رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٤

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٤

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٩

قال زهير بن محمد : ليس في الجنة ليل ولا نهار ، وهم في نور أبدا ، ولهم مقدار الليل والنهار ، يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب ، [ومقدار](١) النهار برفع الحجب وفتح الأبواب (٢).

وقيل : أراد دوام الرزق ودروره ، كما تقول : أنا عند فلان صباحا ومساء وبكرة وعشيا ، يريد : الدّيمومة ، ولا يقصد الوقتين المعلومين.

(تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا) وذلك أن الله يورث عباده المؤمنين من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار لو آمنوا.

وقد ذكرنا معنى الميراث في سورة الأعراف (٣).

والمعنى : نورث في الجنة (مَنْ كانَ تَقِيًّا) في الدنيا.

(وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا)(٦٥)

قوله تعالى : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) أخبرنا المؤيد بن محمد في كتابه ، أخبرنا عبد الجبار بن محمد بن أحمد ، أخبرنا علي بن أحمد النيسابوري ، أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم الواعظ ، أخبرنا محمد بن علي القفال ، أخبرنا إسحاق بن محمد بن إسحاق

__________________

(١) في الأصل : مقدار. والمثبت من ب.

(٢) أخرجه الطبري (١٦ / ١٠٢) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٤١٣). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٥٢٨ ـ ٥٢٩) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) آية رقم : ٤٣.

٤٤١

الرسعني ، حدثنا جدي ، حدثنا المغيرة ، حدثنا عمر بن ذر (١) ، عن أبيه (٢) ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا جبريل! ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا ، فنزل : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ..). الآية كلها. قال : وكان هذا جوابا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (٣).

وأخبرني به أيضا الشيخان أبو القاسم أحمد بن عبد الله ، وأبو الحسن علي بن أبي بكر البغداديان قالا : أخبرنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى ، أخبرنا عبد الرحمن بن محمد الداودي ، أخبرنا عبد الله بن أحمد ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا عمر بن ذر قال : سمعت أبي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجبريل عليه‌السلام : «ما يمنعك أن تزورنا؟ فنزلت : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا)(٤). هذا حديث صحيح انفرد بإخراجه البخاري.

وقال مجاهد : أبطأ الملك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم أتاه فقال : لعلّي أبطأت ، فقال (٥) : قد فعلت ، فقال : وما لي لا أفعل وأنتم لا تتسوّكون ولا تقصّون أظفاركم ولا

__________________

(١) عمر بن ذر بن عبد الله بن زرارة الهمداني المرهبي ، أبو ذر الكوفي ، ثقة ، رمي بالإرجاء ، مات سنة ثلاث وخمسين ومائة (تهذيب التهذيب ٧ / ٣٩٠ ، والتقريب ص : ٤١٢).

(٢) ذر بن عبد الله بن زرارة الهمداني المرهبي ، أبو عمر الكوفي ، ثقة عابد ، رمي بالإرجاء ، مات قبل المائة (تهذيب التهذيب ٣ / ١٨٩ ، والتقريب ص : ٢٠٣).

(٣) أخرجه البخاري (٦ / ٢٧١٣ ح ٧٠١٧).

(٤) أخرجه البخاري (٤ / ١٧٦٠ ح ٤٤٥٤).

(٥) في ب : قال.

٤٤٢

تنقّون براجمكم ، فنزلت هذه الآية (١).

قال ابن الأنباري : البراجم عند العرب : الفصوص التي في فصول ظهور الأصابع تبدو إذا جمعت ، وتغمض إذا بسطت. والرّواجب : ما بين البراجم ، بين كل برجمتين راجبة(٢).

وفي مدة احتباس جبريل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقوال :

أحدها : أربعون ليلة. قاله عكرمة ومقاتل (٣).

والثاني : اثنتا عشرة ليلة. قاله مجاهد (٤).

والثالث : أربعون يوما.

والرابع : خمسة وعشرون يوما (٥).

والذي أشرنا إليه من سبب النزول هو القول المعتمد عليه. وقد نقل جماعة ـ منهم الماوردي (٦) ـ أن قوله : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) حكاية قول أهل الجنة إذا

__________________

(١) أخرجه ابن أبي شيبة (١ / ١٥٧ ح ١٨٠٥) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٤١٤). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٥٣٠) وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. وانظر : أسباب النزول للواحدي (ص : ٣٠٩).

(٢) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٢٤٩).

(٣) تفسير مقاتل (٢ / ٣١٧). وقد أخرجه ابن أبي حاتم (٧ / ٢٤١٤). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٥٣٠) وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة.

(٤) أخرجه الطبري (١٦ / ١٠٤). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٥٣٠) وعزاه لابن جرير.

(٥) في هامش ب : وقيل : خمسة عشر ، وقيل : ثلاثة أيام.

(٦) تفسير الماوردي (٣ / ٣٨١).

٤٤٣

دخلوها ، أي : وما نتنزّل هذه الجنات (١) وما نتنزل موضعا منها إلا بأمر الله.

(لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا) من أمر الآخرة ، (وَما خَلْفَنا) من أمر الدنيا ، وقيل : بالعكس من ذلك. والأول قول ابن عباس (٢) ، والثاني قول مجاهد (٣).

(وَما بَيْنَ ذلِكَ) قال سعيد بن جبير : ما بين الدنيا والآخرة (٤).

وقيل : ما بين النفختين.

(وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) قال ابن عباس : تارك (٥) لك بإبطاء الوحي عنك (٦).

وقال الزجاج (٧) : المعنى : قد علم [الله](٨) ما كان وما يكون وما هو كائن ، وحافظ لذلك ـ جلّ ذكره ـ لا ينسى منه شيئا.

(رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) «رب» بدل من «ربك» (٩).

__________________

(١) في ب ، وزاد المسير (٥ / ٢٥٠) : الجنان.

(٢) أخرجه الطبري (١٦ / ١٠٤). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٢٥٠).

وهذا القول هو الذي رجحه الطبري (١٦ / ١٠٥) ثم قال : وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات به ؛ لأن ذلك هو الظاهر الأغلب ، وإنما يحمل تأويل القرآن على الأغلب من معانيه ما لم يمنع من ذلك ما يجب التسليم به.

(٣) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٢٥٠).

(٤) أخرجه ابن أبي حاتم (٧ / ٢٤١٤). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٥٣١) وعزاه لابن أبي حاتم.

(٥) في ب : تاركا.

(٦) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ١٨٩) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٢٥٠).

(٧) معاني الزجاج (٣ / ٣٣٧).

(٨) لفظ الجلالة زيادة من ب.

(٩) انظر : الدر المصون (٤ / ٥١٥).

٤٤٤

ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو رب السموات (١) ، (فَاعْبُدْهُ) وحّده ، (وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ) أي : اصبر على توحيده. وقيل : على أمره ونهيه.

(هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) أي : مثلا وشبيها. وقيل : هل تعلم أحدا يسمّى الله غيره؟ والقولان عن ابن عباس (٢).

وقال الزجاج (٣) : هل تعلم أحدا يستحق أن يقال له : خالق وقادر ، إلا الله.

والاستفهام هاهنا بمعنى : النفي.

(وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا)(٧٠)

قوله تعالى : (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) الإنسان هاهنا : اسم جنس ، يريد : الكافر.

وقال ابن عباس في رواية أبي صالح : أخذ أبيّ بن خلف عظما باليا فجعل يفتّه

__________________

(١) التبيان (٢ / ١١٥) ، والدر المصون (٤ / ٥١٥).

(٢) أخرج القول الأول الطبري (١٦ / ١٠٦) ، والبيهقي في الشعب (١ / ١٤٣) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٤١٤). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٥٣١) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. وأخرج القول الثاني الحاكم في المستدرك (٢ / ٥١٥) بلفظ : «لا يسمى أحد الرحمن غيره» ، والبيهقي في الشعب (١ / ١٤٤) بلفظ : «ليس أحد يسمى الرحمن غيره». وذكرهما ابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٢٥١).

(٣) معاني الزجاج (٣ / ٣٣٨).

٤٤٥

بيده ويذريه في الريح ، ويقول : زعم لكم محمد أن الله يبعثنا بعد أن نكون مثل هذا العظم البالي ، فنزلت هذه الآية (١).

وروى عنه عطاء : أنه الوليد بن المغيرة (٢).

وجائز أن تكون القصة جرت لهما ، قال المخذول ذلك استهزاء وتكذيبا واستبعادا.

و «ما» في قوله : «ما متّ» للتوكيد.

والمعنى : لسوف أخرج من القبر.

وقيل : هو من قولهم : خرج فلان عالما وخرج شجاعا ، فأجابه الله تعالى فقال : (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ) أي : يتدبّر.

وقرأ نافع وعاصم وابن عامر : «يذكر» بتخفيف الذال والكاف وضمها (٣) ، من الذّكر بعد النسيان.

قال الزمخشري (٤) : الواو ـ يعني : في «أو لا يذكر الإنسان (٥)» ـ عطفت «لا

__________________

(١) ذكر الواحدي نحوه في الوسيط (٣ / ١٩٠) عن الكلبي ، وأسباب النزول (ص : ٣٠٩). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٢٥١ ـ ٢٥٢).

(٢) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ١٩٠) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٢٥٢).

(٣) الحجة للفارسي (٣ / ١٢٣) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٤٤٥) ، والكشف (٢ / ٩٠) ، والنشر في القراءات العشر (٢ / ٣١٨) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٣٠٠) ، والسبعة في القراءات (ص : ٤١٠).

(٤) الكشاف (٣ / ٣٣ ـ ٣٤).

(٥) ليست في ب.

٤٤٦

يذكر» على «يقول» ، فتوسطت همزة الإنكار بين المعطوف عليه وبين حرف (١) العطف.

يعني : أيقول ذلك (٢) ولا يذكر حال النشأة الأولى حتى لا ينكر الأخرى ، فإن تلك أعجب وأغرب وأدلّ على قدرة الخالق ، حيث أخرج الجواهر والأعراض من العدم إلى الوجود ، ثم أوقع التأليف مشحونا بضروب الحكم التي تحار الفطن فيها ، من غير حذو على مثال واقتداء بمؤلف ، ولكن اختراعا وإبداعا من عند قادر جلّت قدرته ودقّت حكمته.

وأما الثانية فقد تقدّمت نظيرتها فعادت لها كالمثال المحتذى عليه ، وليس فيها إلا تأليف الأجزاء الموجودة [الباقية](٣) وتركيبها ، وردّها إلى ما كانت عليه مجموعة بعد التفكيك والتفريق.

وقوله : (وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) دليل على هذا المعنى ، وكذلك قوله : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] ، على أن رب العزة سواء عليه النشأتان ، لا يتفاوت في قدرته الصعب والسهل ، ولا يحتاج إلى احتذاء [على](٤) مثال ، ولكن يواجه جاحد البعث بذلك دفعا لمعاندته ، وكشفا عن صفحة جهله.

قوله تعالى : (فَوَ رَبِّكَ) أقسم سبحانه وتعالى باسمه مفخّما رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإضافته إليه ، (لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ) أي : نجمع الكفرة مع شياطينهم ، وذاك أن كل

__________________

(١) في ب : عليه وحرف.

(٢) في ب : ذاك.

(٣) زيادة من الكشاف (٣ / ٣٤).

(٤) مثل السابق.

٤٤٧

كافر يقرن مع شيطانه في سلسلة.

وقيل : الواو في : «والشياطين» للعطف.

(ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ) قال مقاتل (١) : أي : في جهنم.

يقال : جلس القوم حول البيت ؛ إذا جلسوا داخله مطيفين به (٢).

وقيل : يجثون حولها قبل أن يدخلوها (٣).

وقوله : (جِثِيًّا) نصب على الحال (٤) ، وهو جمع جاث ، مثل : باك وبكيّ ، من قولهم : جثا على ركبتيه يجثو جثوّا (٥).

وقيل : هو جمع جثو ، بكسر الجيم وضمها ، وهي ما جمع من التراب والحجارة ، على معنى : يحشرون جماعات.

والمعنيان مرويان عن ابن عباس (٦).

والمعنى الأول أظهر وأشهر.

قال مجاهد : يحضرون مستوفزين (٧) على الرّكب (٨).

__________________

(١) تفسير مقاتل (٢ / ٣١٨).

(٢) انظر : اللسان مادة : (حول).

(٣) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٢٥٣).

(٤) انظر : الدر المصون (٤ / ٥١٦).

(٥) انظر : اللسان (مادة : جثا).

(٦) ذكرهما ابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٢٥٣).

(٧) مستوفزين : استوفز في قعدته إذا قعد قعودا منتصبا غير مطمئن (لسان العرب ، مادة : وفز).

(٨) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ١٩٠) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٢٥٣).

٤٤٨

وقال السدي : قياما على الرّكب ، وذلك لضيق المكان بهم (١).

قوله تعالى : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) أي : لنأخذن من كل فرقة وطائفة أعتاهم وأعصاهم فنطرحهم في النار على ترتيب دركاتهم ، ونبدأ بأولادهم بالعذاب فأولاهم.

قال الكسائي والأخفش : «من» زائدة ، والتقدير : لننزعن كل شيعة ، ف «كل شيعة» مفعول ل «ننزعن». ويكون قوله : «أيهم» مبتدأ لا تعلق له بالفعل (٢).

وقال الخليل : بل قوله : «أيهم» رفع على الحكاية ، والتقدير : لننزعن من كل شيعة من يقال له : «أيهم أشد على الرحمن عتيا» ، فحذف القول وما اتصل به ، كقول الشاعر :

ولقد أبيت على الفتاة بمنزل

فأبيت لا حرج ولا محروم (٣)

المعنى : فأبيت بمنزلة الذي يقال : لا هو حرج ولا محروم.

وأنكر ذلك سيبويه (٤) ، وزعم أن ذلك لا يجوز ، فلا يقال : اضرب الخبيث الفاسق ، على تقدير من يقال له : الخبيث الفاسق.

قال : وأنا أقول : إنّ قوله : «أيهم أشد» مفعول ل «ننزعن» ، وكان حقه النصب ،

__________________

(١) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٢٥٣) ، والسيوطي في الدر (٥ / ٥٣٣) وعزاه لابن أبي حاتم.

(٢) انظر : التبيان (٢ / ١١٦) ، والدر المصون (٤ / ٥١٧).

(٣) البيت للأخطل ، انظر : ديوانه (ص : ٨٤) ، والكتاب (٢ / ٨٤) ، وشرح المفصل لابن يعيش (٣ / ١٤٧) ، وأمالي ابن الشجري (١ / ٨٠) ، والخزانة (٦ / ١٣٩) ، والبحر (٦ / ١٩٦) ، والدر المصون (٤ / ٥١٧) ، والقرطبي (١١ / ١٣٣) ، وزاد المسير (٥ / ٢٥٤).

والشاهد في البيت : رفع «حرج» و «محروم» وكان وجه الكلام نصبهما على الحال.

(٤) انظر : الكتاب (٢ / ٤٠١).

٤٤٩

وقد رواه هارون فيما حدثنا به أنه قرئ : «أيّهم» بالنصب بالفعل ، ولكن الذين رفعوه بنوه على الضم ؛ لأن «أيّهم» هاهنا بمعنى : الذي ، ويقتضي عائدا يعود إليها من صلتها ، والتقدير : أيهم هو أشد ، فحذف هو ، فوجب بناء «أيهم» عنده لما حذف من صلته العائد ؛ لأن الصلة توضح الموصول وتبيّنه ، كما أن حذف المضاف إليه في : (مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) [الروم : ٤] وابدأ بهذا أول يوجب بناء المضاف لما كان المضاف إليه مخصصا ومبينا للمضاف ومعرّفا له.

[والعتيّ](١) : المتمرد في العصيان ، وهو مصدر عتا يعتو عتوّا وعتيّا (٢).

(ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا) يقال : صلى النار يصلاها صليا ؛ إذا قاسى حرّها (٣).

ومعنى الكلام : أن الأولى بها صليّا الذين هم أشد على الرحمن عتيّا.

(وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا)(٧٢)

ثم التفت فقال : (وَإِنْ مِنْكُمْ) أي : وما منكم أيها المؤمنون والكافرون من أحد (إِلَّا وارِدُها) أي : داخل النار. هذا قول الأكثرين.

ويروى عن ابن عباس : أن الخطاب للكفار (٤).

__________________

(١) في الأصل : والمعنى. والتصويب من ب.

(٢) انظر : اللسان ، (مادة : عتا).

(٣) انظر : اللسان (مادة : صلا).

(٤) أخرجه الطبري (١٦ / ١١٠). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٢٥٤).

٤٥٠

والأول أصح ؛ لما أخبرنا أبو علي بن عبد الله بن الفرج في كتابه ، أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن محمد بن عبد الواحد ، أخبرنا أبو علي الحسن بن علي ، أخبرنا أبو بكر ابن مالك ، حدثنا عبد الله بن الإمام أحمد ، حدثني أبي ، حدثنا سليمان بن حرب (١) ، حدثنا غالب بن سليمان (٢) ، عن كثير بن زياد البرساني (٣) ، عن أبي سمية قال : «اختلفنا في الورود ، فقال بعضنا : لا يدخلها مؤمن ، وقال بعضنا : يدخلونها جميعا ، ثم ينجّي الله الذين اتقوا. فلقيت جابر بن عبد الله فقلت له : إنا اختلفنا في الورود ، [فأهوى](٤) بأصبعيه إلى أذنيه وقال : صمّتا إن لم أكن سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : الورود : الدخول ، لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها ، فتكون على المؤمن بردا وسلاما كما كانت النار على إبراهيم ، حتى قال (٥) : إن للنار ـ أو قال : لجهنم ـ ضجيجا من بردهم ، ثم ينجّي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيّا» (٦).

وروى يعلى بن منية (٧) ـ وهذا اسم أمه ، واسم أبيه : أمية ـ أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) سليمان بن حرب بن بجيل الأزدي الواشحي ، أبو أيوب البصري ، سكن مكة وكان قاضيها ، ثقة إمام حافظ ، مات سنة أربع وعشرين ومائتين (تهذيب التهذيب ٤ / ١٥٧ ، والتقريب ص : ٢٥٠).

(٢) غالب بن سليمان العتكي الجهضمي ، أبو صالح ، ويقال : أبو سلمة الخراساني البصري ، ثقة (تهذيب التهذيب ٨ / ٢١٧ ، والتقريب ص : ٤٤٢).

(٣) كثير بن زياد ، أبو سهل البرساني الأزدي العتكي البصري ، ثقة من أكابر أصحاب الحسن ، سكن بلخ ، وثقه ابن معين وغيره (تهذيب التهذيب ٨ / ٣٧٠ ، والتقريب ص : ٤٥٩).

(٤) في الأصل : فأهو. والتصويب من ب ، ومن مسند أحمد (٣ / ٣٢٨).

(٥) ساقط من ب.

(٦) أخرجه أحمد في (٣ / ٣٢٨ ح ١٤٥٦٠).

(٧) يعلى بن أمية بن أبي عبيدة واسمه عبيد ، ويقال : زيد بن همام بن الحارث بن بكر بن زيد بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم ، أبو خلف ، ويقال : أبو خالد ، ويقال : أبو صفوان المكي ، ـ

٤٥١

قال : «تقول النار للمؤمن يوم القيامة : جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي» (١).

وصحّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد فيدخل النار إلا تحلّة القسم ، ثم قرأ : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها)(٢).

وكان الحسن البصري يقول : كيف لا يحزن المؤمن وقد حدّث عن الله أنه وارد جهنم ، ولم يأته أنه صادر عنها (٣).

وكان أبو ميسرة إذا أوى إلى فراشه قال : ليت أمي لم تلدني ، ثم يبكي ، فقيل له : ما يبكيك؟ فقال : أخبرنا أنّا واردوها ، ولم نخبر أنّا صادرون عنها (٤).

وقال خالد بن معدان (٥) : إذا دخل أهل الجنة الجنة قالوا : ألم يعدنا ربنا أنا نرد النار؟ فيقال : بلى ، ولكن مررتم بها وهي خامدة (٦).

وروي عن مجاهد أنه قال : الحمّى حظ كل مؤمن من النار ، ثم قرأ : (وَإِنْ

__________________

ـ حليف قريش ، وهو يعلى بن منية وهي أمه ، ويقال : جدته ، صحابي مشهور ، شهد الطائف وحنينا وتبوك مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان عامل عمر بن الخطاب على نجران ، مات سنة بضع وأربعين (تهذيب التهذيب ١١ / ٣٥٠ ، والتقريب ص : ٦٠٩).

(١) أخرجه البيهقي في الشعب (١ / ٣٤٠ ح ٣٧٥) ، والطبراني في الكبير (٢٢ / ٢٥٨ ح ٦٦٨).

(٢) أخرجه البخاري (١ / ٤٢١ ح ١١٩٣).

(٣) أخرجه الطبري (١٦ / ١١٢) ولفظه قال : قال رجل لأخيه : هل أتاك بأنك وارد النار؟ قال : نعم.

قال : فهل أتاك أنك صادر عنها؟ قال : لا ، قال : ففيم الضحك؟ قال : فما رؤي ضاحكا حتى لحق بالله. وذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ١٩١) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٢٥٥).

(٤) أخرجه الطبري (١٦ / ١١٠).

(٥) خالد بن معدان بن أبي كريب الكلاعي ، أبو عبد الله الشامي الحمصي ، تابعي ثقة عابد ، مات سنة ثلاث ومائة (تهذيب التهذيب ٣ / ١٠٢ ، والتقريب ص : ١٩٠).

(٦) أخرجه الطبري (١٦ / ١٠٩). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٢٥٥).

٤٥٢

مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها)(١).

فهذا يشعر أنه من حمّ من المؤمنين فقد ورد النار ؛ لأن الحمى من فيح جهنم ، وأنه قد أخذ بحظه منها.

والتفسير الصحيح هو المدلول عليه بالأخبار والآثار.

فإن قيل : فما تصنع بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ* لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) [الأنبياء : ١٠١ ـ ١٠٢] ، وبقوله : (إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) [آل عمران : ١٩٢] والمؤمنون آمنون من الخزي؟

قلت : لا يلزم من ورود النار على الوجه الذي ذكرناه سماع حسيسها ولا الدخول على وجه الخزي ، فإن ذلك إنما يكون إذا دخلها دخول تعذيب وخلود ، لا دخول ورود.

قوله تعالى : (كانَ عَلى رَبِّكَ) يعني : ورودهم النار (حَتْماً مَقْضِيًّا) أمرا كائنا لازما جازما قضاه الله تعالى على نفسه وحتمه على خلقه.

قوله تعالى : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) وقرأ الكسائي ويعقوب : «ننجي» بالتخفيف (٢).

وقرأ [ابن يعمر](٣) وأبو مجلز وعاصم الجحدري : «ثم» بفتح الثاء (٤) ، على

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٦ / ١١١). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٢٥٧).

(٢) الحجة لابن زنجلة (ص : ٤٤٦) ، والكشف (٢ / ٩١) ، والنشر (٢ / ٢٥٩) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٣٠٠) ، والسبعة في القراءات (ص : ٤١١).

(٣) في الأصل : أبو عامر. والتصويب من زاد المسير (٥ / ٢٥٧).

(٤) انظر : زاد المسير (٥ / ٢٥٧).

٤٥٣

معنى : هناك ننجي الذين اتقوا الشرك.

وقرأ أبي بن كعب وابن السميفع : «ننحي» بالحاء المهملة (١) ، وفيه دليل واضح على ورود البرّ والفاجر.

(وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ) المشركين والكفار (فِيها جِثِيًّا) سبق آنفا تفسيره.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً)(٧٤)

قوله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ) أي : تقرأ على المشركين (آياتُنا بَيِّناتٍ) ظاهرات الإعجاز ، وهي حال مؤكدة ، كقوله : (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً) [البقرة : ٩١] ، (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني : مشركي قريش (لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي : لفقراء المؤمنين وضعفتهم ، ظنا منهم بجهلهم وعتوهم أنهم أكرم على الله من اتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما كانوا فيه من الرفعة والدعة والسعة ، (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) نحن أم أنتم (خَيْرٌ مَقاماً) وقرأ ابن كثير : «مقاما» بضم الميم (٢) ، وهما بمعنى واحد.

قال أبو علي الفارسي (٣) : من قرأ : «مقاما» بفتح الميم ، احتمل أمرين :

أحدهما : أن يكون مصدرا من قام يقوم.

__________________

(١) انظر : زاد المسير (٥ / ٢٥٧).

(٢) الحجة للفارسي (٣ / ١٢٤) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٤٤٦) ، والكشف (٢ / ٩١) ، والنشر (٢ / ٣١٨ ـ ٣١٩) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٣٠٠) ، والسبعة في القراءات (ص : ٤١١).

(٣) الحجة (٣ / ١٢٤ و ١٢٧).

٤٥٤

والآخر : أن يكون اسم المكان منه.

ومن قرأ : «مقاما» ـ بضم الميم ـ احتمل أيضا أن يكون مصدرا من أقام يقيم ، وأن يكون اسم المكان منه ، إلا أن اسم (١) المقام هاهنا فيمن ضم الميم وفيمن فتح على اسم المكان ، وليس اسم الحدث ، يدل على ذلك قوله تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً) فلا يراد بهذا الحدث ، إنما يراد به حسن الشارة والمنظر ، وهذا إنما يكون في الأماكن.

(وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) النّديّ والنّادي : مجتمع القوم ومجلسهم (٢). يريدون : أن ناديهم أعز رجالا وأعظم أبّهة.

ويروى : أنهم كانوا [يدّهنون](٣) ويتطيّبون ويلبسون الثياب الفاخرة ثم يقولون ذلك للفقراء ؛ افتخارا عليهم.

ثم إن الله سبحانه وتعالى ذكّرهم حال من كان قبلهم من الأمم الخالية ممن كان أمتع (٤) منهم وأنعم وأفره وأرفه فقال : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) سبق تفسيره.

(هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً) أي : متاعا ومنظرا ، وقد سبق تفسير الأثاث في النحل(٥).

__________________

(١) ساقط من ب.

(٢) انظر : اللسان (مادة : ندي).

(٣) في الأصل : يذهبون. والتصويب من ب.

(٤) في ب : أمنع.

(٥) آية رقم : ٨٠.

٤٥٥

قال الواحدي (١) : الرّئي : فعل من رأيت ، والمصدر : الرّأي والرّؤية ، كالطّحن والطّحن ، والرّعي والرّعي.

وقرأ [قالون](٢) وابن ذكوان : «وريّا» بتشديد الياء من غير همز (٣).

قال الزجاج (٤) : لها تفسيران ، أحدهما : أنها بمعنى الأولى ، والثاني أنها من الرّي. فالمعنى : منظرهم مرتو من النعمة ، كأن النعيم بيّن فيهم.

وقرأت للكسائي من رواية ابن أبي سريج عنه : «وزيّا» بالزاي المعجمة مع التشديد من غير همز ، وهي قراءة ابن عباس وأبي المتوكل (٥).

قال الزجاج (٦) : معناه : أن زيّهم حسن ، يعني : هيئتهم. قال الشاعر :

أشاقتك الظّعائن يوم بانوا

بذي الزيّ الجميل من الأثاث (٧)

ونصب «أحسن أثاثا ورءيا» على التمييز ، المعنى : وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا منهم وأحسن زيا منهم.

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ١٩٣).

(٢) في الأصل : قالقون. وهو خطأ. والتصويب من ب.

(٣) الحجة للفارسي (٣ / ١٢٧) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٤٤٦) ، والكشف (٢ / ٩١) ، والنشر (١ / ٣٩٤) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٣٠٠) ، والسبعة في القراءات (ص : ٤١١).

(٤) معاني الزجاج (٣ / ٣٤٢).

(٥) انظر : زاد المسير (٥ / ٢٥٨).

(٦) معاني الزجاج (٣ / ٣٤٢ ـ ٣٤٣).

(٧) البيت هو لمحمد بن نمير الثقفي ، الذي شبّب بزينب أخت الحجاج. انظر البيت في : مجاز القرآن (١٠ / ٣٦٦) ، واللسان (مادة : رأي) ، وتفسير الماوردي (٣ / ٣٨٦) ، والقرطبي (١٠ / ١٥٣ ، ١٥٩ ، ١١ / ١٤٣) ، والطبري (١٤ / ١٥٤ ، ١٦ / ٩٣) ، وروح المعاني (١٦ / ١٢٦).

٤٥٦

(قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (٧٥) وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا)(٧٦)

(قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ) قال ابن عباس : في العماية عن التوحيد ودين الله (١) ، (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) قال الزجاج (٢) : لفظه لفظ الأمر ، ومعناه : الخبر. تأويله : أن الله تعالى جعل جزاء ضلالته أن يتركه فيها ، كما قال تعالى : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الأعراف : ١٨٦] ، إلا أن لفظ الأمر يؤكد معنى الخبر ، كأنّ لفظ الأمر يريد به المتكلم نفسه إلزاما ، كأنه يقول : أفعل ذلك وآمر نفسي به.

قال الزمخشري (٣) : أخرج على لفظ الأمر إيذانا [بالوجوب](٤) ، وأنه مفعول لا محالة ، كالمأمور به الممتثل.

قال غيره : ويجوز أن تكون اللام لام الدعاء ، على معنى : قل يا محمد من كان في الضلالة فاللهم مدّ له من (٥) العمر مدّا.

والأول هو وجه الكلام.

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ١٩٣) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٢٥٩) بلا نسبة.

(٢) معاني الزجاج (٣ / ٣٤٣).

(٣) الكشاف (٣ / ٣٩).

(٤) في الأصل : بالجوب. والتصويب من ب.

(٥) في ب : في.

٤٥٧

وبين آخر هذه الآية وأول التي تليها ارتباط ، تقديره : إن الذين في الضلالة ممدود لهم في ضلالتهم لا ينفكون عنها إلى أن يعاينوا ما أعد الله تعالى لهم وتوعدهم به ، وهو قوله : (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ) ، وهذه «حتى» التي تحكي بعدها الجمل ، والجملة المحكية هاهنا : الجملة الشرطية ، وهي قوله : (إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ).

ثم بيّن الله تعالى ما يوعدون فقال : (إِمَّا الْعَذابَ) يعني : القتل والأسر (وَإِمَّا السَّاعَةَ) يعني : القيامة (فَسَيَعْلَمُونَ) حينئذ (مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً) في الآخرة أهم أم المؤمنون (وَأَضْعَفُ جُنْداً) وهذا مقابل لقولهم : (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا).

قوله تعالى : (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) قال الزجاج وغيره (١) : المعنى : أن الله تعالى يجعل جزاء المؤمنين أن يزيدهم يقينا ، كما جعل جزاء الكافرين أن يمدهم في ضلالتهم (٢).

(وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) سبق تفسيرها في الكهف (٣).

(خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً) مما يفتخر به الكافر في الدنيا (وَخَيْرٌ مَرَدًّا) أي : مرجعا.

وقيل : منفعة ، من قولهم : ليس لهذا الأمر مردّ.

__________________

(١) معاني الزجاج (٣ / ٣٤٤).

(٢) في ب : الكافر أن يمده في ضلالته.

(٣) آية رقم : ٤٦.

٤٥٨

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً)(٨٠)

قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا) أخبرنا الشيخان أبو القاسم وأبو الحسن البغداديان قالا : أخبرنا أبو الوقت ، أخبرنا أبو الحسن الداودي ، أخبرنا عبد الله بن أحمد السرخسي ، أخبرنا محمد بن يوسف الفربري ، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري ، حدثنا يحيى ، حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن خبّاب قال : «كنت رجلا قينا (١) ، وكان لي على العاص بن وائل دين ، فأتيته أتقاضاه ، فقال لي : لا قضيتك حتى تكفر بمحمد ، قال : قلت : لن أكفر به حتى تموت ثم تبعث ، قال : فإني مبعوث من بعد الموت فسوف أقضيك إذا رجعت إلى مال وولد. قال : فنزلت : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) ـ إلى قوله تعالى ـ : (فَرْداً)(٢). هذا حديث متفق على صحته ، أخرجه مسلم عن الأشج ، عن وكيع ، عن الأعمش.

قال صاحب الكشاف (٣) : استعملوا «أرأيت» في معنى أخبر ، والفاء جاءت لإفادة معناها الذي هو التعقيب ، كأنه قال : أخبر أيضا بقصة هذا الكافر ، وأذكر حديثه عقيب حديث أولئك.

__________________

(١) القين : الحدّاد (اللسان ، مادة : قين).

(٢) أخرجه البخاري (٤ / ١٧٦٢ ح ٤٤٥٨) ، ومسلم (٤ / ٢١٥٣ ح ٢٧٩٥).

(٣) الكشاف (٣ / ٤٠).

٤٥٩

(وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) وقرأ حمزة والكسائي : «وولدا» بضم الواو وسكون اللام (١).

قال الفراء (٢) : هما لغتان كالعدم والعدم ، وليس يجمع ، وقيس تجعل الولد جمعا ، والولد ـ بفتح الواو ـ واحدا.

فردّ الله عليه فقال : (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ) قال ابن عباس : أعلم ما غاب عنه حتى يعلم أفي الجنة هو أم لا (٣)؟.

وقال في رواية أخرى : أنظر في اللوح المحفوظ (٤)؟.

(أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) أم قال : لا إله إلا الله فأرحمه؟.

وقال قتادة : يعني : أقدّم عملا صالحا فهو يرجوه؟ (٥).

وقال ابن السائب : المعنى : أم عهد الله إليه أنه يدخله الجنة (٦)؟.

فإن قيل : أين مفعولا «أفرأيت»؟.

قلت : الموصول الأول ، والاستفهام في موضع المفعول الثاني وهو قوله : (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً).

__________________

(١) الحجة للفارسي (٣ / ١٢٨) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٤٤٧) ، والكشف (٢ / ٩٢) ، والنشر (٢ / ٣١٩) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٣٠١) ، والسبعة في القراءات (ص : ٤١٢).

(٢) لم أقف عليه في معاني الفراء.

(٣) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ١٩٤) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٢٦١).

(٤) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ١٩٤) عن الكلبي ، وابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٢٦١).

(٥) أخرجه الطبري (١٦ / ١٢٢). وذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ١٩٤) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٢٦١) ، والسيوطي في الدر (٥ / ٥٣٦) وعزاه لابن أبي حاتم.

(٦) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٢٦١).

٤٦٠