رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٣

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٣

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٣

(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ) كما يقول الرجل للرجل : إن كنت أبي فتعطف عليّ ، أي : [إن كنت](١) أبي فواجب أن تتعطف عليّ ، ليس أنه يشك أنه أبوه.

وفيها وجه ثالث (٢) : أن تكون «إن» في معنى «ما» ، فيكون المعنى : ما كنت في شك مما أنزلنا إليك.

(فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) أي : لسنا نريد أن نأمرك أن تسأل لأنك شاك ، ولكن لتزداد [بصيرة](٣) ، كما قال إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [البقرة : ٢٦٠] ، فالزيادة في التثبت ليست مما يبطل صحة العقد.

وقال ابن قتيبة (٤) : كان الناس على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصنافا ، منهم كافر مكذب ، ومؤمن مصدق ، وشاكّ في الأمر لا يدري كيف هو ، يقدّم رجلا ويؤخّر أخرى. فخاطب الله تعالى هذا الصنف من الناس فقال : إن كنت أيها الإنسان في شك مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاسأل.

وقال الزمخشري (٥) : هذا بمعنى الفرض والتمثيل ، كأنه قيل : فإن وقع لك شكّ مثلا وخيّل لك الشيطان خيالا منه تقديرا ، (فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ

__________________

(١) في الأصل : فأنت. والتصويب من معاني الزجاج (٣ / ٣٣).

(٢) ذكره الزجاج (٣ / ٣٣).

(٣) زيادة من زاد المسير (٤ / ٦٣).

(٤) تأويل مشكل القرآن (ص : ٢٧٢).

(٥) الكشاف (٢ / ٣٥٢).

١٠١

مِنْ قَبْلِكَ) ؛ كعبد الله بن سلام وأصحابه ، فإنهم من الرسوخ في العلم والإحاطة بصحة رسالتك وتحقيق معرفتك ، بالمنزلة التي تصلح لمن تداخله شكّ وامتراء أن يراجعهم ويستوضح ما التبس عليه من جهتهم.

(لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أي : أتاك الحق الذي لا مرية فيه ، (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ).

(وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي : دم واثبت على ما أنت عليه من انتفاء المرية عنك وانتفاء التكذيب بآيات الله.

ويجوز أن يكون على طريقة التهييج والإلهاب ، كقوله : (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ* وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) [القصص : ٨٦ ـ ٨٧].

وقيل : هو نهي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد غيره.

أو : فلا تكونن أيها الإنسان أو السامع الذي يتطرق إلى مثله الامتراء والتكذيب.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) أي : ثبتت ووجبت عليهم كلمة ربك السابقة في اللوح المحفوظ بأنهم يموتون كفارا ، وأنهم قوم معذّبون مسخوط عليهم (لا يُؤْمِنُونَ).

(وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) خارقة سألوك الإتيان بها (حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) فحينئذ لا ينفعهم الإيمان الاضطراري ، كما لم ينفع فرعون إيمانه.

١٠٢

(فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (٩٨)

قوله تعالى : (فَلَوْ لا) أي : فهلّا ، وكذا قرأها عبد الله بن مسعود وأبيّ بن كعب رضي الله عنهما (١).

(كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ) أي : قرية واحدة من القرى التي أهلكناها آمنت. والمراد : آمن أهلها قبل معاينة العذاب ، ولم تؤخّر كما أخّر فرعون إلى أن ألجمه الغرق وعاين الملك (فَنَفَعَها إِيمانُها).

قوله تعالى : (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) قال صاحب الكشاف (٢) : (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) استثناء من «القرى» ؛ لأن المراد أهاليها ، وهو استثناء منقطع ، بمعنى : ولكن قوم يونس.

ويجوز أن يكون متصلا ، والجملة في معنى النفي ، كأنه قيل : ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلا قوم يونس ، وانتصابه على أصل الاستثناء.

وقرئ [بالرفع](٣) على البدل (٤).

وقال الزجاج (٥) : وأما النصب في قوله : (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) مثله في الشعر :

__________________

(١) البحر المحيط (٥ / ١٩٢).

(٢) الكشاف (٢ / ٣٥٣).

(٣) زيادة من الكشاف ، الموضع السابق.

(٤) روي ذلك عن الجرمي والكسائي. انظر : البحر المحيط (٥ / ١٩٢).

(٥) معاني القرآن للزجاج (٣ / ٣٤ ـ ٣٥).

١٠٣

 ...........

وما بالربع من أحد

إلا أواري .............

 ................(١)

ويجوز الرفع على أن يكون على معنى : فهلّا كانت قرية آمنت ، فيكون (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) صفة. ويجوز أن تكون بدلا من الأول ؛ لأن معنى (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) محمول على معنى هلّا كان قوم قرية ، أو قوم نبي آمنوا إلا قوم يونس.

وفي الرفع وجه آخر : وهو البدل ، وإن لم يكن الثاني من جنس الأول (٢) ، كما قال الشاعر :

وبلدة ليس بها أنيس

إلّا اليعافير وإلّا العيس (٣)

(وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) أي : إلى زمن انقضاء آجالهم.

__________________

(١) جزء من بيتين للنابغة. وهما :

وقفت فيها أصيلا لا أسائلها

عيّت جوابا وما بالرّبع من أحد

إلّا الأواري لأيا ما أبيّنها

والنّؤي كالحوض بالمظلومة الجلد

انظر : ديوانه (ص : ٣٠) ، والكتاب (٢ / ٣٢١) ، والمقتضب (٤ / ٤١٤) ، وشرح المفصل لابن يعيش (٢ / ٨٠) ، وأوضح المسالك (٢ / ٣٨٩) ، ومجاز القرآن (١ / ٣٢٨) ، والتصريح (٢ / ٣٦٧) ، والإنصاف (١ / ١٧٠) ، والطبري (١ / ٧٨) ، والقرطبي (٧ / ٣٥٦) ، واللسان ، مادة : (أصل).

والأواري : جمع آري ، وهو مربط الدواب.

(٢) أي هو استثناء منقطع.

(٣) البيت لجران العود النميري ، وهو عامر بن الحرث. والشاهد : أن الاستثناء منقطع ، ومع ذلك رفع.

انظر البيت في : الطبري (٥ / ٢٧٧ ، ١٢ / ٤٥ ، ٢٧ / ٦٥) ، والقرطبي (٥ / ٣١٢ ، ٦ / ١٠ ، ١٠ / ٢٦ ، ٢٠ / ٨٩) ، والتمهيد لابن عبد البر (٥ / ١٤٥) ، وابن يعيش (٢ / ٨٠) ، والخزانة (٤ / ١٩٧) ، ومعاني الزجاج (٣ / ٣٥) ، وروح المعاني (١٤ / ١٧٣ ، ٣٠ / ١٥٢).

١٠٤

الإشارة إلى قصتهم :

ذكر أهل العلم بالتفسير والسّير : أن يونس بن متّى عليه‌السلام بعث إلى نينوى من أرض الموصل يدعوهم إلى [الله](١) ورفض الأصنام ، فأبوا عليه ولم ينقادوا إليه ، فأخبرهم أن العذاب نازل بهم ومصبّحهم بعد ثلاث ، ثم خرج ـ عليه‌السلام ـ من بين أظهرهم ، فلما تغشّاهم العذاب للوقت الذي توعدهم بنزول العذاب فيه ، قال ابن عباس : وجدوا حرّه على أكتافهم ، ولم يبق بينهم وبينه إلا قدر ثلثي ميل (٢).

قال وهب : أغامت السماء غيما أسود هائلا يدخن دخانا شديدا ، فهبط حتى تغشّى مدينتهم (٣). فلما أيقنوا بالهلاك طلبوا نبيهم فلم يجدوه ، فتداركهم الله تعالى برحمته ، وألقى في قلوبهم الندم والتوبة ، فلبسوا المسوح ، وحثوا على رؤوسهم الرماد ، وبرزوا إلى الصعيد بنسائهم وصبيانهم ودوابهم ، وفرّقوا بين النساء والصبيان ، والدواب وأولادها ، فحنّ بعضهم إلى بعض ، وتضرعوا إلى الله ، وعلت الأصوات ، وارتفع الضجيج والعجيج ، وأظهروا التوبة والإيمان وأخلصوا نياتهم وقالوا : آمنا بما جاء به يونس ، وكان ذلك يوم عاشوراء ووافق يوم الجمعة (٤).

__________________

(١) في الأصل : الإسلام. والمثبت من زاد المسير (٤ / ٦٥).

(٢) انظر قول ابن عباس في : زاد المسير (٤ / ٦٥).

(٣) زاد المسير (٤ / ٦٥).

(٤) زاد المسير (٤ / ٦٥ ـ ٦٦).

١٠٥

قال مقاتل (١) : عجّوا إلى الله تعالى أربعين ليلة.

قال ابن مسعود : بلغ من توبة أهل نينوى : أن ترادّوا المظالم بينهم ، حتى إن الرجل كان يقتلع الحجر قد وضع عليه أساس بنيانه فيردّه (٢).

وقال أبو الجلد (٣) : لما غشيهم العذاب مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا : ما ترى؟ قال : قولوا : يا حي حين لا حي ، يا حي يا قيوم ، يا محيي الموتى ، ويا حي لا إله إلا أنت (٤). فقالوها فكشف عنهم العذاب.

وسنذكر قصة يونس في موضعها إن شاء الله تعالى.

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠) قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ

__________________

(١) تفسير مقاتل (٢ / ١٠٥).

(٢) زاد المسير (٤ / ٦٦).

(٣) هو جيلان بن فروة ، أبو الجلد الأسدي البصري ، صاحب كتب التوراة ونحوها ، كان ثقة (الجرح والتعديل ٢ / ٥٤٧).

(٤) أخرجه الطبري (١١ / ١٧٢) ، وابن أبي حاتم (٦ / ١٩٨٩) ، وأحمد في الزهد (ص : ٤٤ ـ ٤٥).

وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٣٩٣) وعزاه لأحمد في الزهد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

١٠٦

حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) (١٠٣)

قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ) أي : ولو شاء مشيئة قسر وقهر (لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) أي : مجتمعين على الإيمان مطبقين عليه.

قال ابن عباس : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حريصا على إيمان جميع الناس ، فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبقت له السعادة (١).

قال الأخفش (٢) : جاء بقوله : «جميعا» مع «كل» [تأكيدا](٣) ؛ كقوله : (لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) [النحل : ٥١].

(أَفَأَنْتَ) يا محمد (تُكْرِهُ النَّاسَ) تلجئهم إلى الإيمان وتضطرهم إليه (حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي : لا تقدر على ذلك ولا هو في وسعك.

وزعم قوم أن هذا منسوخ بآية السيف (٤).

ولا يصح ؛ لأن المقصود من الآية : الإعلام بأنه لا يوقع في القلوب ما يضطرها إلى الإيمان إلا الله وحده ، ألا تراه يقول عقيب ذلك : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) قال ابن عباس : بقضائه وقدره (٥).

__________________

(١) أخرجه الطبري (١١ / ١٧٣). وانظر : الوسيط (٢ / ٥٦٠) ، وزاد المسير (٤ / ٦٧).

(٢) معاني الأخفش (ص : ٢١٩). وانظر : زاد المسير (٤ / ٦٧).

(٣) في الأصل : تأكيد. والتصويب من زاد المسير ، الموضع السابق.

(٤) ذكر دعوى النسخ هنا ابن سلامة في : الناسخ والمنسوخ (ص : ١٠٤). ورد هذا ابن الجوزي في نواسخ القرآن (ص : ٣٧٣). ولم يتعرض لدعوى النسخ هنا معظم من ألّف في النسخ.

(٥) الوسيط (٢ / ٥٦٠) ، وزاد المسير (٤ / ٦٧).

١٠٧

وقال الزجاج (١) : بتوفيقه.

وقال غيره : بتيسيره وتسهيله وما يمنحهم من ألطافه.

(وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ) قرأ أبو بكر عن عاصم : «ونجعل» بالنون (٢).

وقرأ الأعمش : «الرجز» بالزاي (٣).

قال الحسن والزجاج (٤) : «الرجس» : العذاب (٥).

(عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) قال ابن عباس : هم الذين لا يؤمنون. يشير إلى أنهم لا يعقلون دلائل التوحيد ومعجزات الرسل عليهم الصلاة والسّلام (٦).

(قُلِ) لهم يا محمد (انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الآيات والعبر [الدالة](٧) على القدرة والوحدانية ؛ كالشمس والقمر والنجوم وغيرها من العجائب ، المقتضية صانعا حكيما ومدبرا لا يشبهه شيء.

(وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ) يعني : الرسل ، و «ما» استفهامية أو نافية ، (عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) في علم الله عزوجل.

قوله تعالى : (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) أي : فهل

__________________

(١) معاني الزجاج (٣ / ٣٦).

(٢) الحجة للفارسي (٢ / ٣٧٩) ، والكشف (١ / ٥٢٣) ، والنشر (٢ / ٢٨٧) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٥٤) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣٣٠).

(٣) البحر المحيط (٥ / ١٩٣).

(٤) معاني الزجاج (٣ / ٣٦).

(٥) ذكره الواحدي في الوسيط (٢ / ٥٦١) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٤ / ٦٨).

(٦) مثل السابق.

(٧) في الأصل : الدلة.

١٠٨

ينتظرون بعد الإعراض عن النذير في آياتي ، والتفكر في عجائب مخلوقاتي ، وبعد تكذيب رسولي الذي أيدته بالبراهين القاطعة ، والحجج المنيرة الساطعة ، والمعجزات الخارقة مثل وقائع الله تعالى بأمثالهم مثل مكذبي الأمم الخالية.

قال ابن الأنباري (١) : العرب تكنّي بالأيام عن الشرور والحروب ، وقد يقصد بها أيام [السرور](٢) والأفراح إذا قام دليل بذلك.

والمعنى هاهنا : يجب أن لا تنتظروا إلا أياما مثل أيام المكذبين من الأمم الماضية في وقوع العذاب بهم.

(قُلْ فَانْتَظِرُوا) قال الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي رضي الله عنه (٣) : المعنى : قل فانتظروا هلاكي.

والأظهر عندي : أنه تهديد لهم ، على معنى : انتظروا ما يجب أن تنتظروه من وقائع الله بكم ، (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) لكم.

(ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) من العذاب الواقع بالمكذبين من الأمم ، (كَذلِكَ) أي : مثل ذلك الإنجاء (نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) منكم أيتها الأمة المحمدية من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.

وقوله : (حَقًّا عَلَيْنا) يعني : حق ذلك علينا حقا.

قرأ يعقوب وحفص والكسائي في روايته عن أبي بكر عن عاصم : «ننج

__________________

(١) انظر : زاد المسير (٤ / ٦٩).

(٢) في الأصل : الشرور. والتصويب من زاد المسير ، الموضع السابق.

(٣) زاد المسير (٤ / ٦٩).

١٠٩

المؤمنين» بتخفيف الجيم ، وقرأ الباقون بالتشديد (١).

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (١٠٧)

قوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ) أي : يا أهل مكة (إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) بما خامر قلوبكم من الفواحش المضلّة ، والوساوس المزلّة ، فإني أحاكمكم إلى عقولكم ، بشرط الإنصاف بالإنصاف ، فليت شعري! من أي وجه يتطرق الشك إليك في ديني ، وقد جاء آمرا لكم بتوحيد الذي أنعم عليكم بالإيجاد ، وتنزيهه عن الشركاء والأولاد ، وزاجرا لكم عما أنتم عليه من عبادة أحجار لا تقدر على مثوبة عابديها ، ولا على عقوبة جاحديها ، فإذا نظرتم في ذلك علمتم أن ديني لا مدخل للشك فيه وجزمتم بتضليل القائل بما ينافيه.

(وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) فهو الإله الحق الذي يجب أن يعبد ويخشى ،

__________________

(١) الحجة لابن زنجلة (ص : ٣٣٧) ، والكشف (١ / ٥٢٣) ، والنشر (٢ / ٢٥٨ ـ ٢٥٩) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٥٤) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣٣٠).

١١٠

(وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.

فإن قيل : لأي معنى قال هاهنا : (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)؟ وقال في آخر النمل : (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [٩١]؟.

قلت : تقدمها قوله تعالى : (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) ، ثم قال بعده : (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ) منهم ، فأقام المظهر موضع المضمر. وفي النمل تقدمها قوله : (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) [النمل : ٨١] ، فكأنه قال : وأمرت أن أكون ممن إذا سمع آيات الله آمن بها وكان من المسلمين.

قوله تعالى : (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ) عطف على ما قبله بتأويل المصدر (١) ، التقدير : أمرت بالكون من المؤمنين ، وبإقامة الوجه للدين ، والمعنى : استقم ولا تلتفت يمينا ولا شمالا.

قال ابن عباس : أقم عملك (٢).

(حَنِيفاً) حال من «الوجه» أو «الدين» (٣).

قوله تعالى : (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ) يعني : لا ينفعك إن دعوته (وَلا يَضُرُّكَ) إن تركت دعاءه ، (فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ) الواضعين الدعاء في غير موضعه.

__________________

(١) التبيان (١ / ٢٤٧) ، والدر المصون (٤ / ٧٢ ـ ٧٣).

(٢) زاد المسير (٤ / ٧٠).

(٣) الدر المصون (٤ / ٧٣).

١١١

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) من فقر أو مرض وغيرهما (فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ) نعمة من مال أو عافية وغيرهما (فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) يشير إلى أنه لا كاشف للضر والبلاء ، ولا صارف لما يريده من العافية والرخاء إلا هو ، فهو الحقيق بالعبادة والدعاء ، لا الأصنام التي لا تقدر على شيء من الأشياء ، (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) لمن استغفره من كفره ومعاصيه.

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) (١٠٩)

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن ، فلم يبق لكم عذر ولا على الله حجة ، (فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي : فلها نفع هداها ، وعليها وبال ضلالها ، (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) بحفيظ موكول إلى حملكم على ما أريد ، وإنما أنا بشير ونذير. وقد سبق القول على أمثالها في النسخ والإحكام.

(وَاصْبِرْ) على دعائهم غيري وأذاهم إياك من أجلي (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ) لك بإعزازك وإظهار دينك وإذلال أعدائك (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) والأمر بالصبر منسوخ بآية القتال عند ابن عباس وأكثر المفسرين (١).

__________________

(١) الوسيط (٢ / ٥٦٢) ، وزاد المسير (٤ / ٧١). وانظر دعوى النسخ في : الناسخ والمنسوخ للنحاس (ص : ٥٢٩) عن ابن زيد ، والناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص : ١٠٤). وردّ قول النسخ ابن الجوزي في نواسخ القرآن (ص : ٣٧٤).

١١٢

وأنكر قوم ذلك. وقد تكلمت عليه في البقرة عند قوله : (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) [١٠٩].

١١٣

سورة هود عليه‌السلام

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وهي مائة وإحدى وعشرون آية في المدني ، وثلاث وعشرون في الكوفي ، وهي مكية. واستثنى قوم قوله تعالى : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) ... الآية فقالوا : هي مدنية (١).

واستثنى قوم : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ).

قرأت على الشيخ أبي محمد عبد المجير بن محمد بن عشائر القبيصي بمنزله بحلب ، أخبركم أبو الفضل عبد الله بن أحمد بن محمد الخطيب الطوسي بالموصل ، ثنا أبو الخطاب نصر بن أحمد البطر (٢) ، ثنا دعلج (٣) ، ثنا جعفر الحسيني وأبو جعفر

__________________

(١) قال السيوطي في الإتقان (١ / ٤٨) : ودليله ما صح من عدة طرق أنها نزلت بالمدينة في حق أبي اليسر.

(٢) نصر بن أحمد بن عبد الله بن البطر البغدادي البزاز القارئ ، أبو الخطاب ، مسند العراق. ولد سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة ، كان يسكن باب الغربة ثم المشرعة مما يلي البدرية ، وكان صالحا صدوقا ، صحيح السماع ، مات في سادس عشر ربيع الأول سنة أربع وتسعين وأربعمائة ، وله ست وتسعون سنة (سير أعلام النبلاء ١٩ / ٤٦ ـ ٤٩).

(٣) دعلج بن أحمد بن دعلج بن عبد الرحمن ، أبو محمد السجستاني المعدل ، كان من ذوي اليسار والأحوال ، وأحد المشهورين بالبر والأفضال ، وله صدقات جارية ووقوف محبسة على أهل الحديث ببغداد ومكة وسجستان ، جاور بمكة زمانا ثم سكن بغداد واستوطنها ، وكان ثقة ثبتا ، توفي يوم الجمعة في جمادى الآخرة سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة (تاريخ بغداد ٣٨٧ ـ ٣٩١ ، ـ

١١٤

بن حسان التمار قالا : ثنا أبو كريب ، ثنا معاوية بن هشام ، عن شيبان.

وقرأت على شيخ الإسلام موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي في شعبان سنة تسع وستمائة واللفظ له ، أخبركم شيخ الإسلام أبو محمد عبد القادر بن أبي صالح الجيلي فأقرّ به ، أبنا أبو بكر أحمد بن المظفر بن سوسن التمار (١) ، أبنا أبو علي الحسن بن أحمد بن شاذان (٢) ، أبنا أبو بكر (٣) محمد بن العباس بن نجيح البزار من لفظه ، ثنا محمد بن الفرج أبو بكر الأزرق (٤) ، ثنا عبيد الله بن موسى ، أبنا شيبان ، عن أبي إسحاق ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن أبا بكر رضي الله عنه قال : «يا رسول الله أراك قد شبت؟ قال : شيّبتني هود وأخواتها ، وعمّ

__________________

ـ والأعلام ٢ / ٣٤٠).

(١) أحمد بن المظفر بن الحسين بن عبد الله بن سوسن ، أبو بكر التمار ، سمع من أبي علي الحسن بن أحمد بن شاذان ، وأبي القاسم عبد الرحمن بن عبيد الله الحرفي وغيرهما ، حدث عنه محمد بن ناصر السلامي وعبد القادر بن أبي صالح الجيلي وغيرهما ، مات في سنة ثلاث وخمسمائة ، وله اثنتان وتسعون سنة (سير أعلام النبلاء ١٩ / ٢٤١ ـ ٢٤٢ ، وتكملة الإكمال ٣ / ٢٥٤).

(٢) الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن الحسن بن محمد بن شاذان البغدادي ، أبو علي البزاز ، ولد في ربيع الأول سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة ، له كتب منها : " المشيخة الصغيرة" ، و" الأفراد" ، و" فوائد ابن قانع" ، وغيرها ، وكان صحيح السماع صدوقا ، توفي سلخ عام خمسة وعشرين وأربعمائة (سير أعلام النبلاء ١٧ / ٤١٦ ـ ٤١٨ ، والأعلام ٢ / ١٨٠).

(٣) في الأصل زيادة : بن. وهو خطأ. انظر ترجمته في : تاريخ بغداد (٣ / ١١٨).

(٤) محمد بن الفرج بن محمود البغدادي ، أبو بكر الأزرق ، صدوق ، ربما وهم ، مات في آخر سنة اثنتين وثمانين ومائتين (تهذيب التهذيب ٩ / ٣٥٤ ، والتقريب ص : ٥٠٢ ، وسير أعلام النبلاء ١٣ / ٣٩٤ ـ ٣٩٥).

١١٥

يتساءلون ، والواقعة ، والمرسلات ، وإذا الشمس كوّرت» (١).

وأخبرنا به عاليا الشيخ أبو العباس الخضر بن كامل بن سالم قراءة عليه وأنا أسمع سنة ست وستمائة ، قال : أبنا أبو الدر ياقوت بن عبد الله التاجر ، أبنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الله بن هزار مرد الصريفيني ، حدثنا أبو طاهر محمد بن عبد الرحمن بن العباس المخلص سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة ، ثنا أبو بكر أحمد بن عبد الله بن سيف السجستاني ، أبنا يونس بن عبد الأعلى ، أبنا ابن وهب ، أبنا طلحة بن عمرو (٢) ، عن عطاء ، عن ابن عباس : «أن أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : يا رسول الله ، لقد أسرع إليك الشّيب!! قال : أجل ، شيّبتني هود وأخواتها. قال عطاء : أخواتها : اقتربت الساعة ، والمرسلات عرفا ، وإذا الشمس كورت» (٣). هذا حديث صحيح.

(الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٥ / ٤٠٢ ح ٣٢٩٧) ، والحاكم (٢ / ٣٧٤ ح ٣٣١٤).

(٢) طلحة بن عمرو بن عثمان الحضرمي المكي ، متروك الحديث ، مات سنة اثنتين وخمسين ومائة (تهذيب التهذيب ٥ / ٢١ ، والتقريب ص : ٢٨٣).

(٣) ذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٣٩٧) وعزاه لابن عساكر ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (١ / ٤٣٥).

١١٦

عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٤)

قوله تعالى : (كِتابٌ) أي : هذا كتاب (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) نظمت نظما رصينا سليما عن الخلل والتناقض والنسخ.

قال ابن عباس : لم ينسخ بكتاب كما نسخت الكتب والشرائع (١).

«أحكمت» منعت من الفساد ، من قولهم : أحكمت الدّابّة ؛ إذا وضعت عليها الحكمة لتمنعها من الجماح (٢).

قال جرير :

أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم

إنّي أخاف عليكم أن أغضبا (٣)

قال قتادة : أحكمت من الباطل (٤).

(ثُمَّ فُصِّلَتْ) بفرائد الفوائد ، كما تفصل القلائد [بالفرائد](٥) ، ما بين حرام وحلال ، ووعد ووعيد ، وترغيب وترهيب ، وغير ذلك.

وقيل : فصلت في النزول شيئا بعد شيء (٦).

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٢ / ٥٦٣) من قول الكلبي ، وزاد المسير (٤ / ٧٣).

(٢) انظر : اللسان ، مادة : حكم.

(٣) البيت لجرير. انظر : ديوانه (ص : ٧٢) ، والعمدة (٢ / ١٦٨) ، والكامل (٣ / ٢٦) ، والقرطبي (١ / ٢٨٨) ، وأمثال الحديث (١ / ٩٣ ، ١٠٠) ، والكشاف (٢ / ٣٥٨) ، والبحر المحيط (٥ / ٢٠١) ، والدر المصون (٤ / ٧٥).

(٤) أخرجه الطبري (١١ / ١٧٩ ـ ١٨٠) ، وابن أبي حاتم (٦ / ١٩٩٥). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٣٩٩) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٥) زيادة من تفسير النسفي (٢ / ١٤٥). وفي البحر المحيط : بالدلائل.

(٦) زاد المسير (٤ / ٧٤). وهذا القول ذكره ابن قتيبة في تفسير غريب القرآن (ص : ٢٠١).

١١٧

و «ثم» للتراخي في الحال لا في الوقت ، كما تقول : وهو حسن الوجه ثم كريم الفعل.

(مِنْ لَدُنْ) أي : من عند (حَكِيمٍ) في إحكام كتابه ، (خَبِيرٍ) في تفصيله.

أن لا (تَعْبُدُوا) مفعول له ، على معنى : لا تعبدوا (١) ، وتكون «أن» مفسرة. كأنه قيل : قال : لا تعبدوا ، وأمركم أن لا تعبدوا (إِلَّا اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ) أي : من جهته ؛ كقوله : (رَسُولٌ مِنَ اللهِ) [البينة : ٢] ، أو هي صلة ل «نذير» ، أي : أنذركم منه ومن عذابه إن كفرتم ، وأبشركم بثوابه إن آمنتم (٢).

(وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا) معطوف على «أن لا تعبدوا» (٣) ، أي : أمركم بالتوحيد والاستغفار.

والمعنى : استغفروا ربكم من الذنوب المستأنفة ، (يُمَتِّعْكُمْ) جواب (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا).

ومعنى : (يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً) يطوّل نفعكم في الدنيا بمنافع حسنة مرضية.

قال ابن عباس : يتفضل عليكم بالرزق والسعة (٤).

(إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وهو الموت ، وهذا كقوله : (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) [النحل : ٩٧].

قرأت على قاضي القضاة أبي صالح نصر بن عبد الرزاق بن عبد القادر بن أبي

__________________

(١) الدر المصون (٤ / ٧٥).

(٢) الدر المصون (٤ / ٧٦).

(٣) التبيان (٢ / ٣٤) ، والدر المصون (٤ / ٧٦).

(٤) ذكره الواحدي في الوسيط (٢ / ٥٦٣) ، وزاد المسير (٤ / ٧٥).

١١٨

صالح بن جنكي دوست الجيلي الحنبلي ، وعلى أبي عبد الله محمد بن أبي البدر بن فتيان الفقيه الحنبلي (١) ، قلت لكل واحد منهما على إفراده : أخبرتكم شهدة بنت أحمد بن الفرج الكاتبة فأقرّ به ، قالت : أبنا أبو الفرج محمد بن محمود بن الحسن القزويني في سنة سبع وثمانين وأربعمائة ، أبنا أبو علي إبراهيم بن محمد الهاني ، أبنا أبو القاسم إسماعيل بن أحمد النجمي السيوردي ، أبنا أبو القاسم منصور بن الحكم الأشغارياني (٢) ـ قرية من قرى الفرغانة (مرغينان) ـ في مسجد الجامع قال : سمعت جعفر بن نسطور الرومي (٣) صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا في الآخرة ، ومن كل ضيق مخرجا ، ورزقه من حيث لا يحتسب» (٤).

قوله تعالى : (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) أي : يعطي كل ذي فضل في الطاعة والعمل الصالح فضله من الثواب والدرجات على حسب تفاضلهم في

__________________

(١) محمد بن أبي البدر بن فتيان الفقيه العدل ، أبو عبد الله ، سمع من شهدة ومن بعدها الكثير ، وسماعه صحيح ، وهو رجل حسن (تكملة الإكمال ٤ / ٤٦٢).

(٢) منصور بن الحكم ، متهم بالكذب (ميزان الاعتدال ٦ / ٥١٧ ، ولسان الميزان ٦ / ٩٣).

(٣) جعفر بن نسطور الرومي ، أحد الكذابين الذين ادّعوا الصحبة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمئين من السنين ، ذكره ابن حجر في التجريد فقال : الإسناد إليه ظلمات ، والمتون باطلة ، وهو دجال أو لا وجود له (الإصابة ١ / ٥٥١ ، ولسان الميزان ٢ / ١٣٠). والحديث بهذا الإسناد مكذوب. وصح بعضه من طرق أخرى. انظر : التخريج.

(٤) أخرجه أبو داود (٢ / ٨٥ ح ١٥١٨) ، وابن ماجه (٢ / ١٢٥٤ ح ٣٨١٩) ، وأحمد (١ / ٢٤٨ ح ٢٢٣٤) ، والحاكم (٤ / ٢٩١ ح ٧٦٧٧) ، والبيهقي في الكبرى (٣ / ٣٥١ ح ٦٢١٤) كلهم من حديث ابن عباس.

١١٩

الطاعات.

وقيل : هو على حذف المضاف ، تقديره : ويؤت كل ذي فضل جزاء فضله.

وقال ابن مسعود وابن عباس : يؤت كل من فضلت حسناته على سيئاته فضله ، يعني : الجنة (١).

(وَإِنْ تَوَلَّوْا) تقديره : وإن تتولوا ، فحذف إحدى التائين ، وابن كثير شدّد التاء ، وقدم ذكر ذلك.

والمعنى : وإن تعرضوا عن الإيمان.

(فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) وهو يوم القيامة.

(إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) تهديد شديد ، (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) إعلام بأنه لا يمتنع عليه ما أراد من ثواب وعقاب.

(أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٥)

قوله تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) نزلت في الأخنس بن شريق ، كان حلو المنطق حبيب القلوب ، وكان هو وأحزابه من المنافقين (٢) (يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) يعطفونها ازورارا وانحرافا عن الحق ، ويطوونها على عداوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) أي : من الله تعالى. ويدل عليه تمام الآية.

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٢ / ٥٦٣) ، وزاد المسير (٤ / ٧٥).

(٢) ذكره الماوردي (٢ / ٤٥٨) ، والواحدي في أسباب النزول (ص : ٢٧١) وابن الجوزي في زاد المسير (٤ / ٧٦).

١٢٠