رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٤

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٤

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٩

في قراءة ابن عباس وأبي الدرداء والحسن ويعقوب وحماد بن سلمة عن ابن كثير وأوقية عن العباس عن أبي عمرو : «آمرنا» بالمد (١).

قال ابن قتيبة (٢) : هي اللغة العالية ، ومعناها : كثّرنا (٣).

وقرأت لأبان عن عاصم ولعبد الوارث من طريق أبي معمر عن أبي عمرو : «أمّرنا» بتشديد الميم (٤).

قال ابن قتيبة (٥) : المعنى : جعلناهم أمراء (٦).

وقال غيره : «أمّرنا» بالتشديد ، بمعنى : كثّرنا أيضا.

__________________

(١) الحجة للفارسي (٣ / ٥٣) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٣٩٨) ، والنشر (٢ / ٣٠٦) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٨٢) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣٧٩).

(٢) تفسير غريب القرآن (ص : ٢٥٣).

(٣) قال الطبري في تفسيره (١٥ / ٥٧) : وأولى القراءات في ذلك عندي بالصواب : قراءة من قرأه : «أمرنا مترفيها» بقصر الألف من «أمرنا» وتخفيف الميم منها ؛ لإجماع الحجة من القرّاء على تصويبها دون غيرها.

(٤) إتحاف فضلاء البشر (ص : ٥٣).

(٥) تفسير غريب القرآن (ص : ٢٥٣).

(٦) قال أبو علي الفارسي : لا يحمل «أمّرنا» على المعنى : جعلناهم أمراء ؛ لأنه لا يكاد يكون في قرية واحدة عدة أمراء ، لأن رئاستهم لا تكون إلا لواحد بعد واحد ، والإهلاك إنما يكون في مدة واحدة (الحجة ٣ / ٥٤).

قال السمين الحلبي في الدر المصون (٤ / ٣٧٩ ـ ٣٨٠) : وقد ردّ على الفارسي بأنا لا نسلم أن الأمير هو الملك ، حتى يلزم ما قلت ، بل الأمير عند العرب من يأمر ويؤتمر به ، ولئن سلم ذلك ، لا يلزم ما قال ، لأن المترف إذا ملك ففسق ، ثم آخر بعده ففسق ، ثم كذلك كثر الفساد ، ونزل بهم على الآخر من ملوكهم.

١٤١

والمراد بالمترفين : المتنعمون الذين قد أبطرتهم النعمة وأطغتهم السعة.

قال المفسرون : هم الجبارون والمسلطون والملوك (١).

(فَفَسَقُوا فِيها) أي : تمردوا وخرجوا عن طاعة الله ، (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) أي : على أهلها.

قال ابن عباس : استوجبت العذاب (٢).

(فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) أي : أهلكناها إهلاكا.

(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً)(١٩)

وفي قوله : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ ..). الآيةتحذير لأهل مكة من ارتكاب أسباب العقاب.

قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ) وهي الدنيا ، لا همة له سوى التشاغل بلذّاته ، والإقبال على حظوظ نفسه ؛ كالكفرة والفسقة.

وقيل : المراد بذلك : من كان يريد الدنيا بعمل الآخرة ؛ كالمنافق والمرائي.

(عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ) مما جرت به أقدارنا (لِمَنْ نُرِيدُ) بدل من له وهو بدل

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ١٠١) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ١٩).

(٢) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ١٠١) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ١٩) من قول مقاتل.

١٤٢

البعض من الكل (١).

والمعنى : عجلنا لمن يريد أن نعجل له.

وهذه الآية تنعي على المرائيين سوء حالهم ؛ لأنهم فاتهم بسوء قصدهم الثواب ، ولم يحصل لهم به في الدنيا سوى ما سبق به الكتاب.

(ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها) يقاسي حرّها (مَذْمُوماً مَدْحُوراً) مبعدا عن رحمة الله.

(وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ) يعني : الجنة (وَسَعى لَها سَعْيَها) بامتثال ما أمر به واجتناب ما نهي عنه ، وهو مع الإرادة والسعي مؤمن مصدق بما جاءت به الرسل. (فَأُولئِكَ) الذين استكملت فيهم هذه الشرائط الثلاثة (كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) مثنى عليه متقبلا مضاعفا.

(كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً)(٢١)

(كُلًّا) منصوب ب : (نُمِدُّ) ، والتنوين عوض من المضاف إليه ، و (هؤُلاءِ) بدل من «كلا» ، والتقدير : كل واحد من الفريقين البر والفاجر نمده ونرزقه من عطائنا.

(وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ) فضله ورزقه في الدنيا (مَحْظُوراً) ممنوعا بكفر ولا معصية ، كما قال إبراهيم : (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ) [البقرة : ١٢٦] قال

__________________

(١) التبيان (٢ / ٨٩) ، والدر المصون (٤ / ٣٨٠).

١٤٣

الله : (وَمَنْ كَفَرَ).

وهذا الموضع ـ وهو قوله : «محظورا» ـ من المواضع التي تشتبه فيها الضاد بالظاء في الكتاب ، فإن الحظر بالظاء : من المنع ، ومنه قولهم : هذا محظور ، أي : محرم ممنوع منه ، وليس في القرآن لهذا مثل إلا قوله : (كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) [القمر : ٣١] أي : الممتنع بالحظيرة التي أدارها على غنمه ، خوفا عليها من السباع ، وهشيمها : ما اندقّ بالوطء من جوانبها.

وقد نظمت هذا في قصيدتي فقلت :

والحضر بالضاد إلا موضعين ففي

سبحان محظورا انظر ثم قس وزن

في سورة اقتربت بعد الهشيم لها

مثل وهذان في المعنى على سنن

قوله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) هذا مقتّر عليه في الدنيا ، وهذا موسّع عليه ، (وَلَلْآخِرَةُ) التي ينبغي أن يقع فيها التنافس ويحذر فيها من التغابن (أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) من أمر الدنيا.

قال ابن عباس : إذا دخلوا الجنات اقتسموا المنازل والدرجات على قدر أعمالهم (١).

قال الحسن : حضر الناس باب عمر بن الخطاب وفيهم سهيل بن عمرو وأبو سفيان بن حرب وأولئك الأشياخ من قريش ، فخرج آذنه ، فجعل يأذن لصهيب وبلال وأهل بدر ، وكان يحبّهم وكان قد أوصى بهم. فقال أبو سفيان : ما رأيت كاليوم قط ، إنه ليؤذن لهؤلاء العبيد ونحن جلوس لا يلتفت إلينا. فقال سهيل بن

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ١٠٢).

١٤٤

عمرو ـ قال الحسن : ويا له من رجل ما كان أعقله ـ : أيها القوم! إني والله قد أرى الذي في وجوهكم ، فإن كنتم غضابا فاغضبوا على أنفسكم ، دعي القوم ودعيتم ، فأسرعوا وأبطأتم ، أما والله لما سبقوكم به من الفضل أشدّ عليكم فوتا من بابكم هذا الذي تتنافسون عليه. ثم قال : أيها القوم! إن هؤلاء القوم قد سبقوكم بما ترون ، ولا سبيل لكم إلى ما سبقوكم إليه ، فانظروا هذا الجهاد فالزموه عسى الله أن يرزقكم شهادة ، ثم نفض ثوبه فقام ولحق بالشام. قال الحسن : صدق والله! لا يجعل الله عبدا أسرع إليه كعبد أبطأ عنه (١).

ولقد صدق الحسن رضي الله عنه فيما وصف به سهيلا من العقل ، ولقد قام في الإسلام مقاما عظيما يوم توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وماج أهل مكة ، وارتد من ارتد من العرب ، فقام خطيبا فقال : والله! إني لأعلم أن هذا الدين ممتد امتداد الشمس في طلوعها إلى غروبها ، فلا يغرنكم هذا من أنفسكم ، يعني : أبا سفيان ، فإنه يعلم من هذا الأمر ما أعلم ، ولكنه قد جثم (٢) على صدره حسد بني هاشم. فكان مقامه بمكة كمقام أبي بكر الصديق بالمدينة رضي الله عنهما.

قال الزبير بن بكار عن عمه مصعب عن نوفل بن عمارة : كان سهيل بن عمرو بعد أن أسلم كثير الصلاة والصوم والصدقة ، وخرج بجماعة أهله إلا بنته هندا إلى الشام ، فجاهدوا حتى ماتوا كلهم (٣).

__________________

(١) أخرجه الحاكم (٣ / ٣١٨ ح ٥٢٢٧) ، والطبراني في الكبير (٦ / ٢١١ ح ٦٠٣٨).

(٢) جثم : الجاثم : اللازم مكانه لا يبرح (اللسان ، مادة : جثم).

(٣) الاستيعاب (٢ / ٦٧٢).

١٤٥

قال المدائني (١) : قتل سهيل باليرموك (٢).

(لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢) وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً)(٢٤)

قوله تعالى : (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ) قال الزمخشري (٣) : هو من قولهم : شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها حربة ، أي : صارت ، يعني : فتصير (مَذْمُوماً مَخْذُولاً) لا ناصر لك.

قال المفسرون : نزلت هذه الآية حين دعي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى دين آبائه (٤).

قوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) قال ابن الأنباري (٥) : القضاء في اللغة : قطع الشيء بإحكام وإتقان. قال الشاعر يرثي عمر بن الخطاب رضي الله عنه :

__________________

(١) في الاستيعاب : المديني.

(٢) الاستيعاب (٢ / ٦٧٢).

(٣) الكشاف (٢ / ٦١٤).

(٤) زاد المسير (٥ / ٢١).

(٥) زاد المسير (٥ / ٢٢).

١٤٦

قضيت أمورا ثم غادرت بعدها

بوائق في إحكامها (١) لم تفتّق (٢)

أراد : قطعتها محكما لها.

قال ابن عباس : «وقضى ربك» وأمر ربك (٣).

والمعنى : أمر أمرا حتما جزما مقطوعا به.

«أن لا تعبدوا» أن مفسّرة ، و «لا تعبدوا» نهي ، أو يكون التقدير : بأن لا تعبدوا إلا إياه.

(وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) مفسر في البقرة (٤).

و (إِمَّا يَبْلُغَنَ) سبق الكلام على «إما» في البقرة أيضا عند قوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً). قرأ حمزة والكسائي : «يبلغانّ» (٥) على تثنية الفعل ، لتقدم ذكر الوالدين ، «أحدهما» فاعل يبلغنّ وبدل من ألف الضمير الراجع إلى «الوالدين» (٦) على قراءة حمزة والكسائي.

(أَوْ كِلاهُما) عطف على «أحدهما» بدلا أو فاعلا (٧) ، وخصّ سبحانه حالة

__________________

(١) في مصادر البيت : أكمامها.

(٢) البيت للشماخ يرثي سيدنا عمر بن الخطاب. انظر : اللسان (مادة : بوج ، كمم) وفيه : «بوائج» بدل «بوائق» ، والقرطبي (٢ / ٨٧) ، والطبري (١ / ٥٠٩) ، وزاد المسير (٥ / ٢٢).

(٣) أخرجه الطبري (١٥ / ٦٢). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٢٥٨) وعزاه لابن جرير وابن المنذر.

(٤) الآية رقم : ٨٣.

(٥) الحجة للفارسي (٣ / ٥٦) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٣٩٩) ، والكشف (٢ / ٤٣) ، والنشر (٢ / ٣٠٦) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٨٢) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣٧٩).

(٦) التبيان (٢ / ٩٠) ، والدر المصون (٤ / ٣٨٢ ، ٣٨٣).

(٧) مثل السابق. ـ

١٤٧

الكبر ؛ لأنها زمان ضعفهما وعجزهما ومظنة التضجر بهما.

(فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) قرأ ابن كثير وابن عامر : «أفّ» بالفتح من غير تنوين. وقرأ نافع وحفص بالكسر والتنوين ، وقرأ الباقون بالكسر من غير تنوين (١).

وكذلك خلفهم في التي في الأنبياء والأحقاف.

وفي «أفّ» لغات : التنوين وعدمه مع الحركات الثلاث فيهما ، و «أف» بضم الهمزة وسكون الفاء وتخفيفها ، و «أفّي» بضم الهمزة والتشديد مع زيادة ياء الإضافة.

قال الزجاج (٢) : هي لغة ، وقرئ جميع ذلك.

و «إفّ» بكسر الهمزة وتشديد الفاء وكسرها ، ولم يقرأ بها. ويجوز أيضا في اللغة : أفّة وأفّة وأفتا.

قال مكي (٣) : أصل «أف» المصدر ، من قولهم : أفّه وتفّه ، أي : نتنا ودفرا ، وهو

__________________

ـ قال أبو علي الفارسي : (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما) مرتفع بالفعل ، وقوله : (أَوْ كِلاهُما) معطوف عليه. والذكر الذي عاد من قوله : (أَحَدُهُما) يغني عن إثبات علامة الضمير في يَبْلُغَنَّ. فلا وجه لمن قال : إن الوجه ثبات الألف لتقدم ذكر الوالدين.

ووجه ذلك : أنه على الشيء الذي يذكر على وجه التوكيد ، ولو لم يذكر لم يقع بترك ذكره إخلال (الحجة ٣ / ٥٦ ـ ٥٧).

(١) الحجة للفارسي (٣ / ٥٥) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٣٩٩) ، والكشف (٢ / ٤٤) ، والنشر (٢ / ٣٠٦ ـ ٣٠٧) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٨٣) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣٧٩).

(٢) معاني الزجاج (٣ / ٢٣٤).

(٣) الكشف (٢ / ٤٤).

١٤٨

اسم [سمي](١) به الفعل ، [فبني على فتح أو على كسر أو على ضم](٢) منوّن وغير منوّن ، فمن نوّنه قدّر فيه التنكير ، ومن لم ينوّنه قدّر فيه التعريف ، وموضعه النصب بالقول ، كما تقول : لا تقل لهما شتما.

وقال غيره : «أفّ» مبني على الكسر ، فمن نوّن نكّره ، كما ينكر «صه» ، ومن فتح فلالتقاء الساكنين لخفة الفتحة ، ومن ضمّ أتبع الضم الضم ، كما قالوا : منتن.

وقال ابن الأنباري (٣) : أصله من الأفف ، وهو القلة.

وقال أبو عبيد (٤) : أصل الأفّ والتّفّ : الوسخ على الأصابع إذا فتلته.

وقال الخليل (٥) : وسخ الظفر.

وقال الأصمعي (٦) : وسخ الأذن.

وقال ثعلب (٧) : قلامة الظفر. وكل ذلك يرجع إلى معنى القلة والاحتقار.

وقال بعض اللغويين : معنى الأفّ : النتن والتضجر.

قال ابن عباس : لا تقلّهما ما يكرهانه.

قال مجاهد : لا تتعذرهما ولا تقلّهما أفّ حين ترى الأذى وتميط عنهما الخلاء

__________________

(١) في الأصل : مسمى. والمثبت من الكشف (٢ / ٤٤).

(٢) في الأصل : مبني. والتصويب والزيادة من الكشف ، الموضع السابق.

(٣) زاد المسير (٥ / ٢٤).

(٤) انظر : زاد المسير (٥ / ٢٤).

(٥) انظر : الطبري (١٥ / ٦٤) ، وزاد المسير (٥ / ٢٤).

(٦) انظر : زاد المسير (٥ / ٢٤).

(٧) مثل السابق.

١٤٩

والبول كما كانا يميطانه عنك صغيرا (١).

(وَلا تَنْهَرْهُما) لا تزجرهما رافعا صوتك عليهما.

وروي : أن ابن عون دعته أمه فأجابها ، فعلا صوته عليها ، فأعتق رقبتين.

(وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) لينا لطيفا.

قال سعيد بن المسيب : كما يقول العبد المذنب للسيد الفظّ (٢).

(وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) خفض الجناح مجاز عن غاية السكون واللين ، وإضافته إلى الذل كإضافة حاتم إلى الجود ، على معنى : واخفض لهما جناحك الذليل خاشعا خاضعا لهما من رحمتك إياهما وعطفك عليهما.

أخرج الإمام أحمد في كتاب الزهد بإسناده عن حفصة (٣) قالت : كان محمد ـ يعني ابن سيرين ـ إذا دخل على أمه لم يكلمها بلسانه كله تخشعا (٤) لها (٥).

وأخرج أيضا بإسناده عن ابن عون قال : دخل رجل على محمد وهو عند أمه ، فقال : ما شأن محمد أيشتكي [شيئا](٦)؟ قالوا : لا ، ولكنه هكذا يكون إذا كان عند

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٥ / ٦٤) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٣٢٣). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٢٥٨) وعزاه لابن أبي حاتم وابن جرير وابن المنذر.

(٢) أخرجه الطبري (١٥ / ٦٥) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٣٢٤). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٢٥٩) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) حفصة بنت سيرين ، أخت محمد بن سيري ن ، أم الهذيل ، الفقيهة الأنصارية. توفيت بعد المائة (سير أعلام النبلاء ٤ / ٥٠٧).

(٤) في الزهد : تحشما.

(٥) أخرجه أحمد في الزهد (ص : ٣٧٢).

(٦) زيادة من الزهد (ص : ٣٧٢).

١٥٠

أمه (١).

فانظر أيها المكلف إلى عظيم حق الوالدين ، كيف لم يرض منك الله العظيم بما أمرك به من الإحسان إليهما واللطف بهما قولا وفعلا؟ ونهاك عنه من التأفف والنّهر لهما ، حتى أمرك بالدعاء لهما بما يفضي بهما إلى السعادة الأبدية ، فقال معلّما لك ما تقول : (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما) أي : قل مجازيا لرحمتهما عليك وتربيتهما إياك في صغرك : (رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً). وقيل : المعنى : ارحمهما مثل رحمتهما إياي في صغري حتى ربياني.

قال قتادة : هكذا علمتم وبهذا أمرتم ، فخذوا بتعليم الله (٢).

فصل

ذهب ابن عباس والحسن في جماعة من المفسرين إلى نسخ ما تناولته الآية من الدعاء للوالدين المشركين بقوله : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ)(٣) [التوبة : ١١٣] ، ومنع من النسخ قوم ، وسلكوا في توجيه الآية طرقا :

__________________

(١) أخرجه أحمد في الزهد (ص : ٣٧٢).

(٢) أخرجه الطبري (١٥ / ٦٧). وانظر : الوسيط (٣ / ١٠٤).

(٣) أخرج البخاري في الأدب المفرد عن ابن عباس في قوله عزوجل : (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ) إلى قوله : (كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) فنسختها الآية في براءة : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ...) إلخ الآية (ص : ٢٢).

وأخرجه الطبري (١٥ / ٦٧ ـ ٦٨). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٢٦٠ ـ ٢٦١) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن ابن عباس وعزاه للبخاري في الأدب المفرد وأبو داود وابن جرير وابن المنذر. ومن طريق آخر عن قتادة وعزاه لابن المنذر والنحاس وابن الأنباري في المصاحف.

١٥١

أحدها : له أن يترحّم عليهما بشرط إيمانهما ، أو يدعو لهما برحمة الهداية والإرشاد ، أو يكون المعنى : ارحمهما بتخفيف العذاب عنهما لا برفعه.

والذي عليه الفقهاء : أنه عام دخله التخصيص ، وليس من النّسخ في شيء (١).

فصل يتضمن نبذة من الأحاديث الحاضّة على بر الوالدين

قرأت على أبي المجد القزويني ، أخبركم أبو منصور محمد بن أسعد فأقربه ، حدثنا الحسين بن مسعود الفراء ، أخبرنا عبد الرحمن بن محمد الداودي ، أخبرنا أحمد بن محمد بن موسى بن الصلت ، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، حدثنا محمد بن أبي عبد الرحمن المقرئ ، حدثنا مروان بن معاوية ، حدثنا بهز.

وأنبأنا به عاليا حنبل بن عبد الله بن الفرج ، أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن الحصين ، أخبرنا أبو علي بن المذهب ، أخبرنا أبو بكر القطيعي ، حدثنا عبد الله بن الإمام أحمد ، حدثني أبي ، حدثنا يزيد ، حدثنا بهز بن حكيم بن معاوية (٢) ، عن أبيه (٣) ، عن جدّه (٤) قال : «قلت : يا رسول الله! من أبر؟ قال : أمك ، قلت : ثم من؟

__________________

(١) وهو ما ذهب إليه الطبري. وانظر : الناسخ والمنسوخ للنحاس (ص : ٥٤٥ ـ ٥٥٠) ، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص : ٤٤) ، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص : ٣٩٠ ـ ٣٩١).

(٢) بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة ، أبو عبد الملك القشيري ، ثقة صدوق ، مات قبل الستين ومائة (تهذيب التهذيب ١ / ٤٣٧ ، والتقريب ص : ١٢٨).

(٣) حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري ، تابعي ، صدوق ثقة (تهذيب التهذيب ٢ / ٣٨٧ ، والتقريب ص : ١٧٧).

(٤) معاوية بن حيدة بن معاوية بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة القشيري ، صحابي نزل البصرة ، ومات بخراسان (تهذيب التهذيب ١٠ / ١٨٥ ، والتقريب ص : ٥٣٧).

١٥٢

قال : ثم أمك. قال : قلت : [ثم](١) من؟ قال : ثم أمك. قلت : ثم من؟ قال : أباك ، ثم الأقرب فالأقرب» (٢).

وفي مسند الإمام أحمد والصحيحين من حديث أبي هريرة قال : قال رجل : «يا رسول الله! أي الناس أحق مني بحسن الصحبة؟ قال : أمك ، قال : ثم من؟ قال : ثم أمك. قال : ثم من؟ قال : ثم أمك. قال : ثم من؟ قال : ثم أبوك» (٣).

وروى أبو الدرداء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الوالد أوسط أبواب الجنة ، فإن شئت فحافظ على الباب أو ضيّع» (٤) معناه : خير أبواب الجنة. يقال : فلان من أوسط قومه ، أي : من خيارهم (٥).

وروى عبد الله بن عمرو عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «رضى الله في رضى الوالدين ، وسخط الله في سخط الوالدين» (٦).

وفي مسند الإمام أحمد من حديث عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نمت فرأيتني في الجنة ، فسمعت صوت قارئ يقرأ ، فقلت : من هذا؟ قالوا : هذا حارثة

__________________

(١) زيادة من مسند أحمد (٥ / ٣).

(٢) أخرجه أحمد (٥ / ٣).

(٣) أخرجه البخاري (٥ / ٢٢٢٧ ح ٥٦٢٦) ، ومسلم (٤ / ١٩٧٤ ح ٢٥٤٨) ، وأحمد (٢ / ٣٢٧ ح ٨٣٢٦).

(٤) أخرجه الترمذي (٤ / ٣١١ ح ١٩٠٠) ، وابن ماجه (١ / ٦٧٥ ح ٢٠٨٩) ، وأحمد (٦ / ٤٤٥ ح ٢٧٥٥١).

(٥) انظر : اللسان (مادة : وسط).

(٦) أخرجه الترمذي (٤ / ٣١٠ ح ١٨٩٩).

١٥٣

بن النعمان ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كذاك البر ، وكان من أبرّ الناس بأمه» (١).

قالت عائشة : «كان رجلان من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبر من كان في هذه الأمة بأمهما ؛ عثمان بن عفان ، وحارثة بن النعمان ، فأما عثمان فإنه قال : ما قدرت أن أتأمل أمي منذ أسلمت ، وأما حارثة فإنه كان يفلّي رأس أمه ويطعمها بيده ، ولم يستفهمها قط كلاما تأمره به حتى يسأل من عندها بعد أن تخرج ، ماذا قالت أمي؟» (٢).

وقال مكحول : برّ الوالدين كفارة للكبائر (٣).

وقال ابن عباس : لا أعلم عملا أقرب إلى الله من بر الوالدة (٤).

وكان حجر بن عدي يلمس فراش أمه بيده ، فيتهم غلظ يده ، فيتقلب عليه على ظهره ، فإذا أمن أن يكون عليه شيء أضجعها (٥).

وقالت عائشة رضي الله عنها : ما برّ والده من شدّد النظر إليه (٦).

وقال ابن عباس : لا تنفض ثوبك فيصيبهما الغبار (٧).

وقال عروة : لا تمتنع من شيء أحباه (٨).

__________________

(١) أخرجه أحمد (٦ / ١٥١ ح ٢٥٢٢٣).

(٢) ذكره القرشي في مكارم الأخلاق (ص : ٧٥ ح ٢٢٣).

(٣) أخرجه الحارث في مسنده (٢ / ٨٤٧ ح ٨٩٨) ، وأبو نعيم في الحلية (٥ / ١٨٣).

(٤) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (ص : ١٥ ح ٤).

(٥) ذكره القرشي في مكارم الأخلاق (ص : ٧٦ ح ٢٢٦).

(٦) أخرجه البيهقي في الشعب (٦ / ١٩٧ ح ٧٨٩١) ولفظه : «ما بر أباه من شد إليه الطرف». وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (١ / ١٠٨).

(٧) زاد المسير (١ / ١٠٨).

(٨) أخرجه الطبري (١٥ / ٦٦) ، والبخاري في الأدب المفرد (ص : ١٧ ح ٩) ، وابن أبي حاتم ـ

١٥٤

ورأى ابن عمر رضي الله عنهما رجلا في الطواف يحمل أمه ، ويقول :

إني لها مطية لا تذعر

إذا الركاب نفرت لا تنفر

ما حملت وأرضعتني أكثر

الله ربي ذو الجلال الأكبر

تظنني جزيتها يا ابن عمر؟ قال : لا ولا زفرة واحدة (١).

فإن قيل : هل من سبيل إلى تحصيل فضيلة بر الوالدين وتدارك ما فات من ذلك بعد موتهما؟

قلت : نعم ، وهو ما أخرجه الإمام أحمد ومسلم من حديث ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن أبر البر صلة [المرء](٢) أهل ودّ أبيه بعد أن يولي» (٣).

وفي حديث أبي أسيد : «أن رجلا قال : يا رسول الله! هل بقي من بر أبويّ شيء بعد موتهما؟ قال : نعم ، خصال أربع : الدعاء لهما والاستغفار لهما ، وإنفاذ عهدهما ، وإكرام صديقهما ، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما» (٤).

وقال مكحول : لا يزال الرجل قادرا على البرّ ما دام في فصيلته من هو أكبر

__________________

ـ (٧ / ٢٣٢٤). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٢٥٩) وعزاه للبخاري في الأدب المفرد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(١) أخرجه الفاكهي في أخبار مكة (١ / ٣١٢ ح ٦٤٢). وذكره القرشي في مكارم الأخلاق (ص : ٧٨ ح ٢٣٥). وانظر : الكشاف (٢ / ٦١٧).

(٢) في الأصل : المراء. والتصويب من مصادر التخريج.

(٣) أخرجه مسلم (٤ / ١٩٧٩ ح ٢٥٥٢) ، وأحمد (٢ / ٨٨ ح ٥٦١٢).

(٤) أخرجه أبو داود (٤ / ٣٣٦ ح ٥١٤٢) ، وأحمد (٣ / ٤٩٧).

١٥٥

منه (١).

(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً)(٢٥)

قوله تعالى : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ) أي : بما تضمرون من البرّ والعقوق (إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ) طائعين لله بارّين ، ثم بدرت منكم بادرة عند الغضب ثم تبتم وأنبتم ، (فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً) أي : للأوابين منكم ، فحذف. ويجوز أن يكون التقدير : إنه كان لكم ، فوضع الظاهر موضع المضمر ؛ لأن الأوابين الصالحون.

قال ابن قتيبة (٢) : الأوّاب : التائب مرة بعد مرة.

وقال الزجاج (٣) : الأوّاب : المقلع عن جميع ما نهي عنه (٤). يقال : قد آب يؤوب [أوبا](٥) ؛ إذا رجع (٦).

قال عبيد بن عمير : الأواب : الذي يذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر الله منها (٧).

__________________

(١) أخرجه الحارث في مسنده (٢ / ٨٤٧ ح ٨٩٨) ، وأبو نعيم في الحلية (٥ / ١٨٣).

(٢) تفسير غريب القرآن (ص : ٢٥٣).

(٣) معاني الزجاج (٣ / ٢٣٥).

(٤) وهو نحو قول ابن جرير ، قال : أولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : الأواب هو التائب من الذنب الراجع من معصية الله إلى طاعته ، ومما يكرهه إلى ما يرضاه (الطبري ١٥ / ٧١).

(٥) زيادة من معاني الزجاج (٣ / ٢٣٥).

(٦) انظر : اللسان (مادة : أوب).

(٧) أخرجه الطبري (١٥ / ٧٠) ، وهناد في الزهد (٢ / ٤٥٨). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٢٧١) ـ

١٥٦

وقال الحسن : هو المقبل على الله بقلبه وعمله (١).

وقال ابن المنكدر : هو الذي يتوب بين المغرب والعشاء (٢).

وقال السدي : هو الذي يذنب سرا ويتوب سرا (٣).

(وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً)(٢٧)

قوله تعالى : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) حسن معاشرته وما فرض الله تعالى له من النفقة إن كان معسرا عاجزا عن الكسب على ذي القرابة الموسر.

والنفقة واجبة عندنا على كل شخصين جرى التوارث بينهما بفرض أو تعصيب. فأما إن جرى التوارث من أحد الطرفين ؛ كالعمة مع ابن أخيها ، والجدة مع ابن بنتها ، فعلى الوارث منهما النفقة في إحدى الروايتين عن الإمام أحمد.

وقال مالك : يلزم كل واحد من الأب وابنه نفقة الأجر فقط.

وقال الشافعي : يلزم الوالدين وإن علوا ، والولد وإن نزل ، وإن كان القريب موسرا أو ممن لا تجب نفقته ، فحقّه الإحسان إليه والعطف عليه ، ومعاضدته ومعاشرته بالمعروف وزيارته وموانته.

قال سراقة بن مالك بن جعشم : خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : خيركم المدافع

__________________

ـ وعزاه لهناد.

(١) زاد المسير (٥ / ٢٦).

(٢) أخرجه الطبري (١٥ / ٦٩). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٢٦).

(٣) زاد المسير (٥ / ٢٧).

١٥٧

عن عشيرته (١).

وقال علي بن الحسين عليهما‌السلام : يعني به قرابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢). فيكون المعنى : آتهم حقهم من الإكرام والاحترام.

أو يكون خطابا للولاة ، ويكون المعنى : آتوهم حقوقهم من الخمس.

قوله تعالى : (وَابْنَ السَّبِيلِ) المعنى : آتهم حقهم من الزكاة.

(وَلا تُبَذِّرْ) بالنفقة في غير طاعة الله (تَبْذِيراً) قال مجاهد : لو أنفق الرجل ماله كله في حق ما كان مبذرا ، ولو أنفق مدّا في غير حق كان مبذرا (٣).

(إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) أي : إخوانهم في الشر ؛ لأنهم يوافقونهم ويجيبونهم إلى ما يزينونه لهم ويدعونهم إليه ، (وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) جحودا للنعمة.

(وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً)(٢٨)

قوله تعالى : (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ) أي : وإن تعرض عن الذين تقدم ذكرهم من الأقارب والمساكين وأبناء السبيل حياء من ردهم لإعسارك (فَقُلْ لَهُمْ) مطيّبا لقلوبهم وجابرا لكسرهم وذلّ سؤالهم (قَوْلاً مَيْسُوراً) لينا سهلا. قال ابن عباس : هو العدة الحسنة (٤).

__________________

(١) أخرجه أبو داود (٤ / ٣٣١ ح ٥١٢٠).

(٢) أخرجه الطبري (١٥ / ٧٢). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٢٧) ، والسيوطي في الدر (٥ / ٢٧١) وعزاه لابن جرير.

(٣) أخرجه الطبري (١٥ / ٧٤). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٢٨).

(٤) أخرجه الطبري (١٥ / ٧٥) عن عكرمة ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٣٢٧). وذكره ابن الجوزي في زاد ـ

١٥٨

وقوله : (ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ) مصدر في موضع الحال (١) ، و «ترجوها» حال أيضا (٢). والتقدير : وإما تعرضن عنهم مبتغيا رحمة من ربك راجيا لها فقل لهم.

قوله : «فقل لهم» جواب «إما» ، وهذا المصدر جائز أن يتعلق بالشرط ، على معنى : إن تعرض عنهم ابتغاء رحمة من ربك ، وهي : طلب الرزق جائز أن يتعلق بجواب الشرط مقدما عليه ، على معنى : فقل لهم قولا ميسورا مبتغيا رحمة ربك برحمتك إياهم.

(وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) (٣٠)

قوله تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) قال ابن مسعود : «جاء غلام إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن أمي تسألك كذا وكذا. فقال : ما عندنا اليوم شيء ، قال : فتقول لك : اكسني قميصك ، قال : فخلعه فدفعه إليه وجلس في بيته ، فأنزل الله تعالى هذه الآية» (٣).

__________________

ـ المسير (٥ / ٢٩) ، والسيوطي في الدر (٥ / ٢٧٥ ـ ٢٧٦) وعزاه لابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس.

(١) التبيان (٢ / ٩٠) ، والدر المصون (٤ / ٣٨٧).

(٢) مثل السابق.

(٣) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ١٠٥) ، وأسباب النزول (ص : ٢٩٤) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٢٩). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٢٧٦) وعزاه لابن جرير. ولم أقف عليه في المطبوع من تفسير ابن جرير.

١٥٩

قال جابر بن عبد الله : «أذّن بلال للصلاة فلم يخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فشغل قلوب أصحابه ، فدخل بعضهم فرآه عريانا ، فنزلت هذه الآية» (١).

والمعنى : اقتصد في النفقة والعطية ، ولا تمسك يدك عن البذل حتى كأنها مغلولة إلى عنقك.

(وَلا تَبْسُطْها) في البذل (كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً) عند الله ؛ لأنها حالة غير مرضية عند الله وعند الناس. أما غنيّهم فينسبه إلى سوء التدبير في المعيشة. وأما فقيرهم فيقول : أعطى فلانا وحرمني ، وملوما عند نفسه إذا أصبح محتاجا إلى درهم غيره وفلسه.

(مَحْسُوراً) منقطعا بك.

قال الزجاج (٢) : المحسور : الذي قد بلغ الغاية في التعب والإعياء. فالمعنى : فتقعد وقد بالغت في الحمل على نفسك وحالك حتى صرت بمنزلة من قد حسر.

قال القاضي أبو يعلى : هذا الخطاب أريد به غير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه لم يكن يدّخر شيئا لغد ، وكان يجوع حتى يشدّ الحجر على بطنه ، وقد كان كثير من فضلاء الصحابة ينفقون جميع ما يملكون فلم ينههم الله ؛ لصحة يقينهم ، وإنما نهى من خيف عليه التحسّر على ما خرج من يده ، فأما من وثق بوعد الله فهو غير مراد بالآية.

(وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ

__________________

(١) ذكره الواحدي في أسباب النزول (ص : ٢٩٤ ـ ٢٩٥) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٣٠).

(٢) معاني الزجاج (٣ / ٢٣٦).

١٦٠