رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٤

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٤

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٩

وقال الحسن : قد شاركهم والله في أولادهم ، فمجّسوا وهوّدوا ونصّروا وصبغوا غير صبغة الإسلام (١).

(وَعِدْهُمْ) يعني : المواعد الكاذبة ، مثل : لا يبعث ولا ينشر ، ولا جنة ولا نار ، ومثل شفاعة الآلهة ، والكرامة على الله بالأنساب الشريفة.

(وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) سبق تفسيره في النساء (٢).

وقوله : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) مفسّر في الحجر (٣).

(وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) حافظا لأوليائه وعاصما لهم من الشيطان وأعوانه.

(رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً)(٦٦)

قوله تعالى : (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ) مبتدأ وخبر (٤).

وقيل : إنه متعلق بجواب قولهم : «من يعيدنا» ، فيكون صفة لقوله : «الذي فطركم» أي : يسيرها ويسوقها فيه.

(لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) «من» للتبعيض. وقيل : زائدة.

وقيل : التقدير : لتبتغوا من فضله الخير والرزق.

(إِنَّهُ كانَ بِكُمْ) أيها المؤمنون (رَحِيماً).

__________________

ـ وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(١) أخرجه الطبري (١٥ / ١٢١). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٥٩).

(٢) آية رقم : ١٢٠.

(٣) آية رقم : ٤٢.

(٤) التبيان (٢ / ٩٤).

٢٠١

(وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً)(٦٧)

ثم خاطب المشركين ثم قال : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ) وهو خوف الغرق (ضَلَ) أي : غاب عن أوهامكم وخواطركم (مَنْ تَدْعُونَ) من الآلهة (١) (إِلَّا إِيَّاهُ) علما منكم أنه لا مغيث غيره ولا منجي سواه.

(فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ) ورأيتم مخايل (٢) الخلاص (أَعْرَضْتُمْ) عن التوحيد والإخلاص (وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) لأنعم ربه بعد أن أنعم عليه [بالخروج](٣) من كربه.

(أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً)(٦٩)

قوله تعالى : (أَفَأَمِنْتُمْ) الاستفهام للإنكار ، والفاء للعطف على محذوف ،

__________________

(١) من اللطائف : أن بعض الناس قال لبعض الأئمة : أثبت لي وجود الله ، ولا تذكر لي الجوهر والعرض. فقال له : هل ركبت البحر؟ قال : نعم ، قال : فهل عصفت الريح؟ قال : نعم ، قال : فهل أشرفت بك السفينة على الغرق؟ قال : نعم ، قال : فهل يئست من نفع من في السفينة ونحوهم من المخلوقين لك وإنجائهم مما أنت فيه إياك؟ قال : نعم. قال : فهل بقي قلبك متعلقا بشيء غير أولئك؟ قال : نعم ، قال : ذلك هو الله عزوجل. فاستحسن ذلك (انظر : روح المعاني ١٥ / ١١٥).

(٢) أي : علامات.

(٣) في الأصل : بالروح.

٢٠٢

تقديره : أنجوتم فأمنتم فحملكم ذلك على الإعراض (أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ) سمّاه جانبا ؛ لأنه يصير بعد الخسف جانبا ، أو لكونهم كانوا على ساحل البحر ، فساحله جانب البر.

والمعنى : أفأمنتم بعد النجاة من البحر أن يخسف بكم جانب البر وأنتم عليه ، فنغيّبكم في التراب ، كما لو كنتم في البحر وأردنا [أن](١) نغيبكم في الماء ، فإنهما في القدرة سواء.

وفيه تنبيه على أنه يجب على العاقل أن لا يزال خائفا من الله تعالى حيث كان.

(أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) وهي الريح التي تحصب ، أي : ترمى بالحصباء ، وهي الحصا الصّغار. قال الفرزدق :

مستقبلين شمال الريح تضربهم

بحاصب كنديف القطن منثور (٢)

وقال قتادة : الحاصب : حجارة من السماء (٣).

(ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً) مانعا ولا صارفا يصرفه عنكم.

(أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ) أي : في قلوبكم ونهيج به دواعيكم (تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ) وهي الريح الشديدة التي لا تمرّ على شيء إلا قصفته.

__________________

(١) زيادة على الأصل.

(٢) البيت للفرزدق. وهو في : الدر المصون (٤ / ٤٠٧) ، واللسان (مادة : زحف) ، والطبري (١٥ / ١٢٤ ، ٢٠ / ١٥١) ، والقرطبي (١٠ / ٢٩٢) ، وزاد المسير (٥ / ٦١) ، وروح المعاني (١٥ / ١١٦ ، ٢٧ / ٩٠).

(٣) أخرجه الطبري (١٥ / ١٢٣) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٣٣٨). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٣١٤) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.

٢٠٣

وقيل : هي التي لها قصف ، أي : صوت شديد كأنها تقصف ، [أي](١) : تتكسّر.

قال عبد الله بن عمرو : ريح العذاب أربع ؛ اثنتان في البر واثنتان في البحر ، فاللتان في البر : الصّرصر ، والعقيم ، واللتان في البحر : العاصف ، والقاصف (٢).

(فَيُغْرِقَكُمْ) وقرأ أبو جعفر بالتاء (٣) يعني : الريح ، ومثله أبو الجوزاء إلا أنه شدّد(٤).

وقد اختلف القرّاء في هذه الآية ، فقرأ ابن كثير وأبو عمرو : «أن نخسف» ، «أو نرسل» ، «أن نعيدكم» ، «فنرسل» ، «فنغرقكم» بالنون في الخمسة. وقرأهن باقي القراء السبعة بالياء (٥) ، ووجههما ظاهر.

والمعنى : فيغرقكم بكفركم المنعم عليكم والمحسن إليكم.

(ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً) أي : تابعا بإنكار ولا طالبا لثأر.

__________________

(١) زيادة من الكشاف (٢ / ٦٣٥).

(٢) أخرجه أبو الشيخ في العظمة (٤ / ١٣٢٩). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٦٢) ، والسيوطي في الدر (١ / ٣٩٧) وعزاه لأبي عبيد وابن أبي الدنيا في كتاب المطر وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ في العظمة.

(٣) النشر في القراءات العشر (٢ / ٣٠٨) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٨٥).

(٤) انظر : زاد المسير (٥ / ٦٢).

(٥) الحجة للفارسي (٣ / ٦٥) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٤٠٦) ، والكشف (٢ / ٤٩) ، والنشر في القراءات العشر (٢ / ٣٠٨) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٨٥).

٢٠٤

(وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً)(٧٠)

قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) فضّلناهم على سائر الخلق بالعقل ، والنطق ، والتمييز ، وحسن الصورة ، وامتداد القامة وتعديلها ، وتسليطهم على سائر المخلوقات وتسخيرها لهم. هذا خلاصة ما ذكره المفسرون (١).

وروي عن ابن عباس أنه قال : فضّلوا على سائر الخلائق غير طائفة من الملائكة جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت وأشباههم (٢).

يريد : تفضيل المؤمنين من بني آدم.

وروي عنه قال : ليس من دابة إلا وهي تأكل بفيها ، إلا ابن آدم فإنه يأكل بيده (٣).

وروي نحو ذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤).

(وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ) على الأكباد الرطبة (وَالْبَحْرِ) على الأعواد اليابسة ، (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) المآكل المستلذة ، والمشارب الهنية ، من الثمار والحبوب

__________________

(١) الوسيط (٣ / ١١٧) ، وزاد المسير (٥ / ٦٣).

(٢) زاد المسير (٥ / ٦٢).

(٣) أخرج نحوه الطبري (١٥ / ١٢٦) عن ابن جريج ، والبيهقي في الشعب (٥ / ٧٧) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٣٣٩). وانظر : الوسيط (٣ / ١١٧) ، وزاد المسير (٥ / ٦٣). وذكر نحوه السيوطي في الدر (٥ / ٣١٦) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان.

(٤) ذكره السيوطي في الدر (٥ / ٣١٦) وعزاه للحاكم في التاريخ والديلمي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.

٢٠٥

واللحم والعسل والماء العذب.

(وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) قال زيد بن أسلم في هذه الآية : قالت الملائكة : ربنا إنك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها ويتنعمون ولم تعطنا ذلك ، فأعطنا في الآخرة ، قال : وعزتي وجلالي ، لا أجعل ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له : كن فكان (١).

وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «المؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده» (٢).

(يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً)(٧٢)

قوله تعالى : (يَوْمَ نَدْعُوا) أي : اذكر يوم ندعوا ، وقيل : انتصب «يوم» بمدلول الفاء من قوله : (فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) أي : يعطى كل إنسان كتابه يوم ندعوا.

فإن قيل : هل يجوز أن يعمل فيه «كرّمنا» أو «فضّلناهم»؟

قلت : لا يجوز ؛ لأنه فعل ماض ، فلا يعمل في المستقبل ، والباء في قوله : (بِإِمامِهِمْ) باء الحال (٣) ، تقديره : ندعوا كل أناس مختلطين بإمامهم أو فيهم

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٥ / ١٢٦). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٣١٥) وعزاه لعبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) أخرجه ابن ماجه (٢ / ١٣٠١ ح ٣٩٤٧).

(٣) التبيان (٢ / ٩٤) ، والدر المصون (٤ / ٤٠٩).

٢٠٦

إمامهم. وإن شئت كان متعلقا ب «ندعوا» ؛ لأن كل إنسان يدعى بإمامه يوم القيامة ، فيقال : يا آل فلان.

قال أنس بن مالك وقتادة : ب «إمامهم» أي : بنبيّهم (١) ، فيقال : يا أمّة موسى ، يا أمّة عيسى ، يا أمّة محمد.

وقال الضحاك وابن زيد : بكتابهم الذي أنزل عليهم (٢).

وقال قتادة : بكتاب عملهم (٣).

وذهب جماعة إلى أن المعنى : يدعون بما كانوا يأتمون به في الخير والشر (٤).

قال ابن عباس : يدعى كل أناس برئيسهم (٥).

وقال سعيد بن جبير : إمام هدى وإمام ضلالة (٦).

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٥ / ١٢٦) عن قتادة ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٣٣٩) عن أنس ، والخطيب في تاريخ بغداد (١ / ٣١٧) عن أنس. وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٣١٦) وعزاه لابن أبي حاتم وابن مردويه والخطيب في تاريخه عن أنس رضي الله عنه.

(٢) أخرجه الطبري (١٥ / ١٢٧). وانظر : الوسيط (٣ / ١١٨) ، والماوردي في تفسيره (٣ / ٢٥٨) ، وزاد المسير (٥ / ٦٥).

(٣) أخرجه الطبري (١٥ / ١٢٦ ـ ١٢٧). وانظر : الماوردي في تفسيره (٣ / ٢٥٨) ، وزاد المسير (٥ / ٦٥). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٣١٧) وعزاه لابن جرير عن ابن عباس. وهذا القول الراجح عند ابن كثير (٣ / ٥٣) لقوله تعالى : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ).

(٤) وهذا القول هو الذي رجحه الطبري (١٥ / ١٢٧).

(٥) زاد المسير (٥ / ٦٤).

(٦) أخرجه ابن أبي حاتم (٧ / ٢٣٣٩). وانظر : الوسيط (٣ / ١١٨). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٣١٦) وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما.

٢٠٧

(فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) وهم أهل السعادة ، يأخذون كتب أعمالهم بأيمانهم ، (فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ).

قال صاحب الكشاف (١) : إن قلت : لم خصّ أصحاب اليمين بقراءة كتابهم؟ كأن أصحاب الشمال لا يقرؤون كتابهم؟

قلت : بلى ، ولكن إذا اطّلعوا على ما في كتابهم ، أخذهم ما يأخذ المطالب بالنداء على جناياته والاعتراف بمساوئه [أمام](٢) التنكيل والانتقام منه ، من الحياء والخجل والانخزال ، وحبسة اللسان ، والتتعتع ، والعجز عن إقامة حروف الكلام ، والذهاب عن تسوية القول ، فكأنّ قراءتهم كلا قراءة.

وأما أصحاب اليمين فأمرهم على عكس ذلك ، لا جرم أنهم يقرؤون كتابهم أحسن قراءة [وأبينها](٣) ، ولا يقنعون بقراءتهم وحدهم ، حتى يقول القارئ لأهل المحشر : (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) [الحاقة : ١٩].

(وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) أي : لا ينقصون من ثوابهم أدنى شيء.

وقد سبق تفسير الفتيل والنقير والقطمير في سورة النساء (٤).

قوله تعالى : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى) أي : من كان في هذه الدنيا أعمى البصيرة عن النظر في عجائب مخلوقات الله ودلائل قدرته وبراهين وحدانيته ومعجزات رسله ، (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) عن طريق الثواب والنجاة من

__________________

(١) الكشاف (٢ / ٦٣٧ ـ ٦٣٨).

(٢) في الأصل : أيام. والتصويب من الكشاف (٢ / ٦٣٧).

(٣) في الأصل : وأثبتها. والتصويب من الكشاف (٢ / ٦٣٨).

(٤) آية رقم : ٤٩.

٢٠٨

العذاب ؛ لأنه كان في الدنيا بسبيل من النظر والاستدلال وقبول التوبة من الضلال.

قال الزمخشري في هذا المعنى (١) : وقد جوّزوا أن يكون الثاني بمعنى التفضيل ، ومن ثم قرأ أبو عمرو الأول ممالا ، والثاني [مفخما](٢) ؛ لأن أفعل التفضيل تمامه ب «من» ، فكانت ألفه في حكم الواقعة في وسط الكلام ، كقولك : أعمالكم. وأما الأول فلم يتعلق به شيء ، فكانت ألفه واقعة في الطرف معرضة للإمالة.

وقرأ أهل الكوفة بالإمالة فيهما. وقرأ الباقون بالتفخيم (٣) فيهما (٤) ، وكلتاهما حسنة.

وقد قيل : المعنى من كان في هذه أعمى عن أنعم الله التي يراها ويشاهدها فهو في الآخرة التي لم يرها عيانا ولم يشاهدها أعمى (٥).

وروي عن ابن عباس أنه قال : فهو في الآخرة أعمى ، أي : عما وصف له في

__________________

(١) الكشاف (٢ / ٦٣٨).

(٢) في الأصل : مقحما. والتصويب من الكشاف ، الموضع السابق.

(٣) أي : بالفتح.

(٤) الحجة للفارسي (٣ / ٦٦) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٤٠٧) ، والكشف (١ / ١٨٤) ، والنشر في القراءات العشر (٢ / ٣٠٨) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٨٥) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣٨٣).

(٥) فائدة : قال ابن الجوزي رحمه‌الله (٥ / ٦٦) : فإن قيل : لم قال : (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) ولم يقل : أشد عمى ؛ لأن العمى خلقة بمنزلة الحمرة والزرقة ، والعرب تقول : ما أشد سواد زيد ، وما أبين زرقة عمرو ، وقلّما يقولون : ما أسود زيدا ، وما أزرق عمرا.

٢٠٩

الآخرة (١).

وقال أبو بكر الوراق : فهو في الآخرة أعمى عن الجنة (٢).

(وَأَضَلُّ سَبِيلاً) لأنه في الآخرة ، وضلال الآخرة لا سبيل إلى المخلص منه.

(وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣) وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً)(٧٥)

قوله تعالى : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) «إن» مخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة ، والمعنى : همّوا وقاربوا أن يصرفوك (عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) يعني : القرآن ، فإن إعطائهم ما سألوا مخالفة حكم القرآن.

قال ابن عباس : إن وفد ثقيف أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : أمتعنا باللات سنة ، وحرّم وادينا كما حرّمت مكة ، فإنا نحب أن تعرف العرب فضلنا عليهم ، فأبى ذلك ، فأقبلوا يكثرون المسألة ويقولون : إن خشيت أن تقول العرب : أعطيتهم ما لم تعطنا ، فقل : الله أمرني بذلك ، فأمسك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنهم ، وداخلهم الطمع ، فنزلت هذه الآية (٣).

(لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ) أي : لتختلق علينا غير القرآن ، وهو قولهم : قل لهم : الله

__________________

(١) زاد المسير (٥ / ٦٦).

(٢) تفسير الماوردي (٣ / ٢٥٩) ، وزاد المسير (٥ / ٦٦).

(٣) الوسيط (٣ / ١١٩ ـ ١٢٠) ، وأسباب النزول للواحدي (ص : ٢٩٧) ، وزاد المسير (٥ / ٦٧).

٢١٠

أمرني بذلك.

(وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً) أي : لو أجبتهم إلى ما سألوا لاتخذوك وليا ولأخرجت من ولايتي.

(وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ) على الحق بعصمتنا إياك.

«أن» في موضع رفع بالابتداء. أي : لو لا تثبيتنا إياك.

وكان أبو سعيد السيرافي يجوّز دخول «لولا» على الفعل ، محتجا بقول الشاعر :

 ............

لولا حددت ولا عذري لمحدود (١)

قال بعضهم : خفي عليه إضمار «أن» في البيت ، وأبطل مذهبه بهذه الآية.

والمعنى : (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ) أي : قاربت أن تميل إليهم (شَيْئاً قَلِيلاً) وهذا من باب التهييج والإلهاب ؛ ليزداد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثباتا ورسوخا في الحق ، ويتضمن أيضا تحذير الأمة من الركون إلى الكفرة ، لما نيط به من الوعيد الشديد لمن هو أقرب إلى الله وسيلة على تقدير وجود ذلك منه.

ويروى : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم [قال](٢) بعد نزولها : «اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين» (٣).

(إِذاً لَأَذَقْناكَ) لو ركنت إليهم أدنى ركون (ضِعْفَ الْحَياةِ) على حذف المضاف ، تقديره : ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات ، فحذف المضاف

__________________

(١) عجز بيت للجموح الظفري ، وصدره : (درّك إني قد رميتهم لولا) انظر : اللسان (مادة : عذر).

(٢) في الأصل : كان.

(٣) أخرجه الطبري (١٥ / ١٣١). وانظر : تفسير الماوردي (٣ / ٢٦٠). وهذا الأثر مرسل من مرسلات قتادة.

٢١١

كقول الشاعر :

 ...........

واستبّ بعدك يا كليب المجلس (١)

والمعنى : ضعف ما يعذب به غيرك.

قال ابن عباس : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معصوما ، ولكن هذا التخويف لأمته ؛ لئلا يركن أحد من المؤمنين إلى أحد من المشركين في شيء من أحكام الله وشرائعه (٢).

وهذه الآية من أعظم الزواجر عن المداهنة في دين الله.

(وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً)(٧٧)

قوله تعالى : (وَإِنْ كادُوا) يعني : أهل مكة ، في قول الحسن ومجاهد (٣) ، (لَيَسْتَفِزُّونَكَ) ليزعجونك بعدوانهم ومكرهم من أرض مكة.

قال قتادة : لو فعلوا ذلك ما نوظروا ، ولكن الله كفّهم عن إخراجه حتى أمره بالخروج (٤).

وقيل : المعنى : ليعدمونك (مِنَ الْأَرْضِ) كلها ، فإنهم همّوا بقتله.

__________________

(١) عجز بيت للمهلهل في رثاء أخيه كليب ، وصدره : (ذهب الخيار من المعاشر كلهم).

ويروى صدر البيت : (نبئت أن النار بعدك أوقدت). انظر : زاد المسير (٥ / ٦٩).

(٢) الوسيط (٣ / ١٢٠) ، وزاد المسير (٥ / ٦٩).

(٣) زاد المسير (٥ / ٧٠).

(٤) الوسيط (٣ / ١٢٠) ، وزاد المسير (٥ / ٧٠).

٢١٢

وقال ابن عباس وسعيد بن جبير : وإن كادوا يهود المدينة ليستفزونك من أرض المدينة حسدا لك وكراهية لما جئت به.

قال ابن عباس : قالوا له : لقد علمت ما هذه أرض الأنبياء ، وإن أرض الأنبياء الشام ، فإن كنت نبيا فائت الشام ، فنزلت هذه الآية (١).

(وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ) وقرأ ابن عامر وأهل الكوفة إلا أبا بكر : «خلافك» (٢) ، وهما بمعنى واحد ، وأنشدوا :

تمنّى رجال أن أموت وإن أمت

 ..........

وقد سبق إنشاد البيتين.

والمعنى : لو أخرجوك لاستأصلناهم وأهلكناهم.

قال المفسرون : وقد فعل الله بهم ذلك فأهلك أهل مكة ببدر بعد إخراجه بزمان قليل (٣).

وقال ابن الأنباري (٤) : معنى : «لا يلبثون خلافك» على خلافك ومخالفتك ، فسقط حرف الخفض.

__________________

(١) زاد المسير (٥ / ٦٩).

(٢) الحجة للفارسي (٣ / ٦٧) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٤٠٨) ، والكشف (٢ / ٥٠) ، والنشر في القراءات العشر (٢ / ٣٠٨) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٨٥) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣٨٣ ـ ٣٨٤).

(٣) أخرجه الطبري (١٥ / ١٣٢) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٣٤١) كلاهما عن قتادة. وانظر : الماوردي في تفسيره (٣ / ٢٦١) ، وزاد المسير (٥ / ٧٠). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٣٢٠) وعزاه لعبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة.

(٤) انظر : زاد المسير (٥ / ٧٠ ـ ٧١).

٢١٣

وقرأ أبو رزين : «خلّافك» بضم الخاء وتشديد اللام ورفع الفاء (١).

قوله تعالى : (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا) قال الزمخشري (٢) : أي : نعدهم سنّة من قد أرسلنا ، إشارة إلى أن كل قوم أخرجوا رسولهم من بين ظهرانيهم ، فسنّة الله أن يهلكهم ، ونصبت نصب المصدر المؤكد ، أي : سنّ الله ذلك سنّة ، (وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً).

(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) (٧٩)

قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) قال الزجاج (٣) : ميلها وقت الظهيرة دلوك.

فإن أريد بالدلوك الأول ، ـ وهو قول ابن عمر وأبي برزة وأبي هريرة والحسن ومجاهد وقتادة وجعفر بن محمد والأكثرين ـ ، فتكون الآية جامعة للصلوات الخمس ؛ لأن قوله : (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) يشمل الظهر والعصر والمغرب والعشاء (٤).

(وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) صلاة الفجر ، على معنى : وأقم صلاة الفجر ، وإن أريد الثاني

__________________

(١) زاد المسير (٥ / ٧١).

(٢) الكشاف (٢ / ٦٤١).

(٣) معاني الزجاج (٣ / ٢٥٥).

(٤) زاد المسير (٥ / ٧٢).

٢١٤

ـ وهو قول ابن مسعود والنخعي واختيار ابن قتيبة ، وعن ابن عباس كالقولين ـ فيكون المراد بذلك صلاة المغرب إلى غسق الليل ، وهو ظلمته (١).

قال القاضي أبو يعلى : يحتمل أن يكون المراد : بيان وقت المغرب أنه من غروب الشمس إلى غسق الليل (٢).

وقال الحسن : يريد المغرب والعشاء (٣).

وقال الزجاج (٤) في قوله : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) فائدة عظيمة ، وهي : أن الصلاة لا تكون إلا [بقراءة](٥) حين سميت الصلاة قرآنا.

(إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار.

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «فضل الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة ، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر. يقول أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً)(٦).

قوله تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ) قال مجاهد : التّهجّد : القيام بعد النوم (٧).

__________________

(١) زاد المسير (٥ / ٧٢ ـ ٧٣).

(٢) زاد المسير (٥ / ٧٣).

(٣) مثل السابق.

(٤) معاني الزجاج (٣ / ٢٥٥ ـ ٢٥٦).

(٥) في الأصل : بقرآن. والتصويب من معاني الزجاج (٣ / ٢٥٥).

(٦) أخرجه البخاري (٤ / ١٧٤٨ ح ٤٤٤٠) ، ومسلم (١ / ٤٥٠ ح ٦٤٩).

(٧) الوسيط (٣ / ١٢١) ، وزاد المسير (٥ / ٧٤).

٢١٥

قال الأزهري (١) : قيل له : متهجّد ؛ لإلقائه [الهجود](٢) عن نفسه ، كما يقال : تحرّج ، وتأثّم ، وتحوّب.

وقال ابن الأنباري (٣) : المتهجد هاهنا بمعنى : التيقظ والسهر ، واللغويون يقولون : هو من حروف الأضداد ، يقال للنائم : هاجد ومتهجّد. قال النابغة :

[لو](٤) أنها عرضت لأشمط راهب

عبد الإله صرورة متهجّد

لرنا لبهجتها وحسن حديثها

ولخاله رشدا وإن لم يرشد (٥)

والمعنى : ومن الليل فصلّ بالقرآن نافلة لك.

قال ابن عباس : فريضة [عليك](٦) ، وقال : أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقيام الليل خاصة وكتب عليه (٧) ، فيكون المعنى : عبادة مفترضة زائدة على الصلوات الخمس.

قال مجاهد : النافلة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة من أجل أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما

__________________

(١) تهذيب اللغة (٦ / ٣٧).

(٢) في الأصل : المهجود. والتصويب من تهذيب اللغة ، الموضع السابق.

(٣) انظر : الطبري (١٥ / ١٤١) ، وزاد المسير (٥ / ٧٤).

(٤) في الأصل : ولولا. والتصويب من مصادر تخريج البيت.

(٥) البيتان للنابغة. انظر : ديوانه (ص : ٤١). وانظر البيت الأول في : اللسان ، مادة : (صرر ، بتل) ، ونسبه في الموضع الثاني لربيعة بن مقروم الضبي.

وانظر البيت الثاني في : اللسان (مادة : تمر) ، وهو فيه :

لدنا لبهجتها وحسن حديثها

ولهمّ من تاموره يتنزّل

وانظر البيتان في : القرطبي (٦ / ٢٥٨) ، وزاد المسير (٥ / ٧٤).

(٦) في الأصل : ذلك. والتصويب من زاد المسير (٥ / ٧٥).

(٧) زاد المسير (٥ / ٧٥).

٢١٦

تأخر ، فما عمل من عمل سوى المكتوبة فهو نافلة له (١).

وقيل : يشير بذلك إلى أنها شرعت في حقه لرفع الدرجات لا [للكفارات](٢) ، وفي حق غيره للكفارات ومحو السيئات.

و «نافلة» نصب على المصدر بتقدير وضعه موضع «تهجد» ، أو بتقدير وضع «تهجّد به» موضع تنفّل.

و «نافلة» بمعنى : تنفل.

(عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) قال الزمخشري (٣) : «مقاما محمودا» نصب على الظرف ، أي : عسى أن يبعثك فيقيمك مقاما محمودا ، أو ضمّن «يبعثك» معنى : يقيمك ، ويجوز أن يكون حالا بمعنى : أن يبعثك ذا مقام محمود.

والمعنى : مقاما يحمده عليه جميع أهل الموقف ، بما يظهر من علو منزلته وكرامته على ربه عزوجل.

وقد روى ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله عزوجل : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) قال : «يجلسه معه على العرش» (٤).

وقالت عائشة رضي الله عنها : «سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المقام المحمود فقال : وعدني القعود على العرش».

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٥ / ١٤٣). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٣٢٣) وعزاه لابن جرير وابن المنذر ومحمد بن نصر والبيهقي في الدلائل.

(٢) في الأصل : لكفارات.

(٣) الكشاف (٢ / ٦٤٢).

(٤) ذكره الطبري في تفسيره (١٥ / ١٤٥). والديلمي في الفردوس (٣ / ٥٨) من حديث ابن عمر مرفوعا.

٢١٧

وروى مثله أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال عبد الله بن سلام : إذا كان يوم القيامة يؤتى بنبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقعد بين يدي ربه عزوجل على الكرسي (١).

وقال ابن مسعود وابن عباس ومجاهد في تفسير هذه الآية : يقعده على العرش (٢).

قال ابن عمير : سمعت أحمد بن حنبل سئل عن حديث مجاهد : «يقعد محمدا على العرش» فقال : قد تلقّته العلماء بالقبول ، نسلّم الخبر كما جاء.

وذكر أبو عبد الله ابن بطة في كتاب الإبانة : قال أبو بكر أحمد بن سليمان النجاد : لو أن حالفا حلف بالطلاق ثلاثا أن الله تعالى يقعد محمدا معه على العرش واستفتاني في يمينه لقلت له : صدقت في قولك وبررت في يمينك ، وامرأتك على حالها.

[قال](٣) الأستاذ أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره (٤) : هذا تأويل غير مستحيل ؛ لأن الله تعالى كان قبل خلقه الأشياء قائما بذاته ، ثم خلق الأشياء من غير حاجة له إليها ، بل إظهارا لقدرته وحكمته ، وخلق لنفسه عرشا استوى عليه كما شاء بلا كيف ، وليس إقعاده محمدا على العرش موجبا له صفة الربوبية ، ولا مخرجا له عن

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٥ / ١٤٨).

(٢) أخرجه الطبري (١٥ / ١٤٥). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٣٢٨) وعزاه لابن جرير. وقد نقل الشوكاني في الفتح (٣ / ٢٥٢) عن النقاش قوله عن أبي داود السجستاني أنه قال : من أنكر هذا الحديث فهو عندنا متهم ، ما زال أهل العلم يتحدثون بهذا الحديث.

(٣) في الأصل : قا.

(٤) تفسير الثعلبي (٦ / ١٢٦). وانظر : تفسير القرطبي (١٠ / ٣١١ ـ ٣١٢).

٢١٨

صفة العبودية ، بل هو لرفع محله وإظهار شرفه.

وقد روى القاضي أبو يعلى بإسناده عن ابن العلاف الضرير أنه أنشد لنفسه في وقت رد الترمذي الجلوس وقعود النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معه على العرش :

حديث الشفاعة في أحمد

إلى أحمد المصطفى نسنده

فأما حديث إقعاده

على العرش يرى فلا ننكره

وقد قصد الناس في ذا الحديث

إلى كل ما نحن لا نقصده

أمرّوا الحديث على ما أتى

ولا تدخلوا فيه ما يفسده

فإن قيل : فقد روي عن ابن مسعود أيضا وحذيفة وابن عمر وسلمان الفارسي وجابر بن عبد الله والحسن ومجاهد في رواية عنه : أن المقام المحمود : الشفاعة (١).

وأخرج الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قوله عزوجل : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) قال : «سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المقام المحمود ، فقال : هو الشفاعة» (٢).

وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في الشفاعة : «فأقول : يا رب ما بقي في النار إلا من وجب عليه الخلود أو حبسه القرآن ، وهو المقام المحمود الذي وعده الله عزوجل. [ثم تلا هذه الآية](٣) : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً)(٤).

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٥ / ١٤٤) ، ومجاهد (ص : ٣٦٩). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٧٦).

(٢) أخرجه الترمذي (٥ / ٣٠٣ ح ٣١٣٧).

(٣) زيادة من صحيح البخاري (٦ / ٢٧٠٨).

(٤) أخرجه البخاري (٦ / ٢٧٠٨ ح ٧٠٠٢) ، ومسلم (١ / ١٨٠ ح ١٩٣).

٢١٩

قلت : المقام المحمود مطلق في كل ما يجب الحمد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أنواع الكرامات والشفاعة ، والقعود على العرش نوعان مما يتناوله الإطلاق ، فحينئذ لا منافاة بين القولين ، ولا مناقضة بين الروايتين.

(وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً)(٨١)

قوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) قال ابن عباس : أدخلني القبر مدخل صدق ، وأخرجني منه مخرج صدق (١).

كأنه يريد : أدخلني القبر إدخالا مرضيّا مطهّرا من السيئات ، وأخرجني منه إخراجا مرضيا ، ويؤيد ذلك أنه ذكره على إثر البعث.

وروى ابن عباس أن المعنى : أدخلني المدينة مدخل صدق ، وأخرجني من مكة مخرج صدق (٢).

وقال الضحاك : أدخلني مكة مدخل صدق وأخرجني منها مخرج صدق ،

__________________

(١) الماوردي في تفسيره (٣ / ٢٦٧) ، وزاد المسير (٥ / ٧٧).

(٢) أخرجه الترمذي (٥ / ٣٠٤) ، وأحمد (١ / ٢٢٣) ، والحاكم (٣ / ٤) ، والطبراني في الكبير (١٢ / ١٠٩) ، والبيهقي في سننه (٩ / ٩) ، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (٩ / ٥٣٥) ، والطبري (١٥ / ١٤٨). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٧٧) ، والسيوطي في الدر (٥ / ٣٢٨) وعزاه لأحمد والترمذي وصححه وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه وأبي نعيم والبيهقي معا في الدلائل والضياء في المختارة. وهذا القول هو الذي اختاره ابن جرير.

٢٢٠