رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٣

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٣

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٣

وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) [القصص : ٨٧ ـ ٨٨] ، وكقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) [النساء : ١٣٦].

ويجوز أن يكون : ولا تحسبن الله يعاملهم معاملة الغافل عما يعملون ، ولكن يعاملهم معاملة الرقيب المحاسب على النّقير والقطمير (١).

قال ابن عباس : هذا وعيد للظالم ، وتعزية للمظلوم (٢).

(إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ) أي : يؤخر جزاءهم (لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) أي : تزل فيه أبصار الخلائق عن مقارّها من هول ما ترى ، من قولك : شخص فلان من بلده ، أي : انتقل منه إلى غيره ، وأشخص الرامي ؛ إذا جاز سهمه الغرض من أعلاه (٣) ، ويقال للرجل إذا ورد عليه أمر أفاقه : شخص به.

(مُهْطِعِينَ) أي : مسرعين إلى الداعي ، وقيل : إلى النار ، من قولك : أهطع البعير ؛ إذا أسرع (٤).

وقال ابن عباس : الإهطاع : إطالة النظر من غير أن يطرف الناظر (٥).

__________________

(١) النقير : النّكتة في النواة ، كأنّ ذلك الموضع نقر منها (اللسان ، مادة : نقر).

والقطمير : شقّ النواة. وفي الصحاح (٢ / ٧٩٧) : القطمير : الفوفة التي فوق النواة ، وهي القشرة الرقيقة التي على النواة بين النواة والتمر (اللسان ، مادة : قطمر).

(٢) أخرجه الطبري (١٣ / ٢٣٦) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٢٥١) كلاهما عن ميمون بن مهران. وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٤٩) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والخرائطي في مساوئ الأخلاق عن ميمون بن مهران.

(٣) انظر : اللسان (مادة : شخص).

(٤) انظر : اللسان (مادة : هطع).

(٥) أخرجه الطبري (١٣ / ٢٣٧) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٢٥١). وذكره السيوطي في الدر المنثور ـ

٥٦١

(مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) رافعيها.

قال ابن قتيبة (١) : المقنع رأسه : الذي رفعه وأقبل بطرفه على ما بين يديه. وهذا قول جمهور المفسرين (٢). وأنشد أبو عبيدة (٣) :

أنغض نحوي رأسه وأقنعا

كأنما أبصر شيئا أطمعا (٤)

قال الحسن البصري : وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء ، لا ينظر أحد إلى أحد (٥).

(لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) أي : لا يطرقون ولا ترجع إليهم أبصارهم من شدة النظر وشخوص البصر.

(وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) أي : فارغة ، ومنه الهواء ؛ وهو الخلاء الذي لم تشغله الأجرام ما بين السماء والأرض ، والعرب تسمّي كل أجوف خاو : هواء. قال حسان بن ثابت (٦) :

__________________

ـ (٥ / ٥٠) وعزاه لابن أبي حاتم.

(١) تفسير غريب القرآن (ص : ٢٣٣).

(٢) تفسير الطبري (١٣ / ٢٣٨ ـ ٢٣٩) ، وزاد المسير (٤ / ٣٧٠) ، والوسيط (٣ / ٣٥) ، والدر المنثور (٥ / ٥٠ ـ ٥١).

(٣) مجاز القرآن (١ / ٣٤٤).

(٤) انظر البيت في : القرطبي (٩ / ٣٧٧) ، والطبري (١٣ / ٢٣٨) ، وزاد المسير (٤ / ٣٧٠) ، وروح المعاني (١٥ / ٩٢).

(٥) أخرجه الطبري (١٣ / ٢٣٩). وانظر : الوسيط (٣ / ٣٥) ، وزاد المسير (٤ / ٣٧١).

(٦) البيت لحسان بن ثابت. وهو في : مجاز القرآن (١ / ٣٤٤) ، واللسان مادة : (جوف ، هوا) ، والدر المصون (٤ / ٢٧٨).

٥٦٢

ألا أبلغ أبا سفيان عني

فأنت مجوّف نخب هواء

والنّخب : الذي لا فؤاد له.

وقد ذكرنا آنفا أن الأفئدة مساكن القلوب ، وأنه يعبر بها عنها. فإن أريد الأول ؛ فالمعنى : أفئدتهم فارغة من قلوبهم ، فإن قلوبهم تبلغ حناجرهم من شدة الخوف وتراكم تلك الأهوال ، فصارت أفئدتهم خالية منها ، وهذا قول ابن عباس وقتادة (١) ، ويوضحه قوله تعالى : (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ) [غافر : ١٨].

وإن أريد الثاني ؛ فالمعنى : قلوبهم صفر من العقل لما يلامسها من الخوف (٢).

وقال ابن جريج : أفئدتهم صفر من الخير خاوية (٣).

(وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) (٤٦)

(وَأَنْذِرِ النَّاسَ) خوّفهم (يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ) وهو يوم القيامة. ويوم مفعول الظرف.

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٣ / ٢٤١). وانظر : الوسيط (٣ / ٣٥) ، وزاد المسير (٤ / ٣٧١).

(٢) قال ابن جرير الطبري (١٣ / ٢٤١) : وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب في تأويل ذلك ؛ قول من قال : معناه أنها خالية ليس فيها شيء من الخير ولا تعقل شيئا.

(٣) البحر المحيط (٥ / ٤٢٤) ، وروح المعاني (١٣ / ٢٤٧).

٥٦٣

(فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) قال مقاتل (١) : سألوا الرجوع إلى الدنيا ، وسألوا الإمهال إلى أمد قريب [حتى](٢) يتداركوا ما فرطوا في جنب الله.

ويجوز أن يراد باليوم : يوم نزول العذاب بهم ، أو يوم موتهم ولقاء الملائكة لهم يضربون وجوههم وأدبارهم.

(نُجِبْ دَعْوَتَكَ) إلى التوحيد (وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا) ، فيه إضمار ، تقديره : فيقال لهم أو لم تكونوا (أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ) أي : حلفتم في الدنيا (ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) أي : انتقال إلى دار أخرى.

(وَسَكَنْتُمْ) أي : نزلتم (فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) فرأيتم أثر كفرهم وعاقبة مكرهم ؛ كالحجر ومدين وقرى قوم لوط ، (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ) فهلا زجركم ذلك عن ظلمكم وكفركم ، (وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) فيما فعلوا وفعل بهم.

(وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ) أي : مكروا مكرهم العظيم. قيل : هو مكرهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين همّوا بقتله وإخراجه.

(وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) أي : مكتوب عنده مكرهم ، وهو مجازيهم عليه بمكر هو أعظم منه. هذا معنى قول الحسن (٣).

__________________

(١) تفسير مقاتل (٢ / ١٩٤).

(٢) زيادة على الأصل.

(٣) زاد المسير (٤ / ٣٧٤).

٥٦٤

وقال قتادة : المعنى : وعند الله جزاء مكرهم (١).

(وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ) مع عظمه وتفاقمه ، (لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) «وإن» هاهنا نافية ، واللام مؤكدة لها ، كقوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [البقرة : ١٤٣].

والمعنى : ما كان مكرهم وإن تعاظم وتفاقم ليزول منه أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمر دين الإسلام. وضرب الجبال مثلا للحق الذي جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه بمنزلتها في التمكن والثبات. ويؤيده قراءة ابن مسعود : «وما كان مكرهم لتزول منه الجبال» ، وهذا معنى قول الحسن والزجاج (٢) وجمهور المفسرين وأهل المعاني واللغة (٣).

وقرأ الكسائي : «لتزول» بفتح اللام الأولى ورفع الثانية (٤).

قال أبو علي الفارسي (٥) : من قرأ «لتزول» كانت «إن» المخففة من الثقيلة ، واسمها مضمر ، بمعنى : الأمر والشأن ، والجملة خبر «إن» ، واللام في قوله : «لتزول» هي لام التوكيد ، وهذا على تعظيم أمر مكرهم خلاف القراءة الأولى ، وهو تعظيم مكرهم كقوله : (وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً) [نوح : ٢٢]. أي : قد كان مكرهم من عظمه وكبره يكاد يزيل ما هو مثل الجبال في [الامتناع](٦) على من أراد إزالته. يعني : أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) زاد المسير (٤ / ٣٧٤).

(٢) معاني الزجاج (٣ / ١٦٧ ـ ١٦٨).

(٣) زاد المسير (٤ / ٣٧٥).

(٤) الحجة للفارسي (٣ / ١٧) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٣٧٩) ، والكشف (٢ / ٢٧) ، والنشر (٢ / ٣٠٠) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٧٣) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣٦٣).

(٥) الحجة (٣ / ١٨ ـ ١٩).

(٦) في الأصل : الاتساع. والتصويب من الحجة (٣ / ١٨).

٥٦٥

يدل على ذلك قوله تعالى بعد : (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) أي : فقد وعدك الظهور عليهم والغلبة لهم في قوله : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) [التوبة : ٣٣].

وقد استعمل لفظ الجبال في غير هذا في تعظيم الشيء وتفخيمه ، قال ابن مقبل (١) :

إذا متّ عن ذكر القوافي فلن ترى

لها شاعرا مثلي أطبّ وأشعرا

وأكثر بيتا شاعرا ضربت به

بطون جبال الشعر حتى تيسّرا

وقرأ عمر وعلي وابن مسعود وأبي بن كعب : «وإن كاد» بالدال (٢) ، «لتزول» بفتح اللام الأولى ورفع الثانية.

قال ابن جني (٣) : هذه [إن](٤) المخففة من الثقيلة ، واللام في قوله : «لتزول» [هي التي](٥) تدخل بعد «إن» هذه المخففة من الثقيلة ؛ فصلا بينها وبين «إن» التي للنفي ، في قوله : (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) [الملك : ٢٠] ، أي : ما الكافرون إلا في غرور ، فكأنه وإنه كاد مكرهم تزول منه الجبال.

قال (٦) : ودخلت يوما على أبي عليّ بعيد عوده من شيراز سنة تسع وستين ، فقال لي : ألا أحدّثك؟ فقلت : قل. فقال : دخل عليّ هذا الأندلسي وظننته قد تعلّم ،

__________________

(١) البيتان في : الشعر والشعراء (ص : ٢٩٨).

(٢) انظر : زاد المسير (٤ / ٣٧٤).

(٣) المحتسب (١ / ٣٦٦).

(٤) زيادة من المحتسب ، الموضع السابق.

(٥) مثل السابق.

(٦) أي : ابن جني في المحتسب (١ / ٣٦٦).

٥٦٦

فإذا هو يظن أنّ اللام التي تصحب «إن» المخففة من الثقيلة هي لام الابتداء. قلت : لا تعجب ، فأكثر من ترى هكذا.

وروي عن علي وغيره : أن المشار إليهم بقوله : (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ) نمرود الذي حاجّ إبراهيم في ربه ، وكان من قصته أنه قال : إن كان ما يقول إبراهيم حقا فلا أنتهي حتى أعلم ما في السماء ، فأمر بفرخي نسر ـ وروي عنه أيضا وعن ابن عباس : أربعة أفراخ ـ وعلفها اللحم حتى استفحلت ، ثم أمر بتابوت فنحت وجعل في وسطه خشبة وجعل على رأسها لحما ، ثم جوعها وربط أرجلها إلى أوتار إلى قوائم التابوت ، ودخل هو وصاحب له في التابوت ، وجعل له بابين أعلا وأسفل وأغلقهما ، ثم أرسلها فجعلت تريد اللحم ، فصعدت ما شاء الله ، ثم قال لصاحبه : افتح الباب الأعلى وانظر ما ذا ترى ، وهل قربنا من السماء؟ ففتح ونظر فقال : إن السماء كهيئتها ، ثم قال : افتح الباب الأسفل فانظر كيف ترى الأرض؟ ففعل فقال : أرى الأرض مثل اللجة البيضاء ، والجبال مثل الدخان ، فقال : أغلق الباب ، ثم صعد ما شاء الله ، ثم قال له : افتح فانظر ، ففتح فقال : أرى السماء كهيئتها ، والأرض سوداء مظلمة ، ونودي : أيتها الطاغية! أين تريد؟ (١).

قال السدي عن أشياخه : ما زال يصعد حتى رأى الأرض يحيط بها بحر فكأنها فلكة في ماء ، ثم صعد حتى وقع في ظلمة فلم يدر ما فوقه وما تحته (٢).

قال عكرمة : كان معه غلام قد حمل القوس والنشاب ، فرمى بسهم ، فأعادته

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٣ / ٢٤٤) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٢٥٢). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٥٤) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري.

(٢) زاد المسير (٤ / ٣٧٣).

٥٦٧

القدرة الإلهية إليه ملطخا بالدم فقال : كفيت إله السماء. فلما هاله الارتفاع قال لصاحبه : صوب الخشبة ، فصوبها فانحطت النسور ، فظنت الجبال أنه أمر نزل من السماء [فزالت عن مواضعها](١).

وقيل : [ظنت](٢) أنه قيام الساعة.

قال علي عليه‌السلام : فسمعت الجبال هدّتها ، فكادت أن تزول عن مراتبها (٣).

ويروى عن مجاهد : أن هذه القصة لبختنصر (٤).

والله تعالى أعلم.

(فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (٤٨)

قوله تعالى : (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) قال ابن عباس : يريد : الفتح والنصر وإظهار الدين (٥).

__________________

(١) زاد المسير (٤ / ٣٧٣ ـ ٣٧٤). وما بين المعكوفين زيادة منه (٤ / ٣٧٤).

(٢) في الأصل : ضنت. والتصويب من زاد المسير (٤ / ٣٧٤).

(٣) زاد المسير (٤ / ٣٧٣).

(٤) أخرجه الطبري (١٣ / ٢٤٤). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٤ / ٣٧٤) ، والسيوطي في الدر (٥ / ٥٥) وعزاه لابن المنذر.

(٥) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٣٦) ، والبغوي في تفسيره (٣ / ٤١) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٤ / ٣٧٥).

٥٦٨

قال صاحب الكشاف (١) : إن قلت : هلا قيل : مخلف رسله وعده؟ ولم قدّم المفعول الثاني على الأول؟

قلت : قدّم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلا ؛ كقوله : (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) [آل عمران : ٩] ، ثم قال : «رسله» ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحدا كيف يخلفه رسله الذين هم خيرته وصفوته (٢).

وقرئ شاذا : «وعده» بالنصب ، «رسله» بالجر (٣).

قال الزجاج (٤) : هي شاذة رديئة ؛ لأنه لا يجوز أن يفصل بين المضاف والمضاف إليه.

(إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) لا يغالب (ذُو انتِقامٍ) لأوليائه من أعدائه.

قوله تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) وقرأت لعاصم من رواية أبان عنه : «نبدّل» بالنون ، و «الأرض» بالنصب ، «والسموات» بكسر التاء نصبا ، عطفا على الأرض (٥).

قال الزجاج (٦) : إن شئت نصبت «يوما» على النعت لقوله : (يَوْمَ يَقُومُ

__________________

(١) الكشاف (٢ / ٥٣٠).

(٢) قال أبو حيان في البحر (٥ / ٤٢٧) بعد أن ذكر قول الزمخشري : وهو جواب على طريقة الاعتزال في أن وعد الله واقع لا محالة ، فمن وعده بالنار من العصاة لا يجوز أن يغفر له أصلا. ومذهب أهل السنة أن كل ما وعد من العذاب للعصاة المؤمنين هو مشروط إنفاذه بالمشيئة.

(٣) البحر (٥ / ٤٢٧) ، والدر المصون (٤ / ٢٨١).

(٤) معاني الزجاج (٣ / ١٦٨).

(٥) زاد المسير (٤ / ٣٧٥).

(٦) معاني الزجاج (٣ / ١٦٩).

٥٦٩

الْحِسابُ) ، وإن شئت أن يكون منصوبا بقوله : (ذُو انتِقامٍ). المعنى : (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ) ، أي : ينتقم. (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ) مرفوعة على اسم ما لم يسم فاعله ، و «غير» منصوبة على مفعول ما لم يسم فاعله.

والمراد بتبديل الأرض : تغييرها بذهاب آكامها وجبالها وأشجارها ومدرها. قاله ابن عباس (١). وأنشد :

وما النّاس بالنّاس الذين عهدتهم

ولا الدار بالدار الذي كنت أعرف (٢)

وفي معناه قول عمران بن حطّان الخارجي (٣) يرثي أبا بلال مرداسا الخارجي (٤) أمير الصفريّة ، قتل في أيام يزيد بن معاوية :

أنكرت بعدك ما قد كنت أعرفه

ما الناس بعدك يا مرداس بالناس

وقال ابن مسعود ومجاهد وابن عباس في رواية عطاء عنه وأكثر المفسرين :

__________________

(١) أخرجه الطبري (٥ / ٥٧). وانظر : الوسيط (٣ / ٣٦) ، والبغوي (٣ / ٤١) ، وزاد المسير (٤ / ٣٧٥) ، والقرطبي (٥ / ٢٥٤).

(٢) لم أعرف قائله. وانظره في : الكشاف (٢ / ٥٣١) ، والفريد (٢ / ١٤٨) ، ومجالس ثعلب (١ / ٤٩) ، والبحر (٥ / ٤٢٧) ، والدر المصون (٤ / ٢٨١) ، وأبو السعود (٥ / ٦٠) ، وروح المعاني (١٣ / ٢٥٤).

(٣) عمران بن حطّان بن ظبيان السدوسي البصري ؛ من رؤوس الخوارج من القعدية ، وهم الذين يحسنون لغيرهم الخروج على المسلمين ولا يباشرون القتال (انظر ترجمته في : سير أعلام النبلاء ٤ / ٢١٤ ـ ٢١٦) ، والإصابة (٥ / ٣٠٢ ـ ٣٠٥).

(٤) مرداس بن حدير بن عامر بن عبيد بن كعب الربعي التميمي ، أبو بلال ، ويقال له : مرداس بن أدية من الشراة ، شهد صفين وأنكر التحكيم ، وسجنه عبيد الله بن زياد في الكوفة ، قتله عباد بن علقمة المازني. انظر ترجمته في : ميزان الاعتدال (٦ / ٣٩٤) ، ولسان الميزان (٦ / ١٤) ، والأعلام للزركلي (٧ / ٢٠٢).

٥٧٠

تبدل الأرض بأرض بيضاء كالفضة لم يعمل عليها خطيئة (١).

وقال علي وأنس بن مالك : تبدل بأرض من فضة (٢).

وقال أبي بن كعب : تبدل نارا (٣).

وقال أبو هريرة : تبدل بخبزة بيضاء ، فيأكل المؤمن من تحت قدميه (٤).

وأما تبديل السموات فقال علي عليه‌السلام : تجعل من ذهب (٥).

وقال أبي بن كعب : تصير جنانا (٦).

وقال ابن عباس : تبديلها تكور شمسها وتناثر نجومها (٧).

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٣ / ٢٤٩ ـ ٢٥٠) ، والبزار في مسنده (٥ / ٢٤٦ ـ ٢٤٧) ، والطبراني في المعجم الأوسط (٧ / ١٦٤) ، والكبير (١٠ / ١٦١). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٥٦ ـ ٥٧) وعزاه لابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في البعث عن ابن مسعود ، ومن نفس الطريق من رواية أخرى عزاه لعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبي الشيخ في العظمة والحاكم وصححه والبيهقي في البعث.

(٢) أخرجه الطبري (١٣ / ٢٥٠) عن أنس بن مالك. وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٥٧) وعزاه لابن مردويه عن علي ، ومن طريق آخر عن أنس بن مالك وعزاه لابن جرير وابن مردويه.

(٣) أخرج نحوه الطبري (١٣ / ٢٥١) عن ابن مسعود. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٤ / ٣٧٦) ، والسيوطي في الدر (٥ / ٥٨) وعزاه لابن جرير.

(٤) أخرجه الطبري (١٣ / ٢٥١ ـ ٢٥٢) عن سعيد بن جبير ، ومن طريق آخر عن محمد بن كعب القرظي. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٤ / ٣٧٦) ، والسيوطي في الدر (٥ / ٥٨) وعزاه لابن جرير.

(٥) زاد المسير (٤ / ٣٧٦).

(٦) المصدر السابق.

(٧) المصدر السابق.

٥٧١

وقال ابن الأنباري (١) : تبديلها اختلاف أحوالها ، فمرة كالمهل ومرة كالدّهان.

وقيل : تبديلها طيّها كطي السجل للكتاب (٢).

والذي يقوى عندي ويدل العلم : أن مثل هذا لا يصدر عن الصحابة ، مع شدة احتياطهم في الدين وورعهم الشافي إلا بتوقيف سمعوه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيتعين حينئذ حمله أن يقال : جميع ما قالوه كائن يوم القيامة ، فإنه يوم تتقلب فيه الأعيان ، وتنتقل فيه من حال إلى حال. وهذا أمر يظهر باستقراء ما جاء في القرآن والأحاديث من أحوال القيامة واختلاف مواطنها.

وفي الصحيحين من حديث سهل بن [سعد](٣) قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء [كقرصة](٤) نقي (٥). قال سهل أو غيره : ليس فيها معلم لأحد» (٦).

وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة ، يتكفؤها الجبار كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر ، نزلا لأهل الجنة» (٧).

__________________

(١) انظر : الوسيط (٣ / ٣٦ ـ ٣٧) ، وزاد المسير (٤ / ٣٧٦).

(٢) زاد المسير (٤ / ٣٧٦).

(٣) بياض في الأصل قدر كلمة. والمثبت من الصحيحين.

(٤) في الأصل : لوصة. والتصويب من الصحيحين.

والقرصة : القطعة (اللسان ، مادة : قرص).

(٥) النّقيّ : الخبز الحوّاري (اللسان ، مادة : نقا).

(٦) أخرجه البخاري (٥ / ٢٣٩٠ ح ٦١٥٦) ، ومسلم (٤ / ٢١٥٠ ح ٢٧٩٠).

(٧) أخرجه البخاري (٥ / ٢٣٨٩ ح ٦١٥٥) ، ومسلم (٤ / ٢١٥١ ح ٢٧٩٢).

٥٧٢

وفي صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : «سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) قلت : أين يكون الناس يومئذ يا رسول الله؟ قال : على الصراط» (١).

وروى أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «في قوله : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ) قال : يبسطها ويمدّها مد الأديم» (٢).

(وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٥٢)

وما بعده مفسر إلى قوله : (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) تقول : قرنت الشيء بالشّيء ؛ إذا وصلته به (٣).

قال ابن العباس : [يقرنون](٤) مع الشياطين (٥).

قال ابن السائب : كل كافر مع شيطان في غل (٦).

__________________

(١) أخرجه مسلم (٤ / ٢١٥٠ ح ٢٧٩١).

(٢) أخرجه الطبري (١٣ / ٢٥٢).

(٣) انظر : (اللسان ، مادة : قرن).

(٤) في الأصل : يقرون. والتصويب من زاد المسير (٤ / ٣٧٧).

(٥) زاد المسير (٤ / ٣٧٧).

(٦) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٣٧).

٥٧٣

وقال ابن زيد : تقرن أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم (١).

وقال ابن قتيبة (٢) : [يقرن](٣) بعضهم إلى بعض.

والأصفاد : جمع صفد ، وهو القيد ، وقيل : الغلّ ، تقول : صفدته وصفّدته ، والصّفاد والصّفد والصّفد : ما قيّدته به من أي شيء كان. وتقول : أصفدت الرجل ؛ إذا أعطيته إصفادا ، واسم العطية : الصّفد.

قال عطاء : يريد : سلاسل الحديد والأغلال (٤).

(سَرابِيلُهُمْ) جمع سربال وهو القميص ، (مِنْ قَطِرانٍ) ويقال : «قطران» بفتح القاف وكسرها مع سكون الطاء فيهما ، وهو شيء يتحلب من شجر يهنأ (٥) به الإبل الجربى ، فيحرق الجرب بحدّته وحرّه ، فجعلت قمص أهل النار منه لنتنه وسواده ولدغه ، وشدة اشتعال النار فيه.

وروي عن ابن عباس : أن القطران : النحاس المذاب (٦).

ويؤيده : ما قرأت به على شيخنا أبي البقاء وشيخنا أبي عمرو الياسري ليعقوب : «من قطر» بكسر القاف وسكون الطاء وكسر الراء وتنوينها ، «آن» : أي

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٣ / ٢٥٥). وانظر : الوسيط (٣ / ٣٧) ، وزاد المسير (٤ / ٣٧٧).

(٢) تفسير غريب القرآن (ص : ٢٣٤).

(٣) في الأصل : يقرون. والتصويب من زاد المسير (٤ / ٣٧٧).

(٤) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٣٧).

(٥) في هامش الأصل : يدهن.

وهنأ الإبل : طلاها بالهناء ، وهو القطران (اللسان ، مادة : هنأ).

(٦) أخرجه الطبري (١٣ / ٢٥٧) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٢٥٤). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٥٩) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

٥٧٤

نحاس مذاب متناهي الحرارة (١). ومنه قوله : (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) [الكهف : ٩٦].

(وَتَغْشى) أي : تعلو (وُجُوهَهُمُ النَّارُ) لا يتّقونها بشيء ، كما قال الله تعالى : (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الزمر : ٢٤] ، وقال : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ) [القمر : ٤٨].

ولما كانت عادة الإنسان أن يتّقي بيده ، أخبر الله سبحانه وتعالى أن أهل النار يصفّدون وتغلّ أيديهم ليمنعوا هذا القدر من الراحة ، نعوذ بالله من سخطه وعذابه.

قوله تعالى : (لِيَجْزِيَ اللهُ) اللام متعلقة بقوله : «وبرزوا» ، والمعنى : ليجزي الله (كُلَّ نَفْسٍ) صالحة وطالحة (ما كَسَبَتْ) من خير وشر.

(إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) سبق تفسيره.

وقيل : المعنى حسابه واقع لا محالة ، وكل ما هو واقع فهو سريع.

قوله تعالى : (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ) يعني : القرآن ، وقيل : ما أشار إليه من قوله : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) إلى قوله : (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ).

ومعنى قوله : «بلاغ» : كفاية في التذكير والتحذير.

(وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) عطف على محذوف ، تقديره : لينصحوا ولينذروا به.

(وَلِيَعْلَمُوا) أنما فيه من الحجج البالغة (أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) وعلى القول الآخر : المعنى : وليعلموا إذا أنذروا واستثمروا من ذلك خوفا يبعثهم على النظر في

__________________

(١) زاد المسير (٤ / ٣٧٧).

٥٧٥

الحق والسعي في خلاص أنفسهم من العذاب بمجانبة أسبابه ؛ أنما هو إله واحد.

(وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) أصحاب العقول.

٥٧٦

سورة الحجر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وهي مائة آية إلا آية ، وهي مكية بغير خلاف.

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (٣)

قوله تعالى : (وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) نكرة للتفخيم والتعظيم ، والكتاب والقرآن واحد. وقيل : الكتاب : التوراة والإنجيل والقرآن كتابنا. وفيه بعد.

وقال صاحب الكشاف (١) : (تِلْكَ) إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات ، والكتاب والقرآن المبين : السورة.

والمعنى : تلك آيات الكتاب الكامل [في كونه كتابا](٢) ، وآي كتاب مبين ، كأنه قيل : الكتاب الجامع للكمال والغرابة في البيان.

قوله تعالى : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) قرأ نافع وعاصم : «ربما» بالتخفيف ، وافقهما أبو عمرو في رواية عبد الوارث عنه. وقرأت لعاصم من طريق

__________________

(١) الكشاف (٢ / ٥٣٣).

(٢) زيادة من الكشاف ، الموضع السابق.

٥٧٧

الشموني بضم الباء ، وقرأ الباقون بالتشديد (١) ، وهما لغتان مشهورتان (٢).

قال أبو كبير الهذلي :

أزهير إن يشب القذال (٣) فإنّني

ربّ هيضل لجب لففت بهيضل (٤)

والهيضل : جمع هيضلة ، وهي الجماعة يغزى بهم (٥) ، يقول : لففتهم بأعدائهم في القتال.

وقال الآخر في اللغة الأخرى :

ربّ نار بتّ أرمقها

تقضم الهنديّ (٦) والغارا (٧)

قال الزجاج (٨) : إنما زيدت «ما» مع «ربّ» ليليها الفعل ، تقول : ربّ رجل جاءني ، وربما جاءني رجل.

__________________

(١) الحجة للفارسي (٣ / ٢٠) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٣٨٠) ، والنشر في القراءات العشر (٢ / ٣٠١) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٧٤) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣٦٦).

(٢) قال الطبري (١٤ / ١) : والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال إنهما قراءتان مشهورتان ولغتان معروفتان بمعنى واحد ، قد قرأ بكل واحدة منهما أئمة من القراء ، فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب.

(٣) القذال : جماع مؤخّر الرأس من الإنسان والفرس فوق فأس القفا ، والجمع أقذلة وقذل. اللسان (مادة : قذل).

(٤) البيت لأبي كبير الهذلي من قصيدة قالها في تأبط شرا ، وكان أبو كبير قد تزوج أمه وأراد قتله ، ولكنه خافه. انظر : ديوان الهذليين (ص : ٨٩) ، والخزانة (٤ / ١٦٥) ، وشواهد المغني (ص : ٨١) ، ومعاني الزجاج (٣ / ١٧٢) ، واللسان (مادة : هضل) ، وزاد المسير (٤ / ٣٨٠).

(٥) انظر : اللسان (مادة : هضل).

(٦) يقصد : العود الطيب الذي من بلاد الهند.

(٧) البيت لعدي بن زيد بن الرّقاع. انظر البيت في : اللسان (مادة : هند ، قضم).

(٨) معاني الزجاج (٣ / ١٧٣).

٥٧٨

وقال أبو علي [الفارسي](١) : ربّ حرف جر ، و «ما» كافّة ل «ربّ» عن عملها ، ألا ترى أنها دخلت على الفعل ، وحرف الجر لا يدخل على الأفعال ، فدخول «ما» عليها نفتها عن عملها وهيّأتها [للدخول](٢) على الفعل.

فمن قرأ «ربّما» بالتشديد ؛ فعلى الأصلين ؛ لأن رب على ثلاثة أحرف ، مثل : ثمّ.

ومن قرأ بالتخفيف ؛ فلأن ربّ حرف مضاعف ، والحروف المضاعفة قد تحذف مثل : إنّ وأنّ ولكنّ ، وليس كل المضاعف يحذف ، لم أعلم الحذف في ثمّ.

فإن قيل : كيف وليها الفعل المضارع وقد أبوا دخولها إلا على الماضي؟ كقول الشاعر :

ربّما أوفيت في علم

ترفعن ثوبي شمالات (٣)

قلت : حمله أبو إسحاق على إضمار كان ، على تقدير : ربّما كان يودّ ، وأجود منه أن يكون على حكاية الحال. وقد حكى الكسائي عن العرب ربما يندم فلان ، قال الشاعر :

__________________

(١) الحجة للفارسي (٣ / ٢٠ ، ٢٢ ، ٢٤). وما بين المعكوفين في الأصل : الفاسي.

(٢) زيادة من الحجة (٣ / ٢٢).

(٣) البيت لجذيمة الأبرش. انظر : الأزهية (ص : ٩٤ ، ٢٦٥) ، وخزانة الأدب (١١ / ٤٠٤) ، وشرح أبيات سيبويه (٢ / ٢٨١) ، وشرح التصريح (٢ / ٢٢) ، وشرح شواهد الإيضاح (ص : ٢١٩) ، وشرح شواهد المغني (ص : ٣٩٣) ، والكتاب (٣ / ٥١٨) ، والمقتضب (٣ / ١٥).

وشمالات : جمع شمال ، والشّمال من الرياح : ما استقبلك عن يمينك إذا وقفت في القبلة. وقيل : مهبّ الشمال من بنات نعش إلى مقسط النسر الطائر (اللسان ، مادة : شمل).

٥٧٩

ربّما تجزع النفوس من الأم

ر له فرجة كحلّ العقال (١)

وقال الزمخشري (٢) : جاز ذلك ؛ لأن المترقّب في أخبار الله تعالى بمنزلة الماضي المقطوع به في تحققه ، وكأنه قيل : ربّما ودّ.

فإن قيل : ربما وجد في كلامهم للتقليل ، ألا ترى إلى قوله :

ألا ربّ مولود وليس له أب

وذي ولد لم يلده أبوان (٣)

وإذا كانت للتقليل فشأن ما توعدوا به لا يناسب التقليل ، بل التكثير.

قلت : قد سلك بها ابن الأنباري (٤) في بعض أجوبته مسلك الأضداد ، وأنها تقال على التقليل [والتكثير](٥) ، كالناهل والجون. ومنه في حديث سويد بن غفلة قال : سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا علي! ألا أعلمك كلمات إذا وقعت في ورطة قلتهن؟ قلت : بلى يا رسول الله ، جعلني الله فداك ، فربما خير قد علمتنيه. قال : إذا وقعت في ورطة فقل : بسم الله الرحمن

__________________

(١) البيت لأمية بن أبي الصلت ، انظر : ديوانه (ص : ٥٠) ، والأزهية (ص : ٨٢ ، ٩٥) ، وخزانة الأدب (٦ / ١٠٨ ، ١١٣ ، ١٠ / ٩) ، وشرح أبيات سيبويه (٢ / ٣) ، والكتاب (٢ / ١٠٩) ، والأشباه والنظائر (٣ / ١٨٦) ، وشرح الأشموني (١ / ٧٠) ، ومغني اللبيب (٢ / ٢٩٧) ، والمقتضب (١ / ٤٢) ، وزاد المسير (٤ / ٣٨٢).

(٢) الكشاف (٢ / ٥٣٣).

(٣) البيت لرجل من أزد السراة. انظر البيت في : شرح التصريح (٢ / ١٨) ، والحجة للفارسي (١ / ٢٥١) ، وشرح شواهد الشافية (ص : ٢٢) ، والكتاب (٢ / ٢٦٦ ، ٤ / ١١٥) ، والمقاصد النحوية (٣ / ٣٥٤) ، والأشباه والنظائر (١ / ١٩) ، وأوضح المسالك (٣ / ٥١) ، والخصائص (٢ / ٣٣٣).

(٤) انظر : زاد المسير (٤ / ٣٨١).

(٥) في الأصل : والكثير. والتصويب من زاد المسير ، الموضع السابق.

٥٨٠