رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٤

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٤

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٩

قوله تعالى : (كَلَّا) رد لقوله ، أي : ليس الأمر كذلك على ما قال من أنه يؤتى مالا وولدا ، ويكون (١) المعنى : كلا لم يطّلع الغيب ولم يتخذ عهدا.

(سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ) أي : سنأمر الحفظة بكتابة قوله وإثباته في صحيفة عمله ليجازى به في الآخرة.

قال صاحب الكشاف (٢) : إن قلت : كيف قيل : «سنكتب» بسين التسويف ، وكما قاله كتب من غير تأخير ، قال الله تعالى : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق : ١٨]؟

قلت : المعنى : سنظهر له ونعلمه أنا كتبنا قوله ، على طريقة قوله :

إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة

 .................(٣)

أي : تبيّن وعلم بالانتساب أني لست بابن لئيمة.

(وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا) أي : نطو له ونجعل بعضه تاليا لبعض ، من غير أن [يتخلله](٤) إراحة.

(وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ) أي : سنسلبه ماله وولده ونجعله لغيره.

وقيل : نرثه ما يقول أنه له في الجنة فنجعله لغيره من المؤمنين ، كما قررناه فيما مضى.

__________________

(١) في ب : أو يكون.

(٢) الكشاف (٣ / ٤١ ـ ٤٢).

(٣) صدر بيت وعجزه : (ولم تجدي من أن تقري به بدا). وانظر البيت في : الطبري (١ / ٣٢٨ ، ٤٢٠ ، ٣ / ٧٣) ، وزاد المسير (٢ / ٢٧٦).

(٤) في الأصل : يتخله. والتصويب من ب.

٤٦١

والقولان عن ابن عباس (١). والأول اختيار قتادة (٢) ، والثاني اختيار الفراء (٣).

(وَيَأْتِينا فَرْداً) أي : يجيئنا غدا بلا مال ولا ولد ، كما قال الله تعالى : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الأنعام : ٩٤].

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا)(٨٤)

قوله تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً) يعني : المشركين عبدة الأصنام (لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) قال ابن عباس : ليمنعوهم منّي (٤).

والمعنى : ليتعزّزوا بهم اعتقادا منهم أنها تشفع لهم ، فرد الله عليهم بقوله : (كَلَّا) قال ابن عباس : لا يمنعهم مني شيء (٥).

وقرأ أبو نهيك : «كلا» بالتنوين (٦).

قال ابن جني (٧) : هو مصدر ، على معنى : كلّ هذا القول والاعتقاد.

(كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ) أي : ستكفر الآلهة يوم القيامة بما يركّب الله تعالى

__________________

(١) ذكرهما ابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٢٦١).

(٢) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٢٦١).

(٣) معاني الفراء (٢ / ١٧١).

(٤) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ١٩٥).

(٥) مثل السابق.

(٦) انظر : البحر المحيط (٦ / ٢٠٢).

(٧) المحتسب (٢ / ٤٥).

٤٦٢

فيها من العلم بعبادة المشركين ويجحدونها ويتبرؤون منهم ؛ لأنها جماد لا تعقل من قصدها بالعبادة.

فعلى هذا القول ؛ قوله : «بعبادتهم» مضاف إلى المفعول ، ويكون هذا المعنى كقولهم : (ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) [القصص : ٦٣]. ويجوز أن يكون المصدر مضافا إلى الفاعل ، والمفعول محذوف تقديره : سيكفر المشركون بعبادة الأصنام ، يدل على صحته قوله : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣].

(وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) أعداء لهم وأعوانا عليهم.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ) أي : سلّطناهم عليهم وقيّضناهم لهم.

(تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) قال الزمخشري (١) : الأزّ والهزّ والاستفزاز : أخوات ، ومعناها : التهييج وشدة الإزعاج.

قال ابن عباس في قوله : «تؤزهم أزا» : تزعجهم إلى المعاصي إزعاجا (٢).

(فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ) أي : لا تعجل بطلب عذابهم ، (إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) أي : ليس بينك وبين هلاكهم إلا أنفاس معدودة وأيام محصورة.

(يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً)(٨٧)

__________________

(١) الكشاف (٣ / ٤٣).

(٢) أخرجه الطبري (١٦ / ١٢٥) عن قتادة. وذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ١٩٥) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٢٦٢) ، والسيوطي في الدر (٥ / ٥٣٨) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة.

٤٦٣

قوله تعالى : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ) انتصب الظرف بمصدر تقديره : اذكر ، أو تقديره : يوم نحشر المتقين ونسوق المجرمين ، يفعل بالفريقين ما لا يعلم كنهه إلا الله تعالى ، أو ينتصب بقوله : (لا يَمْلِكُونَ). ويجوز أن ينتصب بقوله : (نَعُدُّ لَهُمْ) ذلك اليوم ، وما يقع فيه للمتقين خيرا وللمجرمين شرا (١).

والمعنى : يوم نحشر الذين اتقوا الله تعالى بطاعته واجتناب معصيته إلى الرحمن.

(وَفْداً) جمع وافد ، مثل : ركب وراكب ، وصحب وصاحب ، وهو في موضع الحال (٢). أي : وافدين ، على معنى : يفدون إلى الله تعالى من قبورهم أو بعد الحساب ، متطاولين إلى كرامته ، مرتقبين جميل عداته ، كما يفد الوفّاد على الملوك.

[أنبأنا](٣) أبو علي بن عبد الله ، أخبرنا أبو القاسم بن عبد الواحد ، أخبرنا الحسن بن علي ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن جعفر ، حدثنا عبد الله بن أحمد قال : حدثني سويد بن سعيد (٤) ، أخبرنا علي بن مسهر (٥) ، عن عبد الرحمن بن إسحاق (٦) ، حدثنا

__________________

(١) انظر : التبيان (٢ / ١١٧) ، والدر المصون (٤ / ٥٢٦).

(٢) انظر : الدر المصون (٤ / ٥٢٦).

(٣) في الأصل : أنبأ. والمثبت من ب.

(٤) سويد بن سعيد بن سهل بن شهريار الهروي الأنباري ، أبو محمد الحدثاني ، سكن الحديثة ، وهي قرية تحت عانة وفوق الأنبار ، مات سنة أربعين ومائتين أول شوال بالحديثة (تهذيب التهذيب ٤ / ٢٣٩ ـ ٢٤١ ، والتقريب ص : ٢٦٠).

(٥) علي بن مسهر القرشي ، أبو الحسن الكوفي الحافظ ، قاضي الموصل ، ثقة كثير الحديث ، مات سنة تسع وثمانين ومائة (تهذيب التهذيب ٧ / ٣٣٥ ، والتقريب ص : ٤٠٥).

(٦) عبد الرحمن بن إسحاق بن سعد بن الحارث ، أبو شيبة الواسطي الأنصاري الكوفي ، ضعّفه ابن معين وغيره (تهذيب التهذيب ٦ / ١٢٤ ، والتقريب ص : ٣٣٦).

٤٦٤

النعمان بن سعد (١) قال : «كنا جلوسا عند علي عليه‌السلام فقرأ هذه الآية : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) فقال : لا والله ما على أرجلهم يحشرون ، ولا يحشر الوفد على أرجلهم ، ولكن يؤتون بنوق لم تر الخلائق مثلها ، عليها رحال من ذهب ، فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة» (٢).

قوله تعالى : (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) قال ابن عباس وغيره : «وردا» : عطاشا (٣) ، مشاة على أرجلهم ، قد تقطعت أعناقهم من العطش (٤).

وحقيقة الورد (٥) : الجماعة التي ترد الماء ، ولا يرد أحد الماء إلا بعد العطش (٦).

(لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ) أي : لا يشفعون ولا يشفع لهم (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) قال ابن عباس : العهد : شهادة أن لا إله إلا الله (٧).

وقيل : اتخاذ العهد : الاستظهار بالإيمان والعمل.

__________________

(١) النعمان بن سعد بن حبتة ، وقيل : حبتر الأنصاري الكوفي ، روى عن علي ، والأشعث بن قيس ، والمغيرة بن شعبة ، وزيد بن أرقم ، روى عنه ابن أخته أبو شيبة عبد الرحمن بن إسحاق الكوفي ، ولم يرو عنه غيره (تهذيب التهذيب ١٠ / ٤٠٤ ، والتقريب ص : ٥٦٤).

(٢) أخرجه ابن أبي شيبة (٧ / ٣٧ ح ٣٤٠١٤) ، وأحمد (١ / ١٥٥ ح ١٣٣٢) ، والحاكم (٢ / ٤٠٩ ح ٣٤٢٥).

(٣) أخرجه الطبري (١٦ / ١٢٧). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٥٤١) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث.

(٤) ذكره السيوطي في الدر (٥ / ٥٤١) وعزاه لابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٥) في ب : الورود.

(٦) انظر : اللسان (مادة : ورد).

(٧) أخرجه الطبري (١٦ / ١٢٨). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٥٤١) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات.

٤٦٥

وفي الكلام إضمار ، تقديره : إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا فإنه يملك الشفاعة.

واختلفوا في محل «من اتّخذ» ، فقيل : محله الرفع على البدل من الواو والنون في «يملكون». وقيل : النصب على الاستثناء المنقطع ، أو على معنى : إلا شفاعة من اتخذ (١).

(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً)(٩٥)

قوله تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) يعني : اليهود والنصارى والعرب الذين قالوا : الملائكة بنات الله.

(لَقَدْ جِئْتُمْ) أيها القائلون باتخاذ الله الولد (شَيْئاً [إِدًّا])(٢) عظيما منكرا من القول. هذا قول عامة المفسرين (٣).

وقال ابن خالويه (٤) : الإدّ والأدّ : العجب. وهو معنى قول المفسرين. كأن

__________________

(١) انظر : التبيان (٢ / ١١٧) ، والدر المصون (٤ / ٥٢٧).

(٢) زيادة على الأصل.

(٣) أخرجه الطبري (١٦ / ١٢٩) ، ومجاهد (ص : ٣٩١). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٥٤٣) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٤) المختصر في شواذ القرآن (ص : ٨٩).

٤٦٦

القائلين بذلك جاؤوا بشيء منكر عظيم من القول يتعجب منه.

(تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) وقرأ نافع والكسائي : «يكاد» بالياء (١) ، ومثله في الشورى (٢).

وقرأ نافع وابن كثير والكسائي وحفص : «يتفطّرن» بتاء مفتوحة وتشديد الطاء وفتحها (٣).

والمعنى : تقارب السموات يتشقّقن من عظيم قولهم : اتخذ الرحمن ولدا.

(وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) أي : تسقط سقوطا.

والهدّ : الكسر الشديد ، يقال : هدّني هذا الأمر وهدّ ركني (٤).

قال المفسرون : لما قالوا : اتخذ الله ولدا اقشعرّت الأرض ، وشاك الشجر ، وغضبت الملائكة ، واستعرت جهنم ، وفزعت السموات والأرض والجبال (٥).

__________________

(١) الحجة للفارسي (٣ / ١٣٠) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٤٤٨) ، والكشف (٢ / ٩٣) ، والنشر (٢ / ٣١٩) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٣٠١) ، والسبعة في القراءات (ص : ٤١٢ ـ ٤١٣).

(٢) آية رقم : ٥.

(٣) انظر : المصادر السابقة.

(٤) انظر : اللسان (مادة : هدد).

(٥) أخرج جزءا منه الطبري (١٦ / ١٣٠) عن مجاهد قال : ذكر لنا أن كعبا كان يقول : غضبت الملائكة واستعرت جهنم حين قالوا ما قالوا. وذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ١٩٦). وذكر السيوطي جزءا منه (١ / ٢٦٨) وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن غالب بن عجرد قال : حدثني رجل من أهل الشام قال : بلغني أن الله لما خلق الأرض وخلق ما فيها من الشجر لم يكن في الأرض شجرة يأتيها بنو آدم إلا أصابوا منها ثمرة ، حتى تكلم فجرة بني آدم بتلك الكلمة العظيمة قولهم : (اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) فلما تكلموا بها اقشعرت الأرض وشاك الشجر.

٤٦٧

(أَنْ دَعَوْا) قال صاحب الكشاف (١) : في «أن دعوا» ثلاثة أوجه : أن يكون مجرورا بدلا من الهاء في «منه» ، كقول الشاعر :

على حالة لو أنّ في القوم حاتما

على جوده لضنّ بالماء حاتم (٢)

ومنصوبا بتقدير [سقوط](٣) اللام وإفضاء الفعل ، أي : هذا لأن دعوا.

ومرفوعا بأنه فاعل «هدّا» ، أي : هدّها دعاء الولد للرحمن.

(وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) أي : ما يصح له ولا يليق به اتخاذ الولد ، ولا يجوز عليه ذلك.

وقد أشرنا فيما مضى إلى الدليل الموجب لعدم جواز ذلك عليه.

(إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ) من الملائكة والإنس والجن وسائر المخلوقين (إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) أي : إلا يأتي الرحمن يوم القيامة عبدا ذليلا ، خاضعا خاشعا ، راغبا راهبا.

وقوله : «كل» مبتدأ «من» في موضع جر ، والجار من صلته.

وقوله : «آتي» في موضع رفع خبر «كل» ، ووحّده على اللفظ ، وهو مضاف إلى المفعول. و «عبدا» حال من الضمير في «آتي» (٤).

(لَقَدْ أَحْصاهُمْ) علمهم وأحاط بهم وبجمل (٥) أمورهم وتفاصيلها.

__________________

(١) الكشاف (٣ / ٤٧).

(٢) تقدم في سورة آل عمران ، عند قوله تعالى : (الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا) [١٦٨].

(٣) في الأصل : سقط. والتصويب من ب ، والكشاف (٣ / ٤٧).

(٤) انظر : التبيان (٢ / ١١٨) ، والدر المصون (٤ / ٥٣٠ ـ ٥٣١).

(٥) في ب : وأحاط بجمل.

٤٦٨

(وَعَدَّهُمْ عَدًّا) مع كثرتهم واختلافهم واختلاف أجناسهم وأنواعهم.

(وَكُلُّهُمْ) أي : وكلّ واحد منهم (آتِيهِ) أي : جاييه (يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) ليس له مال ولا أهل.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً)(٩٨)

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) قال ابن عباس : يحبهم ويحبّبهم إلى المؤمنين (١).

قال هرم بن حيان (٢) : ما أقبل عبد بقلبه إلى الله إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم (٣).

وقال كعب : والله ما يستقر لعبد ثناء في الدنيا حتى يستقر له في السماء (٤).

وكتب أبو الدرداء إلى مسلمة بن مخلّد (٥) : سلام عليك ، أما بعد! فإن العبد إذا

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٦ / ١٣٣). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٢٦٦).

(٢) هرم بن حيان العبدي البصري ، أحد العابدين. حدّث عن عمر ، وروى عنه الحسن البصري وغيره ، ولي بعض الحروب في أيام عمر وعثمان ببلاد فارس ، وكان عاملا لعمر ، ثقة له فضل وعبادة (سير أعلام النبلاء ٤ / ٤٨ ـ ٥٠).

(٣) أخرجه الطبري (١٦ / ١٣٣). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٢٦٦ ـ ٢٦٧).

(٤) أخرجه ابن أبي شيبة (٧ / ١٩٧ ح ٣٥٢٩٤). وذكره الماوردي (٣ / ٣٩١).

(٥) مسلمة بن مخلد الأنصاري الزرقي ، سكن مصر ، وكان واليا عليها أيام معاوية ، توفي في ذي القعدة سنة اثنتين وستين ، وله ستون سنة (تهذيب التهذيب ١٠ / ١٣٤ ، والتقريب ص : ٥٣٢).

٤٦٩

عمل بطاعة الله أحبه الله ، فإذا أحبه الله حبّبه إلى عباده. وإن العبد إذا عمل بمعصية الله أبغضه الله ، فإذا أبغضه [بغّضه](١) إلى عباده (٢).

ومن هذا المعنى ؛ الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إذا أحبّ الله العبد قال لجبريل : قد أحببت فلانا فأحبّه ، فيحبّه جبريل ، ثم ينادي في أهل السماء : إن الله قد أحبّ فلانا فأحبّوه ، فيحبّه أهل السماء ، ثم يوضع (٣) له القبول في الأرض. وإذا أبغض الله عبدا دعا جبريل فيقول : إني أبغض فلانا فأبغضه ، قال : فيبغضه جبريل ، ثم ينادي في أهل السماء : إن الله يبغض فلانا فأبغضوه ، قال : فيبغضونه ، ثم يوضع (٤) له البغضاء في الأرض» (٥).

وقد روى الضحاك عن ابن عباس : أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، جعل الله له ودّا في قلوب المؤمنين (٦).

وصدق ابن عباس رضي الله عنه ، فإن لعليّ رضي الله عنه في قلوب المؤمنين الذين اتبعوا الهدى وجانبوا الهوى ودّا راسخ الأوتاد ، شامخ الأطواد ، لا يخامره ما

__________________

(١) في الأصل : وبغضه. والتصويب من ب ، وابن أبي شيبة (٧ / ١١٣).

(٢) أخرجه ابن أبي شيبة (٧ / ١١٣ ح ٣٤٦٠٤). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٥٤٦) وعزاه للبيهقي في الأسماء والصفات.

(٣) في ب : يضع.

(٤) في ب : توضع.

(٥) أخرجه البخاري (٣ / ١١٧٥ ح ٣٠٣٧) ، ومسلم (٤ / ٢٠٣٠ ح ٢٦٣٧).

(٦) أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (٥ / ٣٤٨ ح ٥٥١٦). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٥٤٤) وعزاه للطبراني وابن مردويه.

٤٧٠

خامر قلوب الرّافضة (١) من الغل لأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضي عنهم ، ولا يشينه ما شانهم من الإفراط في حالي مدحهم وقدحهم.

قوله تعالى : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ) أي : سهّلنا القرآن وأنزلناه بلغتك ، (لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) قال ابن عباس : شدادا في الخصومة (٢).

وهو جمع ألدّ. قال الشاعر :

وألدّ ذي حنق عليّ كأنما

تغلي عداوة صدره في مرجل (٣)

وقد ذكرنا اشتقاقه في البقرة.

قوله تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ) أي هل ترى من المهلكين (مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً)

قال اللغويون والمفسرون : الرّكز : الصوت الخفي (٤) ، ومنه : ركز الرّمح ؛ إذا غيّب طرفه في الأرض (٥).

والرّكاز : المال المدفون.

قال قتادة : المعنى : هل ترى من عين أو تسمع من صوت (٦).

__________________

(١) الرافضة : فرقة من فرق الشيعة ، سميت بذلك ؛ لأنها رفضت رأي زيد بن علي بن الحسين في صحة خلافة أبي بكر وعمر ، وانشقوا عليه (انظر : ضحى الإسلام ٣ / ١٣٦).

(٢) انظر : الطبري (١٦ / ١٣٣) ، والقرطبي (١١ / ١٦٢).

(٣) انظر البيت في : تفسير الماوردي (٣ / ٣٩١) ، والقرطبي (٣ / ١٦).

(٤) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ١٩٨) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٢٦٧). وانظر : معاني الزجاج (٣ / ٣٤٧).

(٥) انظر : اللسان (مادة : ركز).

(٦) أخرجه الطبري (١٦ / ١٣٤ ـ ١٣٥). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٥٤٧).

٤٧١

سورة طه

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وهي مائة وخمس وثلاثون آية ، وهي مكية بإجماعهم.

(طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (٦) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (٧) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى)(٨)

قال الله تعالى : (طه* ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) قرأ ابن كثير وابن عامر : بتفخيم الطاء والهاء على الأصل. وقرأ الكوفيون إلا حفصا : بالإمالة فيهما. وقرأ نافع بين اللفظين فيهما (١). وقرأ أبو عمرو بتفخيم الطاء لاستعلائها وإمالة الهاء (٢).

وقرأ ابن مسعود وسعيد بن المسيب على العكس من قراءة أبي عمرو (٣). وقد

__________________

(١) أي : بين الفتح والكسر.

(٢) الحجة للفارسي (٣ / ١٣٣) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٤٤٩ ـ ٤٥٠) ، والكشف (١ / ١٨٧) ، والنشر (٢ / ٧١ ـ ٧٢) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٣٠٢) ، والسبعة في القراءات (ص : ٤١٦).

(٣) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٥ / ٢٦٩).

٤٧٢

ذكرنا علة هذه الإمالة في أول مريم.

وقرأ الحسن : " طه" بفتح الطاء وسكون الهاء (١).

وقرأ الضحاك : بكسر الطاء وسكون الهاء (٢).

وقد اختلف المفسرون في تأويل هذا ؛ فقال جماعة منهم : المعنى : يا رجل (٣).

ثم اختلف هؤلاء بأي لسان هي ، فقال ابن عباس في رواية عكرمة : هي بالنبطية (٤).

وقال في رواية أبي صالح : [بلسان](٥) عكّ (٦).

وقال قتادة : هي [بالسريانية](٧).

قال ابن الأنباري (٨) : ولغة قريش وافقت تلك اللغة في هذا المعنى ؛ لأن الله

__________________

(١) إتحاف فضلاء البشر (ص : ٣٠٢).

(٢) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٥ / ٢٦٩).

(٣) أخرجه الطبري (١٦ / ١٣٥) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٤١٥). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٥٥٠) وعزاه لابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه.

وهذا القول هو الذي اختاره الطبري ورجحه.

(٤) أخرجه الطبري (١٦ / ١٣٥) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٤١٥). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٥٥٠) وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم.

(٥) في الأصل : بلسا. والتصويب من (ب).

(٦) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ١٩٩) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٢٦٩).

وعكّ : بفتح أوله ، قبيلة يضاف إليها مخلاف اليمن (معجم البلدان ٤ / ١٤٢).

(٧) في الأصل : بالسرانية. والتصويب من (ب). وقول قتادة أخرجه الطبري (١٦ / ١٣٦). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٢٦٩).

(٨) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ١٩٩) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٢٦٩).

٤٧٣

تعالى لم يخاطب نبيه بلسان غير قريش.

وقال ابن أبي طلحة : هو قسم أقسم الله تعالى به ، وهو من أسمائه (١).

قال علي عليه‌السلام : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يراوح بين قدميه في الصلاة ، فنزلت هذه الآية (٢).

قال مقاتل بن حيان : المعنى : طإ الأرض بقدميك (٣).

وقال قوم : هما حرفان من اسمين.

قال ابن مسعود : الطاء من لطيف ، والهاء من هادي (٤). وقيل غير ذلك تركت ذكره [لبعده](٥) ؛ كقولهم : الطاء من طابة ، والهاء من مكة.

وقولهم : الطاء طرب أهل الجنة ، والهاء هوان أهل النار.

وقولهم : الطاء طبول الغزاة ، والهاء هيبتهم في قلوب الكفار.

وقولهم : الطاء طوبى ، والهاء هاوية. وأمثال ذلك من بدع التفاسير.

قال الزجاج (٦) : ومن قرأ" طه" بإسكان الهاء ففيها وجهان :

أحدهما : أن يكون أصله" طأ" بالهمزة ، فأبدلت منها الهاء ، كما قالوا في أرقت الماء وهرقت الماء. وجائز أن تكون من" وطي" على ترك الهمز ، فيكون أصله" ط" يا

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٦ / ١٣٦) من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٥٥١) ، وعزاه لابن المنذر وابن مسعود عن ابن عباس.

(٢) أخرجه البزار في مسنده (٣ / ١٣٦). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٥٤٩) وعزاه للبزار.

(٣) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٢٧٠).

(٤) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٢٦٩).

(٥) في الأصل : لعبده. والتصويب من ب.

(٦) معاني الزجاج (٣ / ٣٤٩ ـ ٣٥٠).

٤٧٤

رجل ، ثم ثبتت فيه الهاء للوقف فقال : طه (١).

قال المفسرون : قال النضر بن الحارث وأبو جهل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنك لتشقى بترك ديننا ، وذلك لما شاهدوا من شدة اجتهاده وطول عبادته ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (٢).

وقال مجاهد : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه يربطون الحبال في صدورهم في الصلاة بالليل ، ثم نسخ ذلك بالفرض ونزلت هذه الآية (٣).

والمعنى : ما أنزلنا عليك القرآن لتتعنّى وتتعب.

قال ابن السائب : فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد نزول هذه الآية ينام ويصلي (٤).

وقيل : المعنى : ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى بفرط تأسّفك عليهم ، فيكون كقوله : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) [الكهف : ٦].

قوله تعالى : (إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى) قال الأخفش (٥) : هو بدل من قوله : " لتشقى" (٦).

__________________

(١) أي : هي هاء السكت ؛ لأن الفعل بقي على حرف واحد.

(٢) ذكره الواحدي في أسباب النزول (ص : ٣١٢) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٢٦٩).

(٣) أخرجه الطبري (١٦ / ١٣٧) ، ومجاهد (ص : ٣٩٣). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٥٤٩) وعزاه لعبد بن حميد.

(٤) ذكره القرطبي (١١ / ١٦٧).

(٥) معاني القرآن للأخفش (ص : ٢٤٩).

(٦) وهذا رأي الزجاج وابن عطية أيضا.

واستبعده أبو جعفر النحاس فقال : وهذا وجه بعيد ، والقريب أنه منصوب على المصدر ، أو مفعول من أجله (إعراب القرآن للنحاس ٣ / ٣٢). ـ

٤٧٥

وقال المبرد (١) : المعنى : لكن أنزلناه تذكرة ، أي : عظة.

وقد أبطلوا قول الأخفش من حيث إن التذكرة ليست من الشّقوة في شيء ، ليست هي ولا بعضها ولا مشتملة عليها.

والمعنى : إلا تذكرة لمن يخشى الله ويخاف عقابه.

قوله تعالى : (تَنْزِيلاً) أي : أنزلناه تنزيلا.

وقيل : هو نصب على المدح والاختصاص. ويجوز أن يكون مفعول" يخشى" (٢).

وقرئ شاذا : [تنزيل](٣) بالرفع (٤) ، على معنى : هذا تنزيل.

(مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى) قال ابن عباس : أخبر بعظمته وجلاله (٥).

__________________

ـ وردّ هذا القول الفارسي (انظر رأيه في : البحر المحيط ٦ / ٢١٣).

وهو ردّ صحيح. وقد أوضح الزمخشري هذا فقال : فإن قلت : هل يجوز أن يكون" تذكرة" بدلا من محل" لتشقى"؟ قلت : لا ؛ لاختلاف الجنسين ، ولكنها نصب على الاستثناء المنقطع الذي" إلا" فيه ، بمعنى" لكن" (الكشاف ٣ / ٥٣).

قال أبو حيان في البحر (٦ / ٢١٣) : ويعني باختلاف الجنسين : أن نصب" تذكرة" نصبة صحيحة ليست بعارضة ، والنصبة التي تكون في" لتشقى" بعد نزع الخافض نصبة عارضة ، والذي يقول إنه ليس له محل البتة فيتوهم البدل منه.

(١) انظر قول المبرد في : الوسيط (٣ / ٢٠٠).

(٢) انظر : التبيان (٢ / ١١٨) ، والدر المصون (٥ / ٦).

(٣) في الأصل : تنزل. والتصويب من ب.

(٤) انظر : البحر المحيط (٦ / ٢١٣).

(٥) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٢٠٠).

٤٧٦

قال الزجاج (١) : العلى : جمع العليا ، يقال : سماء عليا ، وسماوات على ، مثل : الكبرى والكبر.

(الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) : سبق القول عليه في الأعراف (٢).

قوله تعالى : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) يعني : الهواء ، وهو الفضاء الخالي ، (وَما تَحْتَ الثَّرى) الثّرى في اللغة : التراب النّديّ (٣).

قال المفسرون : المعنى : وما تحت الأرض السابعة (٤).

قوله تعالى : (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ) أي : ترفع صوتك به ، (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) قال ابن عباس : يعلم السر الذي في نفسك ، وأخفى منه ما ستحدث به نفسك مما تعلم (٥) أنك تحدث به نفسك (٦).

وقال سعيد بن جبير : السّرّ : ما حدثت به نفسك ، وأخفى : ما لم تلفظ به (٧).

وقال مجاهد : السّرّ : العمل الذي يسرّه الإنسان من الناس ، وأخفى منه :

__________________

(١) معاني الزجاج (٣ / ٣٥٠).

(٢) آية رقم : ٥٤.

(٣) انظر : اللسان ، مادة : ثرا.

(٤) أخرجه الطبري (١٦ / ١٣٩) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٤١٦) كلاهما عن محمد بن كعب. وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٥٥٢) وعزاه لابن أبي حاتم عن محمد بن كعب.

(٥) في ب : مما لا تعلم.

(٦) أخرجه الطبري (١٦ / ١٣٩ ـ ١٤٠) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٤١٦). وذكره نحوه السيوطي في الدر (٥ / ٥٥٣) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات.

(٧) أخرجه الطبري (١٦ / ١٤٠). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٥٥٣) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.

٤٧٧

الوسوسة (١).

وقيل : السّرّ : ما أسرّه الإنسان إلى غيره ، وأخفى منه : ما أخفاه في نفسه.

وقيل : " أخفى" فعل ماض ، على معنى : يعلم أسرار العباد وأخفى عنهم سره.

وهذا المعنى قول زيد بن أسلم (٢).

ثم وحّد نفسه جلّت عظمته فقال : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ).

وقوله : (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) مفسر في أواخر الأعراف (٣).

(وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً)(١٠)

قوله تعالى : (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) قال ابن عباس : كان موسى عليه‌السلام رجلا غيورا ، لا يصحب الرفقة لئلا ترى امرأته ، فأخطأ الطريق في ليلة مظلمة (٤).

وقال وهب : استأذن موسى شعيبا في الرجوع إلى والدته ، فأذن له ، فخرج بأهله فولد له ابن في الطريق في ليلة شاتية مثلجة ، فحاد عن الطريق ، وقدح النار

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٦ / ١٣٩) ، ومجاهد (ص : ٣٩٣) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٤١٧). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٥٥٣) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) أخرجه أبو الشيخ في العظمة (٢ / ٥١٦). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٥٥٤) وعزاه لأبي الشيخ في العظمة.

(٣) عند الآية رقم : ١٨٠.

(٤) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٢٠١).

٤٧٨

فلم [تور](١) المقدحة (٢) شيئا ، فبينا هو في [مزاولة](٣) ذلك أبصر نارا من بعيد عن يسار الطريق (٤).

وها أنا أسوق حديثه على ما أخرجه الإمام أحمد في كتاب الزهد قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، حدثنا عبد الصمد بن معقل قال : سمعت وهب بن منبه قال : «لما رأى موسى عليه‌السلام النار انطلق يسير حتى وقف منها قريبا ، فإذا هو بنار عظيمة تفور من فرع (٥) شجرة خضراء شديدة الخضرة ، لا تزداد النار فيما يرى إلا عظما وتضرّما ، ولا تزداد الشجرة على شدة الحريق إلا خضرة وحسنا ، فوقف ينظر لا يدري على ما يضع أمرها ، إلا أنه قد ظن أنها شجرة تحترق ، أوقد إليها موقد فنالها فاحترقت ، وأنه إنما يمنع النار شدّة خضرتها ، وكثرة مائها ، وكثافة ورقها ، وعظم جذعها ، فوضع أمرها على هذا ، فوقف وهو يطمع أن يسقط منها شيء فيقتبسه ، فلما طال عليه ذلك أهوى إليها بضغث (٦) في يده وهو يريد أن يقتبس من لهبها ، فلما فعل ذلك موسى مالت نحوه كأنها تريده ، فاستأخر عنها وهاب ، ثم عاد فطاف بها ، فلم تزل تطمعه ويطمع فيها فلم يكن بأوشك من خمودها ، فاشتد عند ذلك عجبه ، وفكّر موسى في أمرها وقال : هي نار ممتنعة لا

__________________

(١) في الأصل : تر. والتصويب من ب.

(٢) المقدحة : الحديدة التي يقدح بها. وقيل : الحجر الذي يقدح به النار (اللسان ، مادة : قدح).

(٣) في الأصل : محاورة. والتصويب من ب ، وزاد المسير (٥ / ٢٧٢).

(٤) أخرج نحوه الطبري (١٦ / ١٤٢). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٢٧٢).

(٥) في ب : فروع.

(٦) الضّغث : الحزمة من الحطب (انظر : اللسان ، مادة : ضغث).

٤٧٩

يقتبس منها ولكنها [تتضرّم](١) في جوف شجرة فلا تحرقها ، ثم خمودها على قدر عظمها في أوشك من طرفة عين. فلما رأى ذلك موسى قال : إن لهذه النار لشأنا ، ثم وضع أمرها على أنها مأمورة أو مصنوعة لا يدري من أمرها ولا بما أمرت ، ولا من صنعها ولا لم صنعت ، فوقف متحيرا لا يدري أيرجع أم يقيم؟ فبينما هو على ذلك إذ رمى بطرفه نحو فرعها فإذا هو أشد ما كان خضرة ، وإذا الخضرة ساطعة في السماء ، ثم لم تزل الخضرة تنوّر وتسفر وتبياضّ حتى صارت نورا ساطعا عمودا ما بين السماء والأرض ، عليه مثل شعاع الشمس تكلّ (٢) دونه الأبصار ، فكلما (٣) نظر إليه يكاد يخطف بصره ، فعند ذلك اشتدّ خوفه ، فردّ يده على عينه ولصق بالأرض وسمع الحسّ والوجس ، إلا أنه [يسمع](٤) حينئذ شيئا لم يسمع السامعون بمثله عظما ، فلما بلغ موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكرب واشتدّ عليه الهول ، وكاد يخالط في عقله من شدة الخوف لما يسمع ويرى ، نودي من الشجرة فقيل : يا موسى! فأجاب سريعا وما يدري من دعاه ، وما كانت سرعة إجابته إلا استئناسا بالأنس ، فقال : لبيك" مرارا" ، أسمع صوتك ، وأحسّ وجسك (٥) ، ولا أرى مكانك ، فأين أنت؟ فقال (٦) : أنا فوقك ومعك وأمامك وأقرب إليك منك ، فلما سمع هذا موسى علم أنه [لا](٧)

__________________

(١) في الأصل : تضرم. والتصويب من ب ، ومن الزهد (ص : ٨٠).

(٢) تكلّ : أي : تتعب وتعيا ، يقال : كلّ الرجل : إذا تعب (انظر : اللسان ، مادة : كلل).

(٣) في ب : كلما.

(٤) زيادة من ب ، ومن الزهد (ص : ٨٠).

(٥) الوجس : الصوت الخفي (اللسان ، مادة : وجس).

(٦) في ب : قال.

(٧) في الأصل : ما. والتصويب من ب ، ومن الزهد (ص : ٨٠).

٤٨٠