رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٤

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٤

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٩

وصب الشيء يصب وصوبا فهو واصب ؛ إذا دام (١).

قال أبو الأسود الدؤلي :

لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه

يوما بذمّ الدهر أجمع واصبا (٢)

قال ابن قتيبة (٣) : فالمعنى : ليس من أحد يدان له ويطاع إلا انقطع ذلك عنه بزوال أو هلكة ، غير الله تعالى ، فإن الطاعة تدوم له.

وقال الزجاج (٤) : «واصبا» دائما ، أي : طاعته واجبة أبدا.

ويجوز ـ والله تعالى أعلم ـ أن يكون «وله الدين واصبا» : أي : له الدين والطاعة ، رضي العبد بما يؤمر به أو لم يرض ، وسهل ذلك عليه أو لم يسهل ، فله الدين وإن كان فيه الوصب ، والوصب شدّة التعب.

وقال ابن الأنباري وغيره (٥) : ويجوز أن يكون «واصبا» موصبا : متعبا ؛ لأن الحق ثقيل ، كما تقول العرب : همّ ناصب ، أي : منصوب ، وأنشدوا :

كليني لهمّ يا أميمة ناصب

 ...................

وقد سبق ذكر البيت (٦).

__________________

(١) انظر : اللسان ، (مادة : وصب).

(٢) البيت لأبي الأسود الدؤلي ، وهو واضع علم النحو. وانظر البيت في : مجاز القرآن (١ / ٣٦) ، والطبري (١٤ / ١١٨ ، ٢٣ / ٤٠) ، والبحر (٥ / ٤٨٣) ، والدر المصون (٤ / ٣٣٤) ، وروح المعاني (١٤ / ١٦٤).

(٣) تفسير غريب القرآن (ص : ٢٤٣).

(٤) معاني الزجاج (٣ / ٢٠٣).

(٥) انظر : زاد المسير (٤ / ٤٥٦).

(٦) (٣ / ٥٩٨).

٤١

قوله تعالى : (أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ) قال الزجاج (١) : أفغير الله الذي أبان لكم أنه واحد ، وأنه خالق كل شيء ، وأنّ ما بكم من نعمة فمن عنده ، وأنه لو أراد هلاككم حين كفرتم وأن لا ينظركم إلى التوبة لفعل.

قوله تعالى : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) دخلت الباء هاهنا بتقدير الفعل ، المعنى : وما حلّ بكم من نعمة ؛ [من](٢) صحة في جسم ، أو سعة في رزق ، أو متاع من مال أو ولد ، فمن الله.

وقرأ ابن أبي عبلة : «فمنّ الله» بفتح الميم وتشديد النون وضمها (٣).

(ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ) في أبدانكم وأولادكم (فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) ترفعون أصواتكم بالاستغاثة والدعاء.

قال الزجاج (٤) : يقال : جأر يجأر جؤارا ، والأصوات مبنية على فعال وفعيل. فأما فعال ؛ فنحو : الصّراخ والجؤار والبكاء. وأما الفعيل ؛ فنحو : العويل والزئير ، والفعال أكثر.

(ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ) وهم الكفار والمنافقون (بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ).

(لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) أي : أعطيناهم من نعمة كشف الضر عنهم. واللام في «ليكفروا» هي لام العاقبة ، ويجوز أن تكون لام الأمر في معنى التهديد ؛ كقوله :

__________________

(١) معاني الزجاج (٣ / ٢٠٣).

(٢) زيادة من معاني الزجاج ، الموضع السابق.

(٣) زاد المسير (٤ / ٤٥٦).

(٤) معاني الزجاج (٣ / ٢٠٤).

٤٢

(اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠].

قوله تعالى : (فَتَمَتَّعُوا) أي : انتفعوا بدنياكم هذه الفانية (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) عاقبة ما تعملون.

(وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(٦٠)

قوله تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ) جائز أن يكون الضمير في «يعلمون» لهم (١) ، وجائز أن يكون للأصنام. فإن كان الأول ؛ فالمعنى : أنهم جعلوا للأوثان نصيبا من الحرث والأنعام تقربا إليهم ، و «هم» أعني : الكفار لا يعلمون للأوثان ضرا ولا نفعا ؛ لأنها جماد لا تعقل ، فضلا عن أن تضرّ وتنفع ، ومفعول العلم محذوف ، وهو ما ذكرناه. وهذا قول مجاهد وقتادة (٢).

أو يكون التقدير : ويجعلون لما لا يعلمونه إلها ، فحذف المفعولين.

وإن كان الثاني ؛ فالمعنى : فيجعلون للأوثان نصيبا وهم لا يعلمون شيئا ولا

__________________

(١) أي : للكفار.

(٢) أخرج نحوه الطبري (١٤ / ١٢٢) عن مجاهد. وانظر : الوسيط (٣ / ٦٦ ـ ٦٧) ، وزاد المسير (٤ / ٤٥٨). وذكر نحوه السيوطي في الدر (٥ / ١٣٨) وعزاه لابن جرير عن مجاهد.

٤٣

يعرفون من يتقرّب إليهم.

(تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) تكذبون على الله في قولكم أنه أمركم بذلك.

(وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ) وهم خزاعة وكنانة ، كانوا يقولون : الملائكة بنات الله. ثم نزّه نفسه فقال : (سُبْحانَهُ).

قوله : (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) يعني : البنين ، وهذا كقوله : (أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) [الطور : ٣٩].

فإن قيل : ما موضع «ما» في قوله : «ما يشتهون» من الإعراب؟

قلت : النصب عطفا على «البنات» ، على معنى : ويجعلون لهم ما يشتهون ، و «سبحانه» اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه.

وقال الزجاج (١) : «ما» في موضع رفع لا غير. والمعنى : سبحانه ولهم الشيء الذي يشتهون.

قوله تعالى : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى) قد ذكرنا البشارة في أوائل البقرة. والمعنى : إذا بشر أحدهم بالأنثى أنها قد ولدت له (ظَلَّ وَجْهُهُ) أي : صار وجهه (مُسْوَدًّا) ، وهذا الموضع أحد المواضع السبعة التي جاءت في القرآن في هذا الباب ، وقد ذكرتها في قصيدتي المسماة : «درّة القاري» أفرق فيها بين الضاد والظاء فقلت فيها مما يختص بهذا الموضع :

__________________

(١) معاني الزجاج (٣ / ٢٠٦).

٤٤

ثم الضّلال وفيه الأمر مشتبه

فافقه تفاصيل تدع بالفطن

بالضاد تقرأ إلا تسعة قرأت

بالظاء إجماع أهل العلم واللّسن

من السماء فظلّوا الحجر أولها

ووجهه ظلّ مسودا من السّجن

لسوء ما حكموا تتلى مذمّتهم

في النحل والزخرف احذر كل مفتتن

طه الذي ظلّت بعد العنكبوت

لظلّوا من وفي الشّعرا حرفان يا سكني

إذا تلوت فظلّت بعدها فنظلّ أعرف

فليظللن في الشورى اهتد استبن

قبل الحديد فظلتم وهو آخرها

اقتله علما فليت الجهل لم يكن

والمعنى : تغيّر وجهه تغيّر مغتم.

قال الزجاج وغيره (١) : العرب تقول لمن لقي مكروها : قد اسودّ وجهه غما وحزنا ، ومنه : سوّدت وجه فلان ؛ إذا سؤته.

(وَهُوَ كَظِيمٌ) ممتلئ غيظا.

قال قتادة : هذا صنيع مشركي العرب ، أخبر الله خبث صنيعهم. فأما المؤمن فهو حقيق أن يرضى بما قسم الله تعالى له ، وقضاء الله للمرء خير من قضاء المرء لنفسه ، وما قضي لك يا ابن آدم فيما تكره خير مما قضى لك مما تحب ، فاتق الله وارض بقضائه ، فإنه ربّ جارية خير لأهلها من غلام ، وربّ غلام لا يأتي أهله بخير (٢).

__________________

(١) معاني الزجاج (٣ / ٢٠٦).

(٢) أخرجه الطبري (١٤ / ١٢٣) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٢٨٦). وانظر : الوسيط (٣ / ٦٧) ، وزاد المسير (٤ / ٤٥٨). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ١٣٩) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

٤٥

قوله تعالى : (يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ) أي : يتخفّى أياما يدبر كيف يصنع في أمرها ، هل يقتلها أم لا؟ وهو قوله : (أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ) أي : أيمسك ما بشر به على هون ، أي : هوان ، وكذا قرأ ابن مسعود (١) ، (أَمْ يَدُسُّهُ) يخفيه (فِي التُّرابِ) بالوأد خوفا من الفضيحة والعار ، وحذارا من الفقر عليها ، فيطمع فيها غير الأكفاء.

وكان صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم جد الفرزدق بن غالب بن صعصعة بن ناجية الشاعر إذا أحسّ بشيء من ذلك ، وجّه إلى والد البنت إبلا ليستبقيها ، فقال الفرزدق يفتخر :

ومنّا الذي منع الوائدات

فأحيا الوئيد فلم يوأد (٢)

ويروى : وجدّي الذي منع الوائدات.

وقال الثعلبي (٣) : صعصعة عم الفرزدق ، وهو شيء قد قيل ، لكنه وهم عندهم.

وقال الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي رضي الله عنه حين استشهد ببيت الفرزدق في سورة التكوير (٤) : يعني : صعصعة [بن](٥) صوحان ، وهو جدّ الفرزدق.

وهذا وهم ؛ لأن صعصعة بن صوحان من عبد القيس ، والأمر كما حققته

__________________

(١) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٤ / ٤٥٨ ـ ٤٥٩).

(٢) البيت للفرزدق ، انظر : اللسان (مادة : وأد) ، والقرطبي (١٠ / ١١٧ ، ١٩ / ٢٣٣) ، والبغوي (٣ / ٧٣) ، وزاد المسير (٩ / ٤٠) ، وروح المعاني (٣٠ / ٥٣).

(٣) تفسير الثعلبي (٦ / ٢٣).

(٤) زاد المسير (٩ / ٤٠).

(٥) زيادة من زاد المسير ، الموضع السابق.

٤٦

لك ، فتعرف ذلك.

(أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي : بئس ما يقضون من جعلهم لله الولد الذي يكرهونه لأنفسهم ـ وهو عندهم في هذا المحل ـ ، وجعلهم البنين لأنفسهم ، ونظيره : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) [النجم : ٢١ ـ ٢٢].

قوله تعالى : (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ) أي : صفة السوء من احتياجهم إلى الولد الذكور وكراهيتهم للإناث ، وقتلهم إياهم خشية الفاقة والعار ، وإقرارهم على أنفسهم بالشّحّ الهالع.

(وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) الصفة العليا من تنزهه عن الولد وسائر ما لا يليق بجلاله ، (وَهُوَ الْعَزِيزُ) فلا يحتاج إلى ولد ينصره (الْحَكِيمُ) فيما يقتضيه ويدبره.

(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ)(٦٢)

قوله تعالى : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ) أي : بشركهم ومعاصيهم وافترائهم عليه (ما تَرَكَ عَلَيْها) أي : على الأرض (مِنْ دَابَّةٍ) قال قتادة : وقد فعل ذلك في زمن نوح عليه‌السلام (١).

__________________

(١) زاد المسير (٤ / ٤٥٩). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ١٤٠) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.

٤٧

وقال ابن مسعود رضي الله عنه وقد قرأ هذه الآية : كاد أن يهلك الجعل (١) في حجره بذنب ابن آدم (٢).

وسمع أبو هريرة رجلا يقول : إن الظالم لا يضرّ إلا نفسه ، فقال : بلى والله حتى إن الحبارى (٣) لتموت في وكرها بظلم الظالم (٤).

قال السدي : لأقحط المطر فلم تبق دابة إلا هلكت (٥).

وقيل : المعنى : ما ترك عليها من دابة ظالمة.

قال ابن عباس : ما ترك عليها من مشرك يدبّ عليها.

وباقي الآية سبق تفسيره.

قوله تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) أي : ما يكرهونه لأنفسهم من البنات والشركة في الرئاسة والعظمة ، ويجعلون له أرذل أموالهم.

وهذه الآية تنعي على ذي الثّروة سوء فعلهم ، من إهداء نفائس أموالهم

__________________

(١) الجعل : دابة سوداء من دواب الأرض ، وجمعه : جعلان ، وقيل : هو أبو جعران (اللسان ، مادة : جعل).

(٢) أخرجه ابن أبي شيبة (٧ / ١٠٨) ، والبيهقي في الشعب (٦ / ٥٤) ، والطبري (١٤ / ١٢٦) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٢٨٧). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ١٤٠) وعزاه لابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب.

(٣) الحبارى : طائر ، وهو ذكر الخرب (اللسان ، مادة : حبر).

(٤) أخرجه البيهقي في الشعب (٦ / ٥٤) ، والطبري (١٤ / ١٢٦). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ١٤٠) وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن جرير والبيهقي في الشعب.

(٥) أخرجه ابن أبي حاتم (٧ / ٢٢٨٧). وانظر : الوسيط (٣ / ٦٨). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ١٤٠) وعزاه لابن أبي حاتم.

٤٨

وأطايب طعامهم إلى أمرائهم وكبرائهم دون مساكينهم وفقرائهم.

قال بعضهم : كيف بك يوم القيامة إذا نودي : هاتوا ما دفع إلى السلاطين وأعوانهم ، فيؤتى فيه بالدواب والثياب وأنواع المال الفاخرة ، وإذا نودي هاتوا ما دفع إليّ ، فيؤتى بالكسر والخرق وما لا يؤبه له ، أما تستحي من ذلك؟.

قوله تعالى : (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) أي : تقول الكذب. وقرأ معاذ : «الكذب» بضم الكاف والذال والباء ، على نعت الألسنة (١).

قال ابن جني (٢) : هو جمع كاذب أو كذوب. ومفعول «تصف» : «أن لهم الحسنى» وعلى قراءة الجماعة : «الكذب» مفعول «تصف» ، و «أن لهم الحسنى» بدل من «الكذب» ؛ لأنه في المعنى كذب.

قال مجاهد : «أن لهم الحسنى» هو قول قريش : لنا البنون (٣).

وقال غيره : الجنة.

وقال الزجاج (٤) : يصفون أن لهم ـ مع قبيح فعلهم ـ من الله الجزاء الحسن.

وقوله : (لا) رد لقولهم وتكذيب لهم ، أي : ليس ذلك كما وصفوا ، (جَرَمَ) أي : كسب فعلهم (أَنَّ لَهُمُ النَّارَ) والمفسرون يقولون : حقا أن لهم النار.

(وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) أي : معجلون إلى النار ، من قولهم : أفرط القوم الفارط ، إذا

__________________

(١) زاد المسير (٤ / ٤٦٠).

(٢) المحتسب (٢ / ١١).

(٣) أخرجه الطبري (١٤ / ١٢٧) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٢٨٧) ، ومجاهد (ص : ٣٤٨). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ١٤١) وعزاه لابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٤) معاني الزجاج (٣ / ٢٠٧).

٤٩

قدموه إلى الماء ليصلح لهم شأنهم (١). وهذا قول قتادة (٢) والزجاج (٣).

وقرأ نافع : «مفرطون» بكسر الراء (٤) ، بمعنى : مفرطون في الافتراء على الله وفي معاصيه ، ومثله أبو جعفر ، إلا أنه شدد الراء من التفريط ، بمعنى : مفرّطون في أمر الله مضيّعون حقوقه.

(تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(٦٤)

قوله تعالى : (تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) أي : أرسلنا إليهم رسلا كما أرسلناك إلى هذه الأمة ، (فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) الخبيثة (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ) يعني : في الدنيا ، وجعل اليوم عبارة عن زمان الدنيا. والمعنى : فهو وليهم وناصرهم في الدنيا ، (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة.

وقيل : فهو وليهم يوم القيامة ، فيكون حكاية عن الحال الآتية ، ويكون الواو في : «ولهم عذاب» واو الحال ، على معنى : فهو وليهم حال كونهم معذبين في النار.

قوله تعالى : (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) من

__________________

(١) انظر : اللسان (مادة : فرط).

(٢) أخرجه الطبري (١٤ / ١٢٨ ـ ١٢٩). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ١٤١) وعزاه لعبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر.

(٣) معاني الزجاج (٣ / ٢٠٧ ـ ٢٠٨).

(٤) الحجة للفارسي (٣ / ٤١) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٣٩١) ، والكشف (٢ / ٣٨) ، والنشر (٢ / ٣٠٤) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٧٩) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣٧٤).

٥٠

الدين والأحكام والبعث والجزاء ، (وَهُدىً وَرَحْمَةً) معطوف «أن» على محل «لتبين» التقدير : إلا بيانا وهدى ورحمة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

(وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(٦٧)

وما بعده ظاهر مفسّر إلى قوله : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) لدلالة موصلة إلى العلم بعظمة الله وقدرته ووحدانيته.

ثم بيّنها فقال : (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) قرأ نافع وابن عامر وأبو بكر : «نسقيكم» بفتح النون (١) ، وضمها الباقون هنا وفي المؤمنين (٢) ، وقد ذكرناه في الحجر (٣) ، وإنما ذكّر فقال : (فِي بُطُونِهِ) لأن الأنعام من الأسماء المفردة. هكذا ذكره سيبويه في باب ما لا ينصرف (٤).

__________________

(١) الحجة للفارسي (٣ / ٤٢) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٣٩١) ، والكشف (٢ / ٣٨ ـ ٣٩) ، والنشر (٢ / ٣٠٤) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٧٩) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣٧٤).

(٢) آية رقم : ٢١.

(٣) آية رقم : ٢٢.

(٤) انظر : الكتاب (٣ / ٢٣٠).

٥١

وقال الزجاج (١) : الأنعام لفظ [جمع](٢) اسم للجنس ، يذكر ويؤنث ، يقال : هي أنعام وهو الأنعام.

وقال الفراء (٣) : النّعم والأنعام شيء واحد ، فرجع التذكير إلى النّعم إذ كان يؤدي عن معنى الأنعام ، أنشدني بعضهم :

 ...........

وطاب ألبان اللّقاح (٤) وبرد (٥)

فرجع إلى اللبن ؛ لأن اللبن والألبان في معنى واحد.

قال (٦) : وقال الكسائي : أراد : نسقيكم مما في بطون ما ذكرنا ، وهو صواب ، أنشدني بعضهم :

مثل الفراخ نتفت (٧) حواصله (٨)

__________________

(١) معاني الزجاج (٣ / ٢٠٩).

(٢) في الأصل : جميع. والتصويب من الزجاج ، الموضع السابق.

(٣) معاني الفراء (٢ / ١٠٨ ـ ١٠٩).

(٤) اللقاح : النوق إلى أن يفصل عنها ولدها (انظر : اللسان ، مادة : لقح).

(٥) عجز بيت ، وصدره :

بال سهيل في الفضيخ ففسد

 ...................

انظر : اللسان مادة : (خرت ، كتد) ، والدر المصون (٤ / ٣٤٣) ، والطبري (١٤ / ١٣١) ، والفراء (١ / ١٢٩).

(٦) أي : الفراء.

(٧) في معاني الفراء (١ / ١٣٠ ، ٢ / ١٠٩) : نتقت ، أي : سمنت.

(٨) من الرجز ، انظر : اللسان ، مادة (نعم ، خلف) ، والدر المصون (٤ / ٣٤٣) ، والبحر (٥ / ٤٩٢) وفيه «نبقت» بدل «نتفت» ، والطبري (١٤ / ١٣٢) ، والقرطبي (١٠ / ١٢٤) ، وزاد المسير (٤ / ٤٦٣) ، وروح المعاني (١٤ / ١٧٧ ، ٢٠ / ١١١).

٥٢

وقال المبرد (١) : هذا فاش في القرآن ، مثل قوله للشمس : (هذا رَبِّي) [الأنعام : ٧٨] بمعنى : هذا الشيء الطالع ، وكذلك (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ) [النمل : ٣٥] ثم قال : (فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ) [النمل : ٣٦] ولم يقل : جاءت ؛ لأن المعنى : [جاء](٢) الشيء الذي ذكرناه.

وقال أبو عبيدة (٣) : الهاء في «بطونه» للبعض.

المعنى : نسقيكم مما في بطون البعض الذي له لبن ؛ لأنه ليس لكل الأنعام لبن.

قوله تعالى : (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ) قال ابن عباس : إذا استقر العلف في الكرش طحنه فصار أسفله فرثا ، وأعلاه دما ، وأوسطه لبنا ، والكبد مسلّطة على هذه الأصناف الثلاثة ، فيجري الدم في العروق ، واللبن في الضرع ، ويبقى الفرث (٤) في الكرش (٥).

و «من» في قوله : «مما في بطونه» للتبعيض ، وفي قوله : «من بين فرث ودم» لابتداء الغاية.

(لَبَناً) أي : نسقيكم لبنا ، (خالِصاً) لا يشوبه الدم ولا الفرث ، سليما من رائحتهما وطعمهما ولونهما ، مع اشتراك الأصناف الثلاثة في العنصر والمستقر.

(سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) سلسا سهلا في حلوقهم ، مستطابا عندهم ، لا تعافه

__________________

(١) انظر قول المبرد في : الوسيط (٣ / ٧٠) ، وزاد المسير (٤ / ٤٦٣).

(٢) زيادة من المراجع السابقة.

(٣) مجاز القرآن (١ / ٣٦٢).

(٤) الفرث : بقايا الطعام في الكرش (المعجم الوسيط ص : ٦٧٨).

(٥) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٧٠) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٤ / ٤٦٤).

٥٣

نفوسهم ، مع اقترانه بما ينفرون منه طبعا وشرعا ، ما ذاك إلا بقدرة قادر عظيم وفعل حكيم.

قال الزمخشري (١) : قوله : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ) متعلق بمحذوف ، تقديره : ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب ، أي : من عصيرها ، وحذف لدلالة «نسقيكم» قبله عليه.

وقوله : (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً) بيان وكشف عن كنه الإسقاء ، أو تعلق ب «تتخذون». ويجوز أن يكون «تتخذون» صفة موصوف محذوف ، تقديره : ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا ؛ لأنهم يأكلون بعضها ويتخذون من بعضها السكر.

وفي السّكر أربعة أقوال :

أحدها : أنه الخمر. [قاله](٢) ابن مسعود وابن عباس وابن عمر والحسن ومجاهد وأكثر المفسرين ، وهؤلاء يقولون : كان نزول هذه الآية قبل تحريم الخمر (٣).

الثاني : أنه الخلّ بلغة الحبشة. رواه العوفي عن ابن عباس (٤).

__________________

(١) الكشاف (٢ / ٥٧٥).

(٢) في الأصل : قال. والتصويب من زاد المسير (٤ / ٤٦٤).

(٣) أخرجه الطبري (١٤ / ١٣٦) ، ومجاهد (ص : ٣٤٨). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٤ / ٤٦٤) ، والسيوطي في الدر (٥ / ١٤٢ ـ ١٤٣) وعزاه لابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس ، ومن طريق آخر عن ابن مسعود ، وعزاه للفريابي وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر ، ومن طريق آخر عن الحسن وعزاه لابن جرير وابن المنذر.

(٤) الطبري (١٤ / ١٣٦) ، وزاد المسير (٤ / ٤٦٤) ، والدر المنثور (٥ / ١٤٢).

٥٤

الثالث : أنه الطّعم (١) ، يقال : هذا سكر لك ، أي : طعم لك. قاله أبو عبيدة (٢) ، [وأنشدوا](٣) :

جعلت أعراض الكرام سكرا (٤)

يريد : تنقّلت بأعراضهم وجعلتها طعما لك.

الرابع : أنه العصير إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه ، ثم يترك حتى يشتد. قاله الضحاك والشعبي (٥) ، وهو النبيذ ، الذي صار أبو حنيفة إلى القول بحلّه ما لم يسكر منه.

وله رحمه‌الله أحاديث وآثار ، لكنها لا تترقى في الصحة إلى أحاديثنا وآثارنا ، ولو شرعت في إقامة الحجة على ذلك وذكر الأدلة من الجانبين لطال الفصل.

ويكفي في الاعتبار على صحة ما صار إليه إمامنا وأكثر الفقهاء ؛ ما أخرج رضي الله عنه في مسنده وأخرجه الشيخان في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كل شراب أسكر فهو حرام» (٦).

__________________

(١) وهو اختيار الطبري.

(٢) مجاز القرآن (١ / ٣٦٣).

(٣) في الأصل : وأنشد وجعلت ... ، والتصويب من زاد المسير (٤ / ٤٦٤).

(٤) من الرجز ، لم أعرف قائله. انظر : اللسان (مادة : سكر) ، والكشاف (٢ / ٥٧٦) ، والدر المصون (٤ / ٣٤٥) ، والبحر المحيط (٥ / ٤٩٥) ، وروح المعاني (١٤ / ١٨٠).

وروي الرجز : جعلت عيب الأكرمين سكرا. انظر : الطبري (١٤ / ١٣٨) ، والقرطبي (١٠ / ١٢٩) ، وزاد المسير (٤ / ٤٦٤).

(٥) أخرج نحوه الطبري (١٤ / ١٣٧). وانظر : البغوي (٣ / ٧٥).

(٦) أخرجه البخاري (١ / ٩٥ ح ٢٣٩) ، ومسلم (٣ / ١٥٨٥ ح ٢٠٠١) ، وأحمد (٦ / ٩٦ ح ٢٤٦٩٦).

٥٥

وأخرج الإمام أيضا من حديث سالم بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل مسكر خمر وما أسكر كثيره فقليله حرام» (١).

وأما الرزق الحسن : فهو الخلّ والرّبّ (٢) والزّبيب والتمر وغير ذلك.

ويجوز أن يكونا وصفي موصوف واحد ، المعنى : تتخذون منه ما يسمى سكرا ورزقا حسنا.

(وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(٦٩)

قوله تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) قال ابن عباس ومجاهد والأكثرون : ألهمها وقذف في أنفسها (٣).

وقال مجاهد في رواية : أرسل إليها (٤).

(أَنِ اتَّخِذِي) هي المفسرة ؛ لأن في الإيحاء معنى القول ، (مِنَ الْجِبالِ) أي : اتخذي بعض الجبال (بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) أي : مما يرفع بنو آدم من

__________________

(١) أخرجه أحمد (٢ / ٩١ ح ٥٦٤٨).

(٢) الرّبّ : دبس كل ثمرة ، وهو سلافة خثارتها بعد الاعتصار والطبخ (اللسان ، مادة : ربب).

(٣) أخرجه الطبري (١٤ / ١٣٩) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٢٨٩). وانظر : الوسيط (٣ / ٧١) ، وزاد المسير (٤ / ٤٦٥). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ١٤٣) وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن عباس ، ومن طريق آخر عن مجاهد وعزاه لابن جرير وابن المنذر.

(٤) زاد المسير (٤ / ٤٦٥).

٥٦

الأبنية والكروم وغيرها.

وقيل : المراد : ما يبنون لها من الأماكن.

(ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) قال ابن قتيبة (١) : أي : من الثمرات. و «كلّ» هاهنا ليست على العموم ، ومثله : (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ) [الأحقاف : ٢٥].

وقال الزمخشري (٢) : هذا إحاطة بالثمرات التي تجرسها (٣) النحل وتعتاد أكلها ، أي : كلي كل ثمرة تشتهينها.

قوله تعالى : (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ) وهي الطرق التي تسلكها طلبا للرعي. هذا قول ابن عباس وجمهور المفسرين (٤).

وقال صاحب الكشاف (٥) : المعنى : فإذا أكلتها فاسلكي سبل ربك ، أي : الطرق [التي](٦) ألهمك وأفهمك في عمل العسل. أو فاسلكي ما أكلت في سبل ربك ، في مسالكه التي يحيل فيها النّور (٧) المرّ عسلا من أجوافك ومنافذ مآكلك. أو إذا أكلت الثمار في المواضع البعيدة من بيوتك ، فاسلكي إلى بيوتك راجعة سبل ربك ، لا تتوعّر عليك ولا تضلّين فيها.

__________________

(١) تفسير غريب القرآن (ص : ٢٤٦).

(٢) الكشاف (٢ / ٥٧٧).

(٣) الجرس : الأكل (اللسان ، مادة : جرس).

(٤) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٧١).

(٥) الكشاف (٢ / ٥٧٧).

(٦) في الأصل : الذي. والتصويب من الكشاف ، الموضع السابق.

(٧) النّور : الزّهر (اللسان ، مادة : نور).

٥٧

والذي حمله (١) على هذه التأويلات وصدّه عما عليه جمهور المفسرين ؛ ما يقتضيه قوله : «فاسلكي» من الترتيب.

والذّلل : جمع ذلول ، ونصبه على الحال ، إما من المفعول ، وهو السبل (٢) ، على معنى : اسلكيها مذللة لا تتوعر عليك. وهذا قول مجاهد (٣) واختيار الزجاج (٤).

أو حال من الفاعل ، وهو الضمير في «فاسلكي» (٥) ، أي : اسلكي وأنت مذلّلة منقادة لما أمرت به. وهو قول قتادة (٦) واختيار ابن قتيبة (٧). فسبحان من ألهمها تلك الصنعة العجيبة [المنتظمة](٨) على قانون بديع من الحكمة ، يعجز ذو والأفهام الثاقبة والبصائر النافذة عن تصوير شكله وتقدير مثله ، وسخّرها حيث استوطنت لمصالح بني آدم مضايق البناء مع اقتدارها على ملازمة فسيح الفضاء ، ما ذاك إلا لتستدلوا يا ذوي العقول بما تشاهدون بأبصاركم ، وتعلمون ببصائركم على وحدانية الله وقدرته وعظمته وحكمته ، وتشكروا ما أفاض عليكم من سوابغ

__________________

(١) أي : الزمخشري صاحب الكشاف.

(٢) التبيان (٢ / ٨٣) ، والدر المصون (٤ / ٣٤٦).

(٣) أخرجه الطبري (١٤ / ١٤٠) ، ومجاهد (ص : ٣٤٩) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٢٩٠). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ١٤٤) وعزاه لابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٤) معاني الزجاج (٣ / ٢١٠).

(٥) التبيان (٢ / ٨٣) ، والدر المصون (٤ / ٣٤٦).

(٦) أخرجه الطبري (١٤ / ١٤٠). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ١٤٤) وعزاه لعبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر.

(٧) تفسير غريب القرآن (ص : ٢٤٦).

(٨) في الأصل : المنتضمة.

٥٨

منّته ، سبحانك اللهم وبحمدك.

لقد وضح الطريق إليك قصدا

فما خلق أرادك يستدل

قوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ) وهو العسل (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) قال ابن عباس : منه أبيض وأحمر وأصفر (١).

قال الزجاج (٢) : هي تأكل الحامض والمرّ وما لا يوصف طعمه ، فيحيل الله تعالى من ذلك عسلا يخرج من بطونها ، إلا أنها تلقيه من أفواهها كالريق [الدائم](٣) الذي يخرج من فم ابن آدم.

قوله تعالى : (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) قال مجاهد : أي في القرآن (٤).

وقال الضحاك : المعنى : في الاعتبار شفاء ، أي : هدى للناس (٥).

والذي عليه الجمهور من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من العلماء : أن الضمير في «فيه» يعود إلى الشراب الذي هو العسل ، وهو الصواب والأشبه بظاهر السنة والكتاب.

قال ابن مسعود : في العسل شفاء من [كل](٦) داء (٧).

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٧٢) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٤ / ٤٦٦).

(٢) معاني الزجاج (٣ / ٢١٠).

(٣) زيادة من معاني الزجاج (٣ / ٢١٠).

(٤) أخرجه الطبري (١٤ / ١٤٠) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٢٩٠). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ١٤٤) وعزاه لابن جرير وابن أبي شيبة وابن أبي حاتم.

(٥) زاد المسير (٤ / ٤٦٧).

(٦) زيادة من المصادر التالية.

(٧) أخرجه الطبري (١٤ / ١٤١). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٤ / ٤٦٦) ، والسيوطي في الدر ـ

٥٩

وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري قال : «جاء رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن أخي استطلق بطنه (١) فقال : اسقه عسلا ، فسقاه ، ثم أتى فقال : قد سقيته ، فلم يزده إلا استطلاقا ، قال : اسقه عسلا ، إلى أن قال : فشفي إما في الثالثة وإما في الرابعة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : صدق الله وكذب بطن أخيك» (٢).

يشير عليه‌السلام إلى هذه الآية. وبعضهم يقول بعموم الآية في كل داء.

والصحيح : أنه محمول على الغالب ، فإنه قلّ معجون من المعاجين إلا يذكر الأطباء فيه العسل.

قال الزمخشري (٣) : ومن بدع تأويلات الرافضة : أن المراد بالنحل علي وقومه.

وعن بعضهم ، أنه قال عند المهدي : إنما النحل بنو هاشم ، يخرج من بطونهم العلم ، فقال له رجل : جعل الله طعامك وشرابك ما يخرج من بطونهم ، فضحك المهدي وحدّث به المنصور ، فاتخذوه أضحوكة من أضاحيكهم.

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ)(٧٠)

(وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) وهو أردؤه ، وأوضعه. قال علي عليه‌السلام : خمس وسبعون سنة (٤).

__________________

ـ (٥ / ١٤٤) وعزاه لابن أبي شيبة وابن جرير.

(١) استطلق بطنه : أي كثر خروج ما فيه. يريد الإسهال (اللسان ، مادة : طلق).

(٢) أخرجه البخاري (٥ / ٢١٦١ ح ٥٣٨٦) ، ومسلم (٤ / ١٧٣٦ ح ٢٢١٧).

(٣) الكشاف (٢ / ٥٧٨).

(٤) أخرجه الطبري (١٤ / ١٤٢). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ١٤٦) وعزاه للطبري.

٦٠