رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٤

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٤

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٩

المناقضة والاختلال ، وكونه في أعلا مراتب البلاغة.

(قَيِّماً) مستقيما عدلا (١).

وقيل : قيما على سائر الكتب ، مصدّقا لها ، شاهدا بصحتها.

وقيل : قيما بمصالح العباد.

وقيل : قيما في نفسه بالحجة والإعجاز.

قال أكثر العلماء باللغة والتفسير : في هذه الآية تقديم وتأخير ، التقدير أنزل على عبده الكتاب قيما ، ولم يجعل له عوجا (٢).

فعلى هذا ، هو نصب على الحال من «الكتاب» (٣).

قال صاحب الكشاف (٤) : الأحسن أن ينتصب [بمضمر](٥) ولا يجعل حالا من «الكتاب» ؛ لأن قوله : (وَلَمْ يَجْعَلْ) معطوف على «أنزل» ، فهو داخل في حيز الصلة ، فجاعله حالا من «الكتاب» فاصل بين الحال وذي الحال ببعض الصلة ، وتقديره : ولم يجعل له عوجا جعله قيما ؛ لأنه إذا نفى عنه العوج فقد أثبت له

__________________

(١) نقل الرازي (٢١ / ٦٤) تفسير قَيِّماً ب «مستقيما» عن ابن عباس وقال : وهذا عندي مشكل ؛ لأنه لا معنى لنفي الاعوجاج إلا حصول الاستقامة ، فتفسير القيم بالمستقيم يوجب التكرار وأنه باطل ، وأن المراد من كونه (قيما) أنه سبب لهداية الخلق ، وأنه يجري مجرى من يكون قيما للأطفال ، فالأرواح البشرية كالأطفال ، والقرآن كالقيم الشفيق القائم بمصالحهم.

(٢) أخرجه الطبري (١٥ / ١٩٠) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٣٤٤). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ١٠٣) ، والسيوطي في الدر (٥ / ٣٥٩) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٣) التبيان (٢ / ٩٨) ، والدر المصون (٤ / ٤٣٠).

(٤) الكشاف (٢ / ٦٥٧).

(٥) في الأصل : بمظمر. والتصويب من ب.

٢٤١

الاستقامة.

فإن قلت : ما فائدة الجمع بين نفي العوج وإثبات الاستقامة وفي أحدهما غنى عن الآخر؟

قلت : فائدته التأكيد ، فرب مستقيم مشهود [له](١) بالاستقامة لا يخلو من أدنى عوج عند السّبر (٢) والتصفّح.

قوله تعالى : (لِيُنْذِرَ) أي : لينذركم ، فحذف المفعول الأول واقتصر على الثاني ، واللام متعلقة «بالله» أو «بعبده» أو «بالكتاب».

ويؤيد القول الأول قوله : (بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ) أي : عذابا من عنده.

(وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً) وهو الجنة.

(ماكِثِينَ) أي : مقيمين في الأجر الحسن (أَبَداً).

(وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) وهم الذين قالوا : عزير ابن الله ، والمسيح ابن الله ، والملائكة بنات الله.

(ما لَهُمْ بِهِ) أي بالولد ، أو باتخاذه أو بقولهم (مِنْ عِلْمٍ) يشير إلى إفراط جهلهم وجهل آبائهم ؛ حيث أثبتوا لله ما تقطع العقول السليمة باستحالته في نفسه.

(كَبُرَتْ كَلِمَةً) نصب على التمييز ، وفيه معنى التعجب ، كأنه قيل : ما أكبرها كلمة (٣).

__________________

(١) زيادة من الكشاف (٢ / ٦٥٧).

(٢) السّبر : التجربة (اللسان ، مادة : سبر).

(٣) التبيان (٢ / ٩٨) ، والدر المصون (٤ / ٤٣٣).

٢٤٢

وقرأ ابن مسعود والحسن ومجاهد : «كلمة» بالرفع على الفاعلية (١) ، والضمير في «كبرت» راجع إلى قولهم : «اتخذ الله ولدا». وسمي «كلمة» على مذهب العرب في تسميتهم القصيدة كلمة.

وفي قولهم : (تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) إشارة إلى تعظيم ما اجترؤوا عليه من المنكر الذي من شأن مثله أن لا يذكر ، وأنه مجرد قول لا دليل على صحته ، وهو في موضع نصب صفة ل «كلمة» (٢).

(إِنْ يَقُولُونَ) أي : ما يقولون (إِلَّا كَذِباً).

(فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً)(٨)

قوله تعالى : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ) أي : قاتلها ومهلكها أسفا وحسرة عليهم. و «لعل» للإشفاق.

والبخع : أن يبلغ بالذبح البخاع ، وهو عرق مستبطن الفقار ، وذلك أقصى حدّ [الذّبح](٣).

وقوله : (عَلى آثارِهِمْ) أي : من بعدهم.

__________________

(١) إتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٨٨).

(٢) التبيان (٢ / ٩٨) ، والدر المصون (٤ / ٤٣٣).

(٣) الكشاف (٣ / ٣٠٥). وما بين المعكوفين في الأصل : الذابح. والتصويب من الكشاف.

٢٤٣

(إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ) يعني : القرآن (أَسَفاً) قال ابن عباس : حزنا (١).

وقال قتادة : غضبا (٢).

وقال السدي : ندما (٣).

وهو مفعول له (٤) ، أي : لفرط الحزن. ويجوز أن يكون حالا (٥).

قوله [تعالى](٦) : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها) أي : ما عليها من كل ما يستحسن من زخارف الدنيا.

وقال ابن عباس : هم العلماء (٧). فرضي الله عن ابن عباس ، فلقد كان والله زينة هذه الزينة ، ولقد صدق في تأويله.

وبلغني أن نظام الملك كان شديد الاحترام كثير الإكرام لأهل العلم ، فليم في ذلك حتى قال له حاجبه : لقد أطمعت هذه الطائفة فيك [وبسطتهم](٨) عليك ، حتى بلغ من أمرهم أنهم يدخلون عليك بغير إذن ، فقال له : ويحك هذه الطائفة

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٥ / ١٩٥) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٣٤٤) كلاهما عن قتادة. وانظر : الوسيط (٣ / ١٣٦) ، وزاد المسير (٥ / ١٠٥). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٣٦٠) وعزاه لعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة.

(٢) أخرجه الطبري (١٥ / ١٩٥). وانظر : الماوردي في تفسيره (٣ / ٢٨٥) ، وزاد المسير (٥ / ١٠٥).

(٣) زاد المسير (٥ / ١٠٥).

(٤) التبيان (٢ / ٩٨) ، والدر المصون (٤ / ٤٣٤).

(٥) مثل السابق.

(٦) ساقط من ب.

(٧) زاد المسير (٥ / ١٠٥). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٣٦١) وعزاه لأبي نصر السجزي في الإبانة.

(٨) في الأصل : وبسطهم. والمثبت من ب.

٢٤٤

[هم](١) جمال الدنيا والآخرة ، والله لو رفعت الواحد منهم على رأسي ما أديت حقّه.

(لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) قال الحسن : أيهم أزهد في الدنيا وأترك لها (٢).

(وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها) أي : ما على الأرض من الزينة وغيرها (صَعِيداً جُرُزاً) فتصبح عامرة بعد أن كانت غامرة.

قال الزجاج (٣) : الصعيد : الطريق الذي لا نبات فيه. والجرز : الأرض التي لا ينبت فيها شيء ، كأنها تأكل النبت.

قال المفسرون : وهذا يكون يوم القيامة ، يجعل الله الأرض مستوية لا نبات فيها ولا ماء (٤).

(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً)(١٢)

قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ) قد ذكرنا سبب نزولها عند قوله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) [الإسراء : ٨٥].

__________________

(١) زيادة من ب.

(٢) الوسيط (٣ / ١٣٦) ، وزاد المسير (٥ / ١٠٦).

(٣) معاني الزجاج (٣ / ٢٦٩).

(٤) الوسيط (٣ / ١٣٧) ، وزاد المسير (٥ / ١٠٧).

٢٤٥

والكهف : الغار الواسع في الجبل (١).

وأما الرقيم ؛ فقال الحسن : هو اسم الجبل (٢).

وقال قتادة : اسم القرية التي خرجوا منها (٣).

وجائز عندي : أن يكون اسم الرقيم شاملا للجميع ، فتتّحد الأقوال الثلاثة.

وقال سعيد بن جبير : هو اسم كلبهم (٤) ، وأنشدوا لأمية بن أبي الصلت :

وليس لها إلا الرقيم مجاورا

وصيدهم والقوم في الكهف همّد (٥)

وقال أبو عبيدة وابن قتيبة (٦) : الرقيم : الكتاب ، وهو فعيل بمعنى مفعول ، ومنه : (كِتابٌ مَرْقُومٌ) [المطففين : ٩] أي : مكتوب (٧).

قال مقاتل (٨) : الرّقيم : كتاب كتبه رجلان صالحان يكتمان إيمانهما من الملك الذي فرّ منه الفتية ، [وكتبا أمر الفتية](٩) في لوح من رصاص ، ثم جعلاه في تابوت من نحاس ، ثم جعلاه في البناء الذي سدّوا به باب الكهف ، فقالا : لعلّ الله أن

__________________

(١) انظر : اللسان (مادة : كهف).

(٢) أخرجه الطبري (١٥ / ١٩٩) عن ابن عباس. وانظر : الماوردي في التفسير (٣ / ٢٨٦) ، وزاد المسير (٥ / ١٠٨).

(٣) أخرجه الطبري (١٥ / ١٩٨) عن ابن عباس. وذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ١٣٧) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ١٠٨) ، كلاهما من قول كعب.

(٤) ذكره الماوردي (٣ / ٢٨٧) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ١٠٨).

(٥) انظر البيت في : الدر المصون (٤ / ٤٣٥).

(٦) انظر : مجاز القرآن لأبي عبيدة (٢ / ٢٨٩) ، وتفسير غريب القرآن لابن قتيبة (ص : ٢٦٣).

(٧) وهذا القول هو الذي اختاره ابن جرير في تفسيره (١٥ / ١٩٩).

(٨) تفسير مقاتل (٢ / ٢٨٠).

(٩) زيادة من تفسير مقاتل ، الموضع السابق.

٢٤٦

يطلع على هؤلاء الفتية أحدا فيعلموا أمرهم إذا قرؤوا الكتاب. هذا قول ابن عباس وأكثر المفسرين.

ومعنى الآية : بل أحسبت أنهم كانوا أعجب آياتنا؟ قد كان في آياتنا من خلق السموات والأرض وما فيهما (١) من العجائب ما هو أعجب من ذلك.

وقال ابن عباس : الذي آتيتك من الكتاب والسنة والعلم أفضل من شأنهم (٢).

قوله تعالى : (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) أي : صاروا إليه وجعلوه مأواهم (فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) أي : مغفرة ورزقا وأمنا من الأعداء ، (وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا) أي : أصلح لنا من أمرنا الذي نحن عليه من مفارقة الكفار وغيره (رَشَداً).

فصل

اختلف العلماء في سبب مصيرهم إلى الكهف ؛ قال ابن عباس وغيره : كان لهم ملك فدعاهم إلى عبادة الأصنام ، وامتحنهم على ذلك ، ففرّوا بدينهم ، فمرّوا براع له كلب ، فتبعهم ، فأووا إلى الكهف يتعبّدون ، ورجل منهم يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة سرّا ، إلى أن جاءهم يوما فأخبرهم أنهم قد ذكروا ، فبكوا وتعوّذوا بالله من الفتنة ، فضرب الله على آذانهم ، وأمر الملك فسدّ عليهم الكهف وهو يظنّهم أيقاظا ، وقد توفّى الله تعالى أرواحهم وفاة النوم ، وكلبهم قد غشيه ما غشيهم. ثم إن رجلين

__________________

(١) في ب : فيها.

(٢) أخرجه الطبري (١٥ / ١٩٨) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٣٤٦). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٣٦٣) وعزاه لابن أبي حاتم.

٢٤٧

مؤمنين يكتمان إيمانهما كتبا أسماءهم وأنسابهم وخبرهم في لوح من رصاص وجعلاه في تابوت من نحاس في البنيان وقالا : لعلّ الله يطلع عليهم قوما مؤمنين فيتعلمون خبرهم (١).

وقال وهب بن منبه : جاء أحد الحواريين إلى مدينة أصحاب الكهف فأراد أن يدخلها ، فقيل له : إن على بابها صنما لا يدخلها أحد إلا سجد له ، فكره أن يدخلها ، فأتى حمّاما قريبا من المدينة كان يعمل فيه بالأجر ، فعلقه فتية من أهل المدينة ، فجعل يخبرهم عن خبر السماء والأرض وخبر الآخرة ، فآمنوا به وصدّقوه ، حتى جاء ابن الملك يوما بامرأة فدخل معها الحمّام ، فأنكر عليه الحواري ذلك ، فسبّه ودخل ، فمات وماتت المرأة في الحمّام ، فأتى الملك فقيل له (٢) : إنّ صاحب الحمام قتل ابنك ، فالتمس فهرب ، فقال : من كان يصحبه؟ فسمّي له الفتية ، فالتمسوا ، فخرجوا من المدينة ، فمرّوا على صاحب لهم في زرع وهو على مثل أمرهم ، فانطلق معهم ومعه كلب ، حتى آواهم الليل إلى الكهف ، فدخلوه ، فقالوا : نبيت هاهنا ثم نصبح إن شاء الله تعالى فترون رأيكم ، فضرب الله تعالى على آذانهم فناموا ، وخرج الملك وأصحابه يتبعونهم ، فوجدوهم (٣) قد دخلوا الكهف ، فكلما أراد رجل أن يدخل أرعب ، فقال قائل للملك : أليس قلت إن قدرت عليهم قتلتهم؟ قال : بلى ، قال : فابن عليهم باب الكهف حتى يموتوا جوعا وعطشا ، ففعلوا ذلك (٤).

__________________

(١) ذكره الطبري (١٥ / ٢٠٢ ـ ٢٠٤) مطولا. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ١٠٩).

(٢) في الأصل زيادة قوله : ذلك.

(٣) في ب : فوجدهم.

(٤) أخرجه الطبري (١٥ / ٢٠٥) ، وعبد الرزاق في مصنفه (٥ / ٤٢٣ ح ٩٧٥٢). وذكره السيوطي في ـ

٢٤٨

قوله تعالى : (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ) أي : أنمناهم فيه إنامة ثقيلة سدّت منافذ أسماعهم. والتقدير : ضربنا على آذانهم حجابا ، فحذف المفعول ، كما يقال : بنى على امرأته ، يريدون : بنى عليها قبة ، ومنه قوله تعالى : (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ) [القصص : ٢٣] ، يريد : غنمهما (قالَتا لا نَسْقِي) [القصص : ٢٣] تريدان : الغنم.

(سِنِينَ عَدَداً) قال الزجاج (١) : «عددا» منصوب على ضربين :

أحدهما : على المصدر ، المعنى : تعدّ عددا.

ويجوز أن يكون نعتا للسنين ، المعنى : سنين ذات عدد.

والفائدة في قولك عدد في الأشياء المعدودة : أنك تريد توكيد كثرة الشيء ؛ لأنه إذا قلّ فهم مقدار عدده ، فلم يحتج إلى أن يعدّ ، وإذا كثر احتاج إلى أن يعدّ.

قوله تعالى : (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ) أي : أيقظناهم من نومهم (لِنَعْلَمَ) أي : لنرى.

وقال الزمخشري (٢) : الله عزوجل لم يزل عالما بذلك ، وإنما أراد ما تعلّق به العلم من ظهور الأمر لهم ، ليزدادوا إيمانا واعتبارا ، ويكون لطفا لمؤمني زمانهم ، وآية بيّنة لكفّاره.

وقرأ أبو الجوزاء والنخعي : «ليعلم» بياء مضمومة (٣).

__________________

ـ الدر (٥ / ٣٦٩) وعزاه لعبد الرزاق وابن المنذر.

(١) معاني الزجاج (٣ / ٢٧١).

(٢) الكشاف (٢ / ٦٦٠).

(٣) زاد المسير (٥ / ١١٤).

٢٤٩

(أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) «أيّ» مبتدأ ، و «الحزبين» خبر بالإضافة (١).

و (أَحْصى) فعل ماض ، و (أَمَداً) ظرف «لأحصى» ، وإن شئت كان ظرفا ل «لبثوا» ، والفعل الماضي خبر المبتدأ ، والمبتدأ مع خبره سدّ مسدّ مفعولي «نعلم». و «ما» في «لما» مصدرية (٢) ، يعني (٣) : المؤمنين والكافرين من قوم أصحاب الكهف ، كأنهم اختلفوا في مدّة لبثهم فيه بعد خروجهم من بينهم ، فبعثهم الله ليتبيّن ذلك ويظهر.

وقال الزمخشري (٤) : المعنى : أيّ الحزبين المختلفين فيهم في مدّة لبثهم ؛ لأنهم لما انتبهوا اختلفوا في ذلك ، فذلك قوله : (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ).

قال (٥) : و «أحصى» فعل ماض ، أي : أيهم ضبط «أمدا» لأوقات لبثهم.

فإن قلت : ما تقول فيمن جعله من أفعل التفضيل؟

قلت : ليس بالوجه السّديد ، وذلك أنّ بناءه من غير الثلاثي المجرد ليس بقياس ، ونحو : «أعدى من الجرب» ، و «أفلس من ابن المذلّق» شاذ ، والقياس على الشاذ في غير القرآن ممتنع ، فكيف به؟

ولأن «أمدا» لا يخلو إما أن ينتصب بأفعل ، فأفعل لا تعمل. وإما أن ينصب

__________________

(١) التبيان (٢ / ٩٩) ، والدر المصون (٤ / ٤٣٧).

(٢) مثل السابق.

(٣) في ب : ويعني.

(٤) الكشاف (٢ / ٦٦٠).

(٥) أي : الزمخشري في الكشاف.

٢٥٠

بـ «لبثوا» فلا يساعد عليه المعنى ، فإن زعمت أنما نصبه بإضمار فعل يدل عليه «أحصى» ، كما أضمروا في قوله :

 ............

وأضرب منا بالسيوف القوانسا (١)

على : نضرب القوانس ، فقد أبعدت المتناول ، وهو قريب ، حيث أبيت أن يكون «أحصى» فعلا ، ثم رجعت مضطرا إلى تقديره وإضماره.

قلت : وابن المذلّق ـ بالذال (٢) وتشديد اللام وفتحها ـ : رجل من بني عبد شمس بن سعد بن زيد مناة ، وهم أهل بيت يعرفون بالإفلاس. قال الشاعر في بعض آبائهم (٣) :

وإني إذا (٤) أرجو تميما ونفعها

كراجي الندى والعرف عند المذلق

والقونس : أعلى البيضة (٥).

__________________

(١) عجز بيت للعباس بن مرداس. وصدره :

أكرّ وأحمى للحقيقة منهم

 ...................

انظر : ديوانه (ص : ٦٩) ، والأصمعيات (ص : ٢٠٥) ، وخزانة الأدب (٨ / ٣١٩ ، ٣٢١) ، ونوادر أبي زيد (ص : ٥٩) ، والأشباه والنظائر (١ / ٣٤٤ ، ٤ / ٧٩) ، وأمالي ابن الحاجب (١ / ٤٦٠) ، وشرح الأشموني (١ / ٢٩١) ، ومغني اللبيب (٢ / ٦١٨) ، والحجة للفارسي (١ / ٤١ ، ١١٤) ، والدر المصون (٤ / ٤٣٧) ، واللسان (مادة : قنس).

(٢) في ب : بالذال والذال.

(٣) في ب : آبائه.

(٤) في ب : إذ.

(٥) البيضة المقصود بها : الخوذة التي تلبس أيام الحرب وتوضع على الرأس ، وتكون من الحديد.

٢٥١

فصل : يتضمن الإشارة إلى سبب بعثهم

قال ابن إسحاق : ألقى الله في نفس رجل من أهل المدينة اسمه إلياس ، أن يهدم ذلك البنيان الذي على فم الكهف ، فيبني به حظيرا (١) لغنمه ، فاستأجر رجلين فنزعا تلك الحجارة ، فلما فتحا باب الكهف أذن الله تعالى ذو القدرة والعظمة للفتية أن يجلسوا ، فجلسوا فرحين مستبشرين كهيئتهم حين رقدوا ، فسلّم بعضهم على بعض وهم يرون أن ملكهم في طلبهم ، فصلّوا ، وقالوا ليمليخا صاحب نفقتهم : انطلق فاسمع ما نذكر به ، وابتغ لنا طعاما ، وتلطّف ولا تشعرنّ بنا أحدا ، فوضع ثيابه وأخذ الثياب التي كان يتنكر فيها ، وخرج فرأى الحجارة قد نزعت عن باب الكهف ، فعجب ، ثم مرّ متخوفا من أن يراه أحد فيذهب به إلى الملك الذي فرّوا منه ، فلما رأى باب المدينة [رأى](٢) [عليه](٣) علامة أهل الإيمان فعجب ، وخيّل إليه أنها ليست بالمدينة التي يعرف ، ورأى ناسا لا يعرفهم ، ورأى قوما يحلفون بعيسى ، فقام مسندا ظهره إلى جدار ، وقال في نفسه : والله ما أدري ما هذا ، عشية أمس لم يكن على الأرض من يذكر عيسى إلا قتل ، واليوم أسمعهم يذكرونه ، لعلّي حالم ، لعل هذه ليست بالمدينة التي أعرف ، فقام كالحيران ، وأخرج ورقا فأعطاه رجلا وقال : بعني طعاما ، فنظر الرجل إلى نقشه فعجب ، ثم ألقاه إلى آخر ، فجعلوا يتطارحونه بينهم (٤) من رجل إلى رجل يتعجبون منه ، ثم جعلوا يتشاورون

__________________

(١) في ب : حظيرة.

(٢) زيادة من ب.

(٣) زيادة من زاد المسير (٥ / ١١١).

(٤) ساقط من ب.

٢٥٢

ويقولون : إن هذا قد أصاب كنزا ، ففرق (١) منهم فرقا شديدا ، وظنّ أنهم قد فطنوا به ، وأنهم يريدون أن يذهبوا به إلى الملك دقيانوس. فقالوا له : يا فتى من أنت؟ وما شأنك؟ والله لقد وجدت كنزا وأنت تريد أن تخفيه ، فشاركنا فيه وإلا أتينا بك إلى السلطان فنسلمك إليه ، فلم يدر ما يقول. فطرحوا كساءه في عنقه ، ثم جعلوا يقودونه في سكك المدينة ملبّبا (٢) والناس يقولون : رجل عنده كنز ، واجتمع أهل المدينة عليه ينظرون إليه وهو يبكي ويقول : فرّق بيني وبين إخوتي ، يا ليتهم يعلمون ما لقيت ، فانطلقوا به حتى أتوا رجلين صالحين كانا يدبّران أمر المدينة ، فنظرا إلى الورق ثم قالا : أين الكنز الذي وجدت يا فتى؟ فقال : والله ما وجدت كنزا ، ولكن هذا الورق ورق آبائي ونقش هذه المدينة وضربها ، ولكني والله ما أدري ما شأني وما أدري ما أقول لكم. فقال أحدهما : من أنت؟ وما اسمك واسم أبيك؟ فأخبرهم ، فلم يجدوا من يعرفه. فقال بعضهم : هذا مجنون. وقال بعضهم : ليس بمجنون ، ولكنه يحمّق نفسه عمدا حتى ينفلت منكم ، فقال أحدهما ـ ونظر إليه نظرا شديدا ـ : تظن أنك تسخر منا وخزائن هذه البلدة بأيدينا وأمر تدبيرها إلينا ، وإني سآمر بك فتعذب عذابا شديدا حتى تعترف بهذا الكنز ، فقال يمليخا : أنبئوني عن شيء أسألكم عنه ، فإن فعلتم صدقتكم؟ قالوا : سل؟ قال : ما فعل الملك دقيانوس؟ قالوا : لا يعرف اليوم على وجه الأرض ملك يسمى دقيانوس ، ولم يكن إلا ملك هلك منذ زمان ودهر طويل ، وقد هلكت بعده قرون كثيرة. فقال يمليخا : والله ما صدقني أحد فيما أقوله ، لقد كنا فتية وأكرهنا الملك دقيانوس

__________________

(١) الفرق : الخوف (اللسان ، مادة : فرق).

(٢) لبّب الرّجل : جعل ثيابه في عنقه وصدره في الخصومة ، ثم قبضه وجرّه (اللسان ، مادة : لبب).

٢٥٣

على عبادة الأوثان والذبح للطواغيت ، فهربنا منه عشية أمس فنمنا ، فلما انتبهنا خرجت أشتري لأصحابي طعاما فإذا أنا كما ترون ، فانطلقوا معي إلى الكهف أريكم أصحابي ، فانطلقوا معه وسائر أهل المدينة ، وكان أصحابه قد ظنوا أنه أخذ [وذهب](١) به إلى الملك دقيانوس ، فلم يرعهم إلا الأصوات وجلبة الخيل نحوهم ، وظنوا أنهم رسل دقيانوس ، فقاموا إلى الصلاة وودّع بعضهم بعضا وتواصوا ، فسبق يمليخا إليهم وهو يبكي ، فبكوا معه وسألوه عن شأنه ، فأخبرهم خبره كله ، فعرفوا أنهم كانوا نياما بإذن الله تعالى ذلك الزمان كله ، وإنما أوقظوا ليكونوا آية للناس وتصديقا للبعث ، ونظر الملك والناس إلى المسطور الذي فيه أسماؤهم وقصتهم فعجبوا ، ورفعوا أصواتهم بالتحميد والتسبيح والتهليل ، وأقبل الملك عليهم واعتنقهم وبكى ، فقالوا له : نستودعك الله ، ونقرأ عليك السّلام ، حفظك الله وحفظ ملكك ، فبينا الملك قائم رجعوا إلى أماكنهم ومضاجعهم (٢) وتوفى الله أنفسهم ، فأمر الملك أن يجعل لكل واحد منهم تابوت من ذهب ، فلما أمسوا رآهم في المنام فقالوا : إنا لم نخلق من ذهب وفضة ، ولكنا خلقنا من تراب ، فاتركنا كما كنّا في الكهف على التراب حتى يبعثنا الله تعالى منه ، وحجبهم الله عزوجل بالرعب ، فلم يقدر أحد بعد ذلك أن يدخل عليهم ، وأمر الملك فجعل على باب الكهف مسجد يصلى فيه ، وجعل لهم عيدا عظيما يؤتى كل سنة (٣).

وقال عكرمة : جاءت أمّة مسلمة وكان ملكهم مسلما فاختلفوا ؛ فقائل يقول :

__________________

(١) في الأصل : ذهب.

(٢) في ب : رجعوا إلى مضاجعهم.

(٣) أخرجه الطبري (١٥ / ٢١٧ ـ ٢٢٢). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ١١١ ـ ١١٣).

٢٥٤

يبعث الروح والجسد ، وقائل يقول : يبعث الروح وحده والجسد تأكله الأرض ، فشقّ اختلافهم على الملك ، فانطلق فلبس المسوح وقعد على الرماد ودعا الله أن يبعث لهم آية ، فبعث أصحاب الكهف (١).

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً)(١٥)

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِ) أي : خبر الفتية بالأمر الثابت الذي لا ريب له.

(إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ) أحداث وشباب ، (آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً) بصيرة في دينهم وطمأنينة لقلوبهم.

(وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) ألهمناها الصبر عن أوطانهم وأهلهم وما كانوا فيه من النعيم وجسّرناهم على القيام بكلمة الحق بين [يدي](٢) الجبار دقيانوس.

(فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لا الأصنام التي تقهرنا على عبادتها

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٥ / ٢١٦ ـ ٢١٧) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٣٤٩). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٣٦٧) وعزاه لعبد الرزاق وابن أبي حاتم.

(٢) زيادة من ب.

٢٥٥

والذبح لها ، ثم آيسوه من العود (١) إلى دينه فقالوا : (لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) أي : قولا ذا شطط ، وهو الإفراط في الظلم والإبعاد فيه ، من قولهم : شطّ إذا بعد (٢).

ثم أنكروا على قومهم اتخاذهم الأصنام آلهة فقالوا : (هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) ، فقوله : «هؤلاء» مبتدأ ، «قومنا» عطف بيان ، «اتخذوا» خبره (٣).

(لَوْ لا) أي : هلّا (يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ) أي : على عبادتهم ، أو على دعواهم أنها آلهة ، فحذف المضاف.

(بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ) بحجة ظاهرة ، وهذا تبكيت لهم ؛ لأن الإتيان بسلطان بيّن على عبادة الأوثان ليس داخلا في الإمكان.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) فزعم أن له شريكا.

(وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً)(١٦)

قوله تعالى : (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ) هذا خطاب بعضهم لبعض ، ثقة بموعد الله وفضله ، وقوة في يقينهم ، وصدقا في توكّلهم.

قال ابن عباس : هو من قول يمليخا ، وهو رئيس أصحاب الكهف ، قال

__________________

(١) في ب : عودهم.

(٢) انظر : اللسان (مادة : شطط).

(٣) التبيان (٢ / ٩٩) ، والدر المصون (٤ / ٤٣٩).

٢٥٦

لأصحابه : (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ)(١).

«ما» في موضع نصب عطفا على الهاء والميم.

والمعنى : [وإذ](٢) اعتزلتم الكفار واعتزلتم ما يعبدون من الآلهة إلا الله ، فإن القوم كانوا على نحو ما كان عليه أهل مكة من عبادة الله وعبادة الأصنام ، وكان الفتية قد جانبوا الأصنام وعبدوا الله وحده.

وقيل : هو كلام معترض ، إخبار من الله تعالى عن الفتية أنهم لم يعبدوا غير الله تعالى.

(فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ) صيروا إلى الكهف (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) يبسطها لكم (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) وقرأ نافع وابن عامر : «مرفقا» بفتح الميم (٣) ، وهما لغتان بمعنى واحد ، وكذلك مرفق اليد. والمعنى : ويهيئ لكم [من أمركم](٤) ما ترتفقون به.

(وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً)(١٧)

__________________

(١) الوسيط (٣ / ١٣٨) ، وزاد المسير (٥ / ١١٦).

(٢) في الأصل : وإذا. والمثبت من ب.

(٣) الحجة للفارسي (٣ / ٧٧) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٤١٢) ، والكشف (٢ / ٥٦) ، والنشر في القراءات العشر (٢ / ٣١٠) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٨٨) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣٨٨).

(٤) زيادة من ب.

٢٥٧

قوله تعالى : (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ) أصلها : تتزاور ؛ فأدغموا التاء الثانية في الزاي.

وقرأ أهل الكوفة : «تزاور» (١) بالتخفيف على حذف التاء. وقرأ ابن عامر : «تزورّ» مثل : تحمرّ (٢).

وقرأ أبي بن كعب : «تزوارّ» مثل : تحمارّ (٣).

وقرأ ابن مسعود : «تزوئرّ» (٤) مثل : [تزوعرّ](٥) ، وكلها ترجع إلى أصل واحد ، وهو : الميل ، ومنه : الأزور.

(ذاتَ الْيَمِينِ) أي : ناحية اليمين ، (وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ) أي : تعدل عنهم.

وأصل القرض : القطع (٦) ، فالشمس تقطعهم ولا تقربهم.

قال المفسرون : كان كهفهم بإزاء بنات نعش (٧) في أرض الروم ، فكانت

__________________

(١) في الأصل : تزور. والتصويب من المراجع التالية.

(٢) الحجة للفارسي (٣ / ٧٧) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٤١٣) ، والكشف (٢ / ٥٦) ، والنشر في القراءات العشر (٢ / ٣١٠) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٨٨) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣٨٨).

(٣) زاد المسير (٥ / ١١٧).

(٤) انظر : المصدر السابق.

(٥) في الأصل : تزعور. والتصويب من ب.

(٦) انظر : اللسان (مادة : قرض).

(٧) بنات نعش : سبعة كواكب ، أربعة منها نعش ، لأنها مربعة وثلاثة بنات نعش ، الواحد ابن نعش ، لأن الكوكب مذكر فيذكرونه على تذكيره ، وإذا قالوا ثلاث أو أربع ذهبوا إلى البنات ، وكذلك بنات نعش الصغرى ، واتفق سيبويه والفراء على ترك صرف نعش للمعرفة والتأنيث ، وقيل : شبهت بحملة النّعش في تربيعها ؛ وجاء في الشعر بنو نعش (اللسان ٦ / ٣٥٥).

٢٥٨

الشمس تميل عنهم طالعة وغاربة ، لا تدخل عليهم فتؤذيهم بحرّها وتغيّر ألوانهم (١).

وقال الزجاج (٢) : صرف الشمس عنهم آية من الآيات ، ولم يرض قول من قال : كان كهفهم بإزاء بنات نعش.

وقوله : «إذا طلعت» و «إذا غربت» في موضع المفعول الثاني ل «ترى» أو الحال (٣). والجملة التي [هي](٤) (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) في محل الحال أيضا (٥).

ومعناه : وهم في مكان متّسع من الكهف معرّض لإصابة الشمس ، لو لا أن القدرة الإلهية صرفتها عنهم.

وقيل : في منفسح من الكهف ينالهم فيه روح الهواء وبرد النسيم.

(ذلِكَ) إشارة إلى ازورار الشمس عنهم (٦) طالعة وغاربة ، والرّعب الذي حجبوا به ، وما كان من حديثهم (مِنْ آياتِ اللهِ) عجائب قدرته ولطفه.

وفي قوله : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) إشارة إلى أن الله هو الذي تولى هدايتهم ، فهو المستحق للحمد والثناء على الحقيقة.

(وَمَنْ يُضْلِلْ) كدقيانوس وأصحابه (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) بعد إضلال الله إياه ، منه دخول الربية عليهم وتمكّن الشبهة عندهم في مقدار لبثهم.

__________________

(١) الوسيط (٣ / ١٣٩) ، والماوردي في تفسيره (٣ / ٢٩٠) من قول مقاتل ، وزاد المسير (٥ / ١١٧).

(٢) معاني الزجاج (٣ / ٢٧٣ ـ ٢٧٤).

(٣) الدر المصون (٤ / ٤٤١).

(٤) زيادة من ب.

(٥) الدر المصون (٤ / ٤٤٢).

(٦) ساقط من ب.

٢٥٩

وقيل : رأوا شعورهم وأظفارهم قد طالت جدا فقالوا ذلك.

(وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (١٨) وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً)(٢٠)

ثم إنهم أضربوا عن حديث المدة حيث لم يجدوا سبيلا إلى تحقيقها ، وأخذوا فيما يهمّهم فقالوا : (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ)(١) (بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ) قرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر : «بورقكم» بسكون الراء (٢) ، طلبا للتخفيف ، كما قالوا : كبد في كبد ، وكتف في كتف. وبعض العرب يكسرون الواو فيقولون : ورق. وبها قرأ ابن

__________________

(١) فائدة : قال ابن الأنباري : إنما قال : «أحدكم» ولم يقل : واحدكم ؛ لئلا يلتبس البعض بالممدوح المعظم ، فإن العرب تقول : رأيت أحد القوم ، ولا يقولون : رأيت واحد القوم ، إلا إذا أرادوا المعظّم ، فأراد بأحدهم بعضهم ولم يرد شريفهم (زاد المسير ٥ / ١٢٠ ـ ١٢١).

(٢) الحجة للفارسي (٣ / ٨٠) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٤١٣) ، والكشف (٢ / ٥٧) ، والنشر في القراءات العشر (٢ / ٣١٠) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٨٩) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣٨٩).

٢٦٠