رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٤

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٤

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٩

رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى) من المعيشة الضّنك والمحشر على العمى.

قوله : (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) قال علي بن الحسين النحوي الأصبهاني : فاعل" يهد" مضمر دلّ عليه (كَمْ أَهْلَكْنا) ، تقديره : أفلم يتبين لهم إهلاكنا ، ولا يكون" كم أهلكنا" فاعلا ولا مفعولا ، على معنى : أفلم يبين الله إهلاكه لهم ؛ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ، فلا يكون" كم" معمولا ل" يهد" ، ولكنه منصوب ب" أهلكنا" ، وهو مفعول مقدّم ، وتفسيره محذوف ، والتقدير : كم قرية أهلكنا (١).

وقال الزمخشري (٢) : فاعل" لم يهد" الجملة بعده [بريد : ألم يهد لهم ، هذا بمعناه ومضمونه](٣) ، ونظيره قوله : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ* سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) [الصافات : ٧٨ ـ ٧٩]. أي : وتركنا [عليه](٤) هذا الكلام.

ويجوز أن يكون فيه ضمير الله أو الرسول ، ويدل عليه القراءة بالنون.

قلت : وبها قرأت لزيد عن يعقوب (٥).

وكانت قريش تمرّ بديار عاد وثمود وتشاهد آثار وقائع الله بهم ، فذلك قوله : (يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) أي : لعبرا ودلالات وعلامات على عظيم انتقام الله ممن أشرك به وكذب رسله لأرباب العقول.

قوله تعالى : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) وهي العدة بتأخير عقابهم إلى يوم

__________________

(١) التبيان (٢ / ١٢٨) ، والدر المصون (٥ / ٦٣ ـ ٦٤).

(٢) الكشاف (٣ / ٩٦).

(٣) زيادة من الكشاف ، الموضع السابق.

(٤) زيادة من الكشاف ، الموضع السابق.

(٥) انظر : زاد المسير (٥ / ٣٣٣).

٥٨١

القيامة (لَكانَ لِزاماً) أي : لكان العذاب لازما لهم.

واللّزام : مصدر لازم ، ثم وصف به.

(وَأَجَلٌ مُسَمًّى) عطف على" كلمة" ، التقدير : لولا كلمة وأجل مسمى لكان لزاما. هذا قول الفراء وابن قتيبة والأكثرين (١).

وجوّز الزمخشري (٢) أن يكون عطفا على الضمير في" كان" ، أي : لكان الأخذ العاجل وأجل مسمى لازمين [لهم](٣) ، كما كانا لازمين لعاد وثمود ، ولم ينفرد الأجل المسمى دون الأخذ العاجل.

قوله : (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) قال المفسرون : أمر الله نبيه أن يصبر على أذاهم ، ثم نسخ إطلاق الصبر بآية السيف (٤).

(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي : صلّ حامدا لربك إن وفّقك للتسبيح وأعانك عليه.

(قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) يعني : الفجر ، (وَقَبْلَ غُرُوبِها) يعني : العصر.

وفي الصحيحين من حديث جرير رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ، ثم قرأ : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها)(٥).

__________________

(١) معاني الفراء (٢ / ١٩٥) ، وتفسير غريب القرآن (ص : ٢٨٣).

(٢) الكشاف (٣ / ٩٦).

(٣) في ب : له. والتصويب من الكشاف ، الموضع السابق.

(٤) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٢٢٧) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٣٣٣).

(٥) أخرجه البخاري (١ / ٢٠٣ ح ٥٢٩) ، ومسلم (١ / ٤٣٩ ح ٦٣٣).

٥٨٢

(وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ) قال ابن عباس : يريد : المغرب والعشاء ، (وَأَطْرافَ النَّهارِ) قال : يريد : الظّهر (١) ... (٢).

وقال في رواية أخرى : " ومن آناء الليل" : جوف الليل (٣).

أمره سبحانه بالصلاة فيه نفلا ؛ لأنه مظنة الفراغ عن الأشغال القاطعة والأسباب المانعة للقلب عن الاهتمام بالعبادة المختصة به ، كما قال : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) [المزمل : ٦].

وقرئ شاذا : " وأطراف" بالجر ، عطفا على" آناء" (٤).

(لَعَلَّكَ تَرْضى) أي : سبح بحمد ربك في هذه الأوقات طمعا ورجاء أن ترضى بما تنال من كرامته.

وقرأ الكسائي وأبو بكر عن عاصم : " ترضى" بضم التاء (٥) ، على معنى : لعلك يرضيك ربك.

وقيل : المعنى : لعلك يرضاك ربك.

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٦ / ٢٣٤) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٤٤١) كلاهما عن قتادة. وذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٢٢٧) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٣٣٣) ، والسيوطي في الدر (٥ / ٦١١) وعزاه لعبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة.

(٢) كلام غير ظاهر في مصورة ب.

(٣) أخرجه أحمد (١ / ٢٢٣) ، وابن أبي شيبة (٧ / ١٣٥) ، والطبري (١٦ / ٢٣٤). وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٩٧) وعزاه لابن أبي شيبة وأحمد وابن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٤) إتحاف فضلاء البشر (ص : ٣٠٨).

(٥) الحجة للفارسي (٣ / ١٥٦) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٤٦٤) ، والكشف (٢ / ١٠٧) ، والنشر (٢ / ٣٢٢) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٣٠٨) ، والسبعة في القراءات (ص : ٤٢٥).

٥٨٣

(وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى)(١٣٢)

قوله تعالى : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) قال أبو رافع : «نزل برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضيف ، فبعثني إلى يهودي فقال : قل له : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : بعني كذا وكذا من الدقيق أو أسلفني إلى هلال رجب ، فأتيته فقلت له ذلك ، فقال : والله لا أبيعه ولا أسلفه إلا برهن ، فأتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته ، فقال : والله لو باعني أو أسلفني لقضيته ، وإني لأمين في السماء أمين في الأرض ، اذهب بدرعي الحديد إليه. فنزلت هذه الآية تعزية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الدنيا (١)» (٢).

وقال أبيّ بن كعب في هذه الآية : فمن لم يتعز بعزاء الله تعالى تقطّعت نفسه حسرات على الدنيا ، ومن يتبع بصره ما في أيدي الناس يطل حزنه ولا يشفى

__________________

(١) كتب في الهامش الأيمن من ب بخط مغاير : قلت : أسند البزار هكذا من حديث أبي رافع ، وفي سنده موسى بن عبيدة هو الربذي ، ضعيف.

وفي الهامش الأيسر كتب : اعترضه ابن عطية قال : السورة مكية والقصة مدنية مشهورة.

(٢) أخرجه الطبري (١٦ / ٢٣٥) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٤٤١ ـ ٢٤٤٢) ، والبزار (٩ / ٣١٥) ، والطبراني في الكبير (١ / ٣٣١). وانظر : أسباب نزول القرآن للواحدي (ص : ٣١٣). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٦١٢) وعزاه لابن أبي شيبة وابن راهويه والبزار وأبي يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والخرائطي في مكارم الأخلاق وأبي نعيم في المعرفة.

٥٨٤

غيظه (١).

وقد سبق تفسير ما لم أتعرض له هاهنا في سورة الحجر (٢).

وقرأت ليعقوب : " زهرة" بفتح الهاء ، وهي قراءة ابن مسعود والحسن (٣) ، وهما بمعنى واحد.

يريد : بهجة الحياة الدنيا وزينتها.

قال الفراء (٤) : " زهرة" منصوب على التمييز. وهو غلط ؛ لأنه مضاف إلى المعرفة.

وقال الزجاج (٥) : " زهرة" منصوب بمعنى" متّعنا" ؛ لأن معنى متّعنا : جعلنا لهم الحياة الدنيا زهرة.

وقال الزمخشري (٦) : [انتصب" زهرة" على أحد أربعة أوجه : على الذّمّ ، وعلى تضمن" متعنا" معنى : أعطينا ، وعلى إبداله من الجار والمجرور ، وعلى إبداله من" أزواجا" ، على تقدير : ذوي زهرة.

ومعنى : (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) لنختبرهم ، واللام من صلة" متّعنا".

(وَرِزْقُ رَبِّكَ) الذي ادّخره لك في الآخرة وأعدّه لك في الجنة.

وقيل : هو ما أنعم به عليه من النبوة والإسلام.

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٢٢٧) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٣٣٥).

(٢) آية رقم : ٨٨.

(٣) النشر (٢ / ٣٢٢) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٣٠٨).

(٤) انظر : معاني الفراء (٢ / ١٩٦).

(٥) معاني الزجاج (٣ / ٣٨٠).

(٦) الكشاف (٣ / ٩٨).

٥٨٥

(خَيْرٌ وَأَبْقى) أكثر وأدوم.

قوله تعالى : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) دم عليها ولا يضجرنّك تكرارها وتحمّل أعباءها.

(لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً) لنفسك ولا لخلقنا ، إنما نأمرك بالعبادة ، ورزقك ورزقهم علينا ، فذلك قوله : (نَحْنُ نَرْزُقُكَ).

(وَالْعاقِبَةُ) قال ابن عباس : هي الجنة (١).

(لِلتَّقْوى) قال الأخفش (٢) : لأهل التقوى.

فصل

كان عروة بن الزبير إذا رأى ما عند السلاطين دخل داره وقرأ : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ..). الآية ، ثم ينادي أهله : الصلاة يرحمكم الله (٣).

وقال مالك بن دينار : كان بكر بن عبد الله المزني إذا أصاب أهله خصاصة يقول : قوموا فصلّوا ، ثم يقول : بهذا أمر الله ورسوله ، ويتلو هذه الآية (٤). (٥).

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٢٢٨) ، والسيوطي في الدر المنثور (٥ / ٦١٤) وعزاه لابن أبي حاتم عن السدي.

(٢) معاني الأخفش (ص : ٢٥٠).

(٣) أخرجه الطبري (١٦ / ٢٣٦ ـ ٢٣٧) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٤٤٣). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٥ / ٦١٣) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٤) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٣٣٦).

(٥) في هامش ب : كان عمر رضي الله عنه يصلي من الليل ما شاء الله ، حتى إذا كان من آخر الليل أيقظ أهله للصلاة وقال لهم : الصلاة ، ويتلو هذه الآية. [أخرجه] مالك [في الموطأ] (١ / ١١٩ ح ٢٥٩).

وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد نزولها يذهب كل يوم إلى بيت فاطمة ويقول لها ولعليّ : الصلاة.

٥٨٦

(وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٣٣) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى)(١٣٥)

قوله : (وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ) أي : بآية خارقة ؛ كناقة صالح ، وعصا موسى.

(أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) المعنى : أو لم يأتهم بيان ما في الكتب السالفة من أخبار الأمم المهلكة ، حين كفروا بما أتتهم به رسلهم من الآيات التي اقترحوها ، أفأمنوا أن تكون حالهم كحال أولئك. هذا قول الأكثرين (١).

وقال الزمخشري (٢) : المعنى : أو لم يأتهم آية هي أمّ الآيات وأعظمها في باب الإعجاز ـ يعني القرآن ـ ، من قبل أن القرآن برهان ما في سائر الكتب المنزلة ودليل صحته ؛ لأنه معجزة ، وتلك ليست بمعجزات فهي مفتقرة إلى شهادته على صحة ما فيها افتقار المحتج عليه إلى شهادة الحجة عليه بقوله : أو لم يأتهم بينة.

(لَقالُوا) يعني : يوم القيامة (لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً) يدعونا إليك ويدلنا عليك ، (فَنَتَّبِعَ آياتِكَ) أي : نعمل بمقتضاها أعمالا ترضاها (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) بعذاب جهنم.

وقرأت ليعقوب من رواية أبي حاتم : " نذلّ ونخزى" بضم النون فيهما وفتح

__________________

(١) الطبري (١٦ / ٢٣٧) ، والوسيط (٣ / ٢٢٨) ، وزاد المسير (٥ / ٣٣٦).

(٢) الكشاف (٣ / ٩٩).

٥٨٧

الذال على ما لم يسمّ فاعله ، وهي قراءة ابن عباس وابن السميفع (١).

(قُلْ) يا محمد للكفار (كُلٌ) منا ومنكم (مُتَرَبِّصٌ) منتظر نصره وظفره ، وحسن العاقبة له ، والدوائر على خصمه ، (فَتَرَبَّصُوا) صيغة الأمر في معنى التهديد ، أي : فتربصوا بنا الدوائر.

(فَسَتَعْلَمُونَ) إذا جاء أمر الله (مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِ) أي : الدين المستقيم (وَمَنِ اهْتَدى) من الضلالة نحن أم أنتم.

وهذا من أحسن أساليب الاستعطاف مع إقامة الحجة ؛ لما فيه من ملاينة الخصم ، وثنيه عن المشاغبة ، واستنزاله عن اللّدد (٢) بلطيف المخاطبة.

فإن قيل : هل يجوز أن تكون" من" هاهنا بمعنى : " الذي"؟

قلت : لا يجوز ؛ لأنه لا عائد من صلته يعود إليه ، وإنما هو استفهام ، وهو مبتدأ ، خبره : " أصحاب الصراط" ، والجملة في موضع النصب ب" تعلمون" (٣).

__________________

(١) زاد المسير (٥ / ٣٣٧).

(٢) اللّدد : الخصومة الشديدة (اللسان ، مادة : لدد).

(٣) التبيان (٢ / ١٢٩) ، والدر المصون (٥ / ٦٧ ـ ٦٨).

٥٨٨

سورة الأنبياء عليهم‌السلام

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وهي مائة واثنتا عشرة آية ، وهي مكية بإجماعهم.

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ)(٣)

قال الله تعالى : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) قال الزجاج (١) : المعنى : اقترب للناس وقت حسابهم ، يعني : يوم القيامة ، كما قال : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) [القمر : ١].

فإن قيل : ما وجه وصفه بالقرب وقد مضى لهذا الوعيد أكثر من ستمائة عام وثلاثين عاما إلى يومنا هذا (٢) ولم يقع؟

قلت : عنه أجوبة :

أحدها : أنه قريب بالنسبة إلى ما بقي من الزمان ، ومنه قوله عليه‌السلام في

__________________

(١) معاني الزجاج (٣ / ٣٨٣).

(٢) هذا إلى عهد المؤلف ـ رحمه‌الله ـ. وقد مضى على هذا الوعيد إلى اليوم أكثر من (١٤٢٨) سنة.

٥٨٩

الخطبة : «بعثت أنا والساعة كهاتين وقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى» (١).

ومنه الحديث : «ولّت الدنيا حذّاء (٢) ولم يبق إلا صبابة (٣) كصبابة الإناء» (٤).

الثاني : أنه وصف بالقرب ؛ لأنه آت ، وكل آت قريب وإن طالت مدّته.

الثالث : أنه قريب عند الله وإن كان بعيدا بالنسبة إلى غيره ، قال الله تعالى : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً* وَنَراهُ قَرِيباً) [المعارج : ٦ ـ ٧].

واللام في : " للناس" بمعنى : " من" ، وقيل : صلة ل" اقترب".

(وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) عن حسابهم وما يراد بهم (مُعْرِضُونَ) عن التفكّر والتأهّب له.

(ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ) قال ابن عباس : يريد : القرآن (٥).

(مُحْدَثٍ) ، أي : محدث النزول ، فإن القرآن نزل آية بعد آية ، وسورة بعد سورة.

وقرأ ابن أبي عبلة : " محدث" بالرفع ، صفة على المحل (٦).

(إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) قال ابن عباس : يستمعون القرآن مستهزئين (٧).

__________________

(١) أخرجه البخاري (٥ / ٢٠٣١ ح ٤٩٩٥) ، ومسلم (٤ / ٢٢٦٩ ح ٢٩٥١).

(٢) في هامش مصورة ب : حاشية : حذّاء بالحاء المهملة والذال المعجمة المشددة مع المد ، أي : خفيفة سريعة ، ومنه قيل للقطاة : حذّاء.

(٣) الصّبابة : بقية الماء واللبن وغيرهما تبقى في الإناء والسقاء (اللسان ، مادة : صبب).

(٤) أخرجه مسلم (٤ / ٢٢٧٨ ح ٢٩٦٧).

(٥) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٣٣٩).

(٦) انظر : البحر المحيط (٦ / ٢٧٥).

(٧) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٢٢٩) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٣٣٩).

٥٩٠

وقوله : " وهم يلعبون" حال من ضمير الفاعل في" استمعوه" (١).

(لاهِيَةً) حال ثانية من ضمير الفاعل أيضا ، ويجوز أن يكون حالا من الحال الأولى (٢).

وقرأ عكرمة وابن أبي عبلة وسعيد بن جبير : " لاهية قلوبهم" بالرفع فيهما على الابتداء والخبر (٣).

(وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) قيل : المعنى : أظهروا النجوى ، فإنه من الأضداد ؛ كما سبق.

والصحيح عندي : ما هو المتبادر إلى الأفهام.

فإن قيل : النجوى لا تكون إلا خفية ، فما معنى قوله : " وأسروا"؟

قلت : المبالغة في إخفاء ما تناجوا به.

فإن قيل : ما الذي حملهم على المبالغة في إخفائه ، وهم أشد شكيمة وأحدّ شوكة؟

قلت : حملهم عليه الخوف من نقض ما أبرموه من المكايد لهدم الإسلام وإطفاء نور النبي عليه‌السلام على تقدير اطّلاعه عليه ، على ما ألف وعرف من شأن ذوي الشأن.

فإن قيل : ما محل (الَّذِينَ ظَلَمُوا) من الإعراب؟

قلت : الرفع بدلا من الواو في" وأسروا النجوى".

__________________

(١) انظر : الدر المصون (٥ / ٧٠).

(٢) التبيان (٢ / ١٣٠) ، والدر المصون (٥ / ٧٠).

(٣) انظر : البحر المحيط (٦ / ٢٧٥).

٥٩١

ويجوز أن يكون ... (١) مثلكم على إضمار القول ، كأنه قيل : الذين ظلموا يقولون : هل هذا ، فحذف القول ، كقول الشاعر :

 ............

جاؤوا بمذق هل رأيت الذّئب قطّ (٢)

أي : بمذق يقال فيه هل رأيت الذئب قط.

أو هو على لغة من قال : " أكلوني البراغيث" ، و" يعصرون (٣) السّليط أقاربه" (٤) ؛ لأنهم جردوا الواو للجمعية عن الضمير وجعلوه حرفا ، كما قالوا في الجمع ؛ كقولهم : الزّيدون والعمرون.

ويجوز أن يكون محله النصب على الذمّ (٥).

وقوله : (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) في آخر الآية بيان لما أسرّوه. وهو في محل النصب على البدل من" النجوى" (٦) ، والمشار إليه بقولهم : " هذا" ؛ محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومقصودهم استبعاد اختصاصه بالوحي من بينهم مع اشتراكهم في كونه من

__________________

(١) بياض عدة كلمات غير ظاهرة في ب.

(٢) عجز بيت للعجاج ، وصدره : (حتى إذا جنّ الظلام واختلط). وهو ليس في ديوانه. انظر : المقرب (١ / ٢٢٠) ، وأمالي الزجاجي (ص : ٢٣٧) ، والخزانة (٢ / ١٠٩) ، والبحر المحيط (٤ / ٤٧٨) ، والدر المصون (٣ / ٤١١).

(٣) في المصادر : يعصرن.

(٤) جزء من بيت للفرزدق يهجو عمرو بن عفراء ، وهو :

ولكن ديافيّ أبوه وأمه

بحوران يعصرن السليط أقاربه

انظر : اللسان ، مادة : (سلط ، دوف).

(٥) التبيان (٢ / ١٣٠) ، والدر المصون (٥ / ٧١ ـ ٧٢).

(٦) انظر : الدر المصون (٥ / ٧٢).

٥٩٢

جنسهم.

(أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) إنكار وتوبيخ. والمعنى : أتقبلون وأنتم تعلمون أنه سحر وتشاهدونه.

(قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ)(٦)

(قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ) سرا كان أو جهرا (فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ).

وقرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر : " قال ربي" (١) على الخبر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوالهم (الْعَلِيمُ) بأفعالهم ، فكيف يسرّون منه النجوى.

قوله تعالى : (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ) قال الزمخشري (٢) : أضربوا عن قولهم : هو سحر ، إلى أنه تخاليط أحلام ، ثم إلى أنه كلام مفترى من عنده ، ثم إلى أنه قول شاعر ، وكذا الباطل ملجلج ، والمبطل متحيّر رجّاع غير ثابت على قول واحد.

ويجوز أن يكون تنزيلا من الله تعالى لأقوالهم في درج الفساد ، وأن قولهم الثاني أفسد من الأول ، والثالث أفسد من الثاني ، وكذلك الرابع من الثالث. وصحة التشبيه في قوله : (كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) من حيث إنه في [معنى](٣) : كما أتى

__________________

(١) الحجة للفارسي (٣ / ١٥٧) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٤٦٥) ، والكشف (٢ / ١١٠) ، والنشر (٢ / ٣٢٣) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٣٠٩) ، والسبعة في القراءات (ص : ٤٢٨).

(٢) الكشاف (٣ / ١٠٤).

(٣) في الأصل : المعنى : والتصويب من الكشاف ، الموضع السابق.

٥٩٣

الأولون بالآيات ؛ لأن إرسال الرسل متضمن للإتيان بالآيات.

قال ابن عباس : " فليأتنا بآية" : مثل : الناقة والعصا (١).

قوله : (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ) يعني : قبل أهل مكة (مِنْ قَرْيَةٍ) أي : من أهل قرية ، فحذف المضاف.

(أَهْلَكْناها) صفة ل" قرية" ، تقديره : من قرية مهلكة (٢).

أخبر الله سبحانه وتعالى أن القرى المهلكة لم ينتفعوا بمقترحاتهم ، ولم يكن سببا في نجاتهم ، حيث لم يشأ الله لهم الإيمان ولم يرده منهم.

(أَفَهُمْ) بقوّتهم (يُؤْمِنُونَ) حتى يجعلوا إيمانهم منوطا بمجيء الآيات التي يقترحونها ، ويلتزموا بذلك على أنفسهم.

وقيل : المعنى : ما آمنت قبلهم القرى المهلكة أفهم يؤمنون ، وهم أعتى وأشد كفرا وتمرّدا من أولئك.

(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ)(٩)

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٢٣٠) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٣٤٠) بلا نسبة.

والناقة : كانت معجزة لنبي الله صالح عند ما أرسله الله لقومه ثمود.

والعصا : كانت معجزة من الله لسيدنا موسى عليه‌السلام.

(٢) انظر : التبيان (٢ / ١٣٠).

٥٩٤

قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) جواب لقولهم : (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ).

وقرأ حفص : " نوحي" بالنون وكسر الحاء (١).

(فَسْئَلُوا) يا أهل مكة (أَهْلَ الذِّكْرِ) يعني : علماء أهل الكتاب الذين هم على مثل رأيكم في تكذيب رسولي (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أن الله يصطفي من البشر رسلا ، فإنهم لا يكتمون ذلك ولا ينكرونه ، فإنهم لو كتموا ذلك أو أنكروه أصيبت مقاتلهم ، ولزمتهم الحجة ، وظهرت فضائحهم ، وبان كذبهم وباطلهم.

قوله : (وَما جَعَلْناهُمْ) يعني : الرسل (جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ) قال الزجاج (٢) : هو واحد ينبئ عن جماعة ، أي : وما جعلناهم ذوي أجساد لا يأكلون الطعام.

والمقصود من ذلك : الردّ عليهم ، وإبطال ما كانوا يلمزون به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قولهم : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ) [الفرقان : ٧].

وفي قوله أيضا : (وَما كانُوا خالِدِينَ) رد لما دلّ عليه قولهم : (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) من اعتقاد أنه ينبغي أن يكون الرسول ملكا مخلّدا لا يطعم.

قوله تعالى : (ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ) أي : أنجزنا المرسلين ما وعدناهم به من الإنجاء والظّفر بالأعداء ، (فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ) يعني : المؤمنين (وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) وفي هذا تخويف لكفّار مكة.

__________________

(١) الحجة للفارسي (٣ / ١٥٧) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٤٦٦) ، والكشف (٢ / ١٤ ـ ١٥) ، والنشر (٢ / ٣٢٣) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٣٠٩) ، والسبعة في القراءات (ص : ٤٢٨).

(٢) معاني الزجاج (٣ / ٣٨٥).

٥٩٥

(لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠) وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ)(١٥)

ثم ذكّرهم نعمه فقال : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً) يعني : القرآن (فِيهِ ذِكْرُكُمْ) شرفكم وصيتكم ، كما قال في موضع آخر : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف : ٤٤]. هذا قول ابن عباس (١) والأكثرين (٢).

وقال الزجاج (٣) : فيه تذكرة لكم.

(أَفَلا تَعْقِلُونَ) ما فضلتكم به.

ثم خوفهم أيضا فقال : (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ) أي : وكم أهلكنا. وأصل القصم : كسر الشيء ودقّه ، والقصم : الرّجل يحطم كلّ ما لقي (٤).

__________________

(١) وهو اختيار ابن جرير الطبري.

(٢) أخرجه البيهقي في الشعب (٢ / ٢٣٢) ، وابن أبي عاصم في السّنّة (٢ / ٦٣٣) ، وابن أبي حاتم (٨ / ٢٤٤٦). وذكره الطبري (١٧ / ٧) بلا نسبة ، والواحدي في الوسيط (٣ / ٢٣١) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٣٤١) ، والسيوطي في الدر المنثور (٥ / ٦١٧) وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن عباس.

(٣) معاني الزجاج (٣ / ٣٨٥).

(٤) انظر : اللسان (مادة : قصم).

٥٩٦

قال الزمخشري (١) : هذه الآية واردة عن غضب شديد ، ومنادية على سخط عظيم ؛ لأن القصم أفظع الكسر ، وهو الكسر الذي يبين تلاؤم الأجزاء ، بخلاف الفصم (٢).

وأراد بالقرية : أهلها ، ولذلك وصفها بالظّلم وقال : (قَوْماً آخَرِينَ).

ومعنى : (كانَتْ ظالِمَةً) : كافرة ، (وَأَنْشَأْنا) أوجدنا (بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ).

(فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا) رأوا عذابنا بحاسّة البصر (إِذا هُمْ مِنْها) أي من القرية ، أو من ديارهم (يَرْكُضُونَ) أي : يعدون. وأصل الرّكض : ضرب الدابة بالرّجل (٣) ، ومنه : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) [ص : ٤٢].

قال المفسرون : فقالت لهم الملائكة على وجه التوبيخ والتهكّم : (لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ) من العيش الرّافه والحال الناعمة (٤).

قال ابن قتيبة (٥) : إلى نعمكم التي أترفتكم. وقد ذكرنا هذا عند قوله : (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) [الإسراء : ١٦].

(لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) المعنى : ارجعوا واجلسوا في مجالسكم ومراتبكم حتى يسألكم العبيد والحشم ويقولوا لكم : ماذا تأمرون؟ على ما هو المتعارف من عادات المترفين.

__________________

(١) الكشاف (٣ / ١٠٥ ـ ١٠٦).

(٢) الفصم : الكسر من غير بينونة (اللسان ، مادة : فصم).

(٣) انظر : اللسان (مادة : ركض).

(٤) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٣٤٢).

(٥) تفسير غريب القرآن (ص : ٢٨٤).

٥٩٧

أو يكون المعنى : لعلكم تسألون المعاون في المهمات والنوازل ، أو لعلكم تسألون عما جرى عليكم.

(قالُوا) حين أيقنوا بالعذاب (يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) وقد بينا فيما مضى أن ... (١) ما لا يعقل أسلوب من أساليب العرب ، وذكرنا فائدته ومعناه.

ومقصودهم باعترافهم : إظهار الندم على اقترافهم وتكذيبهم رسل الله.

(فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ) أي : ما زالت تلك الكلمة ـ التي هي (يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) ـ أو ما زالت تلك الدعوى دعواهم ، أي : دعاؤهم يدعون بها ويردّدونها ، (حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً) وهو الزرع المحصود ، شبّههم به في اصطلامهم (٢) واستئصالهم ، (خامِدِينَ) كخمود النار إذا طفئت.

و" حصيدا خامدين" منصوبان على المفعولية ب" جعل" (٣).

قال الزمخشري (٤) : إن قلت : كيف ينصب" جعل" ثلاثة مفاعيل؟

قلت : حكم الاثنين الأخيرين حكم الواحد ؛ لأن معنى قولك : " جعلته حلوا حامضا" جعلته جامعا للطّعمين ، وكذلك معنى ذلك : جعلناهم جامعين لمماثلة الحصيد والخمود.

__________________

(١) كلمة غير ظاهرة في ب.

(٢) صلم الشيء صلما : قطعه من أصله. والاصطلام : الاستئصال (اللسان ، مادة : صلم).

(٣) التبيان (٢ / ١٣١) ، والدر المصون (٥ / ٧٤).

(٤) الكشاف (٣ / ١٠٧).

٥٩٨

فصل

روي عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله : (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ ...). الآيات قال : القرية هي حضور (١) ، قرية باليمن (٢).

قال صاحب الكشاف (٣) : هي وسحول (٤) قريتان باليمن ، تنسب إليهما الثّياب.

وفي الحديث : «كفّن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ثوبين سحوليّين» (٥) ، وروي : «حضوريّين» (٦).

بعث الله إليهم نبيا فقتلوه ، فسلّط الله عليهم بختنصّر كما سلّطه على أهل بيت المقدس فاستأصلهم.

وروي : أنه لما أخذتهم السيوف نادى مناد من السماء : يا لثارات الأنبياء (٧).

وظاهر الآية على العموم.

__________________

(١) حضور : بلدة من أعمال زبيد ، سميت بحضور بن عدي بن مالك بن زيد (معجم البلدان ٢ / ٢٧٢).

(٢) ذكره القرطبي (١١ / ٢٧٤) بلا نسبة. وذكره الآلوسي في تفسيره روح المعاني (١٧ / ١٥) وعزاه لابن المنذر وغيره عن الكلبي.

(٣) الكشاف (٣ / ١٠٦).

(٤) سحول : قرية من قرى اليمن يحمل منها ثياب قطن تسمى : السحولية (معجم البلدان ٣ / ١٩٥).

(٥) أخرجه الطبراني في الكبير (١٨ / ٢٧٥ ح ٦٩٦) ، وابن حبان (٧ / ٣٠٧ ح ٣٠٣٥).

(٦) ذكره البكري في معجم ما استعجم (١ / ٤٥٦).

(٧) أخرجه ابن أبي حاتم (٨ / ٢٤٤٧). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٥ / ٦١٨ ـ ٦١٩) بأطول منه ، وعزاه لابن أبي حاتم عن وهب.

٥٩٩

ولعل ابن عباس ذكر" حضور" بأنها إحدى القرى التي أرادها الله بهذه الآية.

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ)(٢٠)

قوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) أي : ما خلقناهما وما بينهما من سائر المخلوقات على هذا الوجه العجيب البديع المشحون بضروب الحكم عابثين بذلك ، إنما خلقناهما وما بينهما دلالة على قدرتنا وحكمتنا ووحدانيتنا ومصالح عبادنا باطلا ؛ لأن العبادة لا تصلح إلا للخالق العظيم ... (١).

قوله تعالى : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً) قيل : هو المرأة.

قال الحسن وقتادة : اللهو بلغة اليمن : المرأة (٢).

وقيل : الولد (٣).

__________________

(١) عدة كلمات غير ظاهرة في ب.

(٢) أخرجه الطبري (١٧ / ١٠) ، وابن أبي حاتم (٨ / ٢٤٤٧ ـ ٢٤٤٨). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٥ / ٦٢٠) وعزاه لابن أبي حاتم عن الحسن. ومن طريق آخر عن قتادة ، وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) أخرجه ابن أبي حاتم (٨ / ٢٤٤٧). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٥ / ٦١٩) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة.

٦٠٠