رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٣

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٣

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٣

قال ابن الأنباري (١) : كل واحد من هذه الأفاعيل خرج الاسم معه مقدرا تقدير المفعول ، وهو صاحب الفعل لا يعرف له فاعل غيره.

قال : وقال بعض النحويين : تأويل أولع زيد أولعه : طبعه ، وأرعد [الرجل](٢) أرعده : غضبه ، وسهى [عمرو](٣) جعله ساهيا ماله أو جهله ، وأهرع معناه : أهرعه خوفه ورعبه ، فلهذه العلة خرج هؤلاء الأسماء مخرج المفعول به.

قوله تعالى : (وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) أي : ومن قبل مجيئهم إلى لوط ، أي : ومن قبل ذلك الوقت كانوا يعملون السيئات من إتيان الذكور وغيرها من أنواع الفواحش مجاهرة ، حتى صارت لهم ديدنا وعادة ، لا يردعهم حياء ، ولا يزجرهم زاجر ، وكذلك جاؤوا يهرعون مجاهرين.

(قالَ) لوط عليه‌السلام : (يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي) المعنى : فتزوجوهن ، وأراد ابنتيه ـ في قول ابن عباس (٤) ـ فأوقع الجمع على الاثنين ، كما في قوله : (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) [الأنبياء : ٧٨] ، أراد ابنتيه منضمتين إلى نساء أمته ، ـ وهو قول أكثر المفسرين (٥) ـ ، إذ كل نبي أبو أمّته.

قال الحسن : كان تزويج المسلمات من الكفار جائز (٦).

__________________

(١) انظر : زاد المسير (٤ / ١٣٧).

(٢) زيادة من زاد المسير ، الموضع السابق.

(٣) مثل السابق.

(٤) الماوردي (٢ / ٤٨٨) ، وزاد المسير (٤ / ١٣٧).

(٥) مثل السابق.

(٦) الماوردي (٢ / ٤٨٨) ، وزاد المسير (٤ / ١٣٨).

٢٠١

قال الزمخشري (١) : وقد زوّج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل الوحي ابنتيه من أبي العاص بن وائل وعتبة بن أبي لهب.

وهذا خطأ فاحش ؛ لأن ابن وائل هو العاص ، وزوج بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما هو أبو العاص بن الربيع.

وقال الزجاج (٢) : عرض ذلك عليهم بشرط إسلامهم.

(هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) قال مقاتل (٣) : أحل لكم من إتيان الرجال.

وقوله : «هؤلاء» مبتدأ ، و «بناتي» عطف بيان ، «وهن» فصل ، و «أطهر» خبر للمبتدأ (٤).

ولم يجز النصب في «أطهر» ، وقد قرأ به محمد بن مروان وعيسى بن عمر (٥).

وقال الزجاج (٦) : لا يجيز هذا أحد من البصريين ، ويجيزه غيرهم.

وقال غيره في توجيه هذه القراءة : «هؤلاء» مبتدأ ، و «بناتي» ابتداء ثان ، «وهن» خبره. والجملة خبر المبتدأ الأول ، و «أطهر» نصب على الحال ، والعامل في الحال معنى الإشارة (٧) ، كما تقول : هذا زيد قائما.

(فَاتَّقُوا اللهَ) بإيثارهن عليهم (وَلا تُخْزُونِ) أي : تفضحوني ، ولا تفعلوا فعلا

__________________

(١) الكشاف (٢ / ٣٩٠).

(٢) معاني الزجاج (٣ / ٦٧).

(٣) تفسير مقاتل (٢ / ١٢٦).

(٤) التبيان (٢ / ٤٣) ، والدر المصون (٤ / ١١٧).

(٥) البحر المحيط (٥ / ٢٤٧).

(٦) معاني الزجاج (٣ / ٦٧).

(٧) الدر المصون (٤ / ١١٨).

٢٠٢

أستحيي منه ، والعرب تقول : قد خزي الرّجل يخزى خزاية ؛ إذا استحيى ، فهو خزيان ، وامرأة خزيا (١) ، ومنه الحديث : «غير خزايا» (٢). ونقلت تصريف اللغة في «الخزي» في البقرة ، والجمع : خزايا. قال الشاعر :

من البيض لا تخزي إذا الريح ألصقت

بها مرطها أو زايل الحلي جيدها (٣)

(فِي ضَيْفِي) أي : في حق ضيفي ، وهو اسم يقع على الواحد والجمع ، تقول : رجل ضيف ، ورجلان ضيف ، وقوم ضيف ، وكذلك المؤنث ، ويقال أيضا في الجمع : أضياف ، وضيوف ، وضيفان ، والأول أصح. قال الشاعر :

إذا جاء ضيف جاء للضّيف ضيفن

فأودى بما يقرى الضّيوف الضّيافن (٤)

الضّيفن : ضيف الضّيف.

(أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) في نفسه يهتدي إلى فعل الجميل وترك القبيح ، أو رشيد يهديكم ويأمركم بالمعروف وينهاكم عن المنكر.

(قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍ) قال ابن عباس : من حاجة (٥).

وقال ابن إسحاق وابن قتيبة (٦) : المعنى : لسن لنا بأزواج فنستحقّهن (٧).

__________________

(١) انظر : اللسان (مادة : خزا).

(٢) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (١ / ٢٤٣) من حديث طويل.

(٣) انظر البيت في : القرطبي (٩ / ٧٧) ، وزاد المسير (٤ / ١٣٩).

(٤) انظر البيت في : اللسان ، مادة : (ضيف ، ضفن).

(٥) الماوردي (٢ / ٤٨٩) من قول الكلبي ، وزاد المسير (٤ / ١٣٧).

(٦) تفسير غريب القرآن (ص : ٢٠٧).

(٧) أخرج نحوه الطبري (١٢ / ٨٦) ، وابن أبي حاتم (٦ / ٢٠٦٣). وانظر : الوسيط (٢ / ٥٨٣) ، والماوردي (٢ / ٤٨٩) ، وزاد المسير (٤ / ١٣٩).

٢٠٣

وقيل : لما اتخذوا إتيان الذكور مذهبا وتوطؤا عليه ، كان عندهم هو الحق ، ونكاح الإناث هو الباطل ، فلذلك قالوا : (ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ). أو يكون ذلك منهم على مذهب الخلاعة ، ألا ترى إلى قولهم : (وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ) إشارة إلى عملهم الخبيث.

(قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً) جوابه محذوف ، تقديره : لو أن لي بكم قوة بنفسي أو بجماعة ينصرونني (أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) عشيرة عزيزة منيعة لحلت بينكم وبين ما اجترأتم عليه من الجرائم.

قال قتادة : ذكر لنا أنه لم يبعث الله تعالى نبيا قط بعد لوط إلا في عزّ من قومه (١).

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد» (٢).

وفي رواية للبخاري : «يغفر الله تعالى للوط» (٣).

ويروى أن الملائكة قالت له : إن ربك لشديد ، فافتح الباب ودعنا وإياهم.

قال ابن عباس : كان لوط عليه‌السلام قد أغلق بابه وقومه يعالجونه ،

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٨٨) عن قتادة. وأخرجه البخاري في الأدب (٦ / ٢١٢) ، والترمذي (٥ / ٢٩٣) ، وابن أبي حاتم (٦ / ٢٠٦٤) ، والحاكم (٢ / ٦١١) كلهم عن أبي هريرة. وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (٥ / ٣٥٧) عن ابن عباس. وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٤٥٩) وعزاه لابن جرير عن قتادة. ومن طريق آخر عن ابن عباس ، وعزاه لسعيد بن منصور وأبي الشيخ.

ومن طريق آخر عن أبي هريرة ، وعزاه للبخاري في الأدب والترمذي وحسّنه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه.

(٢) أخرجه البخاري (٤ / ١٧٣١ ح ٤٤١٧) ، ومسلم (١ / ١٣٣ ح ١٥١).

(٣) أخرجه البخاري (٣ / ١٢٣٥ ح ٣١٩٥).

٢٠٤

ويتسوّرون عليه الجدار ، ولوط يجادلهم ويعظهم ، فلما رأت الملائكة ما يلقى من الكرب (قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) ، فافتح الباب ودعنا وإياهم ، ففتح الباب فدخلوا ، فاستأذن جبريل عليه‌السلام ربه في عقوبتهم ، فأذن له ، فضرب بجناحه وجوههم فأعماهم ، وذلك قوله : (وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) [القمر : ٣٧] ، فانصرفوا يقولون : النجاء النجاء ، فإن في بيت لوط أسحر قوم في الأرض ، وجعلوا يقولون : يا لوط كما أنت حتى نصبح ، وجعلوا يهددونه ويتوعدونه ، فقال لهم لوط : متى موعد هلاكهم ، قالوا : الصبح ، قال : لو أهلكتموهم الآن. قالوا : أليس الصبح بقريب (١)؟.

قوله تعالى : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) قرأ الحرميان : «فاسر» بوصل الهمزة حيث وقع ، من سرى.

قال الشاعر :

سريت بهم حتّى تكلّ مطيّهم

وحتّى الجياد ما يقدن بأرسان (٢)

وقرأ الباقون بقطع الهمزة ، من أسرى (٣).

قال النابغة :

__________________

(١) زاد المسير (٤ / ١٤٠). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٤٦١) وعزاه لابن أبي الدنيا في كتاب العقوبات.

(٢) البيت لامرئ القيس. انظر : ديوانه (ص : ٩٣) ، واللسان ، مادة : (غزا ، مطا) ، والطبري (٢ / ٣٤٢) ، وزاد المسير (٤ / ١٤١) ، وروح المعاني (٤ / ٢٠٥).

(٣) الحجة للفارسي (٢ / ٤١٣) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٣٤٧) ، والكشف (١ / ٥٣٥) ، والنشر (٢ / ٢٩٠) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٥٩) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣٣٨).

٢٠٥

أسرت عليه من الجوزاء سارية

[تزجي](١) الشّمال عليه جامد البرد (٢)

قال أبو مالك (٣) : لم يؤمن بلوط إلا ابنتاه (٤).

(بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) أي : بطائفة منه.

قال ابن الأنباري (٥) : ذكر القطع بمعنى القطعة مختص بالليل ، لا يقال : عندي قطع من الثوب بمعنى قطعة.

(وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو : «امرأتك» بالرفع ، وقرأ الباقون بالنصب (٦).

فمن نصب فعلى معنى : فأسر بأهلك إلا امرأتك. ويؤيده تفسير ابن عباس ، فإنه قال : المعنى : لا يتخلف منكم أحد (٧).

__________________

(١) في الأصل : ترخي. والتصويب من مصادر البيت.

(٢) البيت للنابغة. انظر : ديوانه (ص : ٣١) ، واللسان ، مادة : (زجا ، سرا) ، ومجمل اللغة (٣ / ٤٧٩) ، والحجة للفارسي (٢ / ٤١٣) ، والتمهيد لابن عبد البر (٦ / ٣٩٠) ، والقرطبي (٩ / ٧٩ ، ١٠ / ٢٠٥ ، ١٢ / ٢٨٨) ، وزاد المسير (٤ / ١٤١).

والسارية : السحابة التي تسري ليلا ، وجمعها : السواري.

وزجى الشيء وأزجاه : ساقه ودفعه.

والجوزاء : أحد بروج السماء.

(٣) في الوسيط : ابن مالك.

(٤) ذكره الواحدي في الوسيط (٢ / ٥٨٤).

(٥) انظر : زاد المسير (٤ / ١٤٢).

(٦) الحجة للفارسي (٢ / ٤١٤) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٣٤٧ ـ ٣٤٨) ، والكشف (١ / ٥٣٦) ، والنشر (٢ / ٢٩٠) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٥٩) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣٣٨).

(٧) أخرجه ابن أبي حاتم (٦ / ٢٠٦٥). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٤ / ١٤٢) ، والسيوطي في ـ

٢٠٦

وهو قول جماعة من أهل العلم ، فإنهم قالوا : لم تخرج معه ، أو يكون على أصل الباب في الاستثناء.

ومن رفع فعلى البدل من «أحد».

وقال ابن الأنباري (١) : يكون الاستثناء على قراءة من رفع منقطعا ، معناه : لكن امرأتك فإنها تلتفت ، فيصيبها ما أصابهم.

قال مجاهد ومقاتل (٢) : هو الالتفات المعروف (٣).

قال قتادة : ذكر لنا أنها كانت مع لوط حين خرج من القرية ، فلما سمعت هدّة العذاب التفتت ، فقالت : وا قوماه! فأصابها حجر فأهلكها ، وهو قوله : (إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ)(٤).

(فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) (٨٣)

قوله تعالى : (جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) يعني : المؤتفكات قرى قوم لوط ، وكانت من خمس قرى ، أعظمها : سدوم.

قال ابن عباس وغيره : أمر جبريل لوطا بالخروج ، فقال : اخرج وأخرج

__________________

ـ الدر المنثور (٢ / ٢٦٢) وعزاه لابن أبي حاتم.

(١) انظر : زاد المسير (٤ / ١٤٢).

(٢) تفسير مقاتل (٢ / ١٢٧).

(٣) زاد المسير (٤ / ١٤٢).

(٤) أخرجه ابن أبي حاتم (٦ / ٢٠٦٦). وانظر : الوسيط (٢ / ٥٨٤) ، وزاد المسير (٤ / ١٤٢). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٢٦٢) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

٢٠٧

غنمك وبقرك ، فقال : كيف لي بذلك وقد أغلقت أبواب المدينة ، فبسط جناحه فحمله وبنتيه وما لهم من شيء فأخرجهم من المدينة ، وسأل جبريل ربه أن يولّيه إهلاكهم ، فولّاه ذلك ، فلما بدا الصبح غدا عليهم جبريل فاقتلع أرضهم من سبع أرضين ، فاحتملها حتى بلغ بها السماء الدنيا ، حتى سمع أهل السماء نباح الكلاب وصياح الديكة ، ثم قلبها عليهم ، وجعل يتبع مسافرتهم ومن تحول عن قراهم ، فرماهم بالحجارة (١).

قوله تعالى : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) قال الضحاك : يعني الآجر (٢).

قال ابن عباس : هي معرّبة من (سنك) و (كل). السّنك : الحجر ، والكل : الطين. وهذا قول أكثر العلماء (٣).

وقال عكرمة : «سجّيل» : بحر معلق في الهواء (٤). من أسجلته ؛ إذا أرسلته ، وكأنها مرسلة عليهم (٥).

__________________

(١) أخرجه الطبري مجزءا (١٢ / ٩٧ ـ ٩٨). وكذلك عند ابن أبي حاتم (٦ / ٢٠٦٦ ـ ٢٠٦٧). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٤ / ١٤٣) ، والسيوطي في الدر المنثور (٤ / ٤٦٢ ـ ٤٦٣).

(٢) زاد المسير (٤ / ١٤٤).

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ٩٤) ، وابن أبي حاتم (٦ / ٢٠٦٨) ، وابن أبي شيبة (٦ / ١٢٢). وانظر : الوسيط (٢ / ٥٨٤) ، وزاد المسير (٤ / ١٤٤). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٤٦٣ ـ ٤٦٤) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٤) زاد المسير (٤ / ١٤٤).

(٥) انظر : اللسان (مادة : سجل).

٢٠٨

وقال بعضهم : من أسجلت ؛ إذا أعطيت ، وجعله من السّجل ، وهو الدّلو (١) ، وأنشد بيت الفضل بن العباس :

من يساجلني يساجل ماجدا

يملأ الدّلو إلى عقد الكرب (٢)

وقيل : (مِنْ سِجِّيلٍ) : أي : من سجلّ ، بما كتب لهم (٣) ، وهذا القول إذا فسّر فهو أثبتها (٤) ؛ لأن في كتاب الله دليلا عليه. قال الله تعالى : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ)(٥) [المطففين : ٧].

قال الزجاج (٦) : وسجيل في معنى سجين ، وهذا أحسن ما مرّ فيها عندي.

وقال ابن عباس وغيره في قوله : (مَنْضُودٍ) : يتبع بعضها بعضا كالمطر (٧).

(مُسَوَّمَةً) أي : معلّمة بعلامة تعرف بها أنها ليست من حجارة الدنيا.

قال ابن عباس في رواية أبي صالح : كانت مخططة بالسواد والحمرة (٨).

قال قتادة : كان بها نضح من حمرة فيها خطوط حمر على هيأة الجزع (٩).

__________________

(١) انظر : اللسان (مادة : سجل).

(٢) البيت للفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب. وهو في : اللسان ، مادة : (سجل) ، والطبري (١٢ / ٩٤ ،) ، والقرطبي (٩ / ٨٢ ، ١١ / ٣٤٧) ، وفتح القدير (٢ / ٥١٦).

(٣) في اللسان : من سجيل : كقولك : من سجلّ ، أي : ما كتب لهم.

(٤) في اللسان : أبينها.

(٥) انظر : اللسان ، (مادة : سجل).

(٦) معاني الزجاج (٣ / ٧٢).

(٧) ذكره الواحدي في الوسيط (٢ / ٥٨٤) ، وزاد المسير (٤ / ١٤٥).

(٨) زاد المسير (٤ / ١٤٥).

(٩) أخرجه الطبري (١٢ / ٩٦) ، وابن أبي حاتم (٦ / ٢٠٦٩). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٤٦٤) وعزاه لعبد الرزاق وابن جرير وأبي الشيخ.

٢٠٩

قال الربيع بن أنس : كان على كل حجر منها اسم صاحبه (١).

وحكي عن بعض من رآها قال : كانت مثل رأس الإبل ، ومثل مبارك الإبل ، ومثل قبضة الرجل.

قوله تعالى : (عِنْدَ رَبِّكَ) أي : في خزائنه التي لا يتصرف فيها إلا بإذنه.

(وَما هِيَ) يعني : الحجارة (مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) قال قتادة : والله ما أجار الله تعالى منها ظالما بعد قوم لوط (٢).

وفي هذا تهديد وتخويف لكفار قريش وغيرهم.

وقيل : الضمير في قوله : «هي» لقرى قوم لوط. أي : وما القرى من ظالمي أهل مكة بمكان أو بشيء بعيد ، فإنهم يمرون عليها في أسفارهم وينظرون إلى آثارهم.

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) (٨٦)

قوله تعالى : (وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) كان من شأنهم التطفيف في الكيل والبخس في الميزان ، فنهاهم شعيب عليه‌السلام عن ذلك مذكرا لهم بنعم الله

__________________

(١) زاد المسير (٤ / ١٤٦).

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٩٦) ، وابن أبي حاتم (٦ / ٢٠٧٠). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٤٦٥) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

٢١٠

عليهم ومخوفا لهم من عقابه فقال : (إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) يريد كثرة الأموال وسعة الأرزاق. والمعنى : فأي ضرورة بكم إلى التطفيف والبخس.

(وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) إن أصررتم على ذلك (عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) أي : مهلك. من قوله تعالى : (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) [الكهف : ٤٢] وأصله من إحاطة العدو.

قال ابن عباس ومجاهد : المراد بالعذاب : القحط وغلاء الأسعار (١).

وقال مقاتل (٢) : المراد به : اليوم الذي أصابهم فيه العذاب.

وقيل : يوم القيامة.

(وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) أتموها بالعدل.

قال صاحب الكشاف (٣) : إن قلت : النهي عن النقصان أمر بالإيفاء ، فما فائدة قوله : «أوفوا»؟

قلت : نهوا أولا عن عين القبيح الذي كانوا عليه من نقص المكيال والميزان ؛ لأن في التصريح بالقبيح نعيا على المنهي وتعييرا له ، ثم ورد الأمر [بالإيفاء](٤) الذي هو حسن في العقول مصرحا بلفظه ، لزيادة ترغيب فيه وبعث عليه ، وجيء به مقيدا بالقسط ، أي : ليكن [الإيفاء](٥) على وجه العدل والتسوية من غير زيادة ولا نقصان.

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٩٨). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٤٦٦) وعزاه لابن جرير وأبي الشيخ.

(٢) تفسير مقاتل (٢ / ١٢٨).

(٣) الكشاف (٢ / ٣٩٤).

(٤) في الأصل : بالأفاء. والتصويب من الكشاف ، الموضع السابق.

(٥) في الأصل : الإفاء. والتصويب من الكشاف ، الموضع السابق.

٢١١

(وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) بنقص المكيال والميزان. وقد سبق ذكر «العثو» في البقرة.

وهذا إشارة إلى أن نقص المكيال والميزان والبخس من العثو في الأرض ، وهو شدة الفساد. والتقدير : لا تتمادوا في الفساد في حال فسادكم.

قوله تعالى : (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ) قال ابن عباس : يعني : ما أبقى الله تعالى لكم من الحلال بعد تمام الكيل والوزن خير من البخس والتطفيف (١).

وقال مجاهد : (بَقِيَّتُ اللهِ) : طاعة الله خير لكم (٢) ، وهذا كقوله : (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) [الكهف : ٤٦].

وقرأ الحسن : «تقية الله» بالتاء المعجمة من فوق بنقطتين (٣).

قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إعلام بأن الطاعة ـ على قول مجاهد ـ ، والتقوى ـ على قراءة الحسن ـ لا تنفع ولا تجدي خيرا إلا بشرط الإيمان.

فإن قيل : فما معنى اشتراطه ـ على قول ابن عباس ـ مع العلم أن الحلال خير لهم ، ولو كانوا كفارا ؛ لما يستلزم من خلاصهم من إثم الحرام؟

قلت : شرط الإيمان في كونه خيرا لهم ؛ لأنهم به يعرفون كونه خيرا لهم ، أو لأن بالإيمان تمام الخير ، وهو الفوز بالجنة ، والنجاة من النار.

ويجوز أن يكون المعنى : إن كنتم مصدقين بما أقول لكم.

__________________

(١) الطبري (١٢ / ١٠٠) ، والوسيط (٢ / ٥٨٦) ، وزاد المسير (٤ / ١٤٨).

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ١٠٠) ، وابن أبي حاتم (٦ / ٢٠٧٢) ، ومجاهد (ص : ٣٠٨). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٤٦٦) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٣) إتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٥٩).

٢١٢

(وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أحفظ عليكم أعمالكم وأجازيكم عليها ، وإنما بعثت مبلغا ومنذرا لا مكرها مجبرا.

(قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) (٨٧)

(قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ) وقرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر : «أصلاتك» على التوحيد (١).

(تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) قال عطاء : يريد : أدينك يأمرك (٢) ، فكنّى عن الدين بالصلوات ؛ لاشتماله عليها ، وكونها أعظم شعائره وأظهر أعلامه ، وكان شعيب عليه‌السلام كثير الصلاة.

قال صاحب الكشاف (٣) : ساقوا الكلام مساق الطنز (٤) ، وجعلوا الصلاة آمرة على سبيل التهكم بصلاته ، وأرادوا أن هذا الذي تأمر به من ترك عبادة الأوثان باطل لا وجه لصحته.

والمعنى : تأمرك بتكليف أن [نترك](٥) ما يعبد آباؤنا ، فحذف المضاف الذي هو التكليف ؛ لأن الإنسان لا يؤمر بفعل غيره.

(أَوْ أَنْ نَفْعَلَ) عطف على ما بعد التعذيب أن نترك عبادة آباءنا وفعل ما نشاء

__________________

(١) الحجة لابن زنجلة (ص : ٣٤٨) ، والنشر (٢ / ٢٩٠) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٥٩).

(٢) ذكره الواحدي في الوسيط (٢ / ٥٨٦) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٤ / ١٤٩).

(٣) الكشاف (٢ / ٣٩٥ ـ ٣٩٦).

(٤) الطّنز : السخرية (اللسان ، مادة : طنز).

(٥) في الأصل : تترك.

٢١٣

(فِي أَمْوالِنا) من البخس والتطفيف والتصرف في الدراهم بالكسر.

ولأن قوله : (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ) معطوفا على (أَنْ نَتْرُكَ) ؛ لأنه لو كان معطوفا عليه لكان المعنى : أصلواتك تأمرك بأخذ هذين ، وليس هو وجه الكلام ، وإنما وجهه ومعناه : أصلواتك تأمرك بتركنا هذين. و «أو» هاهنا بمنزلتها في قوله : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) [النساء : ١٣٥] ولم يقل : به ، كما قال : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) [النساء : ١١٢] وقال : (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) [النساء : ١٢] ولم يقل : ولهما.

وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وابن أبي عبلة والضحاك : «أو أن تفعل في أموالنا ما تشاء» بتاء الخطاب فيهما (١).

وقرأ الضحاك بن قيس الفهري : «نفعل» بالنون «تشاء» بالتاء (٢).

قال سفيان الثوري في تفسير هذه القراءة : أمرهم بالزكاة فامتنعوا (٣).

(إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) قال الزمخشري (٤) : نسبوه إلى غاية السفه والغي ، فعكسوا ليتهكموا به ، كما يتهكم بالشحيح الذي لا يبض حجره ، فيقال له : لو أبصرك حاتم لسجد لك. وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس وجمهور المفسرين وأرباب المعاني.

وقال ابن كيسان : هو على الصحة ، أي : يا شعيب إنك فينا حليم رشيد ، فليس

__________________

(١) زاد المسير (٤ / ١٥٠).

(٢) مثل السابق.

(٣) أخرجه ابن أبي حاتم (٦ / ٢٠٧٣). وانظر : الماوردي (٢ / ٤٩٦) ، وزاد المسير (٤ / ١٥٠).

(٤) الكشاف (٢ / ٣٩٦).

٢١٤

يجمل بك شقك عصا قومك ولا مخالفتهم ، كقول ثمود : (يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا)(١).

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (٨٨)

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) سبق تفسيره (٢).

(وَرَزَقَنِي مِنْهُ) أي : من عنده ، (رِزْقاً حَسَناً) وهو الحكم والنبوة.

وقال ابن عباس وجمهور المفسرين : هو كثرة المال من الوجه الحلال (٣). وجوابه محذوف لدلالة الكلام عليه.

المعنى : أخبروني إن كنت على حجة واضحة من ربي وكنت نبيا ؛ أيصح ألّا آمركم بترك عبادة الأوثان والكف عما لا يجوز؟ والأنبياء إنما يبعثوا لذلك.

(وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) من التطفيف وغيره ، فأستبدّ به وأنفرد بنيل لذّته. تقول : خالفت فلانا إلى كذا ؛ إذا قصدته وهو معرض عنه ، وخالفته عن كذا ؛ إذا أعرضت عنه وهو قاصده.

(إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ) ما أريد بما أمرتكم به ونهيتكم عنه إلا إصلاحكم.

__________________

(١) زاد المسير (٤ / ١٥٠).

(٢) عند تفسير الآية رقم (٢٨).

(٣) أخرجه ابن أبي حاتم (٦ / ٢٠٧٣) عن الضحاك. وانظر : الوسيط (٢ / ٥٨٦) ، وزاد المسير (٤ / ١٥١). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٤٦٧) وعزاه لابن أبي حاتم عن الضحاك.

٢١٥

قوله تعالى : (مَا اسْتَطَعْتُ) ظرف ، أي : في مدة استطاعتي لإصلاحكم ، أو بدل من الإصلاح. أي : المقدار الذي استطعته منه. ويجوز أن يكون على تقدير حذف المضاف على معنى : إن أريد إلا الإصلاح إصلاح ما استطعت.

(وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ) أي : ما توفيقي في إصابة الحق وإرادة الإصلاح إلا بالله ، أي : بعونه وتأييده.

(عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) في دفع أذاكم وما توعدوني به من قولكم : (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ) ، (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أرجع يوم المعاد.

ويجوز عندي أن يكون المعنى : وإليه أنيب في أموري كلها ، واتقاء بنصرته وتدبيره ، راضيا بقضائه وتقديره.

(وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) (٩٠)

(وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي) .. الآية قال الزجاج (١) : لا تكسبنّكم عداوتكم إيّاي ، (أَنْ يُصِيبَكُمْ) عذاب العاجلة (مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ).

قال الزمخشري (٢) : وقرأ ابن كثير : «يجرمنكم» بضم الياء ، من أجرمته ذنبا ؛ إذا

__________________

(١) معاني الزجاج (٣ / ٧٤).

(٢) الكشاف (٢ / ٣٩٨).

٢١٦

جعلته جارما له ، أي : كاسبا ، وكما لا فرق بين كسبته [مالا](١) وأكسبته إياه ، فكذلك لا فرق بين جرمته ذنبا وأجرمته إياه ، والقراءتان مستويتان في المعنى ، إلا أن [المشهورة](٢) أفصح لفظا ، كما أن : كسبته مالا أفصح من أكسبته.

والمراد بالفصاحة : أنه على ألسنة الفصحاء من العرب الموثوق بعربيتهم أدور ، وهم له أكثر استعمالا.

(وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) أي : بمكان أو بشيء أو زمان بعيد.

قال الزجاج (٣) : كان إهلاك قوم لوط أقرب الإهلاكات التي عرفوها ، فكأنه قال لهم : العظة في قوم لوط قريبة منكم.

قال صاحب الكشاف (٤) : ويجوز أن يسوى في بعيد وقريب ، وقليل وكثير ، بين المذكر والمؤنث ؛ لورودها على زنة المصادر التي هي الصهيل والنهيق ونحوهما.

(إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ) بمن تاب وأناب إليه ، (وَدُودٌ) من قولك : وددت فلانا أوده ودا ، بضم الواو وفتحها وكسرها ، ودادا بكسر الواو وفتحها ، وودادة بفتح الواو.

وقال الخطابي (٥) : هو اسم مأخوذ من الودّ ، وفيه وجهان :

أحدهما : أن يكون فعولا في محلّ مفعول ، كما قيل : رجل هيوب ، بمعنى :

__________________

(١) زيادة من الكشاف (٢ / ٣٩٨).

(٢) في الأصل : المشهور. والتصويب من الكشاف ، الموضع السابق.

(٣) معاني الزجاج (٣ / ٧٤).

(٤) الكشاف (٢ / ٣٩٨).

(٥) شأن الدعاء (ص : ٧٤).

٢١٧

مهيب ، وفرس ركوب ، بمعنى : مركوب. فالله تعالى مودود في قلوب أوليائه ، لما يتعرّفونه من إحسانه إليهم.

والوجه الثاني : أن يكون بمعنى : الوادّ ، أي : أنه يودّ عباده الصالحين ، بمعنى : أنه يرضى عنهم ويتقبل أعمالهم. ويكون معناه : أنه سبحانه وتعالى يودّدهم إلى خلقه ، كقوله سبحانه وتعالى : (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) [مريم : ٩٦].

(قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) (٩٣)

(قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ) جائز أن يكون هذا على ظاهره ، وأنهم لا يفقهون كثيرا من قوله ؛ لنفرتهم عنه ومباينتهم له ، فأعاروه آذانا صما ، وقلوبا عميا قد طبع الله تعالى عليها ، ومنع من وصول الخير إليها ، فلم تفقه صحة قوله.

وجائز أن يكون فهموه ، لكنهم نفوا الفهم لإعراضهم عنه ، فكأنهم لذلك لم يفهموه ، وقالوا له ذلك على وجه الاستهانة به ، كما يقول الرجل لمن يخاطبه وهو لا يريد خطابه ولا يعبأ به : ما أدري ما تقول.

وجائز أن يكون ذلك منهم على وجه النكت له بالتخليط في كلامه ، والإيذان بأنه هذيان لا يفهم ، كما يقول الرجل اللوذعي الألمعي ذو القلب الأصمعي للبليد البعيد الفهم إذا حدثه بشيء : أنا لا أفهم هذا.

٢١٨

(وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً) قال ابن عباس وقتادة : كان أعمى (١).

وقال الزجاج (٢) : ويقال : إن حمير تسمي المكفوف ضعيفا.

وقال الحسن : «ضعيفا» : مهينا ذليلا (٣).

وهذا هو التفسير الذي تشهد بلاغة القرآن بصحته ؛ لأنهم لو أرادوا نعيه بالعمى ورميه به ، لم يقل : «فينا» ؛ لأن الأعمى أعمى فيهم وفي غيرهم (٤).

قال الزمخشري (٥) : ولذلك قللوا قومه فقالوا : (وَلَوْ لا رَهْطُكَ) أي : عشيرتك. والرّهط : من الثلاثة إلى العشرة. وقيل : إلى السبعة. وإنما قالوا : لولاهم احتراما لهم واعتدادا بهم ؛ لأنهم كانوا على ملتهم ، لا خوفا من شوكتهم وعزتهم ، (لَرَجَمْناكَ) أي : لقتلناك بالحجارة شر قتلة.

وذكر بعضهم : أن المعنى : لشتمناك وآذيناك.

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ١٠٦) ، وابن أبي حاتم (٦ / ٢٠٧٦) كلاهما عن سعيد بن جبير.

وأخرجه ابن أبي حاتم أيضا من طريق آخر عن ابن عباس بلفظ : " كان ضرير البصر".

وأخرجه الحاكم في المستدرك (٢ / ٦٢٠) عن ابن عباس. وانظر : الوسيط (٢ / ٥٨٧) ، وزاد المسير (٤ / ١٥٢). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٤٧٠) وعزاه لأبي الشيخ وابن عساكر من طريق سعيد بن جبير. ومن طريق آخر عن ابن عباس ، وعزاه لابن أبي حاتم والحاكم وصححه والخطيب وابن عساكر.

(٢) معاني الزجاج (٣ / ٧٤).

(٣) أخرجه ابن أبي حاتم (٦ / ٢٠٧٦). وانظر : الماوردي (٢ / ٤٩٩) ، وزاد المسير (٤ / ١٥٢).

(٤) الأصل سلامة الأنبياء من العيوب التي تقلل من عملهم في أداء الرسالة ، ولا شك أن العمى من تلك العيوب ، ورجح المؤلف رواية الحسن البصري لأن ذلك التفسير تشهد بلاغة القرآن الكريم بصحته ، وهو مقتضى كمال رسل الله صلوات الله عليهم خلقا وخلقا.

(٥) الكشاف (٢ / ٣٩٩).

٢١٩

والأول أظهر وأشهر.

(وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) أي : بممتنع علينا.

وقيل : ما أنت علينا بكريم فنعزّ فعلك ونحترمك عن أن نرجمك ، وإنما يعز علينا رهطك.

(قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ) المعنى : أتراعون رهطي إكراما (١) لهم واحتراما ، ولا تراعون الله تعالى في رسوله المبعوث إليكم بأمره ونهيه (٢).

(وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) قال الفراء (٣) : المعنى : رميتم بأمر الله وراء ظهوركم.

قال الزجاج (٤) : والعرب تقول لكلّ من لا يعبأ بأمر : قد جعل فلان هذا الأمر [بظهره](٥).

[قال الشاعر :

__________________

(١) في الأصل زيادة قوله : أكرما.

(٢) فائدة : قال الإمام الشوكاني في فتح القدير (٢ / ٥٢٠) : إنما قال «أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ» ولم يقل : أعز عليكم مني ؛ لأن نفي العزة عنه وإثباتها لقومه كما يدل عليه إيلاء الضمير حرف النفي استهانة به ، والاستهانة بأنبياء الله استهانة بالله عزوجل ، فقد تضمن كلامهم أن رهطه أعزّ عليه من الله ، فاستنكر ذلك عليهم وتعجب منه ، وألزمهم ما لا مخلص لهم عنه ولا مخرج لهم منه بصورة الاستفهام. وفي هذا من قوة المحاجة ، ووضوح المجادلة ، وإلقام الخصم الحجر ، ما لا يخفى ، ولأمر ما سمى شعيب خطيب الأنبياء.

(٣) معاني الفراء (٢ / ٢٦).

(٤) معاني الزجاج (٣ / ٧٥).

(٥) في الأصل وزاد المسير : بظهر. والتصويب من معاني الزجاج ، الموضع السابق.

٢٢٠