رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٣

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٣

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٣

وسقاه الله (١). قال لبيد :

سقى قومي بني مجد وأسقى

نميرا والقبائل من هلال

فجاء باللغتين.

وتقول : سقيت الرجل ماء أو شرابا من لبن أو غيره ، فليس فيه إلا لغة واحدة [بغير ألف](٢) إذا كان في الشّفة ، وإذا جعلت له شربا فهو أسقيته ، وأسقيت أرضه وإبله ، ولا يكون غير هذا ، وكذلك إذا استسقيت له ، يعني : قلت له : أسقاك الله ، تقول : قد أسقيته. قال ذو الرمة :

وقفت على رسم لميّة ناقتي

فما زلت أبكي عنده وأخاطبه

وأسقيه حتى كاد مما أبثّه

تكلّمني أحجاره وملاعبه (٣)

قوله تعالى : (وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) نفى عنهم سبحانه وتعالى ما أثبته لنفسه في قوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ).

قال مقاتل (٤) : ما أنتم له بحافظين ، أي : [ليست خزائنه](٥) بأيديكم.

وقال سفيان الثوري : (ما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) أي : بمانعين (٦).

__________________

(١) في الأصل زيادة : وسقاه. وانظر : مجاز القرآن (١ / ٣٤٩).

(٢) في الأصل : بألف. والتصويب من مجاز القرآن (١ / ٣٥٠). وانظر : زاد المسير (٤ / ٣٩٥).

(٣) انظر : البيتين في : اللسان (مادة : سقي) ، والقرطبي (٩ / ٢٥١) ، والطبري (١٤ / ٢٢) ، وزاد المسير (٤ / ٣٩٥) ، وروح المعاني (٢٢ / ١٨٣). وانظر البيت الثاني في : اللسان ، مادة شكا ، وفيه : «وأشكيه» بدل «وأسقيه» ، وروح المعاني (١٤ / ٣١).

(٤) تفسير مقاتل (٢ / ٢٠١). وانظر : الوسيط (٣ / ٤٢) ، وزاد المسير (٤ / ٣٩٥).

(٥) في الأصل : لستم خزانه. والتصويب من زاد المسير (٤ / ٣٩٥).

(٦) أخرجه الطبري (١٤ / ٢٢) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٢٦١). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٧٣) ـ

٦٠١

قوله تعالى : (وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) أي : الباقون بعد فناء الخلق ، كقوله : (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها) [مريم : ٤٠].

وقيل : للباقي وارث ؛ استعارة من وارث الميت ، ومنه قوله عليه‌السلام : «واجعله الوارث منّا» (١) ، وقد حققنا هذا المعنى فيما مضى.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) أخرج الترمذي والنسائي من حديث ابن عباس قال : «كانت امرأة تصلي خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حسناء من أحسن النساء ، وكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها ، ويتأخر بعضهم حتى يكون بالصف المؤخر ، فإذا ركع نظر من تحت إبطيه ، فأنزل الله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ)(٢) هذا حديث صحيح أخرجه الحاكم في صحيحه.

روى أبو صالح عن ابن عباس «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرض على الصف الأول ، فازدحموا عليه ، حتى قال قوم بيوتهم قاصية عن المدينة : لنبيعنّ دورنا ولنشترين دورا قريبة من المسجد حتى ندرك الصف المقدم ، فنزلت هذه الآية» (٣).

وقريب منه قول الحسن وعطاء ، يعني : المتقدمين في طاعة الله والمتأخرين عنها (٤).

__________________

ـ وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.

(١) أخرجه البيهقي في الكبرى (٦ / ١٠٦).

(٢) أخرجه الترمذي (٥ / ٢٩٦ ح ٣١٢٢) ، والنسائي في الكبرى (١ / ٣٠٢ ح ٩٤٢) ، والحاكم (٢ / ٣٨٤ ح ٣٣٤٦).

(٣) زاد المسير (٤ / ٣٩٦) ، وأسباب النزول للواحدي (ص : ٢٨٢).

(٤) أخرج نحوه الطبري (١٤ / ٢٥) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٢٦٢) كلاهما عن الحسن. وانظر : الوسيط ـ

٦٠٢

وقال ابن عباس في رواية عنه : المستقدمين من خرج من الخلق ، والمستأخرين من هو حي لم يمت (١).

وقال قتادة ومجاهد : المستقدمين من مضى من الأمم ، والمستأخرين من بقي ، وهم أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢). يدل عليه قوله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ) مع إفراط كثرتهم (إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) باهر الحكمة واسع العلم.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) (٢٧)

قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) يعني : آدم (مِنْ صَلْصالٍ) وهو الطين اليابس الذي لم يطبخ ، فإذا نقرته صلصل ، أي : صوّت.

وقيل : هو تضعيف صلّ ؛ إذا أنتن ، تقول : صلّ اللحم وأصلّ ؛ إذا تغيّرت رائحته (٣).

__________________

ـ (٣ / ٤٣) ، وزاد المسير (٤ / ٣٩٧). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٧٥) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن.

(١) أخرجه الطبري (١٤ / ٢٤) عن مجاهد ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٢٦٢) عن ابن عباس. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٤ / ٣٩٦) ، والسيوطي في الدر (٥ / ٧٥) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٢) أخرجه الطبري (١٤ / ٢٥) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٢٦٢) ، ومجاهد (ص : ٣٤٠ ـ ٣٤١) ولفظه : (الْمُسْتَقْدِمِينَ) : القرون الأول ، و (الْمُسْتَأْخِرِينَ) أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٤ / ٣٩٧) ، والسيوطي في الدر (٥ / ٧٦) وعزاه لعبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) انظر : اللسان (مادة : صلل).

٦٠٣

ومثله : نتن وأنتن ، وخمّ وأخمّ ، وفي معنى ذلك : خنز اللحم ويخنز ، وخزن يخزن. قال طرفة :

ثم لا يخزن فينا لحمها

إنما يخزن لحم المدخر

قال أبو عمرو : يقال : ثعط اللحم يثعط ثعطا ؛ إذا أنتن (١).

قال أبو عبيدة : من قال : نتن ، قال : فهو منتن ، [ومن قال](٢) : أنتن ، قال : فهو منتن (٣). وهذا اختيار مجاهد والكسائي (٤).

(مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) صفة ل (صَلْصالٍ) أي : خلقه من صلصال كائن من حمأ مسنون.

قال أبو عبيدة (٥) : وهو جمع حمأة.

قال ابن الأنباري (٦) : لا خلاف أن الحمأ : الطين الأسود المتغير الريح.

وقد روى السدي عن أشياخه قال : بلّ التراب حتى عاد طينا ، ثم ترك حتى أنتن وتغيّر (٧).

والمسنون : المتغير الرائحة ، ومنه قوله : (لَمْ يَتَسَنَّهْ) [البقرة : ٢٥٩] ، وسمّي بذلك : لتقادم السنين عليه. وهو قول ابن عباس في رواية مجاهد عنه ، وإليه ذهب

__________________

(١) انظر : اللسان (مادة : ثعط).

(٢) في الأصل : وقال. والتصويب من اللسان (مادة : نتن).

(٣) انظر : اللسان (مادة : نتن).

(٤) زاد المسير (٤ / ٣٩٧).

(٥) مجاز القرآن (١ / ٣٥١).

(٦) انظر : زاد المسير (٤ / ٣٩٧).

(٧) زاد المسير (٤ / ٣٩٧).

٦٠٤

قتادة وابن قتيبة (١).

وقال في رواية ابن أبي طلحة : هو الطين الرطب (٢) ، سمي بذلك لأنه يسيل وينبسط ، فيكون كالماء المسنون ، أي : المصبوب.

وقال أبو عمرو بن العلاء : المسنون : المصبوب (٣) ، من قول العرب : سننت الماء على الوجه وغيره ؛ إذا صببته (٤).

وقيل : المسنون : المصوّر ، من سنّة الوجه ؛ وهي صورته (٥) ، وهي اختيار سيبويه.

قوله تعالى : (وَالْجَانَ) منصوب بفعل مضمر ، يفسره ما بعده. قال ابن عباس :

هو أبو الجن ، كآدم للناس (٦).

وقال الحسن وعطاء : هو إبليس (٧).

(خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ) أي : من قبل خلق آدم (مِنْ نارِ السَّمُومِ) وهو معنى قول

__________________

(١) تفسير غريب القرآن لابن قتيبة (ص : ٢٣٨). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٤ / ٣٩٨).

(٢) أخرجه الطبري (١٤ / ٣٠) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٢٦٣). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٧٧) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) زاد المسير (٤ / ٣٩٨).

(٤) انظر : اللسان (مادة : سنن).

(٥) مثل السابق.

(٦) الطبري (١٤ / ٣٠) ، وزاد المسير (٤ / ٣٩٩).

(٧) أخرجه الطبري (١٤ / ٣٠) عن قتادة. وانظر : الوسيط (٣ / ٤٤) ، وزاد المسير (٤ / ٣٩٩). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٧٨) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة.

٦٠٥

مجاهد وقتادة (١).

قال ابن مسعود : من نار الريح الحارة ، قال : وهي جزء من سبعين جزءا من السموم التي خلق منها الجان ، وتلا : (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ)(٢).

وقال ابن السائب : هي نار لا دخان لها ، والصواعق [تكون](٣) منها (٤).

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) (٣٨)

قوله تعالى : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ) أي : عدلته وصورته (وَنَفَخْتُ) أجريت (فِيهِ مِنْ

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٤ / ٣٠) عن قتادة. وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٧٨) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة.

(٢) أخرجه الحاكم (٢ / ٥١٦) ، والطبراني في الكبير (٩ / ٢١٧) ، والطبري (١٤ / ٣٠) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٢٦٣). وانظر : الوسيط (٣ / ٤٤ ـ ٤٥) ، وزاد المسير (٤ / ٤٠٠). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٧٨) وعزاه للطيالسي والفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان.

(٣) زيادة من الوسيط (٣ / ٤٤) ، وزاد المسير (٤ / ٤٠٠).

(٤) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٤٤) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٤ / ٤٠٠).

٦٠٦

رُوحِي) التي تقوم بها الحياة ، وأضافها إليه إضافة ملك أو تشريف ، كقوله : (ناقَةَ اللهِ) [الشمس : ١٣].

(فَقَعُوا لَهُ) أمر من الوقوع (ساجِدِينَ) سجود تكريم لا سجود عبادة. وقد سبق ذكره في البقرة.

(فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) قال سيبويه (١) : هذا توكيد بعد توكيد.

وحكي عن الزجاج (٢) أنه [لو](٣) اقتصر على «كلهم» لم يكن السجود قد حصل منهم دفعة واحدة ، فلما قال : «أجمعون» أذن بذلك.

(إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) سبق تفسيره.

(قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) «ما» مبتدأ ، و «لك» في موضع الخبر ، أي : أيّ شيء ثابت لك.

وقوله : «أن [لا](٤) تكون» في تقدير : في أن لا تكون ، فحذفت في ، وهي متعلقة بالخبر أيضا ، فلما حذفت «في» انتصب موضع «أن» على قول سيبويه ، وبقي على الجر في قول الخليل.

وحمل أبو الحسن «أن» على الزيادة ، ويكون قوله : «لا تكون» في موضع الحال ، والتقدير : ما لك خارجا عن الساجدين.

واللام في قوله : «لأسجد» لتوكيد النفي.

__________________

(١) انظر : الكتاب (١ / ١٥٠).

(٢) معاني الزجاج (٣ / ١٧٩).

(٣) زيادة على الأصل.

(٤) زيادة على الأصل.

٦٠٧

وما لم أذكره مفسرا إلى قوله : (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ) قال ابن السائب : يلعنك أهل السموات وأهل الأرض إلى الحساب ؛ لأنه أول من عصى الله (١).

قال ابن الأنباري (٢) : إنما قال : (إِلى يَوْمِ الدِّينِ) لأنه يوم له أول وليس له آخر ، فجرى مجرى الأبد الذي لا يفنى. فالمعنى : عليك اللعنة أبدا.

وقيل : المعنى : وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين من غير أن تعذب ، فإذا جاء يوم الدين عذبت بما ينسى اللعن معه.

فإن قيل : فما وجه مجيء قوله هاهنا : (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ) بالألف واللام ، وفي موضع آخر : (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي) [ص : ٧٨] بالإضافة؟

قلت : لما جاء هناك : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٧٥] مضافا ، جاء : (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي) على المطابقة والمشاكلة. وجاء هاهنا : (ما لَكَ) أن لا (تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ). وسياق الآية على اللام في قوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) ، وفي قوله : (وَالْجَانَ) فجيء باللام أيضا في قوله : (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ).

(قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) رام الخبيث أن يعبر قنطرة الموت ، فقيل له : إنك (مِنَ الْمُنْظَرِينَ* إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) وهي النفخة الأولى حين يموت الخلق كلهم.

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٤٥) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٤ / ٤٠١).

(٢) انظر : زاد المسير (٤ / ٤٠١).

٦٠٨

(قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) (٤٤)

(قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) الباء للقسم ، و «ما» مصدرية ، واللام في «لأزينن» جواب الباء (١).

والمعنى : أقسم بإغوائك إياي لأزينن لهم ، ونحوه في القسم : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ) [ص : ٨٢].

وقيل : الباء في قوله : «بما» للسببية ، والقسم مقدّر ، أي : بسبب كوني غاويا أقسم لأزينن لهم ، ومفعول التزيين محذوف ، تقديره : لأزينن لهم المعاصي والباطل.

(وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) الذين أخلصوا دينهم وعملهم من الشوائب المفسدة للطاعة والعبادة ، واستثناهم اللعين لعلمه أن سهام كيده لا تنفذ في دروع توحيدهم وتقواهم.

(قالَ هذا) أي : قال الله تعالى هذا الإخلاص (صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) أي : طريق إليّ مستقيم يفضي إلى كرامتي.

وقال الزمخشري (٢) : التقدير : هذا طريق حق عليّ أن أراعيه ، وهو أن لا يكون لك سلطان على عبادي.

__________________

(١) الدر المصون (٣ / ٢٤١ ـ ٢٤٢).

(٢) الكشاف (٢ / ٥٤٢).

٦٠٩

وقرأت على الشيخين أبي البقاء عبد الله بن الحسين اللغوي وأبي عمرو عثمان بن مقبل الياسري ليعقوب الحضرمي : «صراط علي مستقيم» بكسر اللام ورفع الياء وتنوينها ، صفة ل «صراط» ، على معنى : هذا صراط عال ، من علوّ الشرف والفضل (١).

(إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) أن تلقيهم في ذنب يضيق عفوي عنه ، (إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ).

(وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ) أي : لموعد الكافرين (أَجْمَعِينَ)

(لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ) هي دركاتها.

قال ابن عباس : سبعة أطباق طبق فوق طبق (٢).

قال أمير المؤمنين علي كرّم الله وجهه : أبواب جهنم ليست كأبوابكم هذه ، ولكنها هكذا وهكذا وهكذا ، بعضها فوق بعض ، ووصف الراوي بيده وفتح أصابعه (٣).

قال ابن جريج : لها سبعة أبواب ؛ أولها : جهنم ، ثم لظى ، ثم الحطمة ، ثم السعير ، ثم سقر ، ثم الجحيم ، ثم الهاوية (٤).

__________________

(١) إتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٧٤) ، والنشر (٢ / ٣٠١).

(٢) أخرجه الطبري (١٤ / ٣٥) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٢٦٥) كلاهما عن عكرمة. وانظر : الوسيط (٣ / ٤٥). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٨١) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة.

(٣) أخرجه الطبري (١٤ / ٣٥). وانظر : الوسيط (٣ / ٤٦) ، وزاد المسير (٤ / ٤٠٢).

(٤) أخرجه الطبري (١٤ / ٣٥). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٤ / ٤٠٢) ، والسيوطي في الدر (٥ / ٨١) وعزاه لابن جرير وابن المنذر.

٦١٠

قال الضحاك : هي سبعة أدراك بعضها فوق بعض ، وأعلاها فيه أهل التوحيد يعذّبون على قدر ذنوبهم ثم يخرجون ، والثاني فيه النصارى ، والثالث فيه اليهود ، والرابع فيه الصابئون ، والخامس فيه المجوس ، والسادس فيه مشركوا العرب ، والسابع فيه المنافقون (١).

(لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ) أي : من أتباع إبليس (جُزْءٌ مَقْسُومٌ).

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٨) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) (٥٠)

قوله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) يعني : عيون الماء والخمر والسلسبيل والتسنيم ، وغير ذلك من شراب الجنة.

(ادْخُلُوها) على إرادة القول ، تقديره : يقال لهم : ادخلوها (بِسَلامٍ) أي : بتحية. وقيل : بسلام من الآفات.

قال ابن عباس : سلموا من سخط الله (٢).

(آمِنِينَ) من الكذب وشوائب النغص والموت والخروج والخوف ، وكل ما ينافي اللذة.

وقرأت ليعقوب الحضرمي من رواية رويس عنه : «وعيون أدخلوها» بضم

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم (٧ / ٢٢٦٥). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٨٢) وعزاه لابن أبي حاتم.

(٢) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٤٦).

٦١١

الألف وكسر الخاء على ما لم يسم فاعله (١) ، فلا يحتاج في هذه القراءة إلى إضمار القول.

قوله تعالى : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) مفسر في الأعراف (٢).

(إِخْواناً) نصب على الحال ، أو على المدح (٣) (عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) في محل الحال (٤).

والسّرر : جمع سرير. قال ابن عباس : على سرر من ذهب مكلّلة بالزبرجد والدر واليواقيت ، السرير مثل ما بين أيلة إلى عدن (٥) ، «متقابلين» لا يرى بعضهم أقفاء بعض.

قال مجاهد : تدور بهم الأسرّة حيثما داروا ، فيكونون في جميع أحوالهم متقابلين (٦).

(لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ) أي تعب (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ).

قوله تعالى : (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أي : خبرهم أني أنا الغفور لأوليائي ، الرحيم بهم.

(وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) لأعدائي.

وقد روى ابن المبارك بإسناده ، عن رجل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اطلع

__________________

(١) النشر في القراءات العشر (٢ / ٣٠١) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٧٥).

(٢) (٢ / ١٢٤).

(٣) التبيان (٢ / ٧٥) ، والدر المصون (٤ / ٢٩٨).

(٤) مثل السابق.

(٥) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٤٦) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٤ / ٤٠٤).

(٦) القرطبي (١٠ / ٣٣).

٦١٢

علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة ونحن نضحك ، فقال : لا أراكم تضحكون ، ثم أدبر حتى إذا كان عند الحجر رجع إلينا القهقرى ، فقال : إني لما خرجت جاء جبريل عليه‌السلام فقال : يا محمد! يقول الله تعالى : لم تقنّط عبادي؟ نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم» (١).

أخبرنا الشيخ أبو القاسم أحمد بن عبد الله بن عبد الصمد قراءة عليه وأنا أسمع بدمشق سنة ست وستمائة ، والشيخ أبو الحسن علي بن أبي بكر البغداديان بقراءتي عليه قالا : أنبأ أبو الوقت ، أبنا الداودي ، أبنا السرخسي ، أبنا الفربري ، ثنا البخاري ، ثنا قتيبة (٢) ، ثنا يعقوب بن عبد الرحمن (٣) ، عن عمرو بن أبي عمرو (٤) ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري (٥) ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٤ / ٣٩) ، وابن المبارك في الزهد (ص : ٣١٢). وذكره الواحدي في أسباب النزول (ص : ٢٨٣).

(٢) قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف بن عبد الله الثقفي مولاهم ، أبو رجاء البلخي البغلاني ، ثقة ثبت صدوق ، مات سنة أربعين ومائتين عن تسعين سنة (تهذيب التهذيب ٨ / ٣٢١ ـ ٣٢٢ ، والتقريب ص : ٤٥٤).

(٣) يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاري المدني ، حليف بني زهرة ، سكن الإسكندرية ، وثقة ابن معين وغيره ، مات سنة إحدى وثمانين ومائة (تهذيب التهذيب ١١ / ٣٤٣ ، والتقريب ص : ٦٠٨).

(٤) عمرو بن أبي عمرو ، اسمه ميسرة ، مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب المخزومي ، أبو عثمان المدني ، ثقة ربما وهم ، مات بعد الخمسين (تهذيب التهذيب ٨ / ٧٢ ، والتقريب ص : ٤٢٥).

(٥) سعيد بن أبي سعيد واسمه كيسان المقبري ، أبو سعد المدني ، كان أبوه مكاتبا لامرأة من بني ليث ، والمقبري : نسبة إلى مقبرة بالمدينة كان مجاورا لها ، كان ثقة جليل ، اختلط قبل موته بأربع سنين ، مات في آخر خلافة هشام سنة ثلاث وعشرين ومائة (تهذيب التهذيب ٤ / ٣٤ ، والتقريب ص : ٢٣٦).

٦١٣

يقول : «إن الله تعالى خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة ، فأمسك [عنده](١) تسعا وتسعين رحمة ، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة ، ولو يعلم الكافر بكل الذي عند الله [من الرحمة](٢) لم ييأس من الجنة ، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار» (٣). هذا حديث صحيح انفرد البخاري بإخراجه.

وبالإسناد قال البخاري : ثنا ابن أبي مريم ، ثنا أبو غسان ، حدثني زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : «قدم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبي ، فإذا امرأة من السبي قد تحلب ثديها تسقي ، إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته بطنها وأرضعته. فقال لنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قلنا : [لا](٤) ، وهي تقدر على أن لا تطرحه ، فقال : الله أرحم بعباده من هذه بولدها» (٥). هذا حديث صحيح أخرجه مسلم عن الحسن بن علي الحلواني عن ابن أبي مريم.

(وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) (٥٦)

__________________

(١) زيادة من صحيح البخاري (٥ / ٢٣٧٤).

(٢) مثل السابق.

(٣) أخرجه البخاري في (٥ / ٢٣٧٤ ح ٦١٠٤).

(٤) زيادة من الصحيحين.

(٥) أخرجه البخاري (٥ / ٢٢٣٥ ح ٥٦٥٣) ، ومسلم (٤ / ٢١٠٩ ح ٢٧٥٤).

٦١٤

قوله تعالى : (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) أي : أخبرهم ليتعظوا أو يعتبروا إذا قصصت عليهم عظيم انتقامي من المجرمين ، وقد مضت القصة مفسرة في هود (١) ، وذكرنا في قصة إبراهيم نصب : «سلاما».

(قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) خائفون.

(قالُوا لا تَوْجَلْ) وقرأ الحسن : «لا توجل» بضم التاء (٢) ، من أوجله يوجله ، إذا [أخافه](٣).

(إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) وهو إسحاق عليه‌السلام ، وهو كلام مستأنف خارج مخرج التعليل للنهي عن الوجل.

وقرأ حمزة : «نبشرك» بفتح النون وضم الشين مع التخفيف (٤).

(قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ) أي : على حالة الكبر والهرم ، (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) استفهام في معنى التعجب.

قرأ نافع : «تبشرون» بكسر النون ، ومثله ابن كثير إلا أنه شدّد النون ، وفتحها الباقون من غير تشديد (٥).

قال الزجاج (٦) : وهو أجود في القراءة.

__________________

(١) عند الآية رقم : ٦٩.

(٢) إتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٧٥).

(٣) في الأصل : أضافه. انظر : اللسان (مادة : وجل).

(٤) النشر في القراءات العشر (٢ / ٢٣٩) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٧٥).

(٥) الحجة للفارسي (٣ / ٢٦) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٣٨٢ ـ ٣٨٣) ، والنشر في القراءات العشر (٢ / ٣٠٢) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٧٥) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣٦٧).

(٦) معاني الزجاج (٣ / ١٨١).

٦١٥

قال أبو علي الفارسي (١) : من كسر النون وشدّد ، أراد : تبشرونني ، فأدغم النون الأولى التي هي علامة الرفع في الثانية المتصلة بالياء ، وحذف الياء اكتفاء بالكسرة منها.

[وأما](٢) قراءة نافع فإنه أراد «تبشرونني» أيضا ، فحذف النون الثانية ؛ لأن التكرير بها وقع ، ولم يحذف الأولى التي هي علامة الرفع ؛ لأن العلامة لا تنحذف ، وأثبت الكسرة لتدل على الياء المحذوفة التي هي ضمير المفعول ، وقد حذفوا هذه النون في كلامهم ؛ لأنها زائدة. قال الشاعر :

أبالموت الذي لا بدّ أني

ملاق لا أباك تخوّفيني (٣)

ومن قرأ : «تبشّرون» بفتح النون ، فالنون علامة الرفع ، ولم يعدّ الفعل فتجتمع نونان ، وحذف المفعول كثير.

(قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِ) وهو الأمر الثابت الذي قضاه الله ووعدك به من الولد ، (فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ) الآيسين من الخير.

(قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ) قرأ أبو عمرو والكسائي : «يقنط» بكسر النون (٤) ، وكذلك : (يَقْنَطُونَ) حيث كان.

قال الزجاج (٥) : يقال : قنط يقنط ، وقنط يقنط.

__________________

(١) الحجة (٣ / ٢٦ ـ ٢٧).

(٢) في الأصل : فأما. والتصويب من الحجة (٣ / ٢٦).

(٣) البيت لأبي حية النميري. انظر البيت في : اللسان (مادة : خعل ، أبي ، فلا).

(٤) الحجة للفارسي (٣ / ٢٧) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٣٨٣) ، والنشر في القراءات العشر (٢ / ٣٠٢) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٧٥) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣٦٧).

(٥) معاني الزجاج (٣ / ١٨١).

٦١٦

وكلهم قرأ : (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا) [الشورى : ٢٨] بفتح النون.

والمعنى : (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) عن طريق الصواب.

وقال ابن عباس : إلا المكذبون (١). وهذا يدل على أن إبراهيم عليه‌السلام ما كان قانطا ، لكنه استبعد ذلك في العادة ، فظنت الملائكة أنه قانط ، فنفى ذلك عن نفسه ، وأخبر أن القانط من رحمة الله ضالّ.

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) (٦٠)

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ) أي : ما شأنكم وما أمركم (أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ).

(قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا) يعنون بالعذاب (إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) يعنون قوم لوط.

(إِلَّا آلَ لُوطٍ) استثناء منقطع ، والمراد : أهله وأتباعه على دينه (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ) وقرأ حمزة والكسائي : «لمنجوهم» بالتخفيف (٢).

(إِلَّا امْرَأَتَهُ) اعلم أنهم جعلوا هذه الآية دليلا على «إلا» أن الاستثناء من الإثبات نفي ، ومن النفي إثبات. فلو قال : لك عليّ عشرة دراهم إلا أربعة إلا درهما ، فلك عليه سبعة ، لأنه لما قال : إلا أربعة كان لك ستة ، فلما قال : إلا درهما ،

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٤٧).

(٢) الحجة للفارسي (٣ / ٢٧) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٣٨٤) ، والنشر في القراءات العشر (٢ / ٢٥٩) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٧٥) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣٦٧).

٦١٧

كان هذا الاستثناء من الأربعة ، فعاد إلى الستة ، فصارت سبعة.

ولو قلت : لك عليّ عشرة إلا ثلاثة إلا درهما كنت مقرّا بثمانية.

وإن قلت : لك عليّ سبعة دراهم إلا ثلاثة إلا درهما كنت مقرّا بخمسة.

قالوا : في هذه الآية استثنى الله آل لوط عن المجرمين فلم يدخلوا في الإهلاك ، ثم استثنى عن آل لوط امرأته فدخلت في الهلكى على ما ذكرناه.

وقيل : (إِلَّا امْرَأَتَهُ) استثناء من الضمير المجرور في : «لمنجّوهم» ، وهذا هو الصحيح. وليس (١) الاستثناء في شيء ؛ لأن ذلك إنما يكون عند اتحاد الحكم على ما سبق من المسائل ، والحكم هاهنا مختلف ؛ لأن (آلَ لُوطٍ) متعلق ب «أرسلنا» أو ب «مجرمين» ، و (إِلَّا امْرَأَتَهُ) متعلق ب «منجوهم».

(قَدَّرْنا) وقرأ أبو بكر عن عاصم : «قدرنا» بالتخفيف (٢) ، ومثله في النمل ، والمعنى : قضينا (إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) الباقين في العذاب.

أضافت الملائكة التقدير إلى نفسها ، والمقدّر إنما هو الله تعالى ؛ إظهارا لاختصاصهم وقرب منزلتهم من الله ، كما يقول الواحد من خواص الملك : نحن فعلنا كذا ، ونحن أمرنا بكذا ، وما الفاعل والآمر سوى الملك.

(فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ

__________________

(١) في الأصل زيادة قوله : في.

(٢) الحجة للفارسي (٣ / ٢٧) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٣٨٤) ، والنشر في القراءات العشر (٢ / ٣٠٢) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٧٦) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣٦٧).

٦١٨

(٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) (٦٦)

(فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ* قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) لا نعرفكم.

وقد أشرنا فيما مضى إلى المعنى الذي أوجب استنكاره إياهم.

(قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) وهو العذاب الذي كانوا يشكون فيه ويكذبون به. (وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِ) أي : باليقين والأمر الثابت من عذابهم ، (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) فيما أخبرناك به من هلاكهم.

(فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ) سر في عقبهم ، ولا تترك أحدا منهم وراءك فيصيبه ما أصابهم ، ويكون ذلك سببا لاشتغال بالك وتشعث أحوالك.

(وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) مفسر في هود (١). ويجوز أن يكون كناية عن الإمعان في السير.

(وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) قال ابن عباس : إلى الشام (٢).

والمعنى : سيروا ممتثلين ما أمرتم به غير ملتفتين ؛ لئلا تشاهدوا ما نزل بقومكم من العذاب ، فتأخذكم بهم رأفة ورقة ، وهم قوم مسخوط عليهم معذبون.

__________________

(١) عند الآية رقم : ٨١.

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم (٧ / ٢٢٦٩) عن السدي. وانظر : الوسيط (٣ / ٤٨) ، وزاد المسير (٤ / ٤٠٧). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٨٩) وعزاه لابن أبي حاتم عن السدي.

٦١٩

(وَقَضَيْنا إِلَيْهِ) أوحينا ، ولذلك عداه بإلى ، (ذلِكَ الْأَمْرَ) ثم فسره بقوله : (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) و «أن» في موضع نصب بدلا من موضع «ذلك» (١).

والمعنى : أنهم يستأصلون بالهلاك وقت الصبح.

(وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) (٧٢)

(وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ) يعني : سدوم (٢) (يَسْتَبْشِرُونَ) بأضياف لوط طمعا في ركوب الفاحشة ، ظنا منهم أنهم من بني آدم.

(قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ) بالإشارة إليهم ، فإن الكريم يفتضح بانتهاك حرمة ضيفه.

(وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ) مفسر فيما مضى.

(قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ) أي : عن أن تجير منهم أحدا وتضيفه ، أو تحول بيننا وبينه.

(قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) مريدين قضاء الشهوة ، أو أنه قال ذلك لكونه شك في قبولهم.

__________________

(١) التبيان (٢ / ٧٦) ، والدر المصون (٤ / ٣٠٣).

(٢) سدوم : مدينة من مدائن قوم لوط ، كان قاضيها يقال له : سدوم ، ويضرب به المثل في الجور ، فيقال : أجور من قاضي سدوم (معجم البلدان ٣ / ٢٠٠).

٦٢٠