رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٤

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٤

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٩

حتى حرّموا مناكحة بني هاشم ومبايعتهم ، وألجؤوهم إلى الشّعب ، وكتبوا تلك الصحيفة الظالمة القاطعة ، إلى أن قام بنقضها ملأ من أشراف قريش ، ولهم قصة معروفة عند أهل العلم.

وقد روى سليم بن نمير قال : «صدرنا من الحج مع حفصة ، وعثمان رضي الله عنه محصور بالمدينة ، فرأت راكبين فسألتهما عنه ، فقالا : قتل ، فقالت : والذي نفسي بيده إنها تعني المدينة للقرية التي قال الله تعالى فيها في كتابه : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً)(١).

وقلت : وهذا من حفصة على سبيل التمثيل ، لا على وجه التفسير للآية.

قال ابن الجوزي رحمه‌الله (٢) : يعني : أنها كانت على قانون الاستقامة في أيام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وعمر (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ) بقتل عثمان.

(وَلَقَدْ جاءَهُمْ) يعني : أهل مكة (رَسُولٌ مِنْهُمْ) وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ) قال ابن عباس : يعني : الجوع (٣).

وقال مجاهد : ما أصابهم يوم بدر (٤).

(وَهُمْ ظالِمُونَ) مبتدأ وخبر في محل الحال ، أي : أخذهم العذاب حال تلبسهم بالظلم.

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٤ / ١٨٦).

(٢) زاد المسير (٤ / ٥٠٠).

(٣) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٨٨) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٤ / ٥٠١).

(٤) مثل السابق.

١٠١

(فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)(١١٩)

قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) أي : كلوا يا معشر المسلمين مما رزقكم الله من الأنعام والزروع وغيرها ، أو يكون ذلك صادّا لهم عن أفعال الجاهلية ومذاهبهم الباطلة في تحريم ما أحل الله تعالى من الأنعام والزروع.

ويدل على صحة هذا التأويل الآية التي بعدها (١) ، والآيتان مفسرتان في سورة البقرة(٢).

قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ) قال ابن الأنباري (٣) : اللام في «لما» بمعنى : من أجل ، [وتلخيص الكلام : ولا تقولوا هذه الميتة حلال

__________________

(١) وهي : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ ...).

(٢) عند الآية : رقم : ١٧٢ و ١٧٣.

(٣) انظر : زاد المسير (٤ / ٥٠٢).

١٠٢

وهذه البحيرة حرام من أجل](١) تكذيبكم وإقدامكم على الوصف والتخرص لما لا أصل له ، فجرت اللام هاهنا مجراها في قوله : (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [العاديات : ٨] ، أي : وإنه من أجل حب الخير لبخيل ، و «ما» بمعنى المصدر ، و «الكذب» منصوب ب «تصف» ، والتلخيص : ولا تقولوا لوصف ألسنتكم الكذب.

وقال الزمخشري (٢) : انتصاب «الكذب» ب «لا تقولوا» على الله : ولا تقولوا الكذب لما تصف ألسنتكم من البهائم بالحل والحرمة في قولكم : (ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) [الأنعام : ١٣٩] ، [من غير استناد ذلك الوصف إلى وحي من الله أو إلى قياس مستند إليه](٣).

[وقوله : (هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ)](٤) بدل من «الكذب».

وقرأ ابن عباس : الكذب ، بضم الكاف والذال والباء ، جعله نعتا للألسنة (٥).

وقرأ الحسن البصري : الكذب ، بفتح الكاف وكسر الذال والباء ، صفة ل «ما» المصدرية (٦) ، كأنه قيل : لوصفها الكذب ، يعني : الكاذب.

(لِتَفْتَرُوا) لام العاقبة (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) ؛ لأن

__________________

(١) زيادة من زاد المسير (٤ / ٥٠٢).

(٢) الكشاف (٢ / ٥٩٨).

(٣) زيادة من الكشاف ، الموضع السابق.

(٤) في الأصل : وقولكم : هذا حرام وهذا حلال. والتصويب من الكشاف ، الموضع السابق.

(٥) زاد المسير (٤ / ٥٠٢) ، والبحر المحيط (٥ / ٥٢٧).

(٦) إتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٨١).

١٠٣

ما هم فيه من النعيم [سيزول](١) وينقطع ، وهو قوله : (مَتاعٌ قَلِيلٌ) أي : منفعته متاع قليل ، (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة.

قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) وذلك في سورة الأنعام في قوله : (حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ..). الآية [الأنعام : ١٤٦].

وقوله : «بجهالة» في محل الحال (٢).

(إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) أي : من بعد التوبة أو الجهالة.

(إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(١٢٣)

وما لم أذكره سبق تفسيره إلى قوله : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) كان وحده أمّة من الأمم ، اجتمع فيه ما تفرق في الأمم من صفات الخير ونعوت البركة ، كما قيل :

وليس لله بمستنكر

أن يجمع العالم في واحد (٣)

وكما قيل :

__________________

(١) زيادة على الأصل.

(٢) الدر المصون (٤ / ٣٦٥).

(٣) ويروى البيت : (وليس على الله) ، بدل : (وليس لله). انظر : الكشاف (٢ / ٥٩٩) ، والبحر (٥ / ٥٢٩) ، ومعاهد التنصيص (٢ / ١٣٩) ، والتصريح (١ / ١٥) ، وحاشية الشهاب (٥ / ٣٧٩) ، والدر المصون (٤ / ٣٦٦) ، وروح المعاني (٢٢ / ٢٢٠).

١٠٤

 ...........

وواحد كالألف إن أمر عنا (١)

وقال مجاهد : كان وحده مؤمنا ، والناس كلهم كفار (٢).

وقيل : المعنى : كان مؤتما به ، فهو فعلة في معنى : مفعول ، كالنّخبة والرّحلة.

قال ابن مسعود : الأمّة : الذي يعلّم الخير (٣).

(قانِتاً) مطيعا (لِلَّهِ حَنِيفاً) مائلا إلى التوحيد والطاعة. وقد سبق ذكر الحنيف في البقرة.

وفي قوله : (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) تكذيب لكفار قريش ، فإنهم كانوا يقولون : إنهم على ملته.

(شاكِراً لِأَنْعُمِهِ) بدل من «أمّة» ، (اجْتَباهُ) اختصه للنبوة واصطفاه للخلّة ، (وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو دين الإسلام.

(وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) وهي التنويه بذكر الثناء عليه ، حتى ليس من أهل دين إلا وهم يتولّونه ويصلّون عليه. هذا معنى قول ابن عباس وقتادة (٤).

__________________

(١) عجز بيت ، وصدره : (والناس ألف منهم كواحد) انظر البيت في : روح المعاني (١٩ / ١٠٥ ، ٢٨ / ٥٤).

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم (٧ / ٢٣٠٦). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ١٧٦) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) أخرجه الطبري (١٤ / ١٩٠) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٣٠٦) ، والحاكم (٣ / ٣٠٥) ، والطبراني في الكبير (١٠ / ٥٩ ـ ٦٠). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ١٧٦) وعزاه لعبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والحاكم وصححه.

(٤) أخرجه الطبري (١٤ / ١٩٣) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٣٠٧) كلاهما عن قتادة. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٤ / ٥٠٤) ، والسيوطي في الدر (٥ / ١٧٧) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن ـ

١٠٥

وقال الحسن : هي النبوة (١).

وقيل : قول المصلّي : «كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم وكما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم».

ويحتمل عندي أن تكون الحسنة : ما كرّم به وشرّف من كون سيد بني آدم المبعوث إلى الأحمر والأسود مأمورا بمتابعته ومشايعته ، وذلك قوله تعالى : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً).

ويجوز عندي أيضا أن تكون الحسنة : ما اختصه الله به من الخلّة التي لم يشاركه أحد قبله فيها.

وفي قوله : (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) دليل واضح على أن نبينا كان مأمورا بمتابعة دين إبراهيم فيما لم يأته فيه وحي.

وقال محمد بن جرير (٢) : أمر باتباعه في التبرؤ من الأوثان والتدين بالإسلام.

وقال عبد الله بن عمرو : أمر باتباعه في مناسك الحج ، كما علّم جبريل إبراهيمعليهما‌السلام (٣).

__________________

ـ المنذر وابن أبي حاتم.

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٩٠) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٤ / ٥٠٤).

(٢) تفسير الطبري (١٤ / ١٩٣).

(٣) أخرجه ابن أبي شيبة (٣ / ٣٣٢) ، والبيهقي في الشعب (٣ / ٤٦٤). وانظر : الوسيط (٣ / ٩١). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ١٧٧) وعزاه لعبد الرزاق وابن أبي شيبة معا في المصنف وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الشعب.

١٠٦

(إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)(١٢٤)

قوله تعالى : (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ) وقرأ الحسن : «جعل» على البناء للفاعل ، «السبت» بالنصب (١) ، والمعنى : إنما فرض تعظيمه وتحريمه (عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) حين أمرهم موسى بالتفرغ لله في كل سبعة أيام يوما يقطعون فيه أشغالهم ويتخلون لعبادة ربهم ، وعيّن لهم يوم الجمعة فقالوا : لا ينبغي أن يفعل ذلك إلا في يوم السبت ؛ لأنه اليوم الذي فرغ الله تعالى فيه من الخلق ، فقال لهم أحبارهم : انتهوا إلى أمر نبيكم ، فخالفوا وأبوا وقالوا : ما نريد إلا يوم السبت ، فجعل ذلك لهم وشدد عليهم ، حتى إن موسى عليه الصلاة والسّلام رأى رجلا يحمل فيه قصبا فضرب عنقه. هذا قول ابن عباس وجمهور المفسرين (٢).

وقيل : «إنما جعل السبت» أي : وبال السبت ، وهو المسخ على الذين اختلفوا فيه ، فأحلّوا الصيد فيه تارة وحرّموه أخرى.

قال قتادة : استحله بعضهم وحرمه بعضهم (٣).

وذكر ابن قتيبة في مختلف الحديث (٤) : أن الله تعالى بعث موسى عليه الصلاة والسّلام بالسبت ، ونسخ السبت بالمسيح.

وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة وحذيفة قالا : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

__________________

(١) إتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٨١).

(٢) زاد المسير (٤ / ٥٠٥). وانظر : الدر المنثور (٥ / ١٧٧).

(٣) أخرجه الطبري (١٤ / ١٩٤). وانظر : الوسيط (٣ / ٩١) ، وزاد المسير (٤ / ٥٠٥).

(٤) تأويل مختلف الحديث (ص : ١٩٥).

١٠٧

«أضل الله تعالى عن الجمعة من كان قبلنا ، فكان لليهود يوم السبت ، وكان للنصارى يوم الأحد ، فجاء الله تعالى بنا فهدانا ليوم الجمعة ، فجعل الجمعة والسبت والأحد وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة ، نحن الآخرون من أهل الدنيا ، والأولون يوم القيامة ، المقضي لهم يوم القيامة قبل الخلائق» (١).

قوله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي : يفصل بينهم بما يستوجبونه من الجزاء ، (فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) فيه في الدنيا.

(ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)(١٢٥)

قوله تعالى : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ) وهو دين الإسلام (بِالْحِكْمَةِ) وهو الدليل الواضح المبين للحق المزيل للشبهة.

قال ابن عباس : «بالحكمة» : بالقرآن (٢).

(وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) مواعظ القرآن وزواجره ، أي : ناظرهم مليّنا لهم جانبك ، كما قال لموسى وهارون حين أرسلهما إلى فرعون : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) [طه : ٤٤].

وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يا عائشة! إن الله تعالى يحب الرفق في الأمر كله» (٣).

وفي أفراد مسلم من حديثها أيضا : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الرفق لا يكون في

__________________

(١) أخرجه مسلم (٢ / ٥٨٦ ح ٨٥٦).

(٢) زاد المسير (٤ / ٥٠٦).

(٣) أخرجه البخاري (٥ / ٢٢٤٢ ح ٥٦٧٨) ، ومسلم (٤ / ١٧٠٦ ح ٢١٦٥).

١٠٨

شيء إلا زانه ، ولا ينزع من شيء إلا شانه» (١).

وقد أحسن الشاعر في قوله :

لو سار ألف مدرّع في حاجة

لم يقضها إلا الذي يترفقّ

وقال بعض الحكماء : من عذب لسانه كثر إخوانه.

وقال علي عليه‌السلام : من لانت كلمته وجبت محبّته (٢).

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) وإنما يأمرك بإيضاح المحجة لئلا يكون للناس على الله حجة ، وقد أعذر من أنذر.

(وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)(١٢٨)

قوله تعالى : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) السبب في نزولها : أنه لما كان يوم أحد وأصيب حمزة ومثّل به وبالقتلى ، وقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حمزة صريعا قد مثّل به ، فلم ير شيئا كان أوجع لقلبه منه ، فقال : والله لأقتلن سبعين رجلا منهم ، ولئن ظفرت بقاتلك لأمثلن به مثلة تتحدث بها العرب (٣).

__________________

(١) أخرجه مسلم (٤ / ٢٠٠٤ ح ٢٥٩٤).

(٢) ذكره العجلوني في كشف الخفاء (٢ / ٣٧٦).

(٣) أخرجه الحاكم (٣ / ٢١٨ ح ٤٨٩٤) ، والطبراني في الكبير (٣ / ١٤٣) ، والبيهقي في الشعب (٧ / ١٢٠). وذكره الواحدي في أسباب النزول (ص : ٢٩١) ، وابن الجوزي في زاد المسير ـ

١٠٩

وقالت الأنصار : لئن أمكننا الله منهم لنمثلن بالأحياء فضلا عن الأموات ، فأنزل الله تعالى هذه الآية. هذا قول ابن عباس وأبي بن كعب وأبي هريرة وعامة المفسرين (١).

وقد أخرج الترمذي من حديث أبي بن كعب قال : «لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلا ، ومن المهاجرين ستة ، منهم : حمزة بن عبد المطلب ، فمثّلوا بهم. فقالت الأنصار : لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربينّ عليهم في التمثيل. فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله تعالى : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كفوا عن القوم إلا أربعة» (٢).

فإن قيل : قتل الكافرين للمؤمنين لم يكن عقوبة بل مثوبة ، فكيف قال : (بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ)؟

قلت : لازدواج الكلام ، وقد سبقت نظائره.

(وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ) رجاء الثواب (لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ).

فإن قيل : ما وجه هذا الكلام وقد ثبت بالدليل الشرعي والبرهان العقلي أن النكاية في الكفار وبكل ما فيه استئصال شأفتهم أفضل من الصبر عليهم؟

قلت : المعنى : ولئن صبرتم عن المثلة ، أو صبرتم عن التمثيل بالأحياء منهم ، أو يكون ذلك ترغيبا لهم في الصبر عن الأخذ بالثأر على وجه التشفّي والانتقام

__________________

ـ (٤ / ٥٠٧).

(١) أسباب النزول للواحدي (ص : ٢٩١) ، وزاد المسير لابن الجوزي (٤ / ٥٠٨).

(٢) أخرجه الترمذي (٥ / ٢٩٩ ح ٣١٢٩).

١١٠

نظرا إلى حظوظ أنفسهم. أما إذا كان الانتقام والتشفّي لأجل الله تعالى ، فإيقاع المكروه بهم أفضل من الصبر.

ثم عزم الله تعالى على نبيه بالصبر على ما أصابه وعلى ما كان عزم عليه فقال : (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) أي : بتوفيقه ومعونته وربطه على قلبك ، (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) أي : لا تأس على إعراضهم عنك ، أو لا تحزن على المؤمنين الذين استشهدوا يوم أحد ، فإنهم أفضوا إلى كرامتي ورضواني ، (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ) ، وقرأ ابن كثير : «في ضيق» بكسر الضاد (١).

قال الأخفش (٢) : يقال : ضاق يضيق ضيقا وضيقا ، لغتان بمعنى واحد.

وقال الفراء (٣) : الضّيق : بالفتح ما ضاق عنه صدرك ، وبالكسر : ما يكون في الذي يضيق ويتّسع كالدار والثوب.

(إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) الفواحش والكبائر بالتوفيق والمعونة والمناصرة (وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) بالطاعة.

قيل لهرم بن حيان عند الوفاة : أوص فقال : أوصيكم بخواتيم سورة النحل (٤).

__________________

(١) الحجة للفارسي (٣ / ٤٥ ـ ٤٦) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٣٩٥) ، والكشف (٢ / ٤١) ، والنشر (٢ / ٣٠٥) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٨١) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣٧٦).

(٢) انظر : القرطبي (١٠ / ٢٠٣).

(٣) معاني الفراء (٢ / ١١٥).

(٤) أخرجه الطبري (١٤ / ١٩٩) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (٢ / ١٢١) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (٧ / ١٣٢).

١١١

سورة بني إسرائيل

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وهي مائة آية وعشر آيات.

وهي مكية ، وقد استثني منها آيات ، ستجدها إن شاء الله تعالى مبيّنة في موضعها عند ذكر أسبابها.

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(١)

قوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) قال طلحة بن عبيد الله : «سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن تفسير : سبحان الله فقال : تنزيه الله عن كل سوء» (١).

قال سيبويه (٢) : «سبحان» من جملة المصادر المتروك إظهار الأفعال العاملة فيها ، الموضوعة موضعا واحدا ، وهو النصب ، وترك الألف واللام ، فإذا قلت : سبحان الله ، فكأنك قلت : تسبيحا ، أي : أسبّح تسبيحا ، لكن «أسبح» لا يظهر مع سبحان الله البتة.

__________________

(١) أخرجه الحاكم (١ / ٦٨٠ ح ١٨٤٨).

(٢) انظر : الكتاب (١ / ٣٢٢).

١١٢

وقال الزمخشري (١) : «سبحان» علم للتسبيح كعثمان للرّجل ، وانتصابه بفعل مضمر ، أي : أسبح الله سبحان ، ثم نزّل سبحان منزلة الفعل فسدّ مسدّه ، ودلّ على التنزيه البليغ.

وأسرى وسرى لغتان ، و «ليلا» نصب على الظرف (٢).

فإن قلت : الإسراء لا يكون إلا بالليل ، فما معنى ذكر الليل؟

قلت : أراد بقوله : «ليلا» بلفظ التنكير : تقليل مدة الإسراء ، [وأنه](٣) أسري به في بعض الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة ، وذلك أن التنكير فيه قد دل [على](٤) معنى البعضية ، ويشهد لذلك قراءة عبد الله وحذيفة : «من الليل» (٥) أي : بعض الليل ، كقوله تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ) [الإسراء : ٧٩] ، يعني : الأمر بالقيام في بعض الليل.

وقال الزجاج (٦) : «أسرى بعبده» : سيّر عبده. يقال : أسريت وسريت ؛ إذا سرت ليلا (٧) ، وقد جاءت اللغتان في القرآن. قال الله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) [الفجر : ٤] والمراد «بعبده» محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفيه إشعار بأنه أسري بجسده.

__________________

(١) الكشاف (٢ / ٦٠٤).

(٢) التبيان (٢ / ٨٧) ، والدر المصون (٤ / ٣٦٨).

(٣) في الأصل : على أنه. والتصويب من الكشاف (٢ / ٦٠٤).

(٤) زيادة من الكشاف ، الموضع السابق.

(٥) انظر : الطبري (١٥ / ٢).

(٦) معاني الزجاج (٣ / ٢٢٥).

(٧) انظر : اللسان (مادة : سرا).

١١٣

قال الحسن وقتادة : أسري به من نفس المسجد (١) ، ويدل على قولهما حديث مالك بن صعصعة (٢).

وقال أكثر المفسرين : أسري به من بيت أم هانئ (٣).

فعلى هذا يريد بالمسجد الحرام : الحرم كله.

قال ابن عباس : الحرم كله مسجد (٤).

قال بعضهم : سمي به لإحاطته بالمسجد والتباسه به.

وفي الحديث : «أنه قص قصته على أم هانئ ، وقام ليخرج إلى المسجد ، فتشبثت به أم هانئ ، فقال : مالك؟ قالت : أخشى أن تذكر لهم ذلك فيكذبوك ، فقال : وإن كذبوني» (٥).

قالت عائشة وابن عباس رضي الله عنهم : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لما كانت ليلة أسري بي وأصبحت بمكة فظعت بأمري ، وعرفت أن الناس مكذبي ، فقعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معتزلا حزينا ، فمرّ به أبو جهل فجلس إليه ، فقال له كالمستهزئ به : هل استفدت من شيء؟ فقال : نعم ، أسري [بي](٦) الليلة ، قال : إلى أين؟ قال : إلى بيت المقدس قال : ثم أصبحت بين أظهرنا؟ قال : نعم ، قال : أتحدث قومك ما حدثتني؟

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٥ / ٢). وانظر : الوسيط (٣ / ٩٣) ، وزاد المسير (٥ / ٤).

(٢) أخرجه البخاري (٣ / ١١٧٣ ح ٣٠٣٥) ، ومسلم (١ / ١٤٩ ـ ١٥٠ ح ١٦٤).

(٣) أخرجه الطبري (١٥ / ٢). وانظر : الوسيط (٣ / ٩٣) ، وزاد المسير (٥ / ٤). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٢٠٩) وعزاه لابن إسحاق وابن جرير عن أم هانئ.

(٤) الطبري (١٥ / ٢) ، وزاد المسير (٥ / ٥) ، والوسيط (٣ / ٩٤).

(٥) ذكره أبو السعود في تفسيره (٥ / ١٥٤).

(٦) زيادة من سنن النسائي (٦ / ٣٧٧).

١١٤

قال : نعم ، فقال أبو جهل : يا معشر بني كعب بن لؤي ، هلم ، فجاؤوا فجلسوا إليهما فقال : حدّث قومك ما حدثتني ، قال : نعم ، أسري بي الليلة ، قالوا : إلى أين؟ قال : إلى بيت المقدس ، قالوا : ثم أصبحت بين أظهرنا؟ قال : نعم ، قال : فمن بين مصفّق وبين واضع يده على رأسه متعجبا للتكذيب ، فارتدّ ناس ممن كان آمن به وصدقه ، فسعى رجال من المشركين إلى أبي بكر رضي الله عنه فقالوا : هل لك في صاحبك ، يزعم أنه أسري به إلى البيت المقدس ، فقال : أو قد قال ذلك؟ قالوا : نعم ، قال : لئن كان قال ذلك لقد صدق ، قالوا : أتصدقه أنه ذهب إلى الشام في ليلة وجاء قبل أن يصبح؟ قال : نعم ، إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك ، أصدّقه بخبر السماء في غدوة أو روحة ، فلذلك سمي الصدّيق صدّيقا» (١).

وفي الصحيحين من حديث جابر رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لما كذبني قريش [قمت](٢) في الحجر ، فجلّا الله لي بيت المقدس ، فطفقت أقول أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه» (٣).

وفي رواية أخرى : أنهم قالوا : «أما النعت فقد أصاب ، فقالوا : خبرنا عن عيرنا ، فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها ، وقال : تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس ، يقدمها جمل أورق ، فخرجوا يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية ، فقال قائل منهم : هذه

__________________

(١) أخرج هذا الحديث مجزءا ، فالطرف الأول منه أخرجه النسائي في الكبرى (٦ / ٣٧٧ ح ١١٢٨٥) ، وأحمد (١ / ٣٠٩ ح ٢٨٢٠) عن ابن عباس. والطرف الآخر منه أخرجه الحاكم في المستدرك (٣ / ٦٥ ح ٤٤٠٧) و (٣ / ٨١ ح ٤٤٥٨) عن عائشة ، وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

(٢) زيادة من الصحيحين.

(٣) أخرجه البخاري (٣ / ١٤٠٩ ح ٣٦٧٣) ، ومسلم (١ / ١٥٦ ح ١٧٠).

١١٥

الشمس والله قد أشرقت ، فقال آخر : وهذه العير والله قد أقبلت يقدمها جمل أورق كما قال محمد ، ثم لم يؤمنوا وقالوا : ما هذا إلا سحر مبين» (١).

قالت عائشة وابن عباس : «كان الإسراء لسبع عشرة مضت من ربيع الأول قبل الهجرة بسنة» (٢).

وقد روى حديث الإسراء والمعراج جماعة ؛ منهم : علي ، وابن مسعود ، وأبي بن كعب ، وحذيفة ، وسعيد ، وجابر ، وأبو هريرة ، وابن عباس ، وأم هانئ.

فإن قيل : المعراج والإسراء في ليلة واحدة ، فهلا أخبرهم بعروجه إلى السماء مقترنا بالإسراء؟

قلت : استدرجهم إلى الإيمان بذكر الإسراء أولا ، فلما ظهرت أمارات صدقه ووضحت لهم براهين رسالته ، واستأنسوا بتلك الآية الخارقة ، أخبرهم بما هو أعظم منها ، وهو المعراج ، فحدّثهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم به ، وأنزله الله تعالى في كتابه في سورة النجم.

سياق الأحاديث التي جاءت في المعراج :

أخبرنا الشيخان أبو القاسم السلمي قراءة عليه وأنا أسمع بدمشق ، وأبو الحسن علي بن أبي بكر بقراءتي عليه برأس عين قالا : أخبرنا أبو الوقت ، أخبرنا أبو الحسن الداودي ، أخبرنا عبد الله بن أحمد السرخسي ، أخبرنا محمد بن يوسف الفربري ، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري ، حدثنا هدبة بن خالد ، حدثنا همام بن

__________________

(١) ذكره أبو السعود في تفسيره (٥ / ١٥٥). وانظر : الدر المنثور (٥ / ٢٠٩).

(٢) أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (١ / ٢١٤). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٢٠٩) وعزاه لابن سعد وابن عساكر عن عبد الله بن عمر وأم سلمة وعائشة وأم هانئ وابن عباس.

١١٦

يحيى ، حدثنا قتادة ، عن أنس بن مالك ، عن مالك بن صعصعة : أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حدثهم عن ليلة الإسراء به : «بينما أنا في الحطيم ـ وربما قال : في الحجر ـ مضطجعا ، إذ أتاني آت فقدّ وقال : سمعته يقول : فشق ما بين هذه إلى هذه ، فقلت للجارود وهو إلى جنبي : ما يعني به؟ قال : من ثغرة نحره إلى شعرته ، وسمعته يقول : من قصّه إلى شعرته فاستخرج قلبي ثم أتيت بطشت من ذهب مملوء إيمانا فغسل قلبي ثم حشي ، ثم أعيد ، ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض ، فقال له الجارود : هو البراق يا أبا حمزة! قال أنس : نعم ، يضع خطوه عند أقصى طرفه فحملت عليه ، فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح فقيل : من هذا؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك؟ قال : محمد ، قيل : وقد أرسل إليه؟ قال : نعم ، قيل : مرحبا به ونعم المجيء جاء ، ففتح ، فلما خلصت فإذا فيها آدم فقال : هذا أبوك ، فسلمت عليه فرد السّلام ، ثم قال : مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح ، ثم صعد حتى أتى السماء الثانية فاستفتح ، قيل : من هذا؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك؟ قال : محمد ، قيل : وقد أرسل إليه؟ قال : نعم ، قيل : مرحبا به ، فنعم المجيء جاء ، ففتح ، فلما خلصت إذا بيحيى وعيسى وهما ابنا خالة ، قال : هذا يحيى وعيسى ، فسلّم عليهما فسلّمت فردا ، ثم قالا : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ، ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فاستفتح ، قيل : من هذا؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك؟ قال : محمد ، قيل : وقد أرسل إليه؟ قال : نعم ، قيل : مرحبا به ، فنعم المجيء جاء ، ففتح ، فلما خلصت إذا يوسف قال : هذا أخوك يوسف فسلّم عليه ، فسلّمت عليه فردّ ، ثم

١١٧

قال : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ، ثم صعد [بي](١) حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح ، قيل : من هذا؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك؟ قال : محمد ، قيل : أو قد أرسل إليه؟ قال : نعم ، قيل : مرحبا به ونعم المجيء جاء ، ففتح ، فلما خلصت إلى إدريس قال : هذا إدريس فسلّم عليه ، فسلّمت عليه فردّ ، ثم قال : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ، ثم صعد [بي](٢) حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح ، قيل : من هذا؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك؟ قال : محمد ، قيل : أو قد أرسل إليه؟ قال : نعم ، قيل : مرحبا به ، فنعم المجيء جاء ، ففتح فلما خلصت فإذا هارون قال : هذا هارون فسلّم عليه ، فسلمت عليه فردّ ، ثم قال : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ، ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة فاستفتح ، قيل : من هذا؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك؟ قال : محمد ، قيل : أو قد أرسل إليه؟ قال : نعم ، قيل مرحبا به فنعم المجيء جاء ، فلما خلصت فإذا موسى قال : هذا موسى فسلّم عليه ، فسلّمت عليه فرد عليّ ، ثم قال : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ، فلما تجاوزت بكى ، قيل له : ما يبكيك؟ قال : أبكي ؛ لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي ، ثم صعد بي إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل ، قيل : من هذا؟ قال : جبريل قيل : ومن معك؟ قال : محمد ، قيل : أو قد بعث إليه؟ قال : نعم ، قال : مرحبا به ونعم المجيء جاء ، فلما خلصت فإذا إبراهيم ، قال : هذا أبوك إبراهيم فسلّم عليه ، فسلّمت عليه فردّ السّلام ، ثم قال : مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح ، ثم رفعت لي سدرة المنتهى وإذا نبقها مثل قلال هجر ، وإذا ورقها

__________________

(١) زيادة من الصحيحين.

(٢) مثل السابق.

١١٨

مثل آذان الفيلة ، قال : هذه سدرة المنتهى ، وإذا بأربعة أنهار ، نهران باطنان ونهران ظاهران ، فقلت : ما هذان النهران يا جبريل؟ قال : أما الباطنان فنهران في الجنة ، وأما الظاهران فالنيل والفرات ، ثم رفع لي البيت المعمور [يدخله كل يوم سبعون ألف ملك](١) ، ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل ، فأخذت اللبن ، فقال : هي الفطرة أنت عليها وأمّتك ، ثم فرضت عليّ الصلاة خمسين صلاة كل يوم ، فرجعت فمررت على موسى فقال : بم أمرت؟ قال : أمرت بخمسين صلاة كل يوم ، قال : إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم ، وإني والله قد خبرت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة ، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ، فرجعت فوضع عني عشرا ، فرجعت إلى موسى فقال مثله ، فرجعت فوضع عني عشرا ، فرجعت إلى موسى فقال مثله ، فرجعت فوضع عني عشرا ، فرجعت إلى موسى فقال مثله ، [فرجعت](٢) فأمرت بعشر صلوات كل يوم ، فرجعت فقال مثله ، فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم ، [فرجعت إلى موسى فقال : بما أمرت؟ قلت : أمرت بخمس صلوات كل يوم](٣) ، قال : إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم وإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ، قال : سألت ربي حتى استحييت ، ولكني أرضى وأسلم ، قال : فلما جاوزت نادى مناد : أمضيت

__________________

(١) زيادة من الصحيحين.

(٢) مثل السابق.

(٣) مثل السابق.

١١٩

فريضتي وخففت عن عبادي» (١). هذا حديث متفق على صحته ، أخرجه مسلم ، عن محمد بن المثنى ، عن محمد بن أبي عدي ، عن سعيد ، عن قتادة.

الحطيم : الحجر ، وسمي حطيما ؛ لما حطم من جداره فلم يسوّ ببناء البيت ، والشعرة : العانة ، والقصّ : الصّدر.

وقيل في قول خزّان السماء : «أرسل إليه» ، أي : هل أرسل إليه للعروج إلى السماء. وأما بعثه إلى الناس رسولا ؛ فقد كان شائعا مستفيضا بينهم قبل العروج.

قال الخطابي : لا يجوز أن يؤول بكاء موسى على الحسد ؛ لأن ذلك لا يليق بصفات الأنبياء ، وإنما بكى من ناحية الشفقة على أمته ، إذ قصر عددهم عن مبلغ عدد أمة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله : «إن غلاما بعث بعدي» ليس على سبيل الازدراء به ، لكنه على معنى تعظيم المنة لله عليه إذ قد أحقّه لذلك من غير غمز في عبادته.

والقلال : الجرار ، وهي معروفة عند أهل هجر.

وبالإسناد قال البخاري : حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث ، عن يونس ، عن ابن شهاب ، عن أنس بن مالك قال : «كان أبو ذر يحدث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : فرج عن سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبريل ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم ، ثم جاء بطشت من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا فأفرغه في صدري ثم أطبقه ، ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا ، فلما جئت إلى السماء الدنيا قال جبريل لخازن السماء : افتح ، قال : من هذا؟ قال : هذا جبريل ، قال : هل معك أحد؟ قال : نعم ،

__________________

(١) أخرجه البخاري (٣ / ١٤١٠ ـ ١٤١١ ح ٣٦٧٤) ، ومسلم (١ / ١٤٩ ـ ١٥٠ ح ١٦٤).

١٢٠