معاني القرآن

أبي الحسن سعيد بن مسعدة المجاشعي البلخي البصري [ الأخفش الأوسط ]

معاني القرآن

المؤلف:

أبي الحسن سعيد بن مسعدة المجاشعي البلخي البصري [ الأخفش الأوسط ]


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3518-X
الصفحات: ٣٦٠

وهذا لا يكاد يعرف.

وأما قوله : (مالك يوم الدّين) (٤) [الآية ٤] فإنه يجرّ لأنه من صفة «الله» عزوجل.

وقوله : (لله) [الآية ٢] جر باللام كما انجر قوله :

(رب العالمين) [الآية ٢] (الرّحمن الرّحيم) [الآية ١] لأنه من صفة قوله (لله) [الآية ٢]. فإن قيل : وكيف يكون جرّا وقد قال : (اياك نعبد) [الآية ٥] فلأنه إذا قال «الحمد لمالك يوم الدين» فإنه ينبغي أن يقول «إيّاه نعبد» فإنما هذا على الوحي. وذلك أن الله تبارك وتعالى خاطب النبى صلى الله عليه فقال : «قل يا محمد» : «الحمد لله» وقل : «الحمد لمالك يوم الدين» وقل يا محمد : «إيّاك نعبد وإيّاك نستعين».

وقد قرأها قوم «مالك» نصب على الدعاء وذلك جائز ، يجوز فيه النصب والجرّ ، وقرأها قوم «ملك» إلا أن «الملك» اسم ليس بمشتق من فعل نحو قولك : «ملك وملوك» وأما «المالك» فهو الفاعل كما تقول : «ملك فهو مالك» مثل «قهر فهو قاهر».

وأما فتح نون (العالمين) [الآية ٢] فإنها نون جماعة ، وكذلك كل نون جماعة زائدة على حدّ التثنية فهي مفتوحة. وهي النون الزائدة التي لا تغيّر الاسم عما كان عليه : نحو نون «مسلمين» و «صالحين» و «مؤمنين» فهذه النون زائدة لأنك تقول : «مسلم» و «صالح» فتذهب النون ، وكذلك «مؤمن» قد ذهبت النون الآخرة ، وهي المفتوحة ، وكذلك «بنون». ألا ترى أنك إنما زدت على «مؤمن» واوا ونونا ، وياء ونونا ، وهو على حاله لم يتغير لفظه ، كما لم يتغير في التثنية. حين قلت «مؤمنان» و «مؤمنين». إلّا أنك زدت ألفا ونونا ، أو ياء ونونا للتثنية. وإنما صارت هذه مفتوحة ليفرق بينها وبين نون الاثنين. وذلك أن نون الاثنين مكسورة أبدا. قال : (قال رجلان من الّذين يخافون أنعم الله) [المائدة : الآية ٢٣] وقال (أرسلنا إليهم اثنين فكذّبوهما) [يس : الآية ١٤] والنون مكسورة.

وجعلت الياء للنصب والجرّ نحو «العالمين» و «المتقين» ، فنصبهما وجرهما سواء ، كما جعلت نصب «الاثنين» وجرهما سواء ، ولكن كسر ما قبل ياء الجميع

٢١

وفتح ما قبل ياء الاثنين ليفرق ما بين الاثنين والجميع ، وجعل الرفع بالواو ليكون علامة للرفع ، وجعل رفع الاثنين بالألف.

وهذه النون تسقط في الإضافة كما تسقط نون الاثنين ، نحو قولك : «بنوك» و «رأيت مسلميك» فليست هذه النون كنون «الشياطين» و «الدهاقين» و «المساكين». لأن «الشياطين» و «الدهاقين» و «المساكين» نونها من الأصل. ألا ترى أنك تقول : «شيطان» و «شييطين» و «دهقان» و «دهيقين» و «مسكين» و «مسيكين» فلا تسقط النون.

فأما «الذين» فنونها مفتوحة ، لأنك تقول : «الذي» فتسقط النون لأنها زائدة ، ولأنك تقول في رفعها : «اللذون» لأن هذا اسم ليس بمتمكن مثل «الذي». ألا ترى أن «الذي» على حال واحدة؟ إلا أنّ ناسا من العرب يقولون : «هم اللذون يقولون كذا وكذا». جعلوا له في الجمع علامة للرفع ، لأن الجمع لا بد له من علامة ، واو في الرفع ، وياء في النصب والجرّ وهي ساكنة. فأذهبت الياء الساكنة التي كانت في «الذي» لأنه لا يجتمع ساكنان ، كذهاب ياء «الذي» إذا أدخلت الياء التي للنصب ، ولأنهما علامتان للإعراب. والياء في قول من قال : «هم الذين» مثل حرف مفتوح أو مكسور بني عليه الاسم وليس فيه إعراب. ولكن يدلك على أنه المفتوح أو المكسور في الرفع والنصب والجر الياء التي للنصب والجرّ لأنها علامة للإعراب.

وقد قال ناس من العرب : «الشياطون» لأنهم شبّهوا هذه الياء التي كانت في «شياطين» إذا كانت بعدها نون ، وكانت في جميع وقبلها كسرة ، بياء الإعراب التي في الجمع. فلما صاروا إلى الرفع أدخلوا الواو. وهذا يشبه «هذا جحر ضبّ خرب» فافهم.

وأما قوله (إيّاك نعبد) [الآية ٥] ولم يقل «أنت نعبد» لأن هذا موضع نصب. وإذا لم يقدر في موضع النصب على الكاف أو الهاء وما أشبه ذلك من الإضمار الذي يكون للنصب جعل «إيّاك» أو «إيّاه» أو نحو ذلك مما يكون في موضع نصب. قال : (وإنّا أو إيّاكم لعلى هدى) [سبإ : الآية ٢٤] لأن هذا موضع نصب ، تقول : «إني أو زيدا منطلق». و (ضلّ من تدعون إلّا إيّاه) [الإسراء : الآية ٦٧]. هذا في موضع نصب. كقولك : «ذهب القوم إلّا زيدا». إنما صارت (إيّاك) [الآية ٥] في (إيّاك نعبد) [الآية ٥] في موضع نصب من أجل (نعبد) [الآية ٥] وكذلك :

٢٢

(وإيّاك نستعين) [الآية ٥] أيضا. وإذا كان موضع رفع جعلت فيه «أنت» و «أنتما» و «أنتم» و «هو» و «هي» وأشباه ذلك.

وأما قوله (اهدنا الصراط المستقيم) [الآية ٦] فيقول : «عرّفنا». وأهل الحجاز يقولون : «هديته الطريق» أي : عرّفته ، وكذلك «هديته البيت» في لغتهم. وغيرهم يلحق به «إلى». ثم قال :

(صراط الّذين أنعمت عليهم) [الآية ٧] نصب على البدل. و (أنعمت) [الآية ٧] مقطوع الألف لأنك تقول : «ينعم» ، فالياء مضمومة فافهم. وقوله :

(غير المغضوب عليهم) [الآية ٧] هؤلاء صفة (الّذين أنعمت عليهم) [الآية ٧] لأن «الصراط» مضاف إليهم ، فهم جرّ للإضافة. وأجريت عليهم «غير» صفة أو بدلا. و «غير» و «مثل» قد تكونان من صفة المعرفة التي بالألف واللام ، نحو قولك : «إني لأمرّ بالرجل غيرك وبالرجل مثلك فما يشتمني» ، و «غير» و «مثل» إنما تكونان صفة للنكرة ، ولكنهما قد احتيج إليهما في هذا الموضع فأجريتا صفة لما فيه الألف واللام ، والبدل في «غير» أجود من الصفة ، لأن «الذي» و «الذين» لا تفارقهما الألف واللام ، وهما أشبه بالاسم المخصوص من «الرجل» وما أشبهه.

و «الصراط» فيه لغتان ، السين والصاد ، إلّا أنا نختار الصاد لأن كتابها على ذلك في جميع القرآن.

وقد قال العرب : «هم فيها الجمّاء الغفير» فنصبوا ، كأنهم لم يدخلوا الألف واللام ، وإن كانوا قد أظهروهما كما أجروا «مثلك» و «غيرك» كمجرى ما فيه الألف واللام وإن لم يكونا في اللفظ. وإنما يكون هذا وصفا للمعرفة التي تجيء في معنى النكرة. ألا ترى أنك إذا قلت : «إنّي لأمرّ بالرجل مثلك» إنما تريد «برجل مثلك». لأنك لا تحدّ له رجلا بعينه ولا يجوز إذا حددت له ذلك ، إلا أن تجعله بدلا ولا يكون على الصفة. ألا ترى أنه لا يجوز «مررت بزيد مثلك» إلّا على البدل؟ ومثل ذلك : «إنّي لأمرّ بالرجل من أهل البصرة». ولو قلت : «إنّي لأمرّ بزيد من أهل البصرة» لم يجز إلّا أن تجعله في موضع حال. فكذلك (غير المغضوب عليهم) [الآية ٧].

وقد قرأ قوم «غير المغضوب عليهم» جعلوه على الاستثناء الخارج من أول الكلام. ولذلك تفسير سنذكره إن شاء الله ، وذلك أنه إذا استثنى شيئا ليس من

٢٣

أول الكلام في لغة أهل الحجاز فإنه ينصب ويقول : «ما فيها أحد إلّا حمارا» ، وغيرهم يقول : «هذا بمنزلة ما هو من الأول» فيرفع. فذا يجرّ (غير المغضوب) [الفاتحة : الآية ٧] في لغته. وإن شئت جعلت «غير» نصبا على الحال لأنها نكرة والأول معرفة ، وإنما جرّ لتشبيه «الذي» ب «الرجل». وليس هو على الصفة بحسن ولكن على البدل نحو (بالنّاصية) [العلق : الآية ١٥] (ناصية كذبة) [العلق : الآية ١٦].

ومن العرب من يقول :

«هيّاك» بالهاء ويجعل الألف من «إيّاك» هاء فيقول «هيّاك نعبد» كما تقول : «إيه» و «هيه» وكما تقول : «هرقت» و «أرقت».

وأهل الحجاز يؤنثون «الصراط» كما يؤنثون «الطريق» و «الزقاق» و «السبيل» و «السوق» و «الكلاء». وبنو تميم يذكّرون هذا كله. وبنو أسد يؤنثون «الهدى».

٢٤

ومن سورة البقرة

أما قوله (ألم) [الآية ١] فإن هذه الحروف أسكنت لأن الكلام ليس بمدرج ، وإنما يكون مدرجا لو عطف بحرف العطف وذلك أن العرب تقول في حروف المعجم كلها بالوقف إذا لم يدخلوا حروف العطف فيقولون : «ألف باء تاء ثاء» ويقولون : «ألف وباء وتاء وثاء». وكذلك العدد عندهم ما لم يدخلوا حروف العطف فيقولون : «واحد اثنان ثلاثه». وبذلك على أنه ليس بمدرج قطع ألف «اثنين» وهي من الوصل. فلو كان وصلها بالذي قبلها لذهبت ولكن هذا من العدد ، والعدد والحروف كل واحد منها شيء مفصول على حياله. ومثل ذلك (ألمص) [الأعراف : ١] و (ألر) [يونس : ١ وهود : ١ ويوسف : ١ وإبراهيم : ١ والحجر : ١] و (ألمر) [الرعد : ١] و (كهيعص) (١) [مريم : الآية ١] و (طسم) (١) [الشّعراء : الآية ١] و (يس) (١) [يس : الآية ١] و (طه) (١) [طه : الآية ١] و (حم) (١) [الشّورى : الآية ١] و (ق) [ق : الآية ١] و (ص) [ص : الآية ١]. إلا أن قوما قد نصبوا (يس) (١) [يس : الآية ١] و (طه) (١) [طه : الآية ١] و (حم) (١) [الشّورى : الآية ١] وهو كثير في كلام العرب ، وذلك أنهم جعلوها أسماء كالأسماء الأعجمية «هابيل» و «قابيل». فإما أن يكونوا جعلوها في موضع نصب ولم يصرفوها كأنه قال : «اذكر حم وطس ويس» ، أو جعلوها كالأسماء ، التى هي غير متمكنة فحرّكوا آخرها حركة واحدة كفتح «أين» ، وكقول بعض الناس : «الحمد لله». وقرأ بعضهم : «ص» و «ن» و «ق» بالفتح وجعلوها أسماء ليست بمتمكنة فألزموها حركة واحدة وجعلوها أسماء للسورة ، فصارت أسماء مؤنثة. ومن العرب من لا يصرف المؤنث إذا كان وسطه ساكنا نحو «هند» و «جمل» و «دعد». قال الشاعر : [الطويل]

٤ ـ وإني لأهوى بيت هند وأهلها

على هنوات قد ذكرن على هند (١)

وهو يجوز في هذه اللغة أو يكون سماها بالحرف ، والحرف مذكر ، وإذا

__________________

(١) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

٢٥

سمي المؤنث بالمذكر لم ينصرف ، فجعل (ص) [ص : الآية ١] وما أشبهها اسما للسورة ولم يصرف ، وجعله في موضع نصب.

وقال بعضهم : «صاد والقرآن» فجعلها من «صاديت» ثم أمر كما تقول «رام» كأنه قال : «صاد الحقّ بعملك» أي : تعمده ، ثم قال (والقرءان) فأقسم ، ثم قال (بل الّذين كفروا فى عزّة وشقاق) (٢) [ص : الآية ٢]. فعلى هذا وقع القسم. وذلك أنهم زعموا أن «بل» هاهنا إنما هي «إنّ» فلذلك صار القسم عليها.

وقد اختلف الناس في الحروف التي في فواتح السور ، فقال بعضهم : «إنما هي حروف يستفتح بها». فإن قيل «هل يكون شيء من القرآن ليس له معنى»؟ فإن معنى هذه أنه ابتدأ بها ليعلم أن السورة التي قبلها قد انقضت ، وأنه قد أخذ في أخرى. فجعل هذا علامة لانقطاع ما بينهما ، وذلك موجود في كلام العرب ، ينشد الرجل منهم الشعر فيقول : [الرجز]

٥ ـ بل. وبلدة ما الانس من أهّالها (١)

أو يقول : [الرجز]

٦ ـ بل. ما هاج أحزانا وشجوا قد شجا (٢)

ف «بل» ليست من البيت ولا تعد في وزنه ، ولكن يقطع بها كلام ويستأنف آخر. وقال قوم : إنها حروف إذا وصلت كانت هجاء لشيء يعرف معناه ، وقد أوتي بعض الناس علم ذلك. وذلك أن بعضهم كان يقول : «ألر» و «حم» و «ن» هذا هو اسم «الرحمن» جل وعزّ ، وما بقي منها فنحو هذا.

__________________

(١) يروى الرجز بلفظ :

وبلدة ما الإنس من آهالها

والرجز بلا نسبة في لسان العرب (أهل) ، (بلل) ، (بلا) ، وتاج العروس (أهل).

(٢) يليه :

من طلل كالأتحميّ أنهجا

والرجز للعجاج في ديوانه ٢ / ١٣ ، وتخليص الشواهد ص ٤٧ ، والخصائص ١ / ١٧١ ، وسرّ صناعة الإعراب ٢ / ٥١٤ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٣٥١ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٧٩٣ ، وشرح المفصل ١ / ٦٤ ، والكتاب ٤ / ٢٠٧ ، والمقاصد النحوية ١ / ٢٦ ، وتاج العروس (بلل) ، ولرؤبة في معاهد التنصيص ١ / ١٤ ، وليس في ديوانه ، وبلا نسبة في رصف المباني ص ٣٥٤ ، ولسان العرب (بيع) ، وكتاب العين ٣ / ٣٩٣.

٢٦

وقالوا : إن قوله (كهيعص) (١) [مريم : الآية ١] «كاف هاد عالم صادق» فأظهر من كل اسم منها حرفا ليستدل به عليها. فهذا يدل على أن الوجه الأول لا يكون إلا وله معنى ، لأنه يريد معنى الحروف. ولم ينصبوا من هذه الحروف شيئا غير ما ذكرت لك ، لأن (الم) [الآية ١] و (طسم) (١) [الشّعراء : الآية ١] و (كهيعص) (١) [مريم : الآية ١] ليست مثل شيء من الأسماء ، وإنما هي حروف مقطعة.

وقال : (الم) [الآية ١] (الله لا إله إلّا هو) [البقرة : الآية ٢٥٥] فالميم مفتوحة لأنها لقيها حرف ساكن فلم يكن من حركتها بد. فإن قيل : «فهلا حركت بالجر»؟ فإن هذا لا يلزم فيها وإنما أرادوا الحركة ، فإذا حركوها بأي حركة كانت فقد وصلوا إلى الكلام بها ، ولو كانت كسرت لجاز ولا أعلمها إلا لغة.

وقال بعضهم : «فتحوا الحروف التي للهجاء إذا لقيها الساكن ليفصلوا بينها وبين غيرها». وقالوا : «من الرجل» ففتحوا لاجتماع الساكنين. ويقولون : «هل الرجل» و «بل الرجل» وليس بين هذين وبين «من الرجل» فرق ، إلا أنهم قد فتحوا «من الرجل» لئلا تجتمع كسرتان ، وكسروا (إذ الظّلمون) [الأنعام : الآية ٩٣]. وقد اجتمعت كسرتان لأن «من» أكثر استعمالا في كلامهم من «إذ» ، فأدخلوها الفتح ليخف عليهم. وإن شئت قلت «ألم» حروف منفصل بعضها من بعض ، لأنه ليس فيها حرف عطف ، وهي أيضا منفصلة مما بعدها ، فالأصل فيها أن تقول «الم الله» فتقطع ألف «الله» إذا كان ما قبله منفصلا منه كما قلت «واحد ، إثنان» فقطعت. وكما قرأ القراء (نون والقلم) [القلم : ١] فبينوا النون لأنها منفصلة. ولو كانت غير منفصلة لم تبين إلا أن يلقاها أحد الحروف الستة. ألا ترى أنك تقول : «خذه من زيد» و «خذه من عمرو» فتبين النون في «عمرو» ولا تبين في «زيد». فلما كانت ميم ساكنة وبعدها حرف مقطوع مفتوح جاز أن تحرك الميم بفتحة الألف وتحذف الألف في لغة من قال «من ابوك» فلا تقطع. وقد جعل قوم (نون) بمنزلة المدرج فقالوا «نون والقلم» فأثبتوا النون ولم يبينوها. وقالوا (يس والقرآن) [يس : ١ ـ ٢] فلم يبينوا أيضا. وليست هذه النون هاهنا بمنزلة قوله (كهيعص) (١) [مريم : الآية ١] و (طس تلك) [النّمل : الآية ١] و (حم عسق) [الشورى : ١] فهذه النونات لا تبين في القراءة في قراءة أحد ، لأن النون قريبة من الصاد ، لأن الصاد والنون من مخرج طرف اللسان. وكذلك التاء والسين في (طس تلك) [النّمل : الآية ١] وفي (حم عسق) [الشورى : ١] ، فلذلك لم تبين النون إذ قربن منها. وتبينت النون في

٢٧

(يس) (١) [يس : الآية ١] و (نون) لبعد النون من الواو لأن النون بطرف اللسان والواو بالشفتين.

وقال (لا ريب فيه هدى لّلمتّقين) [الآية ٢] وقال (فلا إثم عليه) [الآية ١٧٣] فنصبهما بغير تنوين. وذلك أن كل اسم منكور نفيته ب «لا» وجعلت «لا» إلى جنب الاسم فهو مفتوح بغير تنوين ، لأن «لا» مشبهة بالفعل ، كما شبهت «إن» و «ما» بالفعل. و «فيه» في موضع خبرها وخبرها رفع ، وهو بمنزلة الفاعل ، وصار المنصوب بمنزلة المفعول به ، و «لا» بمنزلة الفعل. وإنما حذفت التنوين منه لأنك جعلته و «لا» اسما واحدا ، وكل شيئين جعلا اسما لم يصرفا. والفتحة التي فيه لجميع الاسم ، بني عليها وجعل غير متمكن. والاسم الذي بعد «لا» في موضع نصب عملت فيه «لا».

وأما قوله (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) [يونس : الآية ٦٢] فالوجه فيه الرفع لأن المعطوف عليه لا يكون إلا رفعا ورفعته لتعطف الآخر عليه ، وقد قرأها قوم نصبا وجعلوا الآخر رفعا على الابتداء.

وقوله (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج) [الآية ١٩٧] فالوجه النصب لأن هذا نفي ولأنه كله نكرة. وقد قال قوم «فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج» فرفعوه كله ، وذلك أنه قد يكون هذا المنصوب كله مرفوعا في بعض كلام العرب. قال الشاعر : [البسيط]

٧ ـ وما صرمتك حتى قلت معلنة

لا ناقة لي في هذا ولا جمل (١)

وهذا جواب لقوله «هل فيه رفث أو فسوق» فقد رفع الأسماء بالابتداء وجعل لها خبرا ، فلذلك يكون جوابه رفعا. وإذا قال «لا شيء» فإنما هو جواب «هل من شيء» ، لأن «هل من شيء» قد أعمل فيه «من» بالجر وأضمر الخبر والموضع مرفوع ، مثل «بحسبك أن تشتمني» فإنما هو «حسبك أن تشتمني». فالموضع مرفوع والباء قد عملت.

وقد قال قوم : «فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج» فرفعوا الأول

__________________

(١) البيت للراعي النميري في ديوانه ص ١٩٨ ، وتخليص الشواهد ص ٤٠٥ ، وشرح التصريح ١ / ٢٤١ ، وشرح المفصل ٢ / ١١١ ، ١١٣ ، والكتاب ٢ / ٢٩٥ ، ولسان العرب (لفا) ، ومجالس ثعلب ص ٣٥ ، المقاصد النحوية ٢ / ٣٣٦ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٢ / ١٥ ، وشرح الأشموني ١ / ١٥٢ ، واللمع ص ١٢٨.

٢٨

على ما يجوز في هذا من الرفع ، أو على النهي ، كأنه قال : «فلا يكونن فيه رفث ولا فسوق» ، كما تقول : «سمعك إليّ» تقولها العرب فترفعها ، وكما تقول للرجل : «حسبك» و «كفاك». وجعل الجدال نصبا على النفي. وقال الشاعر : [الكامل]

٨ ـ ذاكم وجدّكم الصّغار بأسره

لا أمّ لي إن كان ذاك ولا أب (١)

فرفع أحدهما ونصب الآخر.

وأما قوله (لا فيها غول) [الصّافات : الآية ٤٧] فرفع لأن «لا» لا تقوى أن تعمل إذا فصلت ، وقد فصلتها ب «فيها» فرفع على الابتداء ولم تعمل «لا».

وقوله (فيه هدى لّلمتّقين) [الآية ٢] ف «فيه» و «عليه» و «إليه» ، وأشباه ذلك في القرآن كثير. وذلك أن العرب إذا كان قبل هذه الهاء التي للمذكر ياء ساكنة ، حذفوا الياء التي تجيء من بعد الهاء أو الواو ، لأن الهاء حرف خفي وقع بين حرفين متشابهين فثقل ذلك. فمن كان من لغته إلحاق الواو إذا كان قبلها كسرة ولم يكن

__________________

(١) يروى صدر البيت بلفظ :

هذا لعمركم الصّغار بعينه

والبيت من أكثر الشواهد المختلف عليها ، فهو لرجل من مذحج في الكتاب ٢ / ٢٩٢ ، وهو لضمرة بن جابر في خزانة الأدب ٢ / ٣٨ ، ٤٠ ، وهو لرجل من مذحج أو لضمرة بن ضمرة ، أو لهمام أخي جساس ابني مرة في تخليص الشواهد ص ٤٠٥ ، وهو لرجل من مذحج ، أو لهمام بن مرة في شرح شواهد الإيضاح ص ٢٠٩ ، وهو لرجل من بني عبد مناف ، أو لابن أحمر ، أو لضمرة بن ضمرة ، أو لرجل من مذحج ، أو لهمام بن مرة ، أو لرجل من بني عبد مناف في الدرر ٦ / ١٧٥ ، وهو لهني بن أحمر أو لزرافة الباهلي في لسان العرب (حيس) ، وهو لرجل من مذحج أو لهمام بن مرة أو لرجل من بني عبد مناة أو لابن أحمر أو لضمرة بن ضمرة في شرح التصريح ١ / ٢٤١ ، ولابن أحمر في المؤتلف والمختلف ص ٣٨ ، والمقاصد النحوية ٢ / ٣٣٩ ، ولرجل من مذحج أو لهمام أخي حسان بن مرة أو لضمرة بن ضمرة أو لابن أحمر في شرح شواهد المغني ص ٩٢١ ، ولهمام بن مرة في الحماسة الشجرية ١ / ٢٥٦ ، ولعامر بن جوين الطائي ، أو منقذ بن مرة الكناني في حماسة البحتري ص ٧٨ ، ولرجل من بني عبد مناه بن كنانة في سمط اللآلي ص ٢٨٨ ، وبلا نسبة في جواهر الأدب ص ٢٤١ ، والأشباه والنظائر ٤ / ١٦٢ ، وأمالي ابن الحاجب ص ٥٩٣ ، وأوضح المسالك ٢ / ١٦ ، ورصف المباني ص ٢٦٧ ، وشرح الأشموني ص ١٥١ ، وشرح ابن عقيل ص ٢٠٢ ، وشرح المفصل ٢ / ٢٩٢ ، وكتاب اللامات ص ١٠٦ ، واللمع في العربية ص ١٢٩ ، ومغني اللبيب ص ٥٩٣ ، والمقتضب ٤ / ٣٧١.

٢٩

قبلها الياء ، ترك الهاء مضمومة إذا كان قبلها الياء الساكنة. ومن كان من لغته إلحاق الياء ترك الهاء مكسورة إذا كان قبلها الياء الساكنة. وكذلك إذا كان قبل الهاء ألف ساكنة أو واو فإنه يحذف الواو التي تكون بعد الهاء ، ولكن الهاء لا تكون إلا مضمومة نحو (فألقى موسى عصاه) [الشعراء : ٤٥] وقوله (فكذّبوه) [الأعراف : الآية ٦٤] وقوله (فأنجيناه) [الأعراف : ٦٤] وأشباه هذا في القرآن كثير.

ومن العرب من يتم لأن ذلك من الأصل فيقول «فكذّبوهو» «فأنجيناهو» «وألقى موسى عصاهو» و «لا ريب فيهو هدى للمتقين» وهي قراءة أهل المدينة. وقد قال قوم (إنّى لكم مّنه نذير مّبين) [الذّاريات : الآية ٥٠] فألقوا الواو وشبهوا الساكن بالياء والواو والألف. وهذا ليس بجيّد في العربية ، وأجوده «منهو نذير» تلحق الواو وإن كانت لا تكتب. وكل هذا إذا سكت عليه لم تزد على الهاء شيئا.

ولا تكسر هذه الهاء إلا أن تكون قبلها ياء ساكنة ، أو حرف مكسور. وإنما يكسر بنو تميم. فأما أهل الحجاز فإنهم يضمون بعد الكسر وبعد الياء أيضا قال (ثمّ اتّخذتم العجل من بعده وأنتم ظلمون) [الآية ٥١]. وأهل الحجاز يقولون «من بعدهو» فيثبتون الواو في كل موضع.

ومن العرب من يحذف الواو والياء في هذا النحو أيضا ، وذلك قليل قبيح ، يقول : «مررت به قبل» و «به قبل» يكسرون ويضمون ، ولا يلحقون واوا ولا ياء ، ويقولون «رأيته قبل» فلا يلحقون واوا. وقد سمعنا بعض ذلك من العرب الفصحاء.

قد قرأ بعض القراء «فيه هدى» فأدغم الهاء الأولى في هاء «هدى» لأنهما التقتا وهما مثلان.

وزعموا أن من العرب من يؤنث «الهدى». ومنهم من يسكن هاء الإضمار للمذكر. قال الشاعر : [الطويل]

٩ ـ فظلت لدى البيت العتيق أخيله

ومطواي مشتاقان له أرقان (١)

__________________

(١) البيت ليعلى بن الأحول الأزدي في خزانة الأدب ٥ / ٢٦٩ ، ٢٧٥ ، ولسان العرب (مطا) ، (ها) ، وبلا نسبة في الخصائص ١ / ١٢٨ ، ٣٧٠ ، ورصف المباني ص ١٦ ، وسرّ صناعة الإعراب ٢ / ٧٢٧ ، والمحتسب ١ / ٢٤٤ ، والمقتضب ١ / ٣٩ ، ٢٦٧ ، والمنصف ٣ / ٨٤. ويروى : «أريغه» بدل : «أخيله».

٣٠

وهذا في لغة أسد السراة ، زعموا ، كثير.

وقوله (وممّا رزقنهم ينفقون) [الآية ٣] ففيها لغتان ، منهم من يقولها بالوقف إذا وصل ، ومنهم من يلحق فيها الواو. وكذلك هو في كل موضع من القرآن والكلام إلّا أن يكون ما قبلها مكسورا أو ياء ساكنة. فإن كانت ياء ساكنة أو حرف مكسور نحو «عليهم» و «بهم» و «من بعدهم» فمن العرب من يقول : «عليهمي» فيلحق الياء ويكسر الميم والهاء ، ومنهم من يقول : «عليهمو» فيلحق الواو ويضم الميم والهاء ، ومنهم من يقول : «عليهم» و «عليهم» ، فيرفعون الهاء ويكسرونها ، ويقفون الميم ، ومنهم من يقول : «عليهمو» فيكسرون الهاء ويضمون الميم ويلحقون الواو ، ومنهم من يقول : «عليهمي» فيضمون الهاء ويكسرون الميم ويلحقون الياء.

وكل هذا إذا وقفت عليه فآخره ساكن والذي قبله مكسور هو بمنزلة ما قبله ياء. وهذا في القرآن كثير.

ومنهم من يجعل «كم» في «عليكم» و «بكم» إذا كانت قبلها ياء ساكنة أو حرف مكسور بمنزلة «هم» وذلك قبيح لا يكاد يعرف ، وهي لغة لبكر بن وائل سمعناها من بعضهم يقولون «عليكمي» و «بكمي». وأنشد الأخفش (١) قال : سمعته من بكر بن وائل : [الطويل]

١٠ ـ وإن قال مولاهم على جلّ حاجة

من الأمر ردّوا فضل أحلامكم ردّوا (٢)

وكل هذا إذا لقيه حرف ساكن حركت الميم بالضم إن كان بعدها واو ، فإن كان بعدها واو حذفت الواو ، وإن كان ياء حذفت الياء وحركت الميم بالكسر.

وكذلك الهاء التي للواحد المذكر من نحو «مررت به اليوم» و «رأيته اليوم».

وزعموا أن بعض العرب يحرك الميم ولا يلحق ياء ولا واوا في الشعر وذا لا يكاد يعرف. وقال الشاعر : [الرجز]

__________________

(١) هو الأخفش الأكبر ، أبو الخطاب عبد الحميد بن عبد المجيد الهجري ، شيخ سيبويه وأبي عبيدة ، انظر ترجمته في مراتب النحويين ٢٣ ، وطبقات الزبيدي ٤٠ ، وإنباه الرواة ٢ / ١٥٧.

(٢) البيت للحطيئة في ديوانه ص ٤١ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٣٤٢ ، والكتاب ٤ / ١٩٧ ، وبلا نسبة في المقتضب ١ / ٢٧٠.

٣١

١١ ـ تالله لو لا شعبتي من الكرم

وشعبتي فيهم من خال وعمّ (١)

فأما قوله (سواء عليهمءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) [الآية ٦] فإنما دخله حرف الاستفهام وليس باستفهام لذكره السواء ، لأنه إذا قال في الاستفهام : «أزيد عندك أم عمرو» وهو يسأل أيهما عندك فهما مستويان عليه ، وليس واحد منهما أحق بالاستفهام من الآخر. فلما جاءت التسوية في قوله (ءأنذرتهم) [الآية ٦] أشبه بذلك الاستفهام ، إذ أشبهه في التسوية. ومثلها (سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم) [المنافقون : ٦] ولكن (أستغفرت) [المنافقون : الآية ٦] ليست بممدودة ، لأن الألف التي فيها ألف وصل لأنها من «استغفر» «يستغفر» فالياء مفتوحة من «يفعل» ، وأما (ءأنذرتهم) [الآية ٦] ففيها ألفان ألف «أنذرت» وهي مقطوعة لأنه يقول «ينذر» فالياء مضمومة ثم جعلت معها ألف الاستفهام فلذلك مددت وخففت الآخرة منهما لأنه لا يلتقي همزتان. وقال (أفلا تبصرون) [القصص : الآية ٧٢] (أم أنا خير مّن هذا الّذى هو مهين) [الزّخرف : الآية ٥٢]. وقال بعضهم إنه على قوله (أفلا تبصرون) [القصص : الآية ٧٢] وجعل قوله (أم أنا خير مّن هذا الّذى هو مهين) [الزّخرف : الآية ٥٢] بدلا من (تبصرون) [القصص : الآية ٧٢]. لأن ذلك عنده بصرا منهم أن يكون عندهم هكذا وهذه «أم» التي تكون في معنى «أيهما». وقد قال قوم «إنها يمانية» وذلك أن أهل اليمن يزيدون «أم» في جميع الكلام. وأما ما سمعنا من اليمن فيجعلون «أم» مكان الألف واللام الزائدتين ، يقولون «رأيت امرجل» و «قام امرجل» يريدون «الرجل». ولا يشبه أن تكون (أم أنا خير) [الزّخرف : الآية ٥٢] على لغة أهل اليمن. وقد زعم أبو زيد (٢) أنه سمع أعرابيا فصيحا ينشدهم : [الرجز]

١٢ ـ يا دهر أم كان مشيي رقصا

بل قد تكون مشيتي ترقّصا (٣)

__________________

(١) يروى الرجز بتمامه بلفظ :

والله لو لا شعبة من الكرم

ونسب في الحي من خال وعم

لضمني السير إلى شرّ مضم

والرجز بلا نسبة في جمهرة اللغة ص ١٤٨.

(٢) أبو زيد : هو سعيد بن أوس بن ثابت بن زيد بن قيس بن زيد الأنصاري الحنفي ، أبو زيد البصري اللغوي ، توفي سنة ٢١٥ ه‍ ، وله العديد من المصنفات ، منها : «تخفيف الهمز الواحد» ، «غريب الأسماء» ، «قراءة أبي عمرو» ، «كتاب الأمثال» ، «كتاب تحقيق الهمز» ، «كتاب الجمع والتثنية» ، «كتاب اللامات» ، «كتاب اللغات» ، «كتاب المصادر» ، «كتاب المنطق في اللغة» ، «لغات القرآن». (كشف الظنون ٥ / ٣٨٧ ـ ٣٨٨).

(٣) يروى الرجز بلفظ : ـ

٣٢

فسأله فقال : «معناه ما كان مشيي رقصا» ف «أم» هاهنا زائدة. وهذا لا يعرف. وقال علقمة بن عبدة (١) : [الطويل]

١٣ ـ وما القلب أم ما ذكره ربعيّة

يخطّ لها من ثرمداء قليب (٢)

يريد «ما ذكره ربيعة» يجعله بدلا من «القلب» ، وقال بعض الفقهاء : «إن معناه أنه قال فرعون (أفلا تبصرون) [القصص : الآية ٧٢] أم أنتم بصراء». وقال الشاعر : [الطويل]

١٤ ـ فيا ظبية الوعساء بين جلاجل

وبين النّقا أأنت أم أمّ سالم (٣)

__________________

يا دهر أم ما كان مشيي رقصا

بل قد تكون مشيتي توقّصا

والرجز بلا نسبة في الأزهية ص ١٣٢ ، وخزانة الأدب ١١ / ٦٢ ، ٦٣ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٦٥٦ ، ولسان العرب (أمم) ، والمقتضب ٣ / ٢٩٧ ، والمنصف ٣ / ١١٨ ، وتهذيب اللغة ١ / ٦٢٥.

(١) علقمة بن عبدة : هو علقمة الفحل ، واسمه علقمة بن عبدة بن ناشرة بن قيس ، من بني تميم ، من الشعراء الكبار الذين عاصروا امرأ القيس ، وعمرو بن كلثوم ، والنابغة ، والذين أتيحت لهم الفرصة للتنقل بين مشارق الجزيرة ، ومغاربها ، ومخالطة العرب وكبارهم ، والاتصال بملوك الغساسنة والمناذرة ، مما أضفى على شعره رونقا يتقلب بين زهوّ المجتمعات المتحضرة والبيئة البدوية التي عاشها وتغنّى بها.

عاش حياته في جو من العلاقات العاطفية التي لازمته حتى سن المشيب. عدّه ابن سلام في الطبقة الرابعة من شعراء الجاهلية وعدّه آخرون من شعراء الطبقة الأولى.

له مع امرىء القيس مساجلات عدة ، أسر الحارث بن أبي شمّر الغساني أخا علقمة ـ شأس ـ فتشفع له علقمة لدى الحارث ، ومدحه بأبيات فأطلقه. توفي علقمة الفحل في حدود سنة ٢٠ قبل الهجرة (معجم الشعراء الجاهليين ص ٢٢٨ ـ ٢٢٩).

(٢) البيت لعلقمة الفحل في ديوانه ص ٣٥ ، والدرر ٦ / ١١٠ ، وشرح اختيارات المفضّل ص ١٥٨٠ ، ولسان العرب (ثرمد) ، والمقاصد النحوية ٣ / ١٦ ، وبلا نسبة في رصف المباني ص ٩٩ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٣٣.

(٣) البيت لذي الرمة في ديوانه ص ٧٦٧ ، وأدب الكاتب ص ٢٢٤ ، والأزهية ص ٣٦ ، والأغاني ١٧ / ٣٠٩ ، والخصائص ٢ / ٤٥٨ ، والدرر ٣ / ١٧ ، وسرّ صناعة الإعراب ٢ / ٧٢٣ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٢٥٧ ، وشرح شواهد الشافية ص ٣٤٧ ، وشرح المفصل ١ / ٩٤ ، ٩ / ١١٩ ، والكتاب ٣ / ٥٥١ ، ولسان العرب (جلل) ، (أ) ، (يا) ، واللمع ص ١٩٣ ، ٢٧٧ ، ومعجم ما استعجم ص ٣٨٨ ، والمقتضب ١ / ١٦٣ ، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب ١ / ٤٥٧ ، ٢ / ٦٧٧ ، والإنصاف ٢ / ٤٨٢ ، وجمهرة اللغة ص ١٢١٠ ، والجنى الداني ص ١٧٨ ، ٤١٩ ، وخزانة الأدب ٥ / ٢٤٧ ، ١١ / ٦٧ ، ورصف المباني ص ٢٦ ، ١٣٦ ، وشرح شافية ابن الحاجب ٣ / ٦٤ ، وهمع الهوامع ١ / ١٧٢.

٣٣

يريد : «أأنت أحسن أم أمّ سالم» فأضمر «أحسن». يريد : «أليس أنا خيرا من هذا الذي هو مهين». ولها موضع آخر تكون فيه منقطعة من الكلام كأنك تميل إلى أوله. قال (لا ريب من رب العالمين أم يقولون افتراه) [يونس : الآية ٣٨]. وهذا لم يكن قبله استفهام ، وهذا قول العرب : «إنّها لإبل» ثم يقولون «أم شاء» وقولهم «لقد كان كذا وكذا أم حدّثت نفسي» ، ومثل قول الشاعر : [الكامل]

١٥ ـ كذبتك عينك أم رأيت بواسط

غلس الظلام من الرّباب خيالا (١)

وليس قوله (أم يقولون افتراه) [يونس : الآية ٣٨] لأنه شك ، ولكنه قال هذا ليقبّح صنيعهم كما تقول : «ألست الفاعل كذا وكذا» ليس تستفهم إنما توبخه. ثم قال : (بل هو الحقّ من رّبّك) [السّجدة : الآية ٣]. ومثل هذا في القرآن كثير ، قال (فذكّر فما أنت بنعمت ربّك بكاهن ولا مجنون) (٢٩) [الطّور : الآية ٢٩] ثم قال (أم يقولون شاعر نّتربّص به) [الطّور : الآية ٣٠] و (أم عندهم خزائن ربّك) [الطّور : الآية ٣٧] كل هذا على استفهام الاستئناف. وليس ل «أم» غير هذين الموضعين لأنه أراد أن ينبه ، ثم ذكر ما قالوا عليه يعني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليقبح ما قالوا عليه ، نحو قولك للرجل «الخير أحبّ إليك أم الشرّ»؟ وأنت تعلم أنه يقول «الخير» ولكن أردت أن تقبح عنده ما صنع. وأما قوله (ولا تطع منهمءاثما أو كفورا) [الإنسان : الآية ٢٤] فقد نهاه عن الآثم والكفور جميعا. وقد قال بعض الفقهاء : «إنّ «أو» تكون بمنزلة الواو» ، وقال : [المتقارب]

١٦ ـ يهينون من حقروا شأيه

وإن كان فيهم يفي أو يبرّ (٢)

يقول : «يفي ويبرّ». وكذلك هي عندهم ها هنا وإنما هي بمنزلة «كل اللحم أو التمر» إذا رخصت له في هذا النحو. فلو أكل كله أو واحدا منه لم يعص. فيقع النهي عن كل ذا في هذا المعنى فيكون إن ركب الكل أو واحدا عصى. كما كان في الأمر إن صنع واحدا أطاع. وقال (وأرسلناه إلى مئة ألف أو يزيدون) [الصافات : ١٤٧] ومعناه «ويزيدون» ومخرجها في العربية أنك تقول : «لا تجالس

__________________

(١) البيت للأخطل في ديوانه ص ٣٨٥ ، والأزهية ص ١٢٩ ، وخزانة الأدب ٦ / ٩ ، ١٠. ١٢ ، ١٩٥ ، ١١ / ١٢٢ ، ١٣١ ، ١٣٣ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٦٧ ، وشرح التصريح ٢ / ١٤٤ ، وشرح شواهد المغني ١ / ١٤٣ ، والكتاب ٣ / ١٧٤ ، ولسان العرب (كذب) ، (غلس) ، (أمم) ، ومغني اللبيب ١ / ٤٥ ، وتاج العروس (غلس) ، (أمم) ، والمقتضب ٣ / ٢٩٥ ، وبلا نسبة في الأغاني ٧ / ٧٩ ، والصاحبي في فقه اللغة ص ١٢٥.

(٢) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

٣٤

زيدا أو عمرا أو خالدا» فإن أتى واحدا منهم أو كلّهم كان عاصيا. كما أنّك إذا قلت : «اجلس إلى فلان أو فلان أو فلان» فجلس إلى واحد منهم أو كلّهم كان مطيعا. فهذا مخرجه من العربية. وأرى الذين قالوا : «إنّما» أو «بمنزلة الواو» إنما قالوها لأنهم رأوها في معناها. وأما (وأرسلناه إلى مئة ألف أو يزيدون) فإنما يقول (أرسلناه إلى مئة ألف) عند الناس ، ثم قال (أو يزيدون) [الصّافات : الآية ١٤٧] عند الناس ، لأنّ الله تبارك وتعالى لا يكون منه شكّ. وقد قال قوم : إنّما «أو» ها هنا بمنزلة «بل» وقد يقول الرجل «لأذهبنّ إلى كذا وكذا» ثم يبدو له بعد فيقول «أو أقعد» فقال ها هنا (أرسلناه إلى مئة ألف) عند الناس ، ثم قال (أو يزيدون) [الصّافات : الآية ١٤٧] عند الناس ، أي أن الناس لا يشكون أنهم قد زادوا. والوجه الآخر هكذا ، أي «فكذا حال الناس فيهم» أي : إن الناس يشكون فيهم. وكذا حال «أم» المنقطعة إن شئت جعلتها على «بل» فهو مذهب حسن. وقال متمّم بن نويرة (١) : [الوافر]

١٧ ـ فلو كان البكاء يردّ شيئا

بكيت على جبير أو عفاق (٢)

على المرأين إذ هلكا جميعا

بشأنهما وحزن واشتياق

وقال ابن أحمر (٣) : [الطويل]

__________________

(١) متمم بن نويرة : هو أبو نهشل متمم بن نويرة بن جمرة بن شداد بن عبيد بن ثعلب بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم ، من سادات قومه وأشرافهم وفرسانهم وشعرائهم ، شاعر مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام ، فأسلم ، وحسن إسلامه وعدّ من الصحابة ، يقال له : أبو نهشل ، وأبو تميم ، وأبو إبراهيم ، أخوه مالك بن نويرة الملقب «بالجفول» وهو الذي قتله ضرار بن الأزور بأمر خالد بن الوليد ، فرثاه متمم بقصيدة شهيرة.

قدم متمم على أبي بكر الصديق فأنشده مراثي أخيه مالك وناشده في دمه وفي سبيهم فردّ أبو بكر إليه السبي ، وأغلظ عمر بن الخطاب لخالد بن الوليد في أمر مالك ، وعذره أبو بكر.

توفي متمم بن نويرة نحو سنة ٣٠ ه‍ (معجم الشعراء المخضرمين والأمويين ص ٤٢٢).

(٢) البيتان لمتمم بن نويرة في ديوانه ص ١٢٤ ، والأزهية ص ١١٦ ، وخزانة الأدب ٧ / ١٣١ ، ولسان العرب (عفق) ، وبلا نسبة في أمالي المرتضى ٢ / ٥٨.

(٣) ابن أحمر : هو أبو الخطاب عمرو بن أحمر بن العمرّد بن عامر الباهلي ، شاعر مخضرم عمّر طويلا ، عاش نحو ٩٠ سنة. اشتهر في الجاهلية ، وأسلم وغزا مغاز كثيرة في الروم وأصيبت إحدى عينيه. نزل بالشام مع خيل خالد بن الوليد حين وجهه إليها أبو بكر ، ثم سكن الجزيرة.

أدرك أيام عبد الملك بن مروان ، وله مدائح في عمر وعثمان وعلي وخالد. وهجا يزيد بن معاوية ، فطلبه يزيد فهرب. كان يتقدم شعراء عصره ، وعدّه ابن سلام الجمحي في الطبقة الثالثة ـ

٣٥

١٨ ـ فقلت البثي شهرين أو نصف ثالث

إلى ذاك ما قد غيّبتني غيابيا (١)

وأما قوله (أإنا لمبعوثون أوءاباؤنا الأوّلون) (١٧) [الصّافات : الآية ١٧] فإن هذه الواو واو عطف كأنهم قالوا : (أإنا لمبعوثون) فقيل لهم : «نعم وآباؤكم الأوّلون» فقالوا : (أوءاباؤنا) [الصّافات : الآية ١٧] ، وقوله : (أو لم ير الإنسان) [يس : الآية ٧٧] (أو لم يهد لهم) [السّجدة : الآية ٢٦] وأشباه هذا في القرآن كثير. فالواو مثل الفاء في قوله (أفلم يهد لهم) [طه : الآية ١٢٨] وقوله (أفلم يدّبّروا القول) [المؤمنون : الآية ٦٨] وإن شئت جعلت هذه الفاءات زائدة. وإن شئت جعلتها جوابا لشيء كنحو ما يقولون «قد جاءني فلان» فيقول «أفلم أقض حاجته» فجعل هذه الفاء معلقة بما قبلها.

وأما قوله : (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشوة) [الآية ٧] فإن الختم ليس يقع على الأبصار. إنما قال (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم) [الآية ٧] ثم قال : (وعلى أبصارهم غشوة) [الآية ٧] مستأنفا. وقوله (ختم الله) [الآية ٧] لأن ذلك كان لعصيانهم الله فجاز ذلك اللفظ ، كما تقول : «أهلكته فلانة» إذا أعجب بها. وهي لا تفعل به شيئا لأنه هلك في اتباعها. أو يكون «ختم» حكم بها أنها مختوم عليها.

وكذلك (زادهم الله مرضا) [الآية ١٠] على هذا التفسير والله أعلم.

ثم قال (ومن النّاس من يقولءامنّا بالله وباليوم الأخر) [الآية ٨] فجعل اللفظ واحدا ، ثم قال : (وما هم بمؤمنين) [الآية ٨] فجعل اللفظ جميعا ، وذلك أن (مّن) [الآية ٥] اللفظ بها لفظ واحد ، ويكون جميعا في المعنى ، ويكون اثنين. فإن لفظت بفعله على معناه فهو صحيح. وإن جعلت فعله على لفظه واحدا فهو صحيح ومما جاء من ذلك قوله (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربّه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) (١١٢) [الآية ١١٢] وقال : (ومنهم مّن يستمعون إليك) [يونس : الآية ٤٢] وقال : (ومنهم مّن ينظر إليك) [يونس : الآية ٤٣] وقال (ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين) فقال (يقنت) [الأحزاب : الآية ٣١]

__________________

ـ من الإسلاميين. قيل : مات على عهد عثمان بن عفان بعد أن بلغ سنا عالية. وقيل : أدرك عبد الملك بن مروان ، مات سنة ٦٥ ه‍. (معجم الشعراء المخضرمين والأمويين ص ٣١١ ـ ٣١٢).

(١) البيت لابن أحمر في ديوانه ص ١٧١ ، والأزهية ص ١١٥ ، وخزانة الأدب ٥ / ٩ ، وبلا نسبة في الإنصاف ٢ / ٤٨٣ ، والخصائص ٢ / ٤٦٠ ، والمحتسب ٢ / ٢٢٧.

٣٦

فجعله على اللفظ ، لأن اللفظ في (من) مذكر وجعل (تعمل) و (سؤتها) على المعنى. وقد قال بعضهم «ويعمل» فجعله على اللفظ لأن لفظ (من) مذكر. وقد قال بعضهم «ومن تقنت» فجعله على المعنى لأنه يعني امرأة. وهي حجة على من قال : «لا يكون اللفظ في (من) على المعنى إلا أن تكون (من) في معنى «الذي» ، فأما في المجازاة والاستفهام فلا يكون اللفظ في (من) على المعنى.

وقولهم هذا خطأ لأن هذا الموضع الذي فيه «ومن تقنت» مجازاة. وقد قالت العرب «ما جاءت حاجتك» فأنّثوا «جاءت» لأنها ل «ما» ، وإنما أنثوا لأن معنى «ما» هو الحاجة. وقد قالت العرب أو بعضهم «من كانت أمّك» فنصب ، وقال الشاعر : [الطويل]

١٩ ـ تعشّ فإن عاهدتني لا تخونني

نكن مثل من يا ذئب يصطحبان (١)

ويروى «تعال فإن». وقد جعل «من» بمنزلة رجل. قال الشاعر : [الرمل]

٢٠ ـ ربّ من أنضجت غيظا صدره

قد تمنّى لي شرّا لم يطع (٢)

فلو لا أنها نكرة بمنزلة «رجل» لم تقع عليها «ربّ».

وكذلك (ما) نكرة إلا أنها بمنزلة «شيء». يقال : إن قوله (هذا ما لدىّ عتيد) [ق : الآية ٢٣] على هذا. جعل (ما) بمنزلة «شيء» ولم يجعلها بمنزلة «الذي» فقال : «ذا شيء لديّ عتيد». وقال الشاعر : [الخفيف]

٢١ ـ ربّ ما تكره النفوس من الأمر

له فرجة كحل العقال (٣)

__________________

(١) البيت للفرزدق في ديوانه ٢ / ٣٢٩ ، وتخليص الشواهد ص ١٤٢ ، والدر ١ / ٢٨٤ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٨٤ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٥٣٦ ، والكتاب ٢ / ٤١٦ ، ومغني اللبيب ٢ / ٤٠٤ ، والمقاصد النحوية ١ / ٤٦١ ، وبلا نسبة في الخصائص ٢ / ٤٢٢ ، وشرح الأشموني ١ / ٦٩ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٢٩ ، وشرح المفصل ٢ / ١٣٢ ، ٤ / ١٣ ، والصاحبي في فقه اللغة ص ١٧٣ ، ولسان العرب (منن) ، والمحتسب ١ / ٢١٩ ، والمقتضب ٢ / ٢٩٥ ، ٣ / ٢٥٣.

(٢) البيت لسويد بن أبي كاهل في الأغاني ١٣ / ٩٨ ، وخزانة الأدب ٦ / ١٢٣ ـ ١٢٥ ، والدرر ١ / ٣٠٢ ، وشرح اختيارات المفضل ص ٩٠١ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٧٤٠ ، والشعر والشعراء ١ / ٤٢٨ ، وبلا نسبة في شرح الأشموني ٢ / ٧٠ ، وشرح شذور الذهب ص ١٧٠ ، وشرح المفصل ٤ / ١١ ، ومغني اللبيب ١ / ٣٢٨ ، وتاج العروس (من).

(٣) البيت لأمية بن أبي الصلت في ديوانه ص ٥٠ ، والأزهية ص ٨٢ ، ٩٥ ، وحماسة البحتري ص ٢٢٣ ، وخزانة الأدب ٦ / ١٠٨ ، ١١٣ ، ١٠ / ٩ ، والدرر ١ / ٧٧ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٣ ، والكتاب ٢ / ١٠٩ ، ولسان العرب (خرج) ، وله أو لحنيف بن عمير أو لنهار ابن أخت مسيلمة ـ

٣٧

فلو لا أنها نكرة بمنزلة «من» لم تقع عليها «ربّ». وقد يكون (هذا ما لدىّ عتيد) [ق : الآية ٢٣] على وجه آخر ، أخبر عنهما خبرا واحدا كما تقول : «هذا أحمر أخضر». وذلك أن قوما من العرب يقولون : «هذا عبد الله مقبل». وفي قراءة ابن مسعود (١) : (وهذا بعلي شيخ) كأنه أخبر عنهما خبرا واحدا أو يكون كأنه رفعه على التفسير كأنه إذا قال (هذا ما لدىّ) [ق : الآية ٢٣] ، قيل : «ما هو»؟ أو علم أنه يراد ذلك منه فقال (عتيد) [ق : الآية ١٨] أي ما عندي عتيد. وكذلك (وهذا بعلي شيخ). وقال الراجز :

٢٢ ـ من يك ذا بتّ فهذا بتّي

مقيّظ مصيّف مشتّي (٢)

وقال (إنّ الله نعمّا يعظكم به) [النّساء : الآية ٥٨] ف «ما» ها هنا اسم ليست له صلة لأنك إن جعلت (يعظكم به) [الآية ٢٣١] صلة ل «ما» صار كقولك : «إنّ الله نعم الشيء» أو «نعم شيئا» فهذا ليس بكلام. ولكن تجعل «ما» اسما وحدها كما تقول : «غسلته غسلا نعمّا» تريد به : «نعم غسلا». فإن قيل : كيف تكون «ما» اسما وحدها وهي لا يتكلم بها وحدها؟ قلت : هي بمنزلة «يا أيّها الرجل» لأن «أيا» ها هنا اسم ولا يتكلم به وحده حتى يوصف فصار «ما» مثل الموصوف ها هنا. لأنك

__________________

ـ الكذاب في شرح شواهد المغني ٢ / ٧٠٧ ، ٧٠٨ ، والمقاصد النحوية ١ / ٤٨٤ ، وله أو لأبي قيس ابن أبي أنس أو لحنيف في خزانة الأدب ٦ / ١١٥ ، ولعبيد في ديوانه ص ١٢٨ ، وبلا نسبة في إنباه الرواة ٤ / ١٣٤ ، وأساس البلاغة (فرج) ، والأشباه والنظائر ٣ / ١٨٦ ، وأمالي المرتضى ١ / ٤٨٦ ، والبيان والتبيين ٣ / ٢٦٠ ، وجمهرة اللغة ص ٤٦٣ ، وجواهر الأدب ص ٣٦٩ ، وشرح الأشموني ١ / ٧٠ ، وشرح شذور الذهب ص ١٧١ ، وشرح المفصل ٤ / ٣٥٢ ، ومغني اللبيب ٢ / ٢٩٧ ، والمقتضب ١ / ٤٢ ، وهمع الهوامع ١ / ٨.

(١) ابن مسعود : هو عبد الله بن مسعود الصحابي الكبير المتوفى سنة ٣٢ ه‍. وهو من أصحاب المصاحف الذين كانوا يحتفظون بنسخة خاصة بها فيها بعض الاختلاف عن النسخة التي أقرّها موحّده الخليفة الثالث عثمان بن عفان وأقر بتعميمها وتوزيعها على الأمصار بعد إتلاف ما سواها ، وأشهر أصحاب المصاحف : أبي بن كعب ، وعبد الله بن مسعود وأبو موسى الأشعري والمقداد بن عمرو وعلي بن أبي طالب (انظر : الأعلام ٤ / ١٣٧ ، والفهرست ص ٣٩ ، ٤٠ ، ٤١).

(٢) الرجز لرؤبة في ملحق ديوانه ص ١٨٩ ، والدرر ٢ / ٣٣ ، والمقاصد النحوية ١ / ٥٦١ ، وبلا نسبة في الإنصاف ٢ / ٧٢٥ ، وتلخيص الشواهد ص ٢١٤ ، والدرر ٥ / ١٠٩ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٣٣ ، وشرح الأشموني ١ / ١٠٦ ، وشرح ابن عقيل ص ١٣٢ ، وشرح المفصل ١ / ٩٩ ، والكتاب ٢ / ٨٤ ، ولسان العرب (تبت) ، (دشت) ، (قيظ) ، (صرف) ، (شتا) ، وهمع الهوامع ١ / ١٠٨ ، ٢ / ٦٧ ، وتهذيب اللغة ٩ / ٢٦٠ ، و ١٤ / ٢٥٨ ، وتاج العروس (دشت) ، (قيظ) ، (شتا) ، وديوان الأدب ٤ / ١١٣ ، وأساس البلاغة (جيف) ، وجمهرة اللغة ص ٦٢.

٣٨

إذا قلت «غسلته غسلا نعمّا» فإنما تريد المبالغة والجودة. فاستغني بهذا حتى تكلم به وحده. ومثل «ما أحسن زيدا» «ما» ها هنا وحدها اسم. وقوله «إني مما ان أصنع كذا وكذا» «ما» ها هنا وحدها اسم كأنه قال : «إنّي من الأمر» أو «من أمري صنيعي كذا وكذا». ومما جاء على المعنى قوله (كمثل الذي استوقد نارا أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم) [الآية ١٧] لأن «الذي» يكون للجميع ، كما قال (والّذى جاء بالصّدق وصدّق به أولئك هم المتّقون) (٣٣) [الزّمر : الآية ٣٣].

وأما قوله (يخدعون الله والّذينءامنوا) [الآية ٩] ولا تكون المفاعلة إلا من شيئين فإنه إنمّا يقول : «(يخدعون الله») [الآية ٩] عند أنفسهم يمنونها أن لا يعاقبوا وقد علموا خلاف ذلك في أنفسهم» ذلك لحجة الله الواقعة على خلقه بمعرفته.

(وما يخدعون إلّا أنفسهم) [الآية ٩] وقال بعضهم : «يخادعون» يقول : «يخدعون أنفسهم بالمخادعة لها» وبها نقرأ.

وقد تكون المفاعلة من واحد في أشياء كثيرة تقول : «باعدته مباعدة» و «جاوزته مجاوزة» في أشياء كثيرة. وقد قال (وهو خدعهم) [النّساء : الآية ١٤٢] فذا على الجواب. يقول الرجل لمن كان يخدعه إذا ظفر به «أنا الذي خدعتك» ولم تكن منه خديعة ولكن قال ذلك إذ صار الأمر إليه. وكذلك (ومكروا ومكر الله) [آل عمران : الآية ٥٤] و (الله يستهزىء بهم) [الآية ١٥] على الجواب. والله لا يكون منه المكر والهزء. والمعنى أن المكر حاق بهم والهزء صار بهم.

وأما قوله (فزادهم الله مرضا) [الآية ١٠] فمن فخم نصب الزاي فقال «زادهم» ومن كسر الزاي فقال «زادهم» لأنها من «زدت» أولها مكسور. فناس من العرب يميلون ما كان من هذا النحو وهم بعض أهل الحجاز ويقولون أيضا (ولمن خاف مقام ربّه) [الرّحمن : الآية ٤٦] و (فانكحوا ما طاب لكم مّن النّساء) [النّساء : الآية ٣] و (وقد خاب) [طه : الآية ٦١] ولا يقولون «قال» ولا «زار» لأنه يقول «قلت» و «زرت» فأوله مضموم. فإنما يفعلون هذا في ما كان أوله من «فعلت» مكسورا إلّا أنّهم ينحون الكسرة كما ينحون الياء في قوله (وسقهم ربّهم) [الإنسان : الآية ٢١] و (قد أفلح من زكّها) (٩) [الشّمس : الآية ٩]. ويقرأ جميع ذلك بالتفخيم. وما كان من نحو هذا من بنات الواو وكان ثالثا نحو (والقمر إذا تلها) (٢) [الشّمس : الآية ٢] ونحو (والأرض وما طحها) (٦) [الشّمس : الآية ٦] فإن كثيرا من العرب يفخمه ولا يميله لأنها ليست بياء فتميل إليها لأنها من «طحوت» و «تلوت». فإذا كانت رابعة فصاعدا أمالوا وكانت الإمالة هي الوجه ، لأنها حينئذ قد انقلبت إلى الياء. ألا ترى أنك

٣٩

تقول «غزوت» و «أغزيت» ومثل ذلك (والّيل إذا يغشها) (٤) [الشّمس : الآية ٤] و (قد أفلح من تزكّى) (١٤) [الأعلى : الآية ١٤] ، و (والنّهار إذا تجلّى) (٢) [الليل : الآية ٢] أمالها لأنّها رابعة ، و «تجلّى» فعلت منها بالواو لأنها من «جلوت» و «زكا» من «زكوت يزكو» و (والّيل إذا يغشها) (٤) [الشّمس : الآية ٤] من «الغشاوة».

وقد يميل ما كان منه بالواو نحو «تلاها» و «طحاها» ناس كثير ، لأنّ الواو تنقلب إلى الياء كثيرا مثل قولهم في «حور» «حير» وفي «مشوب» «مشيب» وقالوا «أرض مسنيّة» إذا كان يسنوها المطر. فأمالوها إلى الياء لأنها تنقلب إليها.

وأمالوا كل ما كان نحو «فعلى» و «فعلى» نحو «بشرى» و «مرضى» و «سكرى» ، لأن هذا لو ثنّي كان بالياء فمالوا إليها.

وأما قوله (بما كانوا يكذّبون) [الآية ١٠] ف «يكذّبون» : يجحدون وهو الكفر. وقال بعضهم : «يكذبون» خفيفة وبها نقرأ. يعني «يكذبون على الله وعلى الرسل». جعل «ما» والفعل اسما للمصدر كما جعل «أن» والفعل اسما للمصدر في قوله «أحبّ أن تأتيني» ، وأما المعنى فإنما هو «بكذبهم» و «تكذيبهم». وأدخل «كان» ليخبر أنه كان فيما مضى ، كما تقول : «ما أحسن ما كان عبد الله» فأنت تعجّب من «عبد الله» لا من «كونه». وإنما وقع التعجب في اللفظ على كونه. وقال (فاصدع بما تؤمر) [الحجر : الآية ٩٤] وليس هذا في معنى «فاصدع بالذي تؤمر به». لو كان هذا المعنى لم يكن كلاما حتى تجيء ب «به» ولكن «إصدع بالأمر» جعل «ما تؤمر» اسما واحدا. وقال (ولا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا) [آل عمران : ١٨٨] يقول «بالإتيان» يجعل «ما» و «أتوا» اسما للمصدر. وإن شئت قلت : «أتوا» ها هنا «جاءوا» كأنه يقول : «بما جاءوا» يريد «جاءوه» كما تقول : «يفرحون بما صنعوا» أي «بما صنعوه» ومثل هذا في القرآن كثير. وتقديره «بكونهم يكذبون» ف «يكذبون» مفعول ل «كان» كما تقول : «سرني زيد بكونه يعقل» أي : «بكونه عاقلا».

وأما قوله (وإذا قيل لهم) [الآية ١١] فمنهم من يضم أوله لأنه في معنى «فعل» فيريد أن يترك أوله مضموما ليدل على معناه ، ومنهم من يكسره لأن الياء الساكنة لا تكون بعد حرف مضموم والكسر القياس. ومنهم من يقول في الكلام : «قد قوله له» و «قد بوع المتاع» إذا أراد «قد بيع» و «قيل». جعلها واوا حين ضم ما قبلها ، لأن الياء الساكنة لا تكون بعد حرف مضموم. ومنهم من يروم الضم في «قيل» مثل رومهم الكسر في «ردّ» لغة لبعض العرب أن يقولوا «ردّ» فيكسرون الراء

٤٠