رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٣

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٣

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٣

قال ابن عباس : أنكروا عبادتهم (١).

وذلك أن الله تعالى ينطق الأوثان ، فتقول : ما كنا نشعر بأنكم إيانا تعبدون ، فتبرؤا منهم قطعا لأطماعهم الكاذبة ، وآمالهم الخائبة في قولهم : تقرّبنا إلى الله وتشفع لنا عنده ، فيقول المشركون : بلى عبدناكم ، فتقول الأصنام : (فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ).

قال ابن الأنباري (٢) : الباء في «بالله» دخلت توكيدا للكلام ، إذ سقوطها ممكن ، كما يقال : خذ بالخطام ، [وخذ](٣) الخطام.

(إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) هذه «إن» المخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة.

وقال الزجاج وكثير من النّحاة البصراء بالعربية (٤) : المعنى : ما كنا عن عبادتكم إيانا إلا غافلين ؛ لأنه لم يكن فينا أرواح ، ولم يكن لنا قلوب نعقل بها هنالك ، أي : في ذلك المقام ، أو في ذلك الوقت ، على استعارة اسم المكان للزمان.

قال الزجاج (٥) : (هُنالِكَ) ظرف ، المعنى : في ذلك الوقت تبلوا ، وهو منصوب [ب «تبلوا»](٦) ، والأصل : «هناك» ، وكسرت اللام لسكونها وسكون الألف ، والكاف للمخاطبة.

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٢ / ٥٤٦) ، وزاد المسير (٤ / ٢٧).

(٢) انظر : زاد المسير (٤ / ٢٧).

(٣) في الأصل : وجد. والتصويب من زاد المسير ، الموضع السابق.

(٤) معاني الزجاج (٣ / ١٦).

(٥) معاني الزجاج (٣ / ١٧).

(٦) في الأصل : بتلو. والتصويب من معاني الزجاج ، الموضع السابق.

٤١

(تَبْلُوا) أي : تختبر وتذوق (كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) في الدنيا من خير وشر.

وقرأ حمزة والكسائي : «تتلوا» بتائين (١) ، بمعنى : تقرأ كتاب أعمالها ، ودليله قوله تعالى : (اقْرَأْ كِتابَكَ) [الإسراء : ١٤] ، وقوله : (ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) [الكهف : ٤٩] ، وقوله : (فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ) [الإسراء : ٧١].

وقيل : معنى «تتلوا» : تتبع ، فالمعنى : هنالك تتبع كل نفس صالحة أو طالحة ما قدمت من العمل ؛ لأن العمل يهدي صاحبه إلى مستقره من الجنة والنار.

(وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) الثابت الربوبية الصادق فيها ، (وَضَلَّ عَنْهُمْ) بطل وزال (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي : يختلقون لله من الأنداد والأولاد.

ثم ألزمهم الحجة باضطرارهم إلا ما لا يجدون بدا من الإقرار به ، فقال : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي : من السماء المطر ، ومن الأرض الحبوب والثمر ، أم من (يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) أي : من يقدر على خلقهما وتسويتهما على الهيئة القابلة لما هو المقصود منهما والمراد بهما ، ومن يقدر على حمايتهما وحفظهما من الآفات المتكاثرة في الأزمان المتطاولة المتقاطرة ، مع لطف مغانيهما وجواهرهما.

(وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) يريد : أمر الكون الكلي من الهيكل العلوي والمركز السفلي ، (فَسَيَقُولُونَ اللهُ) قل لهم عند إقرارهم بذلك منكرا وموبخا : (أَفَلا تَتَّقُونَ) الذي خلق ورزق وقدر ودبّر فلا تشركوا به شيئا.

(فَذلِكُمُ اللهُ) الذي فعل هذه الأشياء (رَبُّكُمُ الْحَقُ) الثابت الربوبية لا

__________________

(١) الحجة للفارسي (٢ / ٣٦٢) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٣٣١) ، والكشف (١ / ٥١٧) ، والنشر (٢ / ٢٨٣) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٤٨ ـ ٢٤٩) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣٢٥).

٤٢

الأصنام ، (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِ) الذي ظهر دليله ووضح سبيله (إِلَّا الضَّلالُ) لحصول القطع والجزم بأن لا واسطة بينهما ، (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) أي : كيف تصرفون عقولكم عن الحق الواضح إلى الضلال الفاضح.

(كَذلِكَ) أي : مثل ذلك الحق أو مثل ذلك الصرف ، (حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) حق عليهم (أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).

قال الزجاج (١) : (أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) بدل من (كَلِمَةُ رَبِّكَ) ، أعلم الله أنهم بأعمالهم قد امتنعوا من الإيمان. وجائز أن تكون الكلمة : حقّت عليهم لأنهم لا يؤمنون ، وتكون الكلمة : ما وعدوا به من العقاب.

ومن قرأ : «كلمات» على الجمع هاهنا ، وفي الموضع الثاني ، وفي حم المؤمن ـ وهو نافع وابن عامر ـ ؛ فلتعدد الوعيد (٢).

(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) (٣٦)

قوله تعالى : (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) أي : من يقدر على أن

__________________

(١) معاني الزجاج (٣ / ١٨).

(٢) الحجة للفارسي (٢ / ٣٦٣) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٣٣١) ، والكشف (١ / ٤٤٧) ، والنشر (٢ / ٢٦٢) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٤٩) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣٢٦).

٤٣

يوجده ابتداء (ثُمَّ يُعِيدُهُ) تلاشية ، (قُلْ) لهم يا محمد إذا بهتوا وانسدّت عليهم مسالك المبادرة إلى المكابرة : (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) يوم القيامة (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ).

(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) أي : يدل عليه ويوضح طريق الوصول إليه ، (قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِ) يقال : هدى للحق وهدى إليه ، (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) وهو الله الذي هدى الخلق إلى الحق وأوضحه لهم على ألسنة الرسل ، وجعل لهم برهانا فاصلا وسببا موصلا مميزا بين الحق والباطل يسمى العقل ، فهذا الله الذي هدى الخلق إلى الحق (أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ) فيما أمر ونهى وشرّع.

(أَمَّنْ لا يَهِدِّي) وهو الصنم (إِلَّا أَنْ يُهْدى) قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وورش عن نافع : «[أمّن](١) لا يهدّي» بفتح الياء والهاء وتشديد الدال (٢).

وروي عن أبي عمرو اختلاس فتحة الهاء (٣) ، وبالوجهين قرأت على أشياخي له.

وقرأ قالون عن نافع بفتح الياء وسكون الهاء وتشديد الدال ، وروي عنه اختلاس فتحة الهاء كأبي عمرو (٤).

وقرأ حفص عن عاصم بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال ، ومثله أبو بكر

__________________

(١) في الأصل : أم.

(٢) الحجة للفارسي (٢ / ٣٦٤) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٣٣١) ، والكشف (١ / ٥١٨) ، والنشر (٢ / ٢٨٣) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٤٩) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣٢٦).

(٣) انظر : المصادر السابقة.

(٤) مثل السابق.

٤٤

إلا أنه زاد كسر الياء (١).

وقرأ حمزة والكسائي بفتح الياء وسكون الهاء وتخفيف الدال (٢).

فمن شدّد بناه على اهتدى يهتدي ، ثم أدغم التاء في الدال ؛ لاتفاقهما في المخرج. فابن كثير ومن وافقه نقل حركة الياء إلى الهاء. ومن اختلس الفتحة أشار بالاختلاس إلى الفتحة إلى عدم أصالتها ، وأنه جيء بالاختلاس لتخليص الهاء من السكون. ومن كسر الهاء ؛ فلالتقاء الساكنين.

ومن كسر الياء والهاء فعلّته الاتباع. ومن سكّن الهاء بقّاها على أصلها. ومن خفّف جعله من هدى يهدي.

فالمعنى : لا يهدي غيره إلا إن هداه الله ، أو لا يهتدي في نفسه ولا يصح منه الاهتداء ، إلا أن ينقله الله من حاله فيجعله حيوانا فاهما.

(فَما لَكُمْ) «ما» مبتدأ ، و «لكم» خبره (٣).

قال الزجاج (٤) : قوله : «فما لكم» كلام تام ، كأنه قيل لهم : أي شيء لكم في عبادة الأوثان ، ثم قيل لهم : (كَيْفَ تَحْكُمُونَ) على أي حال تحكمون. فموضع «كيف» نصب ب «تحكمون».

__________________

(١) الحجة للفارسي (٢ / ٣٦٤) ، والكشف (١ / ٥١٨) ، والنشر (٢ / ٢٨٣) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٤٩) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣٢٦).

(٢) الحجة للفارسي (٢ / ٣٦٤) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٣٣٢) ، والكشف (١ / ٥١٨) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٤٩).

(٣) التبيان (٢ / ٢٨) ، والدر المصون (٤ / ٣٢).

(٤) معاني الزجاج (٣ / ٢٠).

٤٥

قال مقاتل (١) : المعنى : كيف تقضون بالجور؟

قوله تعالى : (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا) قال الثعلبي والشيخ أبو الفرج ابن الجوزي وكثير من العلماء (٢) : المراد بالأكثر : الكل ، وقالوا : المعنى : وما يتبعون إلا الظن في قولهم أنها آلهة.

وقال صاحب الكشاف (٣) : المعنى : وما يتبع أكثرهم في إقرارهم بالله إلا ظنا ؛ لأنه قول غير مستند إلى برهان عندهم.

والقولان بعيدان ، فإن إطلاق الأكثر على الكل في غاية الشذوذ إن ثبت جواز استعماله.

وقول صاحب الكشاف بعيد أيضا ؛ لأن البراهين على معرفة الله والاستدلال بالصنعة على الصانع أمر ظاهر لمن له أدنى مسكة من عقل ، ولذلك احتجّ الله تعالى عليهم ملزما لهم باعترافهم وإقرارهم بالله ، وأنه الذي خلقهم ورزقهم ، ولم يجدوا بدّا من الانقياد إلى تسليم ما ألزموا به ، مع استلزام تسليم ذلك بطلان ما انتحلوه دينا ، ولو كان منشأ إقرارهم ـ كما زعم صاحب الكشاف ـ لكانوا بسبيل من الإنكار على ما هو المتعارف المتعاهد من ذوي الخصام.

والذي يظهر في نظري : أن المعنى : (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ) وهم الهمج الرعاع ، والاتباع في قولهم أن الأصنام آلهة ، «إلا ظنا» ؛ لأنه قول لا يقوم بصحته دليل نقلي ولا برهان عقلي.

__________________

(١) تفسير مقاتل (٢ / ٩٢).

(٢) الثعلبي (٥ / ١٣٢) ، وزاد المسير (٤ / ٣١).

(٣) الكشاف (٢ / ٣٣٠).

٤٦

وأما ذووا البصائر من قادتهم وسادتهم كلهم أو أكثرهم فكانوا على يقين من ضلالهم وبطلان ما هم عليه ، لكن حملهم عليه البغي والحسد وحب الاقتداء بالآباء. هذا أبو جهل مع شدّة تمرّده وكفره يقول لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد خلا به يوما : والله إني لأعلم أنك على الحق ، ولكن إذا ذهبت قصيّ بالسقاية والحجابة واللواء والنبوة ، فماذا يكون لسائر قريش؟ فأنزل الله فيه : (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) ... الآية (١).

والوليد بن المغيرة همّ بالدخول في [الإسلام](٢) فمنعه أبو جهل ، وقد ذكرنا كلامه في الأنفال (٣).

وأبو طالب يقول (٤) :

ألا أبلغا عني على ذات بيننا

لؤيّا وخصّا من لؤيّ بني كعب

بأنّا وجدنا في الكتاب محمّدا

نبيّا كموسى خطّ في أوّل الكتب

وأنّ عليه في العباد محبّة

ولا خير ممّن خصّه الله بالحبّ

واضطره حب الاقتداء بالسلف ، حتى قال عند موته : على ملة الأشياخ.

قوله تعالى : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) «شيئا» مفعول «يغني» (٥) ،

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي (ص : ٢١٨).

(٢) في الأصل : إسلام.

(٣) عند تفسير قوله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا ...) [الأنفال : ٣١].

(٤) انظر : ديوانه (ص : ٢١١) ، وسيرة ابن هشام (٢ / ١٩٧) ، ومعجم البلدان (٤ / ٣٤٥).

(٥) التبيان (٢ / ٢٨) ، والدر المصون (٤ / ٣٢).

٤٧

[وجائز](١) أن يكون في موضع المصدر ، أي : لا يغني غناء ، وكذا قالوا في قوله : (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) [البقرة : ٤٨] ، وفي قوله : (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) [النساء : ٣٦] ، وفي قوله : (يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) [النور : ٥٥].

والمعنى : أن ظنهم أنها آلهة وأنها تنفعهم وتشفع لهم عند الله ، لا يقوم مقام الحق ولا يسدّ مسدّه.

وقال مقاتل (٢) : المعنى : لا تدفع عنهم من العذاب شيئا.

(وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) (٤٠)

قوله تعالى : (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ) جواب لقولهم : (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ)، وجواب لقولهم : (افْتَراهُ) و «أن» مع «يفترى» بمنزلة المصدر ، يعني : وما كان هذا القرآن افتراء من دون الله (٣).

ويجوز أن تكون «كان» تامة ، فيكون التقدير : وما نزل هذا القرآن وظهر لأن

__________________

(١) في الأصل : ويز. ولعل الصواب ما أثبتناه.

(٢) تفسير مقاتل (٢ / ٩٢).

(٣) التبيان (٢ / ٢٨) ، والدر المصون (٤ / ٣٣).

٤٨

يفترى ، أو بأن يفترى.

وقال الفراء (١) : معنى الآية : ما ينبغي لمثل هذا القرآن أن يفترى ، فجاءت «أن» على معنى : ينبغي.

(وَلكِنْ تَصْدِيقَ) التقدير : ولكن كان تصديق (الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) الكتب المنزلة ، فهو مصدق لها وشاهد بصحتها.

وقيل : تصديق الذي بين يديه من البعث وأمر الآخرة.

وقيل : تصديق للنبي الذي بين يديه ؛ لأنهم شاهدوا النبي وعرفوه قبل سماعهم القرآن.

(وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ) أي : تبين ما كتب وفرض من الأحكام.

قال الزمخشري (٢) : (لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) جائز أن يكون داخلا في [حيز](٣) الاستدراك ، كأنه قيل : ولكن كان تصديقا وتفصيلا [منتفيا](٤) عنه الريب كائنا من رب العالمين.

وجائز أن يكون (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) متعلقا ب «تصديق» و «تفصيل» ، كأنه قيل : ولكن تصديقا وتفصيلا من رب العالمين ، ويكون (لا رَيْبَ فِيهِ) اعتراضا.

قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) قال أبو عبيدة (٥) : «أم» بمعنى الواو.

__________________

(١) معاني الفراء (١ / ٤٦٤).

(٢) الكشاف (٢ / ٣٣٠).

(٣) في الأصل : خبر. والتصويب من الكشاف ، الموضع السابق.

(٤) في الأصل : فمنتفيا. والتصويب من الكشاف ، الموضع السابق.

(٥) مجاز القرآن (١ / ٢٧٨).

٤٩

وقال الزجاج (١) : بمعنى : بل.

(قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) شبيهة به في البلاغة وحسن النظم ، فإنكم مثلي نسبا ولسانا ومنشأ ، إن كان الأمر على ما تزعمونه من كوني افتريته ، (وَادْعُوا) أي : واستعينوا بمن (اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) على الإتيان بسورة مثله ، فإنه لا يقدر على ذلك إلا الله ، (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أني افتريته.

(بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) أي : سارعوا إلى التكذيب بالقرآن في أول وهلة ، قبل الوقوف والنظر في معجزه وتدبر ألفاظه الرصينة ، ومعانيه الرزينة ، فرارا منه ، ونفورا عنه ؛ لما استقر في أنفسهم من حب الاقتداء بالآباء ، وحسدا وعنادا للمخصوص من بينهم بمنصب الرسالة.

قال صاحب الكشاف (٢) : وقيل : هم الذين كذبوا وهم شاكّون.

وقيل : معنى قوله : (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) : ولم يأتهم بعد تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب ، أي : عاقبته ، حتى يتبين لهم أكذب هو أم صدق ، يعني : أنه كتاب معجز من جهتين : من [جهة](٣) إعجاز نظمه ، ومن جهة ما فيه من الإخبار بالغيوب ، فيسرعوا إلى التكذيب [به](٤) قبل أن ينظروا في نظمه وبلوغ حدّ الإعجاز ، وقبل أن يخبروا إخباره بالمغيبات وصدقه وكذبه.

قيل لسفيان بن عيينة رحمه‌الله : الناس يقولون : كلّ إنسان عدو ما جهل.

__________________

(١) معاني الزجاج (٣ / ٢١).

(٢) الكشاف (٢ / ٣٣١).

(٣) في الأصل : وجهة. والتصويب من الكشاف ، الموضع السابق.

(٤) زيادة من الكشاف ، الموضع السابق.

٥٠

فقال : هذا في كتاب الله. قال الله : (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ)(١).

وقيل للحسين بن الفضل : هل تجد في القرآن : من جهل شيئا عاداه؟ قال : نعم في موضعين ؛ قوله : (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) ، وقوله : (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ)(٢).

أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد الكريم ، المعروف بابن الأثير الجزري وغيره ، قالوا : أخبرنا الخطيب أبو الفضل عبد الله بن أحمد الطوسي ، أخبرنا أبو محمد جعفر بن أحمد السراج ، حدثنا عبد الوهاب بن علي ، أخبرنا المعافا بن زكريا ، حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي ، حدثنا جرير بن أحمد بن أبي [داود](٣) ، قال : سمعت العباس بن المأمون قال : سمعت أمير المؤمنين المأمون يقول : قال لي ابن موسى الرضا عليهما‌السلام : ثلاثة موكل بها ثلاثة : تحامل الأيام على ذوي [الآداب](٤) الكاملة ، واستيلاء الحرمان على المتقدم في صنعته ، ومعاداة العوام لأهل المعرفة (٥).

وقد ذكرت هذا في أوائل البقرة بإسناد آخر.

قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) قال ابن عباس : يعني : ومن اليهود (٦).

__________________

(١) زاد المسير (٤ / ٣٣).

(٢) مثل السابق.

(٣) في الأصل : رواد. انظر : سير أعلام النبلاء (١١ / ٢٩٥ ، ١٣ / ١٢٨). وانظر ترجمة والده في : لسان الميزان (١ / ١٧١).

(٤) في الأصل : الأدوات. والتصويب من التدوين (١ / ٤٣٩).

(٥) ذكره القزويني في كتابه : التدوين في أخبار قزوين (١ / ٤٣٨ ـ ٤٣٩).

(٦) زاد المسير (٤ / ٣٤).

٥١

وقال مقاتل (١) : ومن قريش.

(مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) أي : بمحمد.

وقيل : بالقرآن ، ويعلم بأنه حق ، لكنه يعاند بالتكذيب.

(وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ) أي : منهم من يشك ولا يصدّق. هذا قول الزجاج (٢).

وقال غيره : المعنى : ومنهم من يؤمن به ، ومنهم من يصر على التكذيب ولا يؤمن به ، فأخبر الله بما سبق من علمه فيهم ، (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) أي : المعاندين والمكذبين. وهذا تهديد لهم.

(وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (٤٣) إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٤٤)

(وَإِنْ كَذَّبُوكَ) أصروا على تكذيبك فتبرأ منهم ، (فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ) ، وهذا كقوله : (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) [الشعراء : ٢١٦].

قال ابن عباس ومقاتل والكلبي وجمهور سلف المفسرين : نسختها آية

__________________

(١) تفسير مقاتل (٢ / ٩٣).

(٢) معاني الزجاج (٣ / ٢٢).

٥٢

السيف (١).

والصحيح : أنها محكمة ؛ لإمكان العمل بالآيتين.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) أي : ومنهم ناس يستمعون إليك إذا قرأت القرآن وعلمت الشرائع ونطقت بالحكم ولكنهم لا يعون ولا يقبلون.

(أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَ) قال الزجاج (٢) : هم لشدة عداوتهم وبغضهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسوء استماعهم بمنزلة الصم ، (وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ) أي : ولو كانوا مع ذلك جهالا ، وهذا مثل قول الشاعر :

 ............

أصمّ عمّا ساءه سميع (٣)

قال صاحب الكشاف (٤) : المعنى : أتطمع أنك تقدر على إسماع الصم ولو انضم إلى صممهم عدم عقولهم ؛ لأن الأصم العاقل ربما تفرّس ، واستدل إذا وقع في صماخه (٥) دويّ الصوت ، فإذا اجتمع سلب السمع والعقل جميعا فقدتم الأمر.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ) أي : يعاينون أدلة صدقك ، وأعلام نبوتك ، ولكنهم لنفرتهم عنك وكراهتهم لما جئت به كالعمي.

__________________

(١) الطبري (١١ / ١١٩) ، والوسيط (٢ / ٥٤٨) ، وزاد المسير (٤ / ٣٤). وانظر دعوى النسخ في : الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص : ١٠٣) ، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص : ٤١) ، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص : ٣٧٢ ـ ٣٧٣).

(٢) معاني الزجاج (٣ / ٢٢).

(٣) لا يعرف قائله.

(٤) الكشاف (٢ / ٣٣٢).

(٥) الصّماخ : الخرق الباطن الذي يفضي إلى الرأس. ويقال : هو الأذن نفسها (اللسان ، مادة : صمخ).

٥٣

(أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ) أي : أفأنت [تقدر](١) على هداية العمي ، (وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ) أي : ولو انضمّ إلى فقد أبصارهم ؛ لأن الأعمى الألمعي يهتدي بنور بصيرته إلى علم ما يهتدي البصير إليه بضوء بصره.

والمعنى : أن هؤلاء في الناس من أن يقبلوا ويصدقوا ، كالصم والعمي الذين لا عقول لهم ولا بصائر.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً) لأنه المالك على الحقيقة ، فيستحيل نسبة الظلم إليه بوجه من الوجوه.

(وَلكِنَّ النَّاسَ) وقرأ حمزة والكسائي : «ولكن» بتخفيف النون وكسرها في الوصل ، ورفع «الناس» (٢).

(أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بما اكتسبوا من الكفر والمعاصي ، فإن الفعل منسوب إليهم وإن كان القضاء جرى به عليهم.

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) (٤٥)

قوله تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) وقرأ حفص : «يحشرهم» بالياء (٣).

(كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا) قال ابن عباس : يعني : في قبورهم (٤).

__________________

(١) في الأصل : يقدر.

(٢) إتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٥٠).

(٣) الحجة للفارسي (٢ / ٣٧٦) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٣٣٢) ، والكشف (١ / ٤٥١ ـ ٤٥٢) ، والنشر (٢ / ٢٦٢) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٥٠) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣٢٧).

(٤) ذكره الواحدي في الوسيط (٢ / ٥٤٩) ، وزاد المسير (٤ / ٣٦).

٥٤

(إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ) قال الضحاك : قصر عندهم مقدار الوقت الذي بين موتهم وبعثهم ، فصار كالساعة من النهار ، لهول ما استقبلوا من القيامة (١).

وقال مقاتل (٢) : (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا) يعني : في الدنيا.

والكاف في «كأن» في موضع الحال (٣) ، تقديره : مشابهين قوما لم يلبثوا إلا ساعة.

(يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ) أي : يعرف بعضهم بعضا ، كأنهم لم يتفارقوا إلا قليلا.

قال ابن عباس : إذا بعثوا من قبورهم تعارفوا ، ثم تنقطع المعرفة (٤).

قال الزجاج (٥) : في معرفة بعضهم بعضا وعلم بعضهم بإضلال بعض ، التوبيخ لهم وإثبات الحجة عليهم.

وقيل : إذا تعارفوا وبّخ بعضهم بعضا ، فيقول هذا لهذا : أنت أضللتني وكسبتني دخول النار (٦).

وقوله : «يتعارفون» حال بعد حال ، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في «يلبثوا».

ويجوز أن يكون مستأنفا ، على معنى : هم يتعارفون بينهم ، ويجوز أن يكون

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٢ / ٥٤٩) ، وزاد المسير (٤ / ٣٦).

(٢) تفسير مقاتل (٢ / ٩٤).

(٣) التبيان (٢ / ٢٩) ، والدر المصون (٤ / ٣٧).

(٤) الماوردي (٢ / ٤٣٧) من قول الكلبي ، وزاد المسير (٤ / ٣٦).

(٥) معاني الزجاج (٣ / ٢٢).

(٦) ذكره الواحدي في الوسيط (٢ / ٥٤٩) ، وزاد المسير (٤ / ٣٦).

٥٥

العامل في (يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) : «يتعارفون» (١).

(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) على إرادة القول ، تقديره : يتعارفون بينهم قائلين ذلك ، أو هي شهادة من الله على خسرانهم.

(وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (٤٦) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (٤٩)

قوله تعالى : (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) مثل قوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) [البقرة : ٣٨] ، وقد سبق القول فيه.

قال المفسرون : وكانت وقعة بدر مما أراه الله في حياته (٢).

(أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) قبل أن نريك.

قال الزجاج (٣) : أعلم الله عزوجل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه ينتقم من بعض هذه الأمة ، ولم يعلمه أيكون ذلك قبل وفاته أو بعدها.

والذي تدل عليه الآية : أن الله ـ عزوجل ـ أعلمه أنه إن لم ينتقم منهم في العاجل انتقم منهم في الآجل.

__________________

(١) التبيان (٢ / ٢٩) ، والدر المصون (٤ / ٣٧).

(٢) ذكره الواحدي في الوسيط (٢ / ٥٤٩) ، وزاد المسير (٤ / ٣٦).

(٣) معاني الزجاج (٣ / ٢٣).

٥٦

قال الزمخشري (١) : جواب «نتوفينك» و «نرينك» [محذوف](٢) ، كأنه قيل : وإما نرينك بعض الذي نعدهم في الدنيا فذلك ، أو نتوفينك [قبل](٣) أن نريكه هو ، فنحن نريكه في الآخرة.

قوله تعالى : (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) قال الفراء (٤) : «ثم» هاهنا عطف.

قال الزمخشري (٥) : فإن قلت : الله شهيد على ما يفعلون في الدارين فما معنى ثمّ؟

قلت : ذكرت الشهادة ، والمراد : مقتضاها ونتيجتها ، وهو العقاب ، فكأنه قال : ثم الله معاقب على ما يفعلون.

وقرأ ابن أبي عبلة : «ثمّ الله» بفتح الثاء (٦) ، أي : هنالك الله شهيد عليهم باستنطاق جوارحهم وإظهار فضائحهم.

قوله تعالى : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ) قد سبق معنى الآية فيما مضى (٧).

والمعنى : لكل أمة من الأمم رسول أرسله الله إليهم ، مبشرا لمن أطاعه بثوابه ، ومحذرا لمن عصاه بعقابه ، وآمرا لهم بعبادة الله وتوحيده ، ومبينا لهم أحكام شريعته في عبيده.

__________________

(١) الكشاف (٢ / ٣٣٣).

(٢) في الأصل : محذف. والتصويب من الكشاف ، الموضع السابق.

(٣) زيادة من الكشاف ، الموضع السابق.

(٤) معاني الفراء (١ / ٤٦٦).

(٥) الكشاف (٢ / ٣٣٣).

(٦) زاد المسير (٤ / ٣٧).

(٧) عند تفسير الآية (٣٤) من سورة الأعراف.

٥٧

(فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ) أي : فإذا أتاهم بالبينات فكذبوه ولم يتبعوه (قُضِيَ بَيْنَهُمْ) وبينه (بِالْقِسْطِ) أي : بالعدل ، فأنجى الرسول ومن وافقه ، وأهلك من شاققه أو نافقه. وهذا معنى قول الحسن (١).

ويجوز أن يكون المعنى : فإذا جاء رسولهم الموقف شاهدا عليهم ولهم ، قضي بينهم بالقسط.

قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ) يعني : مكذبي كل أمة ، في قول ابن عباس (٢). أو مكذبي هذه الأمة ، في قول غيره (٣).

والمعنى : ويقولون للنبي وأتباعه على وجه الاستبعاد لما توعدوا به من العذاب والمعاد : (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

(قُلْ) لهم يا محمد (لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً) المعنى : فكيف أملكه عليكم وأجلب العذاب إليكم. وقد سبق تفسير الآية في سورة الأعراف (٤).

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢) * وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) (٥٣)

__________________

(١) زاد المسير (٤ / ٣٧).

(٢) مثل السابق.

(٣) مثل السابق.

(٤) عند تفسير الآية (١٨٨) من سورة الأعراف.

٥٨

قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً) المعنى : أخبروني إن أتاكم عذاب الله «بياتا» ليلا وأنتم ساهون نائمون ، «أو نهارا» وأنتم متشاغلون بطلب معايشكم.

وجواب الشرط محذوف ، تقديره : تندموا ، أو يكون الجواب : (ما ذا يَسْتَعْجِلُ) ؛ كقولك : إن أتيتك [ماذا](١) تطعمني؟. أو يكون الجواب (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ)، ويكون (ما ذا يَسْتَعْجِلُ) اعتراضا.

والمعنى : (إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ) آمنتم به بعد وقوعه ، حين لا ينفعكم الإيمان.

وقوله : «ما» في موضع رفع ، و «ذا» بمعنى الذي في موضع خبره ، أي : ما الذي يستعجله. ويجوز أن تكون «ماذا» اسما واحدا منصوبا ب «يستعجل» ، والهاء في «منه» تعود إلى العذاب (٢).

قال أهل التفسير : كانوا يقولون : نكذب بالعذاب ونستعجله ، ثم إذا ما وقع آمنا به ، فقال الله تعالى موبخا لهم : (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ)(٣)؟.

قال الزمخشري (٤) : ودخول حرف الاستفهام على ثم ، كدخوله على الواو والفاء في قوله : (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) [الأعراف : ٩٧] ، (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) [الأعراف : ٩٨].

(آلْآنَ) على إرادة القول ، أي : قيل لهم إذا آمنوا بعد وقوع العذاب : الآن آمنتم

__________________

(١) في الأصل : فإذا. والتصويب من الكشاف (٢ / ٣٣٤).

(٢) التبيان (١ / ٩١ ، ٢ / ٢٩) ، والدر المصون (٤ / ٤٠ ـ ٤١).

(٣) ذكره الواحدي في الوسيط (٢ / ٥٥٠) ، وزاد المسير (٤ / ٣٨).

(٤) الكشاف (٢ / ٣٣٤).

٥٩

به ، (وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) أي : وقد كنتم تكذبون ؛ لأن استعجالهم كان على جهة التكذيب والإنكار.

وقرأت على الشيخين أبي البقاء وأبي عمرو الياسري لأبي جعفر من طريق النهرواني ، ولنافع من رواية ورش «آلان» بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام حيث وقع (١). وقد سبق القول على معناه في سورة البقرة عند قوله : (قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ) [٧١].

(ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) زيادة في عذابهم ، وقطعا لأطماعهم ، وما عساه يتوهمونه من احتمال مزايلة العذاب ، (ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ) وهو الدوام (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) من الكفر والآثام.

قوله تعالى : (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ) أي : ويستخبرونك على وجه الاستهزاء فيقولون : أحق هو؟ يعنون : العذاب والبعث ، (قُلْ إِي وَرَبِّي) أي : نعم وربي.

وفتح الياء من «ربي» نافع وأبو عمرو ، وأسكنها الخمسة الباقون (٢).

(إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) بفائتين العذاب ، وهو لاحق بكم لا محالة.

(وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٥٤) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٥)

__________________

(١) الحجة للفارسي (٢ / ٣٧٤ ـ ٣٧٥) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٣٣٣) ، والكشف (١ / ٩١) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٥٠) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣٢٧).

(٢) إتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٥٢).

٦٠