رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٣

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٣

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٣

في التعظيم والتوقير.

وقيل : ما كانت إلا انحناء دون تعفير الجباه. وخرورهم سجّدا يأباه.

وقيل : معناه : وخرّوا لأجل يوسف سجّدا لله شكرا. وهذا أيضا فيه نبوة (١).

قلت : وقد روي عن ابن عباس أن الضمير في : (لَهُ) يرجع إلى الله تعالى ، أي : خرّوا لله سجدا شكرا له على نعمة الاجتماع (٢).

ويبطل هذا التأويل قوله : (وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ) ، وهي الرؤيا التي قصها على أبيه ، فقال له : (لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ).

واختلفوا في مقدار الزمن الكائن بين الرؤيا والتأويل ، فقال سلمان الفارسي : أربعون سنة (٣).

وروي عن ابن عباس : اثنان وعشرون سنة (٤).

وقال الحسن : ثمانون سنة (٥) ، كما سبق. وقيل غير ذلك ، والله تعالى أعلم.

__________________

(١) أي : بعد.

(٢) زاد المسير (٤ / ٢٩٠).

(٣) أخرجه الطبري (١٣ / ٦٩) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٢٠٢) ، وابن أبي شيبة (٦ / ١٨٣) ، والحاكم (٤ / ٤٣٨) ، والبيهقي في الشعب (٤ / ١٩٤). وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٥٨٨) وعزاه للفريابي وابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا في كتاب العقوبات وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والحاكم والبيهقي في الشعب.

(٤) زاد المسير (٤ / ٢٩٠).

(٥) أخرجه الطبري (١٣ / ٧٠) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٢٠٢) ، وابن أبي شيبة (٦ / ٣٤٦). وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٥٨٩) وعزاه لعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد. ومن رواية أخرى عن الحسن عزاه لابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وابن عبد الحكم في فتوح مصر وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والحاكم وابن مردويه.

٤٢١

قوله تعالى : (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي) يقال : أحسن إليه وأحسن به ، وكذلك أساءا إليه وآساءا به. قال كثيّر :

أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة

لدينا ولا مقليّة إن تقلّت (١)

(إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) وقد ذكرنا مدة لبثه فيه ، (وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) البادية. قال ابن عباس : كانوا أهل عمود وماشية (٢).

وإنما اقتصر على ذكر السجن دون الجب ؛ تكرّما وحسن عشرة مع إخوته ، كراهة أن يواجههم [ويذكّرهم](٣) بقبيح صنعهم به وفاء لهم بما وعدهم به في قوله : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ).

(مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ) أي : أفسد (بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ) سبق تفسير «اللطيف» في الأنعام (٤).

وقال المفسرون : معناه : إن ربي عالم بدقائق الأمور (٥).

(إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) قال العلماء بالسير : أقام يعقوب عليه‌السلام بعد قدومه مصر أربعا وعشرين سنة ، ثم مات ، وأوصى أن يدفن بالشام إلى جانب أبيه إسحاق عليه‌السلام ، وكان عمره يوم مات مائة وسبعا وأربعين سنة (٦).

__________________

(١) سبق تخريجه.

(٢) زاد المسير (٤ / ٢٩١).

(٣) في الأصل : وذكرهم. والصواب ما أثبتناه.

(٤) آية رقم : ١٠٢.

(٥) ذكره الواحدي في الوسيط (٢ / ٦٣٦) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٤ / ٢٩١).

(٦) انظر : تهذيب الأسماء للنووي (٢ / ٤٦٠) ، والوسيط للواحدي (٢ / ٦٣٦) ، وزاد المسير لابن الجوزي (٤ / ٢٩١ ـ ٢٩٢).

٤٢٢

قال سعيد بن جبير : نقل يعقوب في تابوت [من](١) ساج إلى بيت المقدس ، فمن ثم تنقل اليهود موتاهم إلى بيت المقدس ، من فعل ذلك منهم (٢).

(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (١٠١)

فلما تم أمره واستفحل ملكه وقرّت عينه وجمع شمله ، طمحت نفسه الأبية وهمته الشريفة النبوية إلى النعمة الدائمة والملك الذي لا يبلى ، فتمنى الموت ، فقال : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) وقد سبق تفسيرها.

و «من» فيها للتبعيض.

(فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي) الذي يتولاني في الدارين بنعمته ، وتوصل الملك الفاني بالملك الباقي (تَوَفَّنِي مُسْلِماً) قال ابن عباس : لم يتمنّ الموت نبي قبله (٣).

وقال ابن عقيل : لم يتمنّ الموت ، وإنما سأل الله أن يموت على صفة (٤).

فالمعنى : توفني إذا توفيتني مسلما (٥) ، وهذا هو مدلول الآية ، اللهم إلا أن

__________________

(١) زيادة من المصدرين التاليين.

(٢) ذكره البغوي (٢ / ٤٥١) ، والقرطبي (٩ / ٢٦٨).

(٣) أخرجه الطبري (١٣ / ٧٣) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٢٠٤). وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٥٩١) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٤) زاد المسير (٤ / ٢٩٢).

(٥) قال ابن الجوزي في زاد المسير (٤ / ٢٩٢) : قال الشيخ : وهذا الصحيح.

٤٢٣

يكون ما قاله ابن عباس وغيره مقولا مستنبطا من الآية.

(وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) من آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، فتوفاه الله تعالى طيبا طاهرا فتخاصم أهل مصر [وتشاحّوا](١) في دفنه ، حتى هموا بأن يقتتلوا ، كل يحبّ أن يدفن في [محلته](٢) رجاء بركته ، فأجمعوا على دفنه في النيل ليمر عليه الماء فتصل بركته إلى الجميع ، فجعلوه في صندوق مرمر ودفنوه في النيل ؛ ليكونوا فيه شرعا واحدا (٣) ، فلم يبرح في موضعه حتى أخرجه موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين خرج ببني إسرائيل من مصر ، فدفنه عند آبائه بأرض كنعان (٤).

قال الحسن : مات وهو ابن مائة وعشرين سنة (٥) ، ويقال : في التوراة : وهو ابن مائة وستين.

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) (١٠٤)

قوله تعالى : (ذلِكَ) مبتدأ ، خبره (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ)(٦) ، أي :

__________________

(١) في الأصل : وتشاحنوا. وانظر : الوسيط (٢ / ٦٣٦) ، وزاد المسير (٤ / ٢٩٢).

وتشاحوا : أي : تنازعوا. انظر : اللسان مادة : (شحح).

(٢) في الأصل : مجلسه. والتصويب من الوسيط وزاد المسير ، الموضعان السابقان.

(٣) أي : سواء ومتساوون لا فضل لأحدهم فيه على الآخر (انظر : اللسان ، مادة : شرع).

(٤) ذكره الواحدي في الوسيط (٢ / ٦٣٦) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٤ / ٢٩٢).

(٥) زاد المسير (٤ / ٢٩٢).

(٦) الدر المصون (٤ / ٢١٧).

٤٢٤

ذلك الذي قصصنا عليك يا محمد من أنباء الغيب الذي لا يعلمه إلا بالوحي ، ألا تراه يقول : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ) عزموا عليه ، (وَهُمْ يَمْكُرُونَ) بيوسف ويبغونه الغوائل.

(وَما أَكْثَرُ النَّاسِ) يريد : العموم. وقيل : أهل مكة (وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ).

(وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) أي : على القرآن. وقيل : على ما نذكره لهم ونحدثهم به.

والمعنى : ما تسألهم جزاء على التبليغ والتذكير فيتّهموك.

(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي : ما هو إلا تذكرة وعظة لهم.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (١٠٧)

قوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ) سبق القول عليه في آل عمران (١).

قرأ عكرمة وعمرو بن فائد : «والأرض» بالرفع ، وقرئ : «الأرض» بالنصب (٢) ، وقراءة السبعة والأكثرين : والأرض بالجر. فمن رفع أو نصب وقف على «السموات». فأما الرفع فعلى الابتداء ، والجملة بعدها الخبر.

وأما النصب فبفعل مضمر تفسيره ما بعده ، تقديره : يطؤون أو يدوسون الأرض.

__________________

(١) الآية رقم : ١٤٦.

(٢) البحر المحيط (٥ / ٣٤٤).

٤٢٥

وأما الجر فظاهر ، والمعنى : وكم من آية في السموات والأرض دالة على وحدانية الله وقدرته (يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) لا يتدبرون ولا يتفكرون في عظمة خالقها وقدرته وسلطانه فينزهوه عن مشاركة الأصنام.

ويلوح لي : أن في هذا تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حيث أعرضوا عنه ونفروا منه مع وضوح آياته ودلائل صدقه ، وقصصه عليهم أحاديث الأمم قبله.

المعنى : كم لي من آية في ملكي شاهدة بوحدانيتي يرونها فلا يعتبرون ولا يتدبرون ، فلا تعجب أنت يا محمد من إعراضهم عن التفكر في دلائل صدقك وبراهين نبوتك.

قوله تعالى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ) أي : ما يصدق أكثرهم فيقولون : الله خالقنا ورازقنا (إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) بعبادة الأوثان واعتقادهم إلهية عيسى.

قال ابن عباس : نزلت في تلبية مشركي العرب : لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك (١).

وقال الحسن : نزلت في المنافقين (٢).

ثم خوّفهم فقال : (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ) أي : ما يغمّهم ويجللهم من العذاب (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بإتيانها.

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٣ / ٧٨) عن الضحاك. وانظر : ابن أبي حاتم (٧ / ٢٢٠٨) ، وزاد المسير (٤ / ٢٩٤). وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٥٩٣) وعزاه لابن جرير وابن المنذر عن الضحاك.

(٢) أخرج نحوه ابن أبي حاتم (٧ / ٢٢٠٧ ـ ٢٢٠٨). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٤ / ٢٩٤) ، والسيوطي في الدر (٤ / ٥٩٣) وعزاه لأبي الشيخ.

٤٢٦

(قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٠٨)

(قُلْ هذِهِ سَبِيلِي) أي : هذه الطريق التي أنا عليها والشريعة التي أدعو إليها سنتي ومنهاجي ، (أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ) أي : على يقين وأمر واضح.

وقوله : (أَنَا) توكيد للمستكنّ في «أدعو» و (مَنِ اتَّبَعَنِي) عطف عليه ، وكل متبع للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يخلو من الدعاء إلى الله.

ويجوز أن يكون الكلام تاما عند قوله : (أَدْعُوا إِلَى اللهِ) ، ثم ابتدأ فقال : (عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي). وهذا قول ابن عباس (١).

يعني : أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا على أحسن طريقة.

فقوله [«أنا»](٢) مبتدأ ، «على بصيرة» خبره ، «ومن اتبعني» عطف على المبتدأ (٣).

(وَسُبْحانَ اللهِ) أي : وقل سبحان الله تنزيها له عما أشركوا ، (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الذين اتخذوا مع الله ندا وكفؤا وولدا.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١٠٩)

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٢ / ٦٣٧) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٤ / ٢٩٥).

(٢) في الأصل : أما. وهو خطأ. والتصويب من الدر المصون (٤ / ٢١٧).

(٣) الدر المصون (٤ / ٢١٧) ، والتبيان (٢ / ٥٩).

٤٢٧

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً) إن قيل : قد تكرر هذا في مواضع من القرآن ، وجاء في موضعين بغير «من» وهما في الأنبياء : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً) [٧] ، وفي الفرقان : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [٢٠] فهل بين إثبات «من» وحذفها فرق؟

قلت : «من» لابتداء الغاية ، وذلك الزمان الذي تقدم زمانك ، فإذا قال : «من قبلك» فكأنه قال من ابتداء الزمان الذي تقدم زمانك ، فيشمله بحدّيه ، ويتناول طرفيه ، وإذا حذفت «من» فهو في الاستيعاب كالأول ، إلا أن الأول أوكد لضبطه بذكر الطرفين ، وإنما حذفت من «الأنبياء» بناء على ما تقدم من قوله : (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ) [٦] ، وحذفت في «الفرقان» ولم تؤكد ب «من» ؛ لأن المعتمد إنما هو حال المرسلين وأنهم يأكلون الطعام وليسوا بملائكة ، وهذا رد لقولهم : (لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) [فصلت : ١٤].

والمعنى : ما بعثنا في الأمم الخالية إلا رجالا كانوا على مثل حالك ، فما وجه تعجبهم من إرسالك؟

يوحي إليهم وقرأ حفص : «نوحي إليهم» بالنون هنا وفي النحل (١). (مِنْ أَهْلِ الْقُرى) قال ابن عباس : يريد أهل المدائن ؛ لأن الله تعالى لم يبعث نبيا من أهل البادية ولا من الجن ولا من النساء (٢).

والسرّ فيه : أن أهل البادية يغلب عليهم القسوة والجفاء ، وأهل المدن أعلم

__________________

(١) الحجة للفارسي (٢ / ٤٥٥) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٣٦٥) ، والكشف (٢ / ١٤ ـ ١٥) ، والنشر لابن الجزري (٢ / ٢٩٦) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٦٨) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣٥١).

(٢) وهو قول الحسن أيضا. انظر : الوسيط (٢ / ٦٣٨) ، وزاد المسير (٤ / ٢٩٥) من قول الحسن.

٤٢٨

وأحلم.

ثم خوّف المكذبين فقال : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) ببصائرهم وأبصارهم ، وهو استفهام في معنى التقرير والتوبيخ لهم ، بمعنى أنهم قد ساروا في آثارهم ونظروا عاقبة أمرهم وما جوزوا به على جناية كفرهم وتكذيبهم ، فهلا اعتبروا وازدجروا.

(وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) أي : ولدار الساعة الآخرة.

وقال الفراء (١) : أضيفت «الدار» إلى «الآخرة» ؛ لأن العرب تضيف الشيء إلى نفسه إذا اختلف لفظه ، كقوله تعالى : (لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) [الواقعة : ٩٦].

(أَفَلا يَعْقِلُونَ) قرئ بالياء والتاء على المخاطبة والغيبة.

(حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (١١٠)

قوله تعالى : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) «حتى» متعلقة بمحذوف دلّ عليه الكلام ، كأنه قال : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا فتراخى نصرهم وتطاولت عليهم المدة ، حتى استشعروا القنوط وتوهموا أنهم لا ينصرون ، فجاءهم نصرنا فجأة.

قال ابن عباس : استيأسوا من إيمان قومهم (٢).

__________________

(١) معاني الفراء (٢ / ٥٥ ـ ٥٦).

(٢) قال ابن عباس في تفسيره (ص : ٢٩٥) : يعني : أيس الرسل من أن يتبعهم قومهم ... وقد أخرج نحوه النسائي في الكبرى (٦ / ٣٧٠) ، والطبري (١٣ / ٨٤) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٢١٢) ، وسعيد ـ

٤٢٩

وقال مجاهد : أيسوا من تعذيبهم (١).

قوله تعالى : (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) قرأ أهل الكوفة : «كذبوا» بالتخفيف (٢) ، إذا قلت له الكذب. قال لبيد :

وأكذب النّفس إذا حدّثتها

إنّ صدق النّفس يزري بالأمل (٣)

وهي قراءة صحيحة ثابتة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبها قرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأهل بيته عليهم‌السلام ، وابن مسعود ، وأبي بن كعب ، وكثير من التابعين منهم : سعيد بن جبير ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، في خلق يطول ذكرهم.

وقد روي : أن عائشة رضي الله عنها أنكرت هذه القراءة ، وقالت : معاذ الله لم يكن الرسل لتظن ذلك بربها. ولهذه القراءة تأويلان (٤) :

أحدهما : أن يكون الضمير في قوله : «وظنوا» يعود إلى المرسل إليهم ، فإن ذكر «الرسل» يدل عليهم ، والضمير في «أنهم» للمرسل إليهم أيضا ، فيكون المعنى :

فظن المرسل إليهم أنهم قد كذبوا ، أي : أن الرسل قد كذبوهم فيما توعدوهم به من نزول العذاب بهم والنصر عليهم ، وهذا تأويل جماعة ؛ منهم : سعيد بن جبير ، ولقد

__________________

ـ ابن منصور (٥ / ٤١٢). وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٥٩٦) وعزاه لأبي عبيد وسعيد بن منصور والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه.

(١) أخرجه الطبري (١٣ / ٨٨). وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٥٩٧) وعزاه لابن جرير.

(٢) الحجة للفارسي (٢ / ٤٥٦) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٣٦٦) ، والكشف (٢ / ١٥) ، والنشر لابن الجزري (٢ / ٢٩٦) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٦٨) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣٥٢).

(٣) انظر البيت في : اللسان ، مادة : (خزا) ، والإصابة (٥ / ٦٧٩) ، وروح المعاني (٢٦ / ١٧٨).

(٤) ذكر لهذه القراءة ثلاث تأويلات.

٤٣٠

قال له الضحاك حين سمعه منه : لو رحلت في هذه إلى اليمن كان قليلا (١).

التأويل الثاني : كذلك ، إلا أنّ الضمير في «أنهم» للرسل ، على معنى : ظن المرسل إليهم أن الرسل قد لبس عليهم وكذبوا فيما قيل لهم.

الثالث : أن يكون الضمير في قوله : «وظنوا» للرسل ، وهو مروي عن ابن عباس (٢).

قال في رواية ابن أبي مليكة : كانوا بشرا فضعفوا ويئسوا وظنوا أنهم أخلفوا ، ثم تلا قوله عزوجل : (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ)(٣) [البقرة : ٢١٤].

وهذا التأويل مزلة الأقدام ومدحضة الأفهام ، وفيه سر لا يفهمه إلا غوّاص على المعاني ، بحّاث عنها ، فإنه لا يجوز أن يظنّ بابن عباس أنه أراد بتأويله تطريق الشك الذي هو تغليب أحد الجانبين على الآخر أو تساويهما على رسل الله المعصومين عن مثل ذلك ، بل أراد ما يرد على القلب ويهجس (٤) فيه من حديث

__________________

(١) قول الضحاك هذا أخرجه الطبري (١٣ / ٨٤).

(٢) أخرجه الطبري (١٣ / ٨٦) وقال : هذا تأويل ، وقول غيره من أهل التأويل أولى عندي بالصواب وخلافه من القول أشبه بصفات الأنبياء والرسل إن جاز أن يرتابوا بوعد الله إياهم ويشكوا في حقيقة خبره مع معاينتهم من حجج الله وأدلته ما لا يعاينه المرسل إليهم ، فيعذروا في ذلك أن المرسل إليهم أولى في ذلك منهم بالعذر ، وذلك قول إن قاله قائل لا يخفى أمره ، وقد ذكر هذا التأويل الذي ذكرناه أخيرا عن ابن عباس لعائشة فأنكرته أشد النكرة فيما ذكر لنا.

(٣) أخرجه الطبراني في الكبير (١١ / ١٢٤) ، والطبري (١٣ / ٨٦). وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٥٩٦) وعزاه لابن جرير وابن المنذر والطبراني وأبي الشيخ وابن مردويه.

(٤) الهجس : ما وقع في خلدك ، والهاجس : الخاطر (اللسان ، مادة : هجس).

٤٣١

النفس وعوارض الوساوس ، الذي لا يسلم منه أحد من البشر ، فتفهم ذلك.

وقرأ مجاهد : كذبوا فيما حدثوا به قومهم من النصرة (١) ، على ما تأولناه من قول ابن عباس ، أو على معنى : أن قومهم إذا لم يروا لموعدهم أثرا قاله لهم إنكم قد كذبتمونا ، فيكونون كاذبين عند قومهم ، أو ظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوا.

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر والأكثرون : «كذّبوا» بالتشديد مع ضم الكاف (٢) ، فيكون الظن بمعنى : اليقين.

المعنى : وتيقنوا أن قومهم كذبوهم.

(جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ) وقرأ ابن عامر وعاصم : «فنجّي» بنون واحدة وتشديد الجيم وفتح الياء ، جعلاه فعلا ماضيا (٣) ، واختار هذه القراءة أبو عبيد ، ولعله راعى مضي القصة ومطابقة ما عطفه عليه ، وهو قوله : (وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا) ، فجاء بالمعطوف والمعطوف عليه على ما لم يسم فاعله.

والمراد ب «من نشاء» : المؤمنون ؛ لأنهم أهل النجاة ، ويدل عليه قوله : (وَلا يُرَدُّ

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٣ / ٨٨). وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٥٩٧) وعزاه لابن جرير.

قال الطبري (١٣ / ٨٩) : وهذه القراءة لا أستجيز القراءة بها ؛ لإجماع الحجة من قراء الأمصار على خلافها ، ولو جازت القراءة بذلك لاحتمل وجها من التأويل ، وهو أحسن مما تأوله مجاهد ، وهو حتى إذا استيأس الرسل من عذاب الله قومها المكذبة بها وظنت الرسل أن قومها قد كذبوا وافتروا على الله بكفرهم بها ، ويكون الظن موجها حينئذ إلى معنى العلم على ما تأوله الحسن وقتادة.

(٢) الحجة للفارسي (٢ / ٤٥٦) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٣٦٦) ، والكشف (٢ / ١٥) ، والنشر لابن الجزري (٢ / ٢٩٦) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٦٨) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣٥١).

(٣) الحجة للفارسي (٢ / ٤٥٨) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٣٦٧) ، والكشف (٢ / ١٧) ، والنشر وإتحاف فضلاء البشر ، الموضعان السابقان ، والسبعة في القراءات (ص : ٣٥٢).

٤٣٢

بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ).

(لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (١١١)

قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ) أي : في قصص يعقوب وأولاده. وقيل : في قصص الرسل. ويؤيده قراءة من قرأ : «قصصهم» بكسر القاف ، وهي قراءة قتادة وأبي الجوزاء ، وقرأت بها لأبي عمرو من رواية عبد الوارث عنه (١).

(عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي : عظة لأصحاب العقول ، ودلالة لهم على قدرة الله تعالى وحكمته في تصاريف قضائه وقدره ، وبرهان على رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حيث قص عليهم قصة يوسف وإخوته على الوجه الذي تشهد له التوراة والكتب القديمة بصحته ، مع كونه أمّيّا من أمّة أمّيّة ، بعيدا من علماء أهل الكتاب.

(ما كانَ) القصص الذي جاء به (حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب المتقدمة ، (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) يحتاج إليه من أمر الدين (وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يصدقون بما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجميع ما بعد ، لكن عطف على خبر كان.

وقرئ شاذا : «تصديق وتفصيل ورحمة» بالرفع فيهن ، على معنى : هو تصديق (٢). والله تعالى أعلم.

__________________

(١) زاد المسير (٤ / ٢٩٧).

(٢) البحر المحيط (٥ / ٣٤٩).

٤٣٣

سورة الرعد

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وهي أربع وأربعون آية في المدني ، وثلاث في الكوفي ، وهي مكية في قول الأكثرين. واستثنى القائلون بأنها مدنية آيتين وهما : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً) ... إلى آخرهما (١).

(المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) (١)

قوله تعالى : (المر) قال ابن عباس في رواية أبي الضحى : معناه : أنا [الله](٢) أعلم وأرى (٣).

وقال في رواية عطاء : أنا الله الملك الرحمن (٤).

(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) مفسر في أول يونس.

__________________

(١) أخرج أبو الشيخ عن قتادة قال : سورة الرعد مدنية ، إلا آية قوله : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ) ، وعلى القول بأنها مكية ؛ يستثنى قوله : (اللهُ يَعْلَمُ ...) إلى قوله : شَدِيدُ الْمِحالِ (الإتقان ١ / ٤٩).

(٢) زيادة من المصادر التالية.

(٣) أخرجه الطبري (١٣ / ٩١). وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٥٩٩) وعزاه لأبي الشيخ.

(٤) تقدم تخريجه في أول سورة يونس.

٤٣٤

وقوله : «تلك» : مبتدأ ، و (آياتُ الْكِتابِ) : خبره (١).

وقوله : (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ) يجوز أن يكون في موضع الجر وصفا للكتاب (٢) ، وإن كانت الواو دخلت فيه ؛ لأن الواو يجوز دخولها في الصفة ، تقول : مررت بزيد وصاحبك ، فيكون الصاحب هو زيد ، [والتقدير](٣) : تلك آيات الكتاب المنزل إليك من ربك.

فعلى هذا : «الحق» مرتفع بإضمار هو ، أو يكون خبرا بعد خبر ، أو يكون «تلك» : مبتدأ ، (آياتُ الْكِتابِ) : نعتا ل «تلك».

«والذي أنزل» في موضع رفع عطفا على «آيات» ، أو في موضع جر عطفا على «الكتاب» ، والمراد بالكتاب : السورة ، أي : تلك آيات السورة والذي أنزل إليك ، وهو القرآن كله.

فعلى هذا : خبر المبتدأ : «الحق» (٤).

وقال الفراء (٥) : «الذي» : رفع بالاستئناف ، خبره : «الحق» ، وهذا هو المشهور في التفسير.

(اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ

__________________

(١) التبيان (٢ / ٦٠) ، والدر المصون (٤ / ٢٢٢) ، وإعراب القرآن للنحاس (٢ / ٣٤٩).

(٢) انظر : المصادر السابقة.

(٣) في الأصل : والتقدر. والصواب ما أثبتناه.

(٤) التبيان (٢ / ٦٠) ، والدر المصون (٤ / ٢٢٣) ، وإعراب القرآن للنحاس (٢ / ٣٤٩).

(٥) معاني الفراء (٢ / ٥٧).

٤٣٥

بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٤)

قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) إن جعلت الباء من صلة «ترونها» لم تقف على «عمد» ، وإن جعلتها من صلة «رفع» وقفت على «عمد».

فعلى الأول هاء الكناية ترجع إلى «عمد» و «ترونها» صفة لها ، التقدير : بغير عمد مرأية.

ويعضده قراءة أبيّ : «ترونه» (١) ، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء والضحاك ، قال : لها عمد على قاف ولكنكم لا ترون العمد. وهذا قول مجاهد وعكرمة وعلي (٢).

الثاني : «ترونها» كلام مستأنف ، استشهاد برؤيتهم لها كذلك ، وهاء الكناية ترجع إلى «السموات» ، وهذا قول ابن عباس في رواية أبي صالح ، وبه قال الحسن

__________________

(١) البحر المحيط (٥ / ٣٥٣) ، والدر المصون (٤ / ٢٢٤).

(٢) أخرجه الطبري (١٣ / ٩٣ ـ ٩٤) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٢١٦) ، ومجاهد (ص : ٣٢٣). وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٦٠٠ ـ ٦٠١) وعزاه لابن المنذر عن ابن عباس ، ومن طريق آخر عن مجاهد.

٤٣٦

وقتادة وجمهور العلماء (١). وهو الصحيح ؛ لأنها لو احتاجت إلى عمد لافتقر العمد إلى دعامة أيضا وتسلسل إلى ما لا نهاية له.

قال الضحاك : ليس من دونها دعامة ، ولا فوقها علاقة (٢).

وقال إياس بن معاوية : السماء مقبّبة على الأرض مثل القبّة (٣).

والعمد : الأساطين ، جمع [عماد](٤).

وقد روي شاذا : «عمد» بضمتين ، وهو القياس (٥).

قال أبو عبيدة (٦) : كل كلمة هجاؤها أربعة أحرف والثالث منها ألف أو ياء أو واو ، فجميعه مضموم الحروف ؛ نحو : رسول ورسل ، وحمار وحمر. غير أنه قد جاءت أسامي استعملوها جميعا بالحركة والفتحة ، نحو : عمود وأديم وإهاب ، قالوا : عمد وأدم وأهب.

(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) قال الثعلبي (٧) : علا عليه. وقد أسلفت القول على هذا في سورة الأعراف.

(وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) ذلّلهما لما يراد منهما (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) إلى وقت معلوم ، وهو فناء الدنيا.

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٣ / ٩٤). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٤ / ٣٠١).

(٢) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٣).

(٣) أخرجه الطبري (١٣ / ٩٤). وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٦٠١) وعزاه للطبري.

(٤) في الأصل : عامد. وهو خطأ. انظر : اللسان (مادة : عمد).

(٥) زاد المسير (٤ / ٣٠١) ، والدر المصون (٤ / ٢٢٣ ـ ٢٢٤).

(٦) مجاز القرآن (١ / ٣٢٠).

(٧) تفسير الثعلبي (٥ / ٢٦٩.

٤٣٧

وقيل : لوقت معلوم على ما يقتضيه الحساب والمنازل.

(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي : يصرّف أمر مملكته بحكمته ، (يُفَصِّلُ الْآياتِ) يبين الآيات الدالة على وحدانيته وقدرته على البعث وغيره (لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) قال ابن عباس : كي توقنون بالبعث ، وتعلمون أنه لا إله غيري (١).

فإن قيل : ما محل الذي رفع من الإعراب؟

قلت : الرفع خبر المبتدأ ، أو صفة.

فإن قيل : إذا جعلته صفة ، فأين الخبر؟

قلت : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) ، وقوله : (يُفَصِّلُ الْآياتِ) خبر بعد خبر.

والأول أظهر ؛ لقوله : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) قال ابن عباس : بسطها على الماء (٢) ، (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً) قال : أوتدها بالجبال. والرواسي : الجبال ، سمّيت بذلك ؛ لثباتها. يقال : رسا الشّيء يرسوا رسوّا ؛ إذا ثبت (٣).

(وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ) ثم تكاثرت بعد ذلك.

قال المفسرون : يعني بالزوجين : الحلو والحامض ، والعذب والملح ، والأبيض والأسود (٤). وقد سبق معنى الزوجين.

ومعنى : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) تفكّرا يفضي بهم إلى معرفة الله تعالى وقدرته ووحدانيته.

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٤).

(٢) زاد المسير (٤ / ٣٠٢).

(٣) انظر : اللسان (مادة : رسا).

(٤) زاد المسير (٤ / ٣٠٢).

٤٣٨

قوله تعالى : (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) أي : بقاع متدانية متقاربة ، وهي مع [انتظامها](١) في جنس الأرضية ، وكونها متجاورة متلاصقة ؛ مختلفة الطباع ، هذه سبخة لا تنبت ، وهذه طيبة صالحة للأشجار ، وصلبة إلى جنب رخوة ، ما ذاك إلا بقدرة قادر ، وحكمة صانع حكيم.

(وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ) وقرئ شاذا : «وجنات» إما بالنصب عطفا على «زوجين» وإما بالجر عطفا على (كُلِّ الثَّمَراتِ)(٢).

(وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص بالرفع ، عطفا على «قطع» ، وقرأ الباقون بالجر عطفا على «أعناب» (٣) ، وكذلك اختلافهم في (صِنْوانٌ وَغَيْرُ) ، ومنهم من يقول : «وزرع» مجرور بالمجاورة.

وقرأ أبو رزين وأبو عبد الرحمن السلمي وقتادة : «صنوان» بضم الصاد ، وهي لغة لتميم (٤). والصّنوان : جمع صنو ، ومعنى الصنوان : النخلات يجمعها أصل واحد (٥). ومنه قوله : «عمّ الرجل صنو أبيه» (٦) ، وهذا قول جميع أهل التفسير واللغة.

قال ابن عباس : «صنوان» ما كان من نخلتين أو ثلاث أو أكثر ، وأصل واحد ،

__________________

(١) في الأصل : انتضامها.

(٢) إتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٦٩).

(٣) الحجة للفارسي (٣ / ٣) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٣٦٩) ، والكشف (٢ / ١٩) ، والنشر لابن الجزري (٢ / ٢٩٧) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٦٩) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣٥٦).

(٤) زاد المسير (٤ / ٣٠٣).

(٥) انظر : اللسان (مادة : صنا).

(٦) أخرجه مسلم (٢ / ٦٧٦ ح ٩٨٣).

٤٣٩

(وَغَيْرُ صِنْوانٍ) يريد : المتفرق الذي لا يجمعه أصل واحد (١).

قال الزجاج (٢) : ويجوز في [جمع صنو : أصناء](٣) ، مثل : عدل وأعدال ، وقنو وأقناء ، وكذلك صنو ، فإذا كثرت فهي الصّنيّ والصّنيّ.

قال غيره : ولا فرق بين التثنية والجمع إلا في الإعراب ، فإن نون التثنية مكسورة أبدا ، ونون الجمع فيه منونة تجري بجريان الإعراب ، ومنه : قنو وقنوان.

تسقى (بِماءٍ واحِدٍ) قرأ ابن عامر وعاصم : «يسقى بماء واحد» بالياء (٤) ، أي : يسقى هذا المذكور. وقرأ الباقون بالتاء حملا على تأنيث الأشياء المذكورة ، ألا تراه يقول : (وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) ، وقرأ حمزة والكسائي : «ويفضّل» بالياء (٥) ، على معنى : ويفضل الله.

وقرأت لأبي عمرو من رواية عبد الوارث عنه من طريق الحلبي ؛ بالياء وفتح الضاد.

«بعضها» بالرفع ، وقرأ نافع وابن كثير : «في الأكل» بتسكين الكاف ، وقرأ

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٣ / ٩٩ ـ ١٠٠) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢٢٢٠) وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٦٠٤) وعزاه لابن المنذر.

(٢) معاني الزجاج (٣ / ١٣٨ (.

(٣) في الأصل : الجمع صنو وأصناء. والتصويب من معاني الزجاج ، الموضع السابق.

(٤) الحجة للفارسي (٣ / ٦) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٣٦٩) ، والكشف (٢ / ١٩) ، والنشر لابن الجزري (٢ / ٢٩٧) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٦٩) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣٥٧ (.

(٥) الحجة للفارسي (٣ / ٦) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٣٧٠) ، والكشف (٢ / ١٩) ، والنشر لابن الجزري (٢ / ٢٩٧) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٦٩) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣٥٧ (.

٤٤٠