألف الساكنة وبين الهمزة ، والمضموم بين الواو الساكنة وبين الهمزة إذا أردت بين بين ، وهذا لا يثبت بعد المكسور.

٤٢

وإن كان الأول مهموزا أو غير مهموز فهو سواء إذا أردت تخفيف الآخرة ومن ذلك قولهم «مئين» و «مئير» في قول من خفف. وإن كان الحرف مفتوحا بعده همزة مفتوحة أو مكسورة أو مضمومة جعلت بين بين ، لأن المفتوح تكون بعده الألف الساكنة والياء الساكنة ، نحو «البيع» والواو الساكنة نحو «القول» وهذا مثل (يتفيؤا ظلاله) [النحل : ٤٨] و (يمسك السماء أن تقع على الأرض) [الحج : ٦٥] و «آاذا» و «آانا» إذا خففت الآخرة في كل هذا جعلتها بين بين. والذي نختار تخفيف الآخرة إذا اجتمعت همزتان ، إلا انا نحققهما في التعليم كلتيهما نريد بذلك الاستقصاء وتخفيف الآخرة قراءة أهل المدينة ، وتحقيقهما جميعا قراءة أهل الكوفة وبعض أهل البصرة.

ومن زعم أن الهمزة لا تتبع الكسرة إذا خففت وهي متحركة ، وإنما تجعل في موضعها دخل عليه أن يقول «هذا قارو» و «هؤلاء قاروون» و «يستهزوون» ، وليس هذا كلام من خفف من العرب إنما يقولون (يستهزءون) [الرّوم : الآية ١٠] و (قارئون).

وإذا كان ما قبل الهمزة مضموما وهي جعلتها بين بين. وإن كانت مكسورة أو مفتوحة لم تكن بين بين وما قبلها مضموم ، لأن المفتوحة بين الألف الساكنة والهمزة ، والمكسورة بين الياء الساكنة والهمزة. وهذا لا يكون بعد المضموم ، ولكن تجعلها واوا بعد المضموم إذا كانت مكسورة أو مفتوحة فتجعلها واوا خالصة لأنهما يتبعان ما قبلهما نحو «مررت بأكمو» و «رأيت أكموا» و «هذا غلاموبيك» تجعلها واوا إذا أردت التخفيف إلا أن تكون المكسورة مفصولة فتكون على موضعها لأنها قد بعدت.

والواو قد تقلب إلى الياء مع هذا وذلك نحو «هذا غلاميخوانك» و (لا يحيق المكر السيء يلا) [فاطر : ٤٣].

واذا كانتا في معنى «فعل» والهمزة في موضع العين جعلت بين بين لأن الياء الساكنة تكون بعد الضمة. ففي «قيل» يقولون «قيل» ، ومثل ذلك «سيل» و «ريس» فيجعلها بين بين إذا خففت ، ويترك ما قبلها مضموما. وأما «روس» فليست «فعل» وإنما هي «فعل» فصارت واوا لأنها بعد ضمة معها في كلمة واحدة.

٤٣

وقوله (وإذا لقوا الّذينءامنوا قالواءامنّا) [الآية ١٤] فأذهب الواو لأنه كان حرفا ساكنا لقي اللام وهي ساكنة فذهبت لسكونه ولم تحتج إلى حركته لأن فيما بقي دليلا على الجمع. وكذلك كل واو ما قبلها مضموما من هذا النحو. فإذا كان ما قبلها مفتوحا لم يكن بد من حركة الواو لأنك لو ألقيتها لم تستدل على المعنى نحو (اشتروا الضّللة) [الآية ١٦] وحركت الواو بالضم لأنك لو قلت «اشتر الضلالة» فألقيت الواو لم تعرف أنه جمع ، وإنما حركتها بالضم لأن الحرف الذي ذهب من الكلمة مضموم ، فصار يقوم مقامه. وقد قرأ قوم وهي لغة لبعض العرب «اشتروا الضلالة» لما وجدوا حرفا ساكنا قد لقي ساكنا كسروا كما يكسرون في غير هذا الموضع ، وهي لغة شاذة.

وأما قوله (وإذا خلوا إلى شيطينهم) [الآية ١٤] فإنك تقول : «خلوت إلى فلان في حاجة» كما تقول : «خلوت بفلان» إلّا أنّ «خلوت بفلان» له معنيان : أحدهما هذا والآخر سخرت به. وتكون «إلى» في موضع «مع» نحو (من أنصارى إلى الله) [آل عمران : الآية ٥٢] كما كانت «من» في معنى «على» في قوله (ونصرنه من القوم) [الأنبياء : الآية ٧٧] أي : على القوم ، وكما كانت الباء في معنى «على» في قوله «مررت به» و «مررت عليه». وفي كتاب الله عزوجل (مّن إن تأمنه بدينار) [آل عمران : الآية ٧٥] يقول «على دينار». وكما كانت «في» في معنى «على» نحو (فى جذوع النّخل) [طه : الآية ٧١] يقول : «على جذوع النخل». وزعم يونس (١) أن العرب تقول : «نزلت في أبيك» تريد «عليه» وتقول : «ظفرت عليه» أي «به» و «رضيت عليه» أي «عنه». قال الشاعر : [الوافر]

٢٤ ـ إذا رضيت عليّ بنو قشير

لعمر الله أعجبني رضاها (٢)

__________________

(١) يونس : هو أبو عبد الرحمن يونس بن حبيب البصري الأديب النحوي ، ولد سنة ٩٤ ه‍ ، وتوفي سنة ١٨٣ ه‍ ، له من المصنفات : «كتاب الأمثال» ، «كتاب اللغات» ، «كتاب النوادر الصغير» ، «كتاب النوادر الكبير» ، «معاني الشعر» ، «معاني القرآن» (كشف الظنون ٦ / ٥٧١ ، وانظر ترجمته في أخبار النحويين ص ٢٧ ، ومراتب النحويين ٢١ ، وطبقات النحويين ٥١ ، وإنباه الرواة ٤ / ٦٨ ، وبغية الوعاة ٤٢٦).

(٢) البيت للقحيف العقيلي في أدب الكاتب ص ٥٠٧ ، والأزهية ص ٢٧٧ ، وخزانة الأدب ١٠ / ١٣٢ ، ١٣٣ ، والدرر ٤ / ١٣٥ ، وشرح التصريح ٢ / ١٤ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٤١٦ ، ولسان العرب (رضي) ، والمقاصد النحوية ٣ / ٢٨٢ ، ونوادر أبي زيد ص ١٧٦ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢ / ١١٨ ، والإنصاف ٢ / ٦٣٠ ، وأوضح المسالك ٣ / ٤١ ، وجمهرة اللغة ص ١٣١٤ ، والجنى الداني ص ٤٧٧ ، والخصائص ٢ / ٣١١ ، ٣٨٩ ، ورصف المباني ص ٣٧٢ ، وشرح ـ

٤٤

وأما قوله (ويمدّهم فى طغينهم يعمهون) [الآية ١٥] فهو في معنى «ويمدّ لهم» كما قالت العرب : «الغلام يلعب الكعاب» تريد : «يلعب بالكعاب» وذلك أنهم يقولون : «قد مددت له» و «أمددته» في غير هذا المعنى وهو قوله جل ثناؤه (وأمددنهم بفكهة) [الطّور : الآية ٢٢] وقال (ولو جئنا بمثله مددا) [الكهف : الآية ١٠٩]. وقال بعضهم : «مدادا» و «مدّا» من «أمددناهم» وتقول : «مدّ النهر فهو مادّ» و «أمدّ الجرح فهو ممدّ». وقال يونس : «ما كان من الشرّ فهو «مددت» وما كان من الخير فهو «أمددت». فتقول كما فسرت له فإذا أردت أنك تركته قلت : «مددت له» وإذا أردت أنك أعطيته قلت : «أمددته».

وقوله (فما ربحت تّجرتهم) [الآية ١٦] فهذا على قول العرب : «خاب سعيك» وإنما هو الذي خاب ، وإنما يريد «فما ربحوا في تجارتهم» ومثله (بل مكر الّيل والنّهار) [سبإ : الآية ٣٣] و (ولكنّ البرّ منءامن بالله) [الآية ١٧٧] إنما هو «ولكنّ البرّ برّ من آمن بالله» وقال الشاعر : [المتقارب]

٢٥ ـ وكيف تواصل من أصبحت

خلالته كأبي مرحب (١)

وقال الشاعر : [الطويل]

٢٦ ـ وشرّ المنايا ميّت وسط أهله

كهلك الفتاة أسلم الحيّ حاضره (٢)

إنما يريد : «وشر المنايا منية ميّت وسط أهله» ، ومثله : «أكثر شربي الماء» و «أكثر أكلي الخبز» وليس أكلك بالخبز ولا شربك بالماء. ولكن تريد أكثر أكلي أكل الخبز وأكثر شربي شرب الماء. قال (وسئل القرية) [يوسف : الآية ٨٢] يريد : «أهل القرية» ، (والعير) أي : «واسأل أصحاب العير». وقال (ومثل الّذين

__________________

ـ الأشموني ٢ / ٢٩٤ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٩٥٤ ، وشرح ابن عقيل ص ٣٦٥ ، وشرح المفصل ١ / ١٢٠ ، ولسان العرب (يا) ، والمحتسب ١ / ٥٢ ، ٣٤٨ ، ومغني اللبيب ٢ / ١٤٣ ، والمقتضب ٢ / ٣٢٠ ، وهمع الهوامع ٢ / ٢٨ ، وتاج العروس (عنن).

(١) البيت للنابغة الجعدي في ديوانه ص ٢٦ ، وسمط اللآلي ص ٤٦٥ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٩٤ ، ٣٥٤ ، والكتاب ١ / ٢١٥ ، ولسان العرب (رحب) ، (خلل) ، ونوادر أبي زيد ص ١٨٩ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٨ / ٢٤٢ ، وإصلاح المنطق ص ١١٢ ، وأمالي المرتضى ١ / ٢٠٢ ، والإنصاف ص ٦٢ ، ومجالس ثعلب ص ٧٧ ، والمحتسب ٢ / ٢٦٤ ، والمقتضب ٣ / ٢٣١ ، ولسان العرب (شرب) ، (برر).

(٢) البيت للحطيئة في أمالي المرتضى ١ / ٤٩ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٣٨٦ ، والكتاب ١ / ٢١٥ ، ولم أقع عليه في ديوانه ، وبلا نسبة في الإنصاف ١ / ٦١.

٤٥

كفروا كمثل الّذى ينعق) [الآية ١٧١] فإنما هو ـ والله أعلم ـ «مثلكم ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به». فحذف هذا الكلام ، ودل ما بقي على معناه. ومثل هذا في القرآن كثير. وقد قال بعضهم (ومثل الّذين كفروا كمثل الّذى ينعق) [الآية ١٧١] يقول : «مثلهم في دعائهم الآلهة كمثل الذي ينعق بالغنم» لأن ـ آلهتهم لا تسمع ولا تعقل ، كما لا تسمع الغنم ولا تعقل.

وقوله (كمثل الّذى استوقد نارا) [الآية ١٧] فهو في معنى «أوقد» ، مثل قوله : «فلم يستجبه» أي «فلم يجبه» وقال الشاعر : [الطويل]

٢٧ ـ وداع دعا يا من يجيب إلى الندى

فلم يستجبه عند ذاك مجيب (١)

أي : «فلم يجبه».

وقال (وتركهم فى ظلمت لّا يبصرون) [الآية ١٧] فجعل «الذي» جميعا فقال «وتركهم» لأن «الذي» في معنى الجميع ، كما يكون «الإنسان» في معنى «الناس».

وقال (وتركهم فى ظلمت لّا يبصرون (١٧) صمّ بكم عمى فهم لا يرجعون) (١٨) [الآيتان ١٧ ـ ١٨] فرفع على قوله : «هم صمّ بكمّ عمي» رفعه على الابتداء ولو كان على أول الكلام كان النصب فيه حسنا.

وأما (حوله) [الآية ١٧] فانتصب على الظرف ، وذلك أن الظرف منصوب. والظرف هو ما يكون فيه الشيء ، كما قال الشاعر : [الكامل]

٢٨ ـ هذا النهار بدا لها من همّها

ما بالها بالليل زال زوالها (٢)

نصب «النهار» على الظرف وإن شاء رفعه وأضمر فيه. وأما «زوالها» فإنه كأنه قال : «أزال الله الليل زوالها».

وأما (يكاد البرق يخطف أبصرهم) [الآية ٢٠] فمنهم من قرأ «يخطف» من «خطف» وهي قليلة رديئة لا تكاد تعرف. وقد رواها يونس «يخطّف» بكسر الخاء لاجتماع الساكنين. ومنهم من قرأ «يخطف» على «خطف يخطف» وهي الجيدة ،

__________________

(١) البيت لكعب بن سعد الغنوي في الأصمعيات ص ٩٦ ، ولسان العرب (جوب) ، والتنبيه والإيضاح ١ / ٥٥ ، وجمهرة أشعار العرب ص ٧٠٥ ، وتاج العروس (جوب) ، وبلا نسبة في تهذيب اللغة ١١ / ٢١٩.

(٢) البيت للأعشى في ديوانه ص ٧٧. وتهذيب اللغة ١٣ / ٢٥٤ ، والمخصص ١٢ / ١٨٩ ، وتاج العروس (زول) ، وبلا نسبة في كتاب العين ٧ / ٣٨٤.

٤٦

وهما لغتان. وقال بعضهم «يخطّف» وهو قول يونس من «يختطف» فأدغم التاء في الطاء لأن مخرجها قريب من مخرج الطاء. وقال بعضهم «يخطّف» فحول الفتحة على الذي كان قبلها ، والذي كسر كسر لاجتماع الساكنين فقال «يخطّف» ومنهم من قال «يخطّف» كسر الخاء لاجتماع الساكنين ثم كسر الياء اتبع الكسرة الكسرة وهي قبلها كما اتبعها في كلام العرب كثيرا ، يتبعون الكسرة في هذا الباب الكسرة يقولون «قتلوا» و «فتحوا» يريدون : «اقتلوا» و «افتحوا». قال أبو النجم (١) : [الرجز]

٢٩ ـ تدافع الشيب ولم تقتّل (٢)

وسمعناه من العرب مكسورا كله ، فهذا مثل «يخطف» إذا كسرت ياؤها لكسرة خائها وهي بعدها فأتبع الآخر الأول.

وقوله (ولو شاء الله لذهب بسمعهم) [الآية ٢٠] فمنهم من يدغم ويسكن الباء الأولى لأنهما حرفان مثلان. ومنهم من يحرك فيقول «لذهب بسمعهم» وجعل «السمع» في لفظ واحد وهو جماعة لأن «السمع» قد يكون جماعة وقد يكون واحدا ومثله قوله (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم) [الآية ٧] ومثله قوله (لا يرتدّ إليهم طرفهم) [إبراهيم : الآية ٤٣] وقوله (فإن طبن لكم عن شىء مّنه نفسا) [النّساء : الآية ٤] ومثله (ويولّون الدّبر) [القمر : الآية ٤٥].

وقوله (فلا تجعلوا لله أندادا) [الآية ٢٢] فقطع الألف لأنه اسم تثبت الألف فيه في التصغير فإذا صغرت قلت : «أنيدادا». وواحد «الأنداد» : ندّ. و «الندّ» : المثل.

__________________

(١) أبو النجم العجلي : هو الفضل أو المفضل بن قدامة. شاعر إسلامي راجز مشهور ، من بني عجل بن بكر ، مقدم عند جماعة من أهل العلم على العجّاج ، كان يقصّد فيجيد. عاش أبو النجم إلى أيام هشام بن عبد الملك ، توفي سن ١٠٥ ه‍ (معجم الشعراء المخضرمين والأمويين ص ٤٩٢).

(٢) الرجز لأبي النجم في جمهرة اللغة ص ٤٠٧ ، ولسان العرب (عصب) (لجج) ، (خلل) ، (فلن) ، والطرائف الأدبية ص ٦٦ ، والمنصف ٢ / ٢٢٥ ، والممتع في التصريف ٢ / ٦٤٠ ، وخزانة الأدب ٢ / ٣٨٩ ، والدرر ٣ / ٣٧ ، وسمط اللآلي ص ٢٥٧ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٤٣٩ ، وشرح التصريح ٢ / ١٨٠ ، وشرح المفصل ٥ / ١١٩ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٤٥٠ ، والصاحبي في فقه اللغة ص ٢٢٨ ، والكتاب ٢ / ٢٤٨ ، ٣ / ٤٥٢ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٢٢٨ ، وتهذيب اللغة ٢ / ٤٨ ، وتاج العروس (عصب) ، (فلن) ، ومقاييس اللغة ٤ / ٤٤٧ ، ٥ / ٢٠٢ ، ومجمل اللغة ٤ / ٦١ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٤ / ٤٣ ، المسالك ٤ / ٤٣ ، وشرح الأشموني ٢ / ٤٦٠ ، وشرح ابن عقيل ص ٥٢٧ ، وشرح المفصل ١ / ٤٨ ، والمقتضب ٤ / ٢٣٨ ، والمقرب ١ / ١٨٢ ، وهمع الهوامع ١ / ١٧٧.

٤٧

وقوله (الّتى وقودها النّاس والحجارة) [الآية ٢٤] ف «الوقود» : الحطب. و «الوقود» : الاتقاد وهو الفعل. يقرأ «الوقود» و «الوقود» ويكون أن يعني بها الحطب ، ويكون أن يعني بها الفعل. ومثل ذلك «الوضوء» وهو : الماء ، و «الوضوء» وهو الفعل ، وزعموا أنهما لغتان في معنى واحد.

وقوله : (أنّ لهم جنّت تجرى من تحتها الأنهر) [الآية ٢٥] فجرّ «جنات» وقد وقعت عليها «أنّ» لأنّ كلّ جماعة في آخرها تاء زائدة تذهب في الواحد وفي تصغيره فنصبها جرّ ، ألا ترى أنك تقول : «جنّه» فتذهب التاء. وقال (خلق السموات والأرض) و «السماوات» جرّ ، و «الأرض» نصب لأن التاء زائدة. ألا ترى أنك تقول : «سماء» ، و (قالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا) [الأحزاب : ٦٧] لأن هذه ليست تاء إنّما هي هاء صارت تاء بالاتصال ، وإنما تكون تلك في السكوت. ألا ترى أنك تقول : «رأيت ساده» فلا يكون فيها تاء. ومن قرأ «أطعنا ساداتنا» جرّ لأنك إذا قلت : «ساده» ذهبت التاء. وتكون في السكت فيها تاء ، تقول : «رأيت سادات» ، وإنما جرّوا هذا في النصب ليجعل جرّه ونصبه واحدا ، كما جعل تذكيره في الجر والنصب واحدا ، تقول : «مسلمين» و «صالحين» نصبه وجره بالياء. وقوله (بيوتا غير بيوتكم) [النّور : الآية ٢٧] و (لا ترفعوا أصواتكم) [الحجرات : الآية ٢] فإن التاء من أصل الكلمة تقول «صوت» و «صويت» فلا تذهب التاء ، و «بيت» و «بويت» فلا تذهب التاء. وتقول : «رأيت بويتات العرب» فتجرّ ، لأن التاء الآخرة زائدة لأنك تقول : «بيوت» فتسقط التاء الآخرة. وتقول : «رأيت ذوات مال» لأن التاء زائدة ، وذلك لأنك لو سكت على الواحدة لقلت : «ذاه» ولكنها وصلت بالمال فصارت تاء لا يتكلم بها إلا مع المضاف إليه.

وقوله (هذا الذي رزقنا من قبل واتوا به متشابها) [الآية ٢٥] لأنه في معنى «جيئوا به» وليس في معنى «أعطوه». فأما قوله : (متشبها) [الآية ٢٥] فليس أنه أشبه بعضه بعضا ولكنه متشابه في الفضل. أي كل واحد له من الفضل في نحوه مثل الذي للآخر في نحوه.

وقوله (إن الله لا يستحي أن) [الآية ٢٦] ف «يستحيي» لغة أهل الحجاز بياءين وبنو تميم يقولون «يستحي» بياء واحدة ، والأولى هي الأصل لأن ما كان من موضع لامه معتلا لم يعلّوا عينه. ألا ترى أنهم قالوا : «حييت» و «جويت» فلم تقلّ العين. ويقولون : «قلت» و «بعت» فيعلّون العين لما لم تعتلّ اللام ، وإنما حذفوا لكثرة استعمالهم هذه الكلمة كما قالوا «لم يك» و «لم يكن» و «لا

٤٨

أدر» و «لا أدري».

وقال (مثلا مّا بعوضة) [الآية ٢٦] لأن «ما» زائدة في الكلام وإنما هو «إنّ الله لا يستحي أن يضرب بعوضة مثلا». وناس من بني تميم يقولون (مثلا مّا بعوضة) [الآية ٢٦] يجعلون «ما» بمنزلة «الذي» ويضمرون «هو» كأنهم قالوا : «لا يستحي أن يضرب مثلا الذي هو بعوضة» يقول : «لا يستحي أن يضرب الذي هو بعوضة مثلا».

وقوله (فما فوقها) [الآية ٢٦] قال بعضهم : «أعظم منها» وقال بعضهم : كما تقول : «فلان صغير» فيقول : «وفوق ذلك» يريد : «وأصغر من ذلك».

وقوله (ماذا أراد الله بهذا مثلا) [الآية ٢٦] فيكون «ذا» بمنزلة «الذي». ويكون «ماذا» اسما واحدا إن شئت بمنزلة «ما» كما قال (ماذا أنزل ربّكم قالوا خيرا) [النّحل : الآية ٣٠]. فلو كانت «ذا» بمنزلة «الذي» لقالوا «خير» ولكان الرفع وجه الكلام. وقد يجوز فيه النصب لأنه لو قال «ما الذي قلت»؟ فقلت «خيرا» أي : «قلت خيرا» لجاز. ولو قلت : «ما قلت»؟ «فقلت : «خير» أي : «الذي قلت خير» لجاز ، غير أنه ليس على اللفظ الأول كما يقول بعض العرب إذا قيل له : «كيف أصبحت»؟ قال : «صالح» أي : «أنا صالح». ويدلك على أن «ماذا» اسم واحد قول الشاعر : [الوافر]

٣٠ ـ دعي ماذا علمت سأتّقيه

ولكن بالمغيّب نبّئيني (١)

فلو كانت «ذا» ها هنا بمعنى «الذي» لم يكن كلاما.

وأما قوله (عهد الله من بعد ميثقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) [الآية ٢٧] ف «أن يوصل» بدل من الهاء في «به» كقولك : «مررت بالقوم بعضهم».

وأما «ميثاقه» فصار مكان «التوثّق» كما قال (أنبتكم من الأرض نباتا) [نوح : ١٧] والأصل «إنباتا» وكما قال «العطاء» في مكان «الإعطاء».

__________________

(١) البيت للمثقب العبدي في ديوانه ص ٢١٣ ، وخزانة الأدب ٧ / ٤٨٩ ، ١١ / ٨٠ ، وشرح شواهد المغني ص ١٩١ ، ولسحيم بن وثيل الرياحي في المقاصد النحوية ١ / ١٩٢ ، ولأبي حيّة النميري في ديوانه ص ١٧٧ ، ولسان العرب (أبي) ، ولمزرد بن ضرار في ديوانه ص ٦٨. وبلا نسبة في الجنى الداني ص ٢٤١ ، والدرر ١ / ٢٨١ ، والكتاب ٢ / ٤١٨ ، ولسان العرب (ذوا) ، ومغني اللبيب ص ٣٠١ ، ٣٠٢.

٤٩

وقوله (وكنتم أموتا فأحيكم ثمّ يميتكم ثمّ يحييكم) [الآية ٢٨] فإنما يقول كنتم ترابا ونطفا فذلك ميت ، وهو سائغ في كلام العرب. تقول للثوب : «قد كان هذا قطنا» و «كان هذا الرطب بسرا». ومثل ذلك قولك للرجل : «اعمل هذا الثوب» وإنما معك غزل.

هذا باب من المجاز

(١) وأما قوله (ثمّ استوى إلى السّماء فسوّاهنّ) [الآية ٢٩] وهو إنما ذكر سماء واحدة ، فهذا لأن ذكر «السماء» قد دل عليهن كلّهنّ. وقد زعم بعض المفسرين أن «السماء» جمع مثل «اللبن». فما كان لفظه لفظ الواحد ومعناه معنى الجماعة جاز أن يجمع فقال (سواهن) فزعم بعضهم أن قوله (السّماء منفطر به) [المزمّل : الآية ١٨] جمع مذكر ك «اللّبن». ولم نسمع هذا من العرب والتفسير الأول جيد.

وقال يونس (٢) : (السّماء منفطر به) [المزمّل : الآية ١٨] ذكر كما يذكر بعض المؤنث كما قال الشاعر : [المتقارب]

٣١ ـ فلا مزنة ودقت ودقها

ولا أرض أبقل إبقالها (٣)

__________________

(١) المجاز : هو استعمال اللفظ في غير ما وضع له من معنى ، لعلاقة بين المعنى الأصلي والمعنى الفرعي.

والمجاز من الجواز أي التعدي مثل : جزت موضوع كذا أي تعديت ، وجوّزت في كلامي أي تكلمت بالمجاز ، وهو عكس الحقيقة يفهم القصد منه بالقرينة ، إذ اللفظ فيه مستعمل في غير ما وضع له أصلا ، مثل : بسم الفجر. فقد استعملت لفظة : بسم بغير معناها الأصلي فدلّت على الإشراق ، كما هناك من شبه بين الابتسام والإشراق. ومثل : صافحت بحرا ، أي : كريما وجوادا.

قال ابن جني : إنما يقع المجاز ويعدل إليه عن الحقيقة لمعان ثلاثة ، وهي : الاتساع والتوكيد والتشبيه.

فإذا قلت مثلا : بنيت منزلا ، فهذا كلام حقيقي ، أما إذا قلت : بنيت له في قلبي منزلا ، فهذا مجاز واستعارة لما فيه من الاتساع والتوكيد والتشبيه.

وكما في قوله تعالى : (واسأل القرية) [يوسف : ٨٢] ، فيه المعاني الثلاثة ، أما الاتساع فلأنّه استعمل لفظ السؤال مع ما لا يصح في الحقيقة سؤاله ، وأما التشبيه فلأنها شبهت بمن يصح سؤاله ، وأما التوكيد فلأنه في ظاهر اللفظ إحالة بالسؤال على من ليس من عادته الإجابة.

(٢) يونس : هو يونس بن حبيب ، تقدمت ترجمته.

(٣) البيت لعامر بن جوين في تخليص الشواهد ص ٤٨٣ ، وخزانة الأدب ١ / ٤٥ ، ٤٩ ، ٥٠ ، والدرر ٦ / ٢٦٨ ، وشرح التصريح ١ / ٢٧٨ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٣٣٩ ، ٤٦٠ ، وشرح شواهد ـ

٥٠

وقوله : [المتقارب]

٣٢ ـ فإمّا تري لمّتي بدّلت

فإنّ الحوادث أودى بها (١)

وقد تكون «السماء» يريد به الجماعة كما تقول : «هلك الشاة والبعير» يعني كل بعير وكل شاة. وكما قال (الّذى خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهنّ) [الطلاق : ١٢] أي : من الأرضين.

وأما قوله (استوى إلى السّماء) [الآية ٢٩] فإن ذلك لم يكن من الله تبارك وتعالى لتحول ، ولكنه يعني فعله كما تقول : «كان الخليفة في أهل العراق يوليهم ثم تحوّل إلى أهل الشام» إنما تريد تحول فعله.

وأما قول الملائكة (أتجعل فيها من يفسد فيها) [الآية ٣٠] فلم يكن ذلك إنكارا منهم على ربهم ، إنما سألوا ليعلموا ، وأخبروا عن أنفسهم أنهم يسبّحون ويقدّسون. أو قالوا ذلك لأنهم كرهوا أن يعصى الله ، لأن الجن قد كانت أمرت قبل ذلك فعصت.

وأما قوله (نسبّح بحمدك ونقدّس لك) [الآية ٣٠] وقال (والملئكة يسبّحون بحمد ربّهم) [الشّورى : الآية ٥] وقال (فسبّح بحمد ربّك واستغفره) [النّصر : الآية ٣] فذلك لأن الذكر كله تسبيح وصلاة. تقول : «قضيت سبحتي من الذكر والصلاة» فقال «سبّح بالحمد». أي : «لتكن سبحتك بالحمد لله». وقوله (أتجعل فيها) [الآية ٣٠] جاء على وجه الإقرار كما قال الشاعر : [الوافر]

٣٣ ـ ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح (٢)

__________________

ـ المغني ٢ / ٩٤٣ ، والكتاب ٢ / ٤٦ ، ولسان العرب (أرض) ، (بقل) ، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب ١ / ٣٥٢ ، وأوضح المسالك ٢ / ١٠٨ ، وجواهر الأدب ص ١١٣ ، والخصائص ٢ / ٤١١ ، وشرح الأشموني ١ / ١٧٤ ، والرد على النحاة ص ٩١ ، ورصف المباني ص ١٦٦ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٥٥٧ ، وشرح ابن عقيل ص ٢٤٤ ، وشرح المفصل ٥ / ٩٤ ، ولسان العرب (خضب) ، والمحتسب ٢ / ١١٢ ، ومغني اللبيب ٢ / ٦٥٦ ، والمقرب ١ / ٣٠٣ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٧١.

(١) البيت للأعشى في ديوانه ص ٢٢١ ، وخزانة الأدب ١١ / ٤٣٠ ، ٤٣١ ، ٤٣٢ ، ٤٣٣ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٤٧٧ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٣٤٦ ، وشرح المفصل ٥ / ٩٥ ، ٩ / ٤١ ، والكتاب ٢ / ٤٦ ، ولسان العرب (حدث) ، (ودي) ، والمقاصد النحوية ٢ / ٤٦٦ ، وبلا نسبة في الإنصاف ص ٧٦٤ ، وأوضح المسالك ٢ / ١١٠ ، ورصف المباني ص ١٠٣ ، ٣١٦ ، وشرح الأشموني ١ / ١٧٥ ، وشرح المفصل ٩ / ٦.

(٢) البيت لجرير في ديوانه ص ٨٥ ، ٨٩ ، والجنى الداني ص ٣٢ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٤٢ ، ـ

٥١

أي : أنتم كذلك.

وقوله (الأسماء كلّها ثمّ عرضهم) [الآية ٣١] فيريد عرض عليهم أصحاب الأسماء ، ويدلك على ذلك قوله (أنبئونى بأسماء هؤلاء) [الآية ٣١] فلم يكن ذلك لأن الملائكة ادّعوا شيئا ، إنما أخبر عن جهلهم بعلم الغيب وعلمه بذلك وفعله فقال (أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) كما يقول الرجل للرجل : «أنبئني بهذا إن كنت تعلم» وهو يعلم أنه لا يعلم يريد أنه جاهل. فأعظموه عند ذلك فقالوا : «(سبحنك لا علم لنا) [الآية ٣٢] بالغيب على ذلك. ونحن نعلم أنه لا علم لنا بالغيب» إخبارا عن أنفسهم بنحو ما خبر الله عنهم. وقوله (سبحنك لا علم لنا) [الآية ٣٢] فنصب «سبحانك» لأنه أراد «نسبّحك» جعله بدلا من اللفظ بالفعل كأنه قال : «نسبّحك بسبحانك» ولكن «سبحان» مصدر لا ينصرف. و «سبحان» في التفسير : براءة وتنزيه. قال الشاعر : [السريع]

٣٤ ـ أقول لمّا جاءني فخره

سبحان من علقمة الفاخر (١)

يقول : براءة منه.

هذا باب الاستثناء

وقوله (فسجدوا إلّا إبليس) [الآية ٣٤] فانتصب لأنك شغلت الفعل بهم عنه فأخرجته من الفعل من بينهم. كما تقول : «جاء القوم إلّا زيدا» لأنّك لما جعلت لهم الفعل وشغلته بهم وجاء بعدهم غيرهم شبهته بالمفعول به بعد الفاعل وقد شغلت به الفعل.

وقوله (أبى واستكبر وكان) [الآية ٣٤] ففتحت (استكبر) لأن كل «فعل» أو

__________________

ـ ولسان العرب (نقص) ، ومغني اللبيب ١ / ١٧ ، وبلا نسبة في الخصائص ٢ / ٤٦٣ ، و ٣ / ٢٦٩ ، ورصف المباني ص ٤٦ ، وشرح المفصل ٨ / ١٢٣ ، والمقتضب ٣ / ٢٩٢.

(١) البيت للأعشى في ديوانه ص ١٩٣ ، وأساس البلاغة (سبح) ، والأشباه والنظائر ٢ / ١٠٩ ، وجمهرة اللغة ص ٢٧٨ ، وخزانة الأدب ١ / ١٨٥ ، ٧ / ٢٣٤ ، ٢٣٥ ، ٢٣٨ ، والخصائص ٢ / ٤٣٥ ، والدرر ٣ / ٧٠ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ١٥٧ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٩٠٥ ، وشرح المفصّل ١ / ٣٧ ، ١٢٠ ، والكتاب ١ / ٣٢٤ ، ولسان العرب (سبح) ، وتاج العروس (شتت) ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ٣ / ٣٨٨ ، ٦ / ٢٨٦ ، والخصائص ٢ / ١٩٧ ، ٣ / ٢٣ ، والدرر ٥ / ٤٢ ، ومجالس ثعلب ١ / ٢٦١ ، والمقتضب ٣ / ٣١٨ ، والمقرب ١ / ١٤٩ ، وهمع الهوامع ١ / ١٩٠ ، ٢ / ٥٢.

٥٢

«فعل» فهو يفتح نحو : (قال رجلان) [المائدة : الآية ٢٣] ونحو (الذي أؤتمن أمانته) [البقرة : ٢٨٣] ونحو (ذهب الله بنورهم) [الآية ١٧] ونحو (وكان من الكفرين) [الآية ٣٤] لأنّ هذا كله «فعل» و «فعل».

هذا باب الدعاء

وهو قوله (يا آدم اسكن) [الآية ٣٥] و (يادم أنبئهم) [الآية ٣٣] و (يفرعون إنّى رسول) [الأعراف : الآية ١٠٤] فكل هذا إنما ارتفع لأنه اسم مفرد ، والاسم المفرد مضموم في الدعاء وهو في موضع نصب ، ولكنه جعل كالأسماء التي ليست بمتمكنة. فإذا كان مضافا انتصب لأنه الأصل. وإنما يريد «أعني فلانا» و «أدعو» وذلك مثل قوله (يأبانا ما لك لا تأمنّا) [يوسف : الآية ١١] و (ربّنا ظلمنا أنفسنا) [الأعراف : الآية ٢٣] إنما يريد : «يا ربّنا ظلمنا أنفسنا» وقوله (ربّنا تقبّل منّا) [الآية ١٢٧].

هذا باب الفاء

قوله (ولا تقربا هذه الشّجرة فتكونا من الظّلمين) [الآية ٣٥] فهذا الذي يسميه النحويون «جواب الفاء». وهو ما كان جوابا للأمر والنهي والاستفهام والتمني والنفي والجحود. ونصب ذلك كله على ضمير «أن» ، وكذلك الواو ، وإن لم يكن معناها مثل معنى الفاء. وإنما نصب هذا لأن الفاء والواو من حروف العطف فنوى المتكلم أن يكون ما مضى من كلامه اسما حتى كأنه قال : «لا يكن منكما قرب الشجرة» ثم أراد أن يعطف الفعل على الاسم فأضمر مع الفعل «أن» لأنّ «أن» مع الفعل تكون اسما فيعطف اسما على اسم. وهذا تفسير جميع ما انتصب من الواو والفاء. ومثل ذلك قوله (لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب) [طه : الآية ٦١] هذا جواب النهي و (لا يقضى عليهم فيموتوا) [فاطر : الآية ٣٦] جواب النفي. والتفسير ما ذكرت لك.

وقد يجوز إذا حسن أن تجري الآخر على الأول أن تجعله مثله نحو قوله (ودّوا لو تدهن فيدهنون) (٩) [القلم : الآية ٩] أي : «ودّوا لو يدهنون». ونحو قوله (ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم فيميلون) [النساء : ١٠٢] جعل الأول فعلا ولم ينو به الاسم فعطف الفعل على الفعل وهو التمني كأنه قال : «ودّوا لو تغفلون ولو يميلون» وقال (لا يؤذن لهم فيعتذرون) [المرسلات : ٣٦] أي : «لا يوذن لهم

٥٣

ولا يعتذرون». وما كان بعد هذا جواب المجازاة بالفاء والواو ، فإن شئت أيضا نصبته على ضمير «أن» إذا نويت بالأول أن تجعله اسما كما قال (إن يشأ يسكن الرّيح فيظللن رواكد على ظهره) [الشّورى : الآية ٣٣] (أو يوبقهنّ بما كسبوا) [الشّورى : الآية ٣٤] ويعف عن كثير (ويعلم الّذين) [الشّورى : الآية ٣٥] فنصب ، ولو جزمه على العطف كان جائزا ، ولو رفعه على الابتداء جاز أيضا. وقال (إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء) [البقرة : ٢٨٤] فتجزم (فيغفر) [الآية ٢٨٤] إذا أردت العطف ، وتنصب إذا أضمرت «إن» ونويت أن يكون الأول اسما ، وترفع على الابتداء وكل ذلك من كلام العرب. وقال (قتلوهم يعذّبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم) [التّوبة : الآية ١٤] ثم قال (ويتوب الله على من يشاء) [التّوبة : الآية ١٥] فرفع (ويتوب) لأنه كلام مستأنف ليس على معنى الأول. ولا يريد «قاتلوهم : «يتب الله عليهم» ولو كان هذا لجاز فيه الجزم لما ذكرت. وقال الشاعر : [الوافر]

٣٥ ـ فإن يهلك أبو قابوس يهلك

ربيع الناس والشهر الحرام (١)

ونمسك بعده بذناب عيش

أجبّ الظهر ليس له سنام

فنصب «ونمسك» على ضمير «أن» ونرى أن يجعل الأول اسما ويكون فيه الجزم أيضا على العطف والرفع على الابتداء. قال الشاعر : [الطويل]

٣٦ ـ ومن يغترب عن قومه لا يزل يرى

مصارع مظلوم مجرّا ومسحبا (٢)

ومن يغترب عن قومه لا يجد له

على من له رهط حواليه مغضبا

وتدفن منه المحسنات وان يسىء

يكن ما أساء النار في رأس كبكبا

ف «تدفن» يجوز فيه الوجوه كلها. قال الشاعر : [الطويل]

__________________

(١) البيتان للنابغة الذبياني في ديوانه ص ١٠٦ ، والأغاني ١١ / ٢٦ ، وخزانة الأدب ٧ / ٥١١ ، ٩ / ٣٦٣ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٢٨ ، وشرح المفصل ٦ / ٨٣ ، ٨٥ ، والكتاب ١ / ١٩٦ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٥٧٩ ، ٤ / ٤٣٤ ، وبلا نسبة في أسرار العربية ص ٢٠٠ ، والأشباه والنظائر ٦ / ١١ ، والاشتقاق ص ١٠٥ ، وأمالي ابن الحاجب ١ / ٤٥٨ ، والإنصاف ١ / ١٣٤ ، وشرح الأشموني ٣ / ٥٩١ ، وشرح ابن عقيل ص ٥٨٩ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٣٥٨ ، ولسان العرب (جبب) ، (ذنب) ، والمقتضب ٢ / ١٧٩.

(٢) الأبيات للأعشى في ديوانه ص ١٦٣ ، وجمهرة اللغة ص ١٧٧ ، وحماسة البحتري ص ١٠٦ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٤٩٢ ، والكتاب ٣ / ٩٢ ، ولسان العرب (زيب) ، (كبب) ، وبلا نسبه في المقتضب ٢ / ٢٢.

٥٤

٣٧ ـ فإن يرجع النعمان نفرح ونبتهج

ويأت معدّا ملكها وربيعها (١)

وإن يهلك النعمان تعر مطيّة

وتخبأ في جوف العياب قطوعها

وقال تبارك وتعالى (ومن عاد فينتقم الله منه) [المائدة : الآية ٩٥] فهذا لا يكون إلا رفعا لأنه الجواب الذي لا يستغنى عنه. والفاء إذا كانت جواب المجازاة كان ما بعدها أبدا مبتدأ وتلك فاء الابتداء لا فاء العطف. ألا ترى أنك تقول : «إن تأتني فأمرك عندي على ما تحبّ». فلو كانت هذه فاء العطف لم يجز السكوت حتى تجيء لما بعد «إن» بجواب.

ومثلها (ومن كفر فامتعه قليلا) [البقرة : ١٢٦] وقال بعضهم «فأمتعه ثم اضطره» ف «أضطرّه» إذا وصل الألف جعله أمرا. وهذا الوجه إذا أراد به الأمر يجوز فيه الضم والفتح. غير أن الألف ألف وصل وإنما قطعتها «ثمّ» في الوجه الآخر ، لأنه كل ما يكون معناه «أفعل» فإنه مقطوع ، من الوصل كان أو من القطع. قال (أناءاتيك به) [النّمل : الآية ٣٩] وهو من «أتى» «يأتي» وقال (أتخذ من دونه آلهة) [يس : ٢٣] فترك الألف التي بعد ألف الاستفهام لأنها ألف «أفعل».

وقال الله تبارك وتعالى فيما يحكى عن الكفار (لو لا أخّرتنى إلى أجل قريب فأصّدّق وأكن مّن الصّلحين) [المنافقون : الآية ١٠] فقوله (فأصّدّق) [المنافقون : الآية ١٠] جواب للاستفهام ، لأنّ (لو لا) [الآية ١١٨] ها هنا بمنزلة «هلا» وعطف (وأكن) [يوسف : الآية ٣٣] على موضع (فأصّدّق) [المنافقون : الآية ١٠] لأنّ جواب الاستفهام إذا لم يكن فيه فاء جزم. وقد قرأ بعضهم «فأصدق وأكون» عطفها على ما بعد الفاء وذلك خلاف الكتاب. وقد قرىء (ومن يضلل الله فلا هادي له ويذرهم) [الأعراف : ١٨٦] جزم. فجزم (يذرهم) على أنه عطف على موضع الفاء لأن موضعها يجزم إذا كانت جواب المجازاة ، ومن رفعها على أن يعطفها على ما بعد الفاء فهو أجود وهي قراءة.

وقال (إن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ونكفر عنكم) [البقرة : ٢٧١] جزم ورفع على ما فسرت. وقد يجوز في هذا وفي الحرف الذي قبله النصب لأنه قد جاء بعد جواب المجازاة مثل (ويعلم الّذين يجدلون فىءايتنا) [الشّورى : الآية ٣٥] [و] (ولمّا يعلم الله الّذين جهدوا منكم ويعلم الصّبرين) [آل

__________________

(١) البيتان للنابغة الذبياني في ديوانه ص ١٠٧.

٥٥

عمران : الآية ١٤٢] فانتصب الآخر لأن الأوّل نوى أن يكون بمنزلة الاسم وفي الثاني الواو. وإن شئت جزمت على العطف كأنك قلت «ولمّا يعلم الصابرين». فإن قال قائل : «ولما يعلم الله الصابرين» (ولما يعلم الله الّذين جهدوا منكم) [آل عمران : الآية ١٤٢] فهو لم يعلمهم؟ قلت بل قد علم ، ولكنّ هذا فيما يذكر أهل التأويل ليبين للناس ، كأنه قال «ليعلمه الناس» كما قال (لنعلم أىّ الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا) [الكهف : الآية ١٢] وهو قد علم ولكن ليبين ذلك. وقد قرأ أقوام أشباه هذا في القرآن (ليعلم أي الحزبين) ولا أراهم قرأوه إلّا لجهلهم بالوجه الآخر.

ومما جاء بالواو (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق) إن شئت جعلت (وتكتموا الحقّ) [الآية ٤٢] نصبا إذا نويت أن تجعل الأول اسما فتضمر مع (تكتموا) «أن» حتى تكون اسما. وإن شئت عطفتها فجعلتها جزما على الفعل الذي قبلها. قال (ألم أنهكما عن تلكما الشّجرة وأقل لّكما) [الأعراف : الآية ٢٢] فعطف القول على الفعل المجزوم فجزمه. وزعموا أنه في قراءة ابن مسعود (١) «وأقول لكما» على ضمير «أن» ونوى أن يجعل الأوّل اسما ، وقال الشاعر : [الطويل]

٣٨ ـ لقد كان في حول ثواء ثويته

تقضّي لبانات ويسأم سائم (٢)

ثواء وثواء أو ثواء رفع ونصب وخفض ـ فنصب على ضمير «أن» لأن التقضي اسم ، ومن قال «فتقضى» رفع : «ويسأم» لأنه قد عطف على فعل وهذا واجب ، وقال الشاعر : [الطويل]

٣٩ ـ فإن لم أصدّق ظنّكم بتيقّن

فلا سقت الأوصال منّي الرّواعد (٣)

ويعلم أكفائي من الناس أنّني

أنا الفارس الحامي الذمار المذاود

وقال الشاعر : [الوافر وهو الشاهد الأربعون]

٤٠ ـ فإن يقدر عليك أبو قبيس

نمطّ بك المنيّة في هوان (٤)

__________________

(١) ابن مسعود : هو عبد الله بن مسعود ، تقدمت ترجمته.

(٢) البيت للأعشى في ديوانه ص ١٢٧ ، والأغاني ٢ / ٢٠٦ ، والرد على النحاة ص ١٢٩ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٧٩ ، والكتاب ٣ / ٣٨ ، ومغني اللبيب ٢ / ٥٠٦ ، والمقتضب ١ / ٢٧ ، ٢ / ٢٦ ، ٤ / ٢٩٧ ، وبلا نسبة في أسرار العربية ص ٢٩٩ ، ورصف المباني ص ٤٢٣ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٥٩٠ ، وشرح المفصّل ٣ / ٦٥.

(٣) البيتان لحسان بن ثابت في ديوانه ص ١٩٥.

(٤) البيتان للنابغة الذبياني في ديوانه ص ١١٣ ، ولسان العرب (قبس) ، وتاج العروس (قبس) ، والمخصص ١٣ / ١٧٥ ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٤٨٥ ، وتاج العروس (نجع).

٥٦

وتخضب لحية غدرت وخانت

بأحمر من نجيع الجوف آن

فنصب هذا كله لأنه نوى أن يكون الأوّل اسما فأضمر بعد الواو «أن» حتى يكون اسما مثل الأول فتعطفه عليه. وأما قوله (لو أنّ لنا كرّة فنتبرّأ منهم) [الآية ١٦٧] و (لو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين) [الشعراء : ١٠٢] فهذا على جواب التمني ، لأنّ معناه «ليت لنا كرّة». وقال الشاعر : [الوافر]

٤١ ـ فلست بمدرك ما فات مني

ب «لهف» ولا ب «ليت» ولا «لواني» (١)

فأنزل «لو اني» بمنزلة «ليت» لأن الرجل إذا قال : «لو أنّي كنت فعلت كذا وكذا» فإنما تريد «وددت لو كنت فعلت». وإنّما جاز ضمير «أن» في غير الواجب لأن غير الواجب يجيء ما بعده على خلاف ما قبله ناقضا له.

فلما حدث فيه خلاف لأوله جاز هذا الضمير. والواجب يكون آخره على أوله نحو قول الله عزوجل (ألم تر أنّ الله أنزل من السّماء مآء فتصبح الأرض مخضرّة) [الحجّ : الآية ٦٣] فالمعنى : «اسمعوا أنزل الله من السماء ماء» فهذا خبر واجب و (ألم تر) تنبيه. وقد تنصب الواجب في الشعر. قال الشاعر : [الوافر]

٤٢ ـ سأترك منزلي لبني تميم

وألحق بالحجاز فأستريحا (٢)

وهذا لا يكاد يعرف. وهو في الشعر جائز. وقال طرفة (٣) : [الطويل]

__________________

(١) البيت بلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢ / ٦٣ ، ١٧٩ ، والإنصاف ١ / ٣٩٠ ، وأوضح المسالك ٤ / ٣٧ ، وخزانة الأدب ١ / ١٣١ ، والخصائص ٣ / ١٣٥ ، ورصف المباني ص ٢٨٨ ، وسرّ صناعة الإعراب ١ / ٥٢١ ، ٢ / ٧٢٨ ، وشرح الأشموني ٢ / ٣٢٢ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٥٢١ ، وشرح قطر الندى ص ٢٠٥ ، ولسان العرب (لهف) ، والمحتسب ١ / ٢٧٧ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٢٤٨ ، والمقرب ١ / ١٨١ ، ٢ / ٢٠١ ، والممتع في التصريف ٢ / ٦٢٢.

(٢) البيت للمغيرة بن حبناء في خزانة الأدب ٨ / ٥٢٢ ، والدرر ١ / ٣٤٠ ، ٤ / ٧٩. وشرح شواهد الإيضاح ص ٢٥١ ، وشرح شواهد المغني ص ٤٩٧ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٣٩٠ ، وبلا نسبة في الدرر ٥ / ١٣٠ ، والرد على النحاة ص ١٢٥ ، ورصف المباني ص ٣٧٩ ، وشرح الأشموني ٣ / ٥٦٥ ، وشرح شذور الذهب ص ٣٨٩ ، وشرح المفصل ٧ / ٥٥ ، والكتاب ٣٩ ، ٩٢ ، والمحتسب ١ / ١٩٧ ، ومغني اللبيب ١ / ١٧٥ ، والمقتضب ٢ / ٢٤ ، والمقرب ١ / ٢٦٣.

(٣) طرفة : هو أبو عمرو ، طرفة بن العبد بن سفيان بن حرملة بن سعد بن مالك بن ضبيعة ، من بني بكر بن وائل ، خاله الملتمس جرير بن عبد المسيح ، عدّه ابن سلام في الطبقة الرابعة من الشعراء الجاهليين ، توفي شابا دون الثلاثين ، ورغم ذلك فإنه بلغ ما لم يبلغه القوم مع طول أعمارهم ، له ـ

٥٧

٤٣ ـ لها هضبة لا يدخل الذلّ وسطها

ويأوي إليها المستجير فيعصما (١)

واعلم أن إظهار ضمير «أن» في كل موضع أضمر فيه من الفاء لا يجوز. ألا ترى أنك إذا قلت : «لا تأته فيضربك» لم يجز أن تقول : «لا تأته فأن يضربك» وإنما نصبته على «أن» فلا يحسن إظهاره كما لا يجوز في قولك «عسى أن تفعل» : «عسى الفعل» ولا في قولك : «ما كان ليفعل» : «ما كان لأن يفعل» ولا إظهار الاسم الذي في قولك «نعم رجلا» فرب ضمير لا يظهر لأن الكلام إنما وضع على أن يضمر ، فإذا ظهر كان ذلك على غير ما وضع في اللفظ فيدخله اللبس.

وأما قوله (فأزلّهما الشّيطن عنها) [الآية ٣٦] فإنما يعني «الزلل». تقول : «زلّ فلان» و «أزللته» و «زال فلان» و «أزاله فلان» والتضعيف القراءة الجيدة وبها نقرأ.

وقال بعضهم : (فأزالهما) أخذها من «زال ، يزول». تقول : «زال الرجل» و «أزاله فلان».

وقال (اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ) [الآية ٣٦] فإنما قال (اهبطوا) [الآية ٣٦] والله أعلم لأنّ إبليس كان ثالثهم فلذلك جمع.

قال (فتلقّىءادم من رّبّه كلمت) [الآية ٣٧] فجعل آدم المتلقي. وقد قرأ بعضهم «آدم» نصبا ورفع الكلمات جعلهن المتلقّيات.

وقال (فإمّا يأتينّكم مّنّى هدى فمن تبع هداى) [الآية ٣٨] وذلك أن «إمّا» في موضع المجازاة وهي «إما» لا تكون «أما» وهي «إن» زيدت معها «ما» وصار الفعل الذي بعدها بالنون الخفيفة أو الثقيلة ، وقد يكون بغير نون. وإنّما حسنت فيه النون لما دخلته «ما» لأنّ «ما» نفي وهو ما ليس بواجب وهي من الحروف التي تنفي الواجب فحسنت فيه النون نحو قولهم «بعين مّا أرينّك» (٢) حين أدخلت فيها «ما»

__________________

ـ المعلقة المشهورة باسمه. وله ديوان شعر يستشهد به أصحاب اللغة. توفي نحو سنة ٦٠ قبل الهجرة (معجم الشعراء الجاهليين ص ١٩٥ ـ ١٩٦).

(١) البيت لطرفة بن العبد في ملحق ديوانه ص ١٥٩ ، والرد على النحاة ص ١٢٦ ، والكتاب ٣ / ٤٠ ، وللأعشى في خزانة الأدب ٨ / ٣٣٩ ، والخصائص ١ / ٣٨٩ ، ولسان العرب (دلك). وفيه «فيعصا» بدل «فيعصما» ، وهذا تحريف ، والمحتسب ١ / ١٩٧ ، وبلا نسبة في الجنى الداني ص ١٢٣ ، ورصف المباني المباني ص ٢٢٦ ، ٣٧٩ ، والمقتضب ٢ / ٢٤.

(٢) بعين مّا أرينّك : هو من الأمثال ، يضرب في الحث والإسراع وترك البطء ، ومعنا : اعمل كأني أنظر إليك. (انظر مجمع الأمثال ١ / ١٠٠).

٥٨

حسنت النون. ومثل «إمّا» ها هنا قوله (فإمّا ترينّ من البشر أحدا) [مريم : الآية ٢٦] وقوله (قل رّبّ إمّا ترينّى ما يوعدون (٩٣) ربّ فلا تجعلنى فى القوم الظّلمين) (٩٤) [المؤمنون : ٩٣ ـ ٩٤] فالجواب في قوله (فلا تجعلنى) [المؤمنون : الآية ٩٤]. وأشباه هذا في القرآن والكلام كثير. وأما «إمّا» في غير هذا الموضع الذي يكون للمجازاة فلا تستغني حتى ترد «إمّا» مرتين نحو قوله (إنّا هدينه السّبيل إمّا شاكرا وإمّا كفورا) (٣) [الإنسان : الآية ٣] ونحو قوله (حتّى إذا رأوا ما يوعدون إمّا العذاب وإمّا السّاعة) [مريم : الآية ٧٥] وإنما نصب لأنّ «إمّا» هي بمنزلة «أو» ولا تعمل شيئا كأنه قال «هديناه السبيل شاكرا أو كفورا» فنصبه على الحال و «حتى رأوا ما يوعدون العذاب أو الساعة» فنصبه على البدل.

وقد يجوز الرفع بعد «إمّا» في كل شيء يجوز فيه الابتداء ولو قلت : «مررت برجل إمّا قاعد وإمّا قائم» جاز. وهذا الذي في القرآن جائز أيضا ، ويكون رفعا إلا أنه لم يقرأ.

وأما التي تستغني عن التثنية فتلك تكون مفتوحة الألف أبدا نحو قولك «أمّا عبد الله فمنطلق» وقوله (فأمّا اليتيم فلا تقهر (٩) وأمّا السّائل فلا تنهر) (١٠) [الضحى : ٩ ـ ١٠] و (أما ثمود فهديناهم) [فصلت : ١٧]. فكلّ ما لم يحتج فيه إلى تثنية «أمّا» فألفها مفتوحة إلا تلك التي في المجازاة.

و «أمّا» أيضا لا تعمل شيئا. ألا ترى أنك تقول (وأمّا السّائل فلا تنهر) (١٠) [الضّحى : الآية ١٠] فتنصبه ب «تنهر» ولم تغيّر «أمّا» شيئا منه.

باب الإضافة

أما قوله (فمن تبع هداى فلا خوف عليهم) [الآية ٣٨] فانفتحت هذه الياء على كل حال لأن الحرف الذي قبلها ساكن. وهي الألف التي في «هدى». فلما احتجت إلى حركة الياء حركتها بالفتحة لأنها لا تحرك إلا بالفتح. ومثل ذلك قوله (عصاى أتوكّؤا عليها) [طه : الآية ١٨] ولغة للعرب يقولون «عصيّ يا فتى» و «هديّ فلا خوف عليهم» لما كان قبلها حرف ساكن وكان ألفا ، قلبته إلى الياء حتى تدغمه في الحرف الذي بعده فيجرونها مجرى واحدا وهو أخف عليهم. وأما قوله (هذا ما لدىّ عتيد) [ق : الآية ٢٣] و (هذا صرط علىّ مستقيم) [الحجر : الآية ٤١] و (ثمّ إلىّ مرجعكم) [آل عمران : ٥٥ ولقمان : ١٥]. فإنما حركت بالإضافة لسكون ما قبلها

٥٩

وجعل الحرف الذي قبلها ياء ولم يقل «علاي» ولا «لداي» كما تقول «على زيد» و «لدى زيد» ليفرقوا بينه وبين الأسماء ، لأن هذه ليست بأسماء. و «عصاي» و «هداي» و «قفاي» أسماء. وكذلك (أفتونى فى رءيى) [يوسف : الآية ٤٣] و (يا بشراي هذا غلام) [يوسف : ١٩] لأنّ آخر «بشرى» ساكن.

وقال بعضهم «يا بشراي هذا غلام» لا يريد الإضافة ، كما تقول «يا بشارة».

فإذا لم يكن الحرف ساكنا كنت في الياء بالخيار ، إن شئت أسكنتها وإن شئت فتحتها نحو (إنّى أنا الله) [القصص : الآية ٣٠] و (إنّى أنا الله) [القصص : الآية ٣٠] ، و (لمن دخل بيتي مؤمنا) [نوح : ٢٨] و (بيتى) و (ولم يزدهم دعائي إلا فرارا) [نوح : ٦] و (دعاءى إلّا) [نوح : الآية ٦]. وكذلك إذا لقيتها ألف ولام زائدتان. فإن شئت حذفت الياء لاجتماع الساكنين ، وإن شئت فتحتها كيلا يجتمع حرفان ساكنان. إلا ان أحسن ذلك الفتح نحو قول الله تبارك وتعالى (جاءنى البيّنت من رّبّى) [غافر : الآية ٦٦] و (ونعمتي التي) [البقرة : ٤٠ و٤٧ و١٢٢] وأشباه هذا. وبه نقرأ.

وإن لقيته أيضا ألف وصل بغير لام فأنت فيه أيضا بالخيار إلّا أن أحسنه في هذا الحذف وبها نقرأ (إنّى اصطفيتك على النّاس) [الأعراف : الآية ١٤٤] و (هرون أخى (٣٠) اشدد به أزرى) (٣١) [طه : ٣٠ ، ٣١].

فإذا كان شيء من هذا الدعاء حذفت منه الياء نحو (يعباد فاتّقون) [الزّمر : الآية ١٦] و (ربّ قدءاتيتنى من الملك) [يوسف : الآية ١٠١] و (رّبّ إمّا ترينّى ما يوعدون) [المؤمنون : الآية ٩٣].

ومن العرب من يحذف هذه الياءات في الدعاء وغيره من كل شيء. وذلك قبيح قليل إلا ما في رؤوس الآي ، فإنه يحذف الوقف. كما تحذف العرب في أشعارها من القوافي نحو قوله : [الطويل]

٤٤ ـ أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا

حنانيك بعض الشرّ أهون من بعض (١)

وقوله : [الوافر]

__________________

(١) البيت لطرفة بن العبد في ديوانه ص ٦٦ ، والدرر ٣ / ٦٧ ، والكتاب ١ / ٣٤٨ ، ولسان العرب (حنن) ، وهمع الهوامع ١ / ١٩٠ ، وتاج العروس (حنن) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ١٢٧٣ ، وشرح المفصل ١ / ١١٨ ، والمقتضب ٣ / ٢٢٤.

٦٠