رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٣

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٣

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٣

وإنما قلت في تصغير غلمان أغيلمة ؛ لأنك (١) نقلته إلى العدد اليسير ، لأن التصغير يفيد التحقير ، والكثير يخالف ذلك. وتقول في تصغير حميّر : أحميّرة ، صغّرت أحمرة ، وفي تصغير فلوس : أفيلس ، صغّرت أفلس ، ويقال للغلام : وصيف ، وللجارية : وصيفة ، ويقال : أوصف الغلام وأوصفت الجارية.

قوله تعالى : (وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً) قال الزجاج (٢) : «بضاعة» منصوب على الحال ، كأنه قال : وأسرّوه جاعليه بضاعة.

وقال غيره : البضاعة : ما بضع من مال التجارة ، أي : قطع ، وضمير الفاعل في قوله : «وأسرّوه» عن باقي أصحابهم ، على ما حكيناه عن ابن عباس.

وقيل : يعود الضمير إلى إخوة يوسف (٣) ، والقولان عن ابن عباس.

والأول أظهر.

(وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ) من سوء الصنيع بأبيهم وأخيهم.

(وَشَرَوْهُ) هو من الأضداد ، بمعنى البيع وبمعنى الشراء. فإن أريد الأول ـ وهو الأظهر في التفسير ـ فضمير الفاعل يعود إلى إخوة يوسف.

وإن أريد الثاني ؛ فالضمير للوارد ولأصحابه.

(بِثَمَنٍ بَخْسٍ) مبخوس عن القيمة نقصانا ظاهرا.

قال أبو سليمان : كانت عشرين في العدد ، وهي ناقصة في الميزان (٤).

__________________

(١) في الأصل زيادة قوله : " لا".

(٢) معاني الزجاج (٣ / ٩٨).

(٣) أخرج هذا القول : الطبري (١٢ / ١٦٩). وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٥١٥) وعزاه له.

(٤) زاد المسير (٤ / ١٩٦).

٣٠١

وقال ابن عباس : «بخس» : حرام (١).

(دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) لا توزن لقلّتها.

قال ابن عباس : كانوا في ذلك الزمان لا يزنون أقل من أربعين درهما (٢).

وقد ذكرنا عددها عن ابن عباس.

وفي رواية عنه : كانت اثنين وعشرين درهما (٣).

وقال عكرمة : أربعين درهما (٤).

وقيل : ثلاثين.

قال بعض أرباب الإشارات : والله ما يوسف ـ وإن باعه أعداؤه ـ بأعجب منك في بيع نفسك بشهوة ساعة من معاصيك (٥).

قوله تعالى : (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) قال بعضهم : «فيه» ليست من صلة «الزاهدين» ؛ لأن الصلة لا يتقدم على الموصول ، ألا تراك لا تقول : كانوا زيدا من الضاربين ؛ لأن زيدا من صلة الضاربين.

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ١٧١ ـ ١٧٢) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢١١٥) كلاهما من طريق الضحاك.

وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٥١٥) وعزاه لابن جرير وأبي الشيخ عن الضحاك.

(٢) انظر : الطبري (١٢ / ١٧٢) ، وزاد المسير (٤ / ١٩٦).

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ١٧٣) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢١١٦) ، ومجاهد (ص : ٣١٣) كلهم عن مجاهد. وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٥١٦) وعزاه لابن المنذر وأبي الشيخ عن مجاهد.

(٤) أخرجه الطبري (١٢ / ١٧٣) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢١١٦). وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٥١٦) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٥) انظر : زاد المسير (٤ / ١٩٧).

٣٠٢

وقال الزجاج (١) : هذا في الظروف جائز ، فأما المفعولات فلا.

قال الزمخشري (٢) : هو بيان ، كأنه قيل : في أي شيء زهدوا؟ فقال : زهدوا فيه.

والضمير في «كانوا» يعود إلى الإخوة ، في قول ابن عباس (٣) ، وإلى مالك بن ذعر ورفقته ، في قول غيره.

فإن أريد الأول ؛ والضمير في «فيه» يعود إلى يوسف ، في قول الضحاك (٤) ، وإلى «الثمن» في قول غيره ، على معنى : لم يكن قصدهم الثمن ولا كانوا راغبين فيه ، إنما كان قصدهم بعده عن أبيه ؛ لما اشتملوا عليه من الحقد والحسد.

وإن أريد الثاني ؛ فالعلة في زهدهم في يوسف : ما خامرهم من الريبة في أمره بسبب قلّة ثمنه وزهد بائعيه فيه.

وقيل : زهدوا فيه لما نبز (٥) به من الإباق (٦) والخيانة ، وذاك أن إخوته قالوا للسيارة : استوثقوا منه ، فإنه أبّاق سرّاق كذّاب ، وقد برئنا إليكم من عيوبه ، فحملوه على ناقة ، وكان طريقهم على قبر أمه ، فلما حاذاه أسقط نفسه على القبر

__________________

(١) معاني الزجاج (٣ / ٩٨).

(٢) الكشاف (٢ / ٤٢٧).

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ١٧٤) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢١١٧) كلاهما عن الضحاك. وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٥١٧) وعزاه لابن المنذر وأبي الشيخ عن الضحاك.

(٤) أخرجه الطبري (١٢ / ١٧٤) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢١١٧). ومن طريق آخر أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي. وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٥١٧) وعزاه لابن المنذر وأبي الشيخ.

(٥) النّبز : بالتحريك : اللّقب (اللسان ، مادة : نبز).

(٦) الإباق : هرب العبيد وذهابهم من غير خوف ولا كدّ عمل (اللسان ، مادة : أبق).

٣٠٣

يبكي ، ويقول : يا أماه! لو رأيت ضعفي وذلّي لرحمتني ، يا [أماه](١) لو رأيتني وقد نزعوا قميصي وشدوني ، وفي الجب ألقوني ، وعلى خدّ وجهي لطموني. فحملوه وذهبوا به إلى مصر وعرضوه للبيع.

(وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢١) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٢٢)

قال وهب : فاشتراه قطفير خازن فرعون ، وكان مؤمنا ، واسم فرعون : الوليد بن الريان بن الوليد ، من العمالقة.

وقيل : فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف ، اشتراه بوزنه مسكا ، وبوزنه ورقا ، وبوزنه حريرا (٢) ، وقال لامرأته أزليخا بنت تمليخا ـ وقيل : راعيل بنت رعائيل ـ : (أَكْرِمِي مَثْواهُ) أحسني إليه ما دام ثاويا فينا ، (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) إما بالربح في ثمنه ، أو بقيامه بأمورنا إذا حنكته التجارب واضطلع بالأثقال ، (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) نقيمه مقام الولد ، وكان لا يولد له.

قال ابن مسعود : أفرس الناس ثلاثة : العزيز حين تفرّس في يوسف فقال لامرأته : (أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) ، وابنة شعيب حين قالت : (يا أَبَتِ

__________________

(١) في الأصل : أما.

(٢) الطبري (١٢ / ١٧٥) ، وزاد المسير (٤ / ١٩٨).

٣٠٤

اسْتَأْجِرْهُ) [القصص : ٢٦] ، وأبو بكر حين استخلف عمر رضي الله عنهما (١).

قوله تعالى : (وَكَذلِكَ) أي : ومثل ذلك الذي وصفناه وتقدم ذكره من إنجاء يوسف [و](٢) عطف العزيز عليه (مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) أرض مصر فجعلناه ملكا متصرفا تنفعل الأمور عن أمره ونهيه ، (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) كان ذلك الإنجاء والتمكين ، (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) أي : على أمر يوسف ، لا يكله إلى غيره حتى يبلّغه ما أراده له من الملك والحكمة والاجتباء والانتظام في سلك آبائه الكرام الأنبياء.

وقال ابن عباس وغيره : (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) أي : على ما أراده سبحانه من تصاريف القضاء ، لا ينازع ولا يمانع (٣).

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ما في تصاريف القدر من الحكم والعبر.

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) يعني : استحكام قوة الشباب. وقد سبق في أواخر سورة الأنعام (٤).

قال ابن عباس : ثلاث وثلاثون (٥).

__________________

(١) أخرجه الحاكم (٢ / ٣٧٦ ، ٣ / ٩٦) ، والطبراني في الكبير (٩ / ١٦٧) ، وسعيد بن منصور (٥ / ٣٧٩) ، وابن أبي شيبة (٧ / ٤٣٥) ، والطبقات الكبرى لابن سعد (٣ / ٢٧٣) ، والطبري (١٢ / ١٧٥ ـ ١٧٦) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢١١٨). وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٥١٧) وعزاه لابن المنذر وأبي الشيخ.

(٢) زيادة على الأصل.

(٣) ذكره الواحدي في الوسيط (٢ / ٦٠٦) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٤ / ١٩٩).

(٤) عند تفسير الآية رقم : (١٥٢).

(٥) أخرجه الطبري (١٢ / ١٧٧) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢١١٨) ، والطبراني في الأوسط (٧ / ٥٣). ـ

٣٠٥

وقال الحسن : أربعون (١).

(آتَيْناهُ حُكْماً) وهو النبوة. وقيل : العلم والعمل. وقيل : حكما بين الناس ، (وَعِلْماً) بعبارة الرؤيا.

قال اللغويون : الحكم عند العرب : ما يصرف عن الجهل والخطأ ويمنع منهما ، ويردّ النفس عما يشينها ويعود عليهما.

(وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) تنبيه على أن يوسف ما زال متصفا بالإحسان ، وإعلام أن [الله](٢) مع المحسنين بنصره وإعانته وتخليصه من الشدائد.

قال الحسن البصري رحمه‌الله : من أحسن [عبادة الله](٣) في شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهاله (٤).

فإن قيل : لأي معنى زاد في شبيهتها في القصص في قصة موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى) [القصص : ١٤]؟.

قلت : لأن موسى عليه‌السلام لم يؤت شيئا من الحكم والعلم والنبوة حتى بلغ أشده واستوى وتكامل ، وذلك بعد تزويجه بابنة شعيب ، وبعد أن قضى الأجل سار بأهله ، بخلاف يوسف ؛ فإن الله تعالى أوحى إليه وهو في سنّ البلوغ لتنبيههم

__________________

ـ وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٥١٨) وعزاه لسعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم وابن الأنباري في كتاب الأضداد والطبراني في الأوسط وابن مردويه.

(١) أخرجه ابن أبي حاتم (٧ / ٢١١٨).

(٢) زيادة على الأصل.

(٣) زيادة من مصادر التخريج.

(٤) أخرجه الخطيب البغدادي في موضح أوهام الجمع (٢ / ٢٨١). وذكره أبو حيان في البحر المحيط (٥ / ٢٩٣).

٣٠٦

بأمرهم هذا.

(وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (٢٣)

قوله تعالى : (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ) أي : خادعته إلى مواقعتها محتالة عليه بأنواع الحيل ، وأصله : من راد يرود ؛ إذا جاء وذهب (١).

(وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) يقال : أغلقت الباب وغلّقت الأبواب ـ بالتشديد ـ ، وغلقتها.

قال : ما زلت أفتح أبوابا وأغلقها.

والعامة تقول : غلقت الباب ، وهي لغة رذيلة.

قيل : كانت سبعة أبواب.

(وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) قرأ نافع وابن عامر : «هيت لك» بكسر الهاء وفتح التاء ، غير أن هشاما همز. وقرأ الباقون بفتح الهاء والتاء من غير همز ، إلا ابن كثير فإنه ضم التاء (٢) ، وروي عن ابن عباس إلا أنه كسر الهاء ، ومثله أبو العالية.

وقرأ أبو الدرداء بكسر الهاء وهمز الياء وضم التاء (٣).

__________________

(١) اللسان (مادة : رود).

(٢) الحجة للفارسي (٢ / ٤٤٢) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٣٥٧) ، والكشف (٢ / ٨) ، والنشر (٢ / ٢٩٣) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٦٣) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣٤٧).

(٣) زاد المسير (٤ / ٢٠١ ـ ٢٠٢).

٣٠٧

وقرأ ابن مسعود : «هيّئت لك» بضم الهاء والتاء وياء مشددة مكسورة بعدها همزة ساكنة على صيغة الفعل الصريح ، على معنى : أصلحت وصنعت لك (١).

وقرأ أبي بن كعب : «ها أنا لك» (٢) ، وهذه وقراءة ابن مسعود ظاهرتان. وقراءة أبي الدرداء في معنى قراءة ابن مسعود.

قال الزجاج (٣) : هو من الهيئة ، كأنها قالت : تهيّأت لك. وقرأ الباقون بمعنى.

قال أهل اللغة والتفسير : معنى (هَيْتَ لَكَ) : هلمّ.

قال الفراء وابن الأنباري (٤) : لا مصدر له ولا تصرف ولا تثنية ولا جمع ولا تأنيث.

قال ابن جني (٥) : كلها أسماء [سمي](٦) بها الفعل ، بمنزلة : صه ومه وإيه. ومعنى : هيت وبقية أخواتها : أسرع وبادر.

قال الزجاج (٧) : أجود اللغات وأكثرها : «هيت» بفتح التاء والهاء. قال الشاعر :

__________________

(١) زاد المسير (٤ / ٢٠٢).

(٢) مثل السابق.

(٣) معاني الزجاج (٣ / ١٠٠).

(٤) انظر : البيان (٢ / ٣٧) ، والوسيط (٢ / ٦٠٧).

(٥) المحتسب (١ / ٣٣٧ ـ ٣٣٨).

(٦) في الأصل : مسمى. والمثبت من المحتسب (١ / ٣٣٨).

(٧) معاني الزجاج (٣ / ١٠٠).

٣٠٨

أبلغ أمير المؤمنين

أخا العراق إذا أتيتا

أنّ العراق وأهله

عنق إليك فهيت هيتا (١)

أي : أقبل وتعال.

وحكى قطرب : أنه أنشده بعض أهل الحجاز لطرفة بن العبد (٢) :

ليس قومي بالأبعدين إذا ما

قال داع من العشيرة : هيت

قال أبو الفتح ابن جني (٣) : الحركات في آخرها لالتقاء الساكنين.

واختلفوا في أصل هذه اللغة ؛ فقال الحسن : هي بالسريانية (٤).

وقال مجاهد : هي عربية (٥).

وقال الفراء (٦) : يقال : إنها لغة لأهل حوران ، سقطت إلى أهل مكة فتكلموا بها.

__________________

(١) مما وجه إلى سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه استحثاثا له أن يسرع نحو العراق ، ولم يعين قائله. وعنق إليك : مائلون إليك ومنتظروك. انظر البيتان في : الخصائص (١ / ٢٧٦) ، والقرطبي (٩ / ١٦٤) ، ، ومعاني الفراء (٢ / ٤٠) ، وتاريخ الطبري (٣ / ٧٢) ، ومجاز القرآن (٢ / ٣٠٥) ، والطبري (١٢ / ١٧٩) ، وزاد المسير (٤ / ٢٠٢).

(٢) البيت لطرفة بن العبد ، وهو ليس في ديوانه. انظر : المحتسب (١ / ٣٣٧) ، والقرطبي (٩ / ١٦٣ ـ ١٦٤) ، والطبري (١٢ / ١٨١).

(٣) المحتسب (١ / ٣٣٧).

(٤) أخرجه الطبري (١٢ / ١٨٠).

(٥) أخرجه الطبري (١٢ / ١٨٠) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢١٢١) ، ومجاهد (ص : ٣١٣). وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٥٢٠) وعزاه لأبي الشيخ.

(٦) معاني الفراء (٢ / ٤٠).

٣٠٩

وقال ابن الأنباري (١) : قد قيل إنها من كلام قريش ، إلا أنها مما درس وقلّ في أفواههم آخرا.

(قالَ مَعاذَ اللهِ) قال الزجاج (٢) : هو مصدر. المعنى : أعوذ بالله أن أفعل هذا ، تقول : عذت عياذا ومعاذا ومعاذة.

(إِنَّهُ رَبِّي) أي : إن العزيز صاحبي الذي يربني (أَحْسَنَ مَثْوايَ). وقيل : الضمير لله تعالى ، وقيل : ضمير الشأن ، أي : أن الشأن والحديث ربي العزيز أو ربي الله تعالى ، على اختلاف القولين ، (أَحْسَنَ مَثْوايَ) أي : أكرمني ووصّاك عليّ ، فما جزاؤه أن أخلفه بسوء في أهله ، (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) الذي يجازون عن الحسن الجميل السيء القبيح.

(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (٢٤)

قوله تعالى : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها) الهمّ بالشيء : العزم عليه والقصد إليه. قال الشاعر (٣) :

__________________

(١) انظر : زاد المسير (٤ / ٢٠٢ ـ ٢٠٣).

(٢) معاني الزجاج (٣ / ١٠١).

(٣) البيت لضابئ بن الحارث البرجمي ، من شعر قاله حين اعتقله عثمان بن عفان وحبسه لفرية افتراها ، وذلك أنه استعار كلبا من بعض بني نهشل يقال له : قرحان ، فطال مكثه عنده ، وطلبوه فامتنع عليهم فعرضوا له وأخذوه منه ، فغضب فرمى أمهم بالكلب ، فاعتقله عثمان في حبسه إلى أن مات عثمان ، وكان همّ بعثمان لما أمر بحبسه.

وانظر البيت في : اللسان ، مادة : (قير) ، والإصابة (٣ / ٤٩٨) في ترجمته ، وتاريخ الطبري ـ

٣١٠

هممت ولم أفعل وكدت وليتني

تركت على عثمان تبكي حلائله

قال ابن عباس والحسن وجمهور المفسرين : كان همّه من جنس همّها (١).

قال ابن قتيبة : لا يجوز هممت بفلان وهمّ بي ، وأنت تريد اختلاف الهمّين.

قال الزجاج (٢) : الذي عليه المفسرون : أنه همّ بها ، وأنه جلس منها مجلس الرجل من المرأة ، إلا أن الله تعالى تفضل بأن أراه البرهان ، ألا تراه قال : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ)(٣).

وقال ابن الأنباري (٤) : الذي نذهب إليه في هذا ما روي عن [الصحابة](٥) والتابعين من إثبات الهم ليوسف غير عائبين له ، بل نقول : إن انصرافه بعد إثبات الهمّ ، ونهيه نفسه عن هواها تعظيما لله تعالى ، ومعرفة لحقه أدلّ على وفور الثواب وتكامل الأجر. والذين أثبتوا الهمّ ليوسف من علي وابن عباس ووهب وغيرهم كانوا أعرف بحقوق الأنبياء وارتفاع منازلهم عند الله تعالى من الذين نفوا الهمّ عنه. وقد قال الحسن : إن الله تعالى لم يقصص عليكم ذنوب الأنبياء تعييرا [لهم](٦) ولكنه قصّها عليكم لئلا تقنطوا من رحمته (٧).

__________________

ـ (٣ / ٥٤٩) ، والقرطبي (٩ / ١٦٦ ، ١١ / ١٨٣) ، وزاد المسير (٥ / ٢٧٦).

(١) زاد المسير (٤ / ٢٠٣).

(٢) معاني الزجاج (٣ / ١٠١).

(٣) وهو قول باطل منافي للعصمة.

(٤) انظر : الوسيط (٢ / ٦٠٨).

(٥) في الأصل : الضحاك. والتصويب من الوسيط ، الموضع السابق.

(٦) زيادة من الوسيط ، الموضع السابق.

(٧) وقول الحسن هو قول باطل ؛ لأن سيدنا يوسف عليه‌السلام لم يصدر منه ذنب. وقد ذكر هذا الأثر ـ

٣١١

قال أبو عبيد : يذهب الحسن إلى أن الحجة من الله تعالى على أنبيائه أوكد ، وهي لهم ألزم ، فإذا كان يقبل التوبة منهم كان قبولها منكم أسرع (١).

وذهب أكثر المتأخرين إلى افتراق الهمّين ، وأن همّها كان من جهة العزم والاضطرار ، وهمّ يوسف من جهة دواعي الشهوة وحديث النفس ؛ تنزيها للأنبياء عن العزم على المعصية.

واحتج القاضي أبو يعلى رحمه‌الله بقوله : (مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي) وقوله : (لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ) ، فكل ذلك إخبار ببراءة ساحته من العزيمة على المعصية.

وقال صاحب الكشاف (٢) : لو كان همّه كهمّها عن عزيمة لما مدحه الله تعالى بأنه من عباده المخلصين.

وقد سلكوا في تأويله أيضا طرقا لا تصح ، منها : ما رووه عن ابن عباس أنه قال : (وَهَمَّ بِها) أي : تمناها أن تكون زوجته (٣).

وذكر ابن الأنباري عن بعضهم (٤) : همّ بها أن يضربها ويدفعها عن نفسه.

وحكى الثعلبي (٥) : همّ بالفرار منها.

وتمام الآية يفسد هذه التأويلات ويعكس عليها بالإبطال.

وذهب قطرب إلى أن في الكلام تقديما وتأخيرا ، تقديره : ولقد همّت به ولو لا

__________________

ـ أعمال الكسوة الشريفة لصحن المولى أبي الفضل العباس عليه السلام

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٢ / ٦٠٨) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٤ / ٢٠٧).

(٢) الكشاف (٢ / ٤٣٠).

(٣) زاد المسير (٤ / ٢٠٥).

(٤) انظر : زاد المسير (٤ / ٢٠٦).

(٥) تفسير الثعلبي (٥ / ٢١٠).

٣١٢

أن رأى برهان ربه لهمّ بها ، فقدم الجواب. وأنشدوا :

فلا يدعني قومي صريحا لحرة

لئن كنت مقتولا وتسلم عامر (١)

ورد هذا القول ابن الأنباري وغيره ؛ لأن لو لا في حكم الشرط ، والشرط له صدر الكلام ، وهو وما في حيّزه من الجملتين مثل كلمة واحدة ، ولا يجوز تقديم بعض الكلمة على بعض ، وما أنشدوه فمن ضرورة الشعر ، فلا يحمل عليه كلام الله النازل بالفصاحة (٢).

قوله تعالى : (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) فيه إضمار ، تقديره : لفعل ما همّ به.

قال ابن عباس وجمهور المفسرين : رأى جبريل في صورة يعقوب عاضّا على أصبعه ، يقول : أتعمل عمل الفجار وأنت مكتوب في الأنبياء ، فاستحيا منه (٣).

وقال علي بن أبي طالب وعلي بن الحسين عليهما‌السلام : قامت إلى صنم لها في البيت فسترته بثوب ، فقال لها يوسف : أي شيء تصنعين؟ قالت : أستحي من إلهي أن يراني على هذه السوأة. فقال : أتستحين من صنم لا يعقل ولا يسمع ولا أستحي من إلهي القائم على كل نفس بما كسبت ، فهو البرهان الذي رأى (٤).

والذي عليه جمهور أهل المعاني والنظر الصحيح : أن البرهان الذي رآه زواجر العقل والدين والحجج المأخوذة على المكلفين من اجتناب المحارم. وقد نقلوا في

__________________

(١) انظر البيت في : خزانة الأدب ، الشاهد الثالث والثلاثون بعد التسعمائة ، وزاد المسير (٤ / ٢٠٦).

(٢) زاد المسير (٤ / ٢٠٥ ـ ٢٠٦).

(٣) أخرج هذا القول : الطبري (١٢ / ١٨٩) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢١٢٤) كلاهما عن قتادة. وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٥٢٢) وعزاه لأبي الشيخ عن قتادة.

(٤) أخرجه أبو نعيم في الحلية (٣ / ١٨١). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٤ / ٢٠٨) ، والسيوطي في الدر (٤ / ٥٢١) وعزاه لأبي نعيم في الحلية.

٣١٣

تفسير البرهان أقوالا يقطع العقل بفسادها :

منها : أنه بدت بينهما كفّ ليس لها عضد ولا معصم ، وفيها مكتوب : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) [الإسراء : ٣٢] ، فقام هاربا وقامت ، فلما ذهب عنهما الروع عادا ، فلما قعدا إذا بكفّ قد بدت فيما بينهما فيها مكتوب : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) ... الآية [البقرة : ٢٨١] فقاما ثم عادا ، فقال الله تعالى لجبريل : أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة ، فانحطّ جبريل عاضا على كفه أو أصبعه يقول : أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب عند الله في الأنبياء (١).

ورووا عن وهب أنه قال : ظهرت تلك الكف وعليها مكتوب بالعبرانية : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [الرعد : ٣٣] ، فانصرفا ، ثم عادا فظهرت وعليها مكتوب : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ* كِراماً كاتِبِينَ) [الإنفطار : ١١ ـ ١٢] فانصرفا ، ثم عادا وظهر عليها مكتوب : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) [البقرة : ٢٨١].

وهذه الوجوه وأمثالها لا تثبت على محك النقل ولا عند حاكم العقل ، وإنما هي مما يروج بها القصّاص مجالسهم ويجتلبون بها عقول العامة ، وليست من الصحة والتحقيق في شيء.

والذي يصحح ما ذكرناه ويفسد قولهم : قول امرأة العزيز حين أفصحت بسرها : (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) وهذا النبأ موضوع للمبالغة ، ومثله : استمسك ، واستفحل الخطب ، واستوسع الفتق.

__________________

(١) وقد جزم المؤلف رحمه‌الله بفساد هذه الأقوال ؛ لعدم صحتها نقلا وعقلا.

٣١٤

قال بعض العلماء : لو أن أوقح الزناة وأشطرهم وأحدّهم حدقة وأصلبهم وجها لقي بأدنى من هذا ، لم يبق له عرق ينبض ، ولا عضو يتحرك ، خوفا وفرقا ، فكيف بنبي الله تعالى ابن نبي الله ابن نبي الله تعالى ، فياله من قول ما أفحشه ، وضلال ما أبينه.

(كَذلِكَ) الكاف في محل النصب ، تقديره : ثبّتناه مثل ذلك التثبيت ، (لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ) من خيانة صاحبه (وَالْفَحْشاءَ) من الزنا (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) قرأ نافع وأهل الكوفة : «المخلصين» بفتح اللام حيث وقع ، والباقون بكسرها (١).

فمن كسرها فعلى معنى : أخلصوا دينهم (٢) لله تعالى. ومن فتحها أراد : من الذين أخلصهم الله تعالى لطاعته ، واجتباهم لرسالته ، وحباهم بكرامته.

(وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٥) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ) (٢٩)

__________________

(١) الحجة للفارسي (٢ / ٤٤٤) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٣٥٨ ـ ٣٥٩) ، والكشف (٢ / ٩) ، والنشر (٢ / ٢٩٥) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٦٤) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣٤٨).

(٢) قوله : " دينهم" مكررة في الأصل.

٣١٥

قوله تعالى : (وَاسْتَبَقَا الْبابَ) أي : تبادرا إليه ، وهو على قصد الفرار بدينه ، والخلاص من حبائل الفتنة التي نصبتها لهم ، وهي على قصد [الحيلولة](١) بينه وبين الباب لتمنعه من الخروج. والمراد : الباب الذي منه المخرج والمخلص من الدار.

وقد روي عن كعب أنه قال : لما هرب يوسف عليه‌السلام جعل فراش القفل يتناثر ويسقط حتى خرج من الأبواب (٢).

(وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ) فيه إضمار ، تقديره : فأدركته فجذبت قميصه فقدّته من خلفه ، أي : قطعته.

قرأ ابن يعمر ونوح القارئ وأبو رجاء : «دبر» (٣) ، بثلاث ضمات من غير تنوين (٤).

قال أبو الفتح ابن جني (٥) : [ينبغي](٦) أن يكونا غايتين ، كقول الله تعالى : (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) [الروم : ٤] ، كأنه يريد : قدّت قميصه من دبره ، وإن كان قميصه قدّ من قبله ، فلما حذف المضاف إليه ـ أعني الهاء وهي مرادة ـ صار المضاف غاية نفسه بعد ما كان المضاف إليه غاية له ، وهذا حديث مفهوم في قوله : (مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) ، فبني هنا كما بني هناك على الضم ، ووكّد البناء أن «قبل» و «بعد»

__________________

(١) في الأصل : الحلولة.

(٢) ذكره أبو السعود في تفسيره (٤ / ٢٦٧) ، وأبو حيان في البحر (٥ / ٢٩٦).

(٣) في الأصل زيادة : وقيل.

(٤) البحر المحيط (٥ / ٢٩٧) ، والدر المصون (٤ / ١٧١).

(٥) المحتسب (١ / ٣٣٨).

(٦) في الأصل : ينفي. والتصويب من المحتسب ، الموضع السابق.

٣١٦

يكونان ظرفين ، ألا ترى إلى قول الفرزدق :

يطاعن قبل الخيل وهو أمامها

ويطعن عن أدبارها إن تولّت (١)

وقال تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ) [الطور : ٤٩] فنصبه على الظرف ، وهو جمع دبر.

(وَأَلْفَيا سَيِّدَها) أي : صادفا بعلها قطفير عند الباب يريد الدخول ، فاستقبلته ودهته بكيد جمعت فيه بين أغراضها ، وهي براءتها من الريبة ، وتهييج زوجها على يوسف ، حيث لم يواقعها ، وتخويفه من مخالفتها في تأتّي الحال ، فقالت : (ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً) تريد : الزنى ، (إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ) أي : ما جزاؤه إلا السجن. وقيل : إن «ما» استفهامية ، على معنى : أيّ شيء جزاؤه إلا السجن.

والعذاب الأليم : الضرب بالسياط ، في قول عامة المفسرين (٢).

فلما أغرت زوجها بيوسف وعرضته للعذاب ، قرّعه بسياط التوبيخ والتعنيف ، فقال له : يا يوسف ، أخنتني وغدرت بي ، وغررتني بصلاحك؟ فقال مبرئا لنفسه الشريفة من وصمة الفاحشة ، دافعا عنها عار الخيانة ، ومنزها لها عن التلوث بما رمته به من الإساءة إلى من أحسن إليه وأوصى به خيرا : (هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) ، ولو لا ذلك لزجرته طباعه الكريمة وأغراضه المستقيمة وأعراقه الزكية عن إظهار سرّها وهتك سترها ، ولكن تلجئ الضرورات في الأمور إلى سلوك ما لا يليق بالأدب.

فإن قيل : هل تضمن هذا الاعتذار حكمة وفائدة غير عائدة إلى يوسف بالمعنى

__________________

(١) البيت للفرزدق ، وهو ليس في ديوانه. وانظر : المحتسب (١ / ٣٣٨).

(٢) ذكره الواحدي في الوسيط (٢ / ٦٠٩) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٤ / ٢١١).

٣١٧

الذي أشرت إليه؟

قلت : نعم ، تضمن حكما ؛ منها : أنه علم منها أن محبته قد أخذت بمجامع قلبها ، وخاف أن يطمعها بإخفاء أمرها وكتمان سرها ، فرام قطع طمعها بإطلاع حليلها على حالها ، فأذاعه رجاء أن يقذعها ، ويردّ عليها الخوف من بعلها والحياء من الناس.

الحكمة الثانية : أنه عليه‌السلام كان من سنخ (١) إبراهيم وسلالة النبوة وبيت الرسالة ، وكانت دلائل النبوة لائحة على صفحات وجهه الكريم ، وكان في مظنة أن يرسله الله تعالى إليهم ، فنزّه منصب الرسالة وبيت النبوة عن أن يزنّ بمثل هذه الفاحشة الشنعاء التي تنفر الناس عن المتابعة ، وتمنعهم من المشايعة. وهذه سنّة الله تعالى فيمن اختصهم لرسالته وجعلهم دعاة إلى طاعته ، أن يطهّرهم من الكبائر الموبقة ، والرذائل المنفّرة ، والنقائص الشائنة للحق والخلق.

الثالثة : أن العزيز أوصى زوجته بأن تكرم مثواه رجاء أن ينفعه ، ولا شبهة في أن في إفساد فراشه عليه ضررا وعارا ، فلو أغضى عن هذه القضية وأعاره في زوجته أذنا صمّاء وعيناء عمياء ، لخيّب فيه أمله الذي ارتجاه ، فكشف له عن خلقها الذميم ؛ ليحترز عليها ولا يركن إليها ؛ حفظا لعرضه فيما يستقبل من الزمان.

الرابعة : أنه عليه‌السلام علم أن مرض المحبة قد تمكن من قلبها ، فلو أحسن إليها بالسكوت عنها لتضاعف مرضها بسبب انضمام إحسانه إلى حسنه ، فداواها بالأذى رجاء نفعها ، كما قيل :

__________________

(١) السّنخ : الأصل من كل شيء (اللسان ، مادة : سنخ).

٣١٨

فإني رأيت الحب في الصدر والأذى

إذا اجتمعا لم يلبث الحب يذهب

قوله تعالى : (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) إنما كان من أهلها ؛ ليكون ألزم للحجة عليها ، وآكد لبراءة يوسف عليه‌السلام.

قال ابن عباس في رواية أبي صالح عنه : كان ابن عمها ، وكان رجلا حكيما ، فقال : قد سمعنا الاشتداد والجلبة من وراء الباب ، فإن كان شق القميص من قدّامه فأنت صادقة وهو كاذب ، وإن كان من خلفه فهو صادق وأنت كاذبة (١).

وذهب أكثر المفسرين : أن الشاهد كان صبيا في المهد ، وهو قول ابن عباس في رواية عكرمة (٢).

وإنما سمي هذا القول شهادة وليس بلفظ الشهادة ؛ لقيامه مقامها في إثبات قول يوسف وإبطال قولها.

قوله تعالى : (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ) تقديره : يشهد ، فقال : إن كان قميصه ، ويقال : بأن الشهادة من القول ، فلذلك ساغت حكاية الجملة الشرطية بعد فعلها (قُدَّ مِنْ قُبُلٍ) أي : شقّ من قدّامه ، (فَصَدَقَتْ) لأن ذلك من آثار ممانعتها له ودفعها إياه ، (وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ) أي : شقّ من خلفه (فَكَذَبَتْ) لأن ذلك يدلّ دلالة ظاهرة على هربه منها وطلبها له ، (وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ).

(فَلَمَّا رَأى) يعني : سيدها قطفير ، وقيل : الشاهد (قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ) تبين له الحق واتضحت له براءة يوسف (قالَ إِنَّهُ) أي : إن قولك : (ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٢ / ٦٠٩) من قول الكلبي ، وزاد المسير (٤ / ٢١١).

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ١٩٤) ، وابن أبي حاتم (٧ / ٢١٢٨). وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٥٢٥) وعزاه لأبي الشيخ.

٣١٩

بِأَهْلِكَ سُوءاً) أو أن هذا الأمر.

وقيل : إن السوء.

وقال مقاتل (١) : إن شق القميص.

(مِنْ كَيْدِكُنَ) الخطاب لها ولجماعة النساء ، (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) قال ابن عباس : يخلطن البريء والسقيم (٢).

قال صاحب الكشاف (٣) : إنما استعظم كيد النساء وإن كان في الرجال ؛ لأن النساء ألطف كيدا وأنفذ حيلة ، ولهن في ذلك نيقة ورفق ، وبذلك يغلبن الرجال.

قال بعضهم : أنا أخاف من النساء أكثر مما أخاف من الشيطان ؛ لأن الله تعالى يقول : (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) [النساء : ٧٦] ، وقال للنساء : (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ)(٤).

قوله تعالى : (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) حذف حرف النداء ؛ لأنه منادى قريب فطن.

والمنادي : الشاهد ، في قول ابن عباس (٥) ، وسيدها قطفير ، في قول غيره.

والمعنى : أعرض عن هذا الأمر فلا تذكره ولا تحدث به أحدا.

وقرأت على الشيخين أبي البقاء عبد الله بن الحسين اللغوي وأبي عمرو عثمان

__________________

(١) تفسير مقاتل (٢ / ١٤٦).

(٢) زاد المسير (٤ / ٢١٣).

(٣) الكشاف (٢ / ٤٣٥).

(٤) ذكره أبو السعود في تفسيره (٤ / ٢٧٠).

(٥) الطبري (١٢ / ١٩٧) ، وزاد المسير (٤ / ٢١٣).

٣٢٠