رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٣

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٣

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٣

(أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) لأنهم آثروا عبادة الأصنام على عبادة الله تعالى ، فخسروا في صفقتهم وغبنوا غبنا عظيما ، (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي : بطل عنهم ما كانوا يكذبون ويختلقون من الآلهة وشفاعتها.

قوله تعالى : (لا جَرَمَ) قال الزجاج (١) : «لا» نفي لما ظنوا أنه ينفعهم ، كأنه قيل : لا ينفعهم ذلك.

وقال سيبويه (٢) عن الخليل : «لا» ردّ لقولهم ، و «جرم» : فعل ماض ، بمعنى : كسب ، المعنى : كسب لهم ذلك الفعل الخسران ، تقول : جرم فلان ذنبا ، مثل : كسبه ، وجرمته : كسبه إياه ، ويقال أيضا : أجرمته ذنبا.

وفي قراءة ابن مسعود : (لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ) في المائدة (٣) بضم الياء ، وكذلك : أكسبته ذنبا ، وأنشد ابن الأعرابي :

 ...........

وأكسبني مالا وأكسبته أجرا

والأول أشهر وأكثر ، ويقال : فلان جارم أهله ، أي : كاسبهم. قال الشاعر :

جريمة ناهض في رأس نيق

ترى لعظام ما جمعت صليبا (٤)

قال الأزهري : وهذا من أحسن ما قيل فيه.

__________________

(١) معاني الزجاج (٣ / ٤٦).

(٢) انظر : الكتاب (٣ / ١٣٨).

(٣) الآية رقم : ٢.

(٤) البيت لأبي خراش الهذلي. انظر : ديوان الهذليين (٢ / ١٣٣) ، وتهذيب اللغة (١١ / ٦٧) ، واللسان ، مادة : (صلب ، جرم) ، وشرح أشعار الهذليين (٣ / ١٢٠٥) ، والبحر المحيط (٥ / ٢١٣) ، والدر المصون (٤ / ٨٨).

١٤١

قال الزجاج (١) : وزعم سيبويه (٢) أنّ جرم بمعنى : حق.

قال (٣) : وقول الشاعر :

ولقد طعنت أبا عيينة طعنة

جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا (٤)

معناه : أحقّت الطعنة فزارة بالغضب.

وقال الفراء (٥) : «لا جرم» كلمة كانت في الأصل بمنزلة : «لا بدّ» و «لا محالة» ، فكثر استعمالها حتى صارت بمنزلة : «حقا». ألا ترى أن العرب تقول : لا جرم لآتينك ، [فتراها](٦) بمنزلة اليمين ، فكذلك فسرها المفسرون.

قال ابن عباس : يريد : حقا أنهم في الآخرة هم الأخسرون (٧).

فإن قيل : لأي معنى قال هاهنا : (الْأَخْسَرُونَ) ، وفي النحل : (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) [النحل : ١٠٩]؟

قلت : هذه إخبار عن قوم ضوعف العذاب لهم ، حيث ضلوا وأضلوا وصدوا

__________________

(١) معاني الزجاج (٣ / ٤٥ ـ ٤٦).

(٢) انظر : الكتاب (٣ / ١٣٨).

(٣) أي : الزجاج.

(٤) البيت لأبي أسماء بن الضّريبة ، أو عطية بن عفيف ، يرثي كرز ابن عامر ، وكان طعن حصين بن حذيفة الفزاري طعنة مميتة يوم بني عقيل وهو يوم الحاجر. انظر البيت في : الكتاب لسيبويه (٣ / ١٣٨) ، واللسان ، مادة : (جرم) ، وأمالي المرتضى (٤ / ١٦٩) ، ومجاز القرآن (١ / ١٤٧) ، والخزانة (٤ / ٣١٠) ، والمقتضب (٢ / ٣٥٢) ، والطبري (٦ / ٦٣) ، والماوردي (٢ / ٤٦٤) ، وزاد المسير (٤ / ٩٢) ، ومعاني الفراء (٢ / ٩) ، وروح المعاني (٦ / ٥٥ ، ١٢ / ١٢١ ، ٢٤ / ٧١).

(٥) معاني الفراء (٢ / ٨). وانظر : الوسيط (٢ / ٥٦٩) ، وزاد المسير (٤ / ٩١).

(٦) في الأصل : فترها. والتصويب من الوسيط وزاد المسير ، الموضعان السابقان.

(٧) ذكره الواحدي في الوسيط (٢ / ٥٦٩) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٤ / ٩١).

١٤٢

عن سبيل الله ، فهم أخسرون لمضاعفة العذاب لهم. وفي النحل أخبر عن قوم كافرين فقال : (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) [النحل : ١٠٧] ولم يذكر مضاعفة العذاب لهم فقال : (هُمُ الْخاسِرُونَ). هذا مع ما فيه من مراعاة الفواصل ، فإن ما قبلها هاهنا «يبصرون» و «يفترون» ، والتي في النحل فعلى وزان الكافرين والغافلين.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣) * مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٢٤)

قوله تعالى : (وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ) أي : اطمأنوا إليه وانقطعوا إلى عبادته بالخشوع والتواضع ، من الخبت ، وهي الأرض المطمئنة (١).

قال ابن عباس : خافوا ربهم وأنابوا إليه (٢).

قوله تعالى : (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ) يعني الكافرين والمؤمنين (كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ) قال صاحب الكشاف (٣) : هو من اللف والطباق ، وفيه معنيان : أن يشبه الفريق [تشبيهين](٤) اثنين ، كما شبه امرؤ القيس قلوب الطير بالحشف والعناب.

__________________

(١) انظر : اللسان (مادة : خبت).

(٢) زاد المسير (٤ / ٩٢).

(٣) الكشاف (٢ / ٣٦٧).

(٤) في الأصل : بشبهين. والتصويب من الكشاف ، الموضع السابق.

١٤٣

قلت : وذلك في قوله :

كأنّ قلوب الطّير رطبا ويابسا

لدى وكرها العنّاب والحشف البالي (١)

قال : وأن يشبّه بالذي جمع بين العمى والصمم ، أو الذي جمع بين البصر والسمع ، على أن تكون الواو في «الأصم» وفي «السميع» لعطف الصفة على الصفة.

(هَلْ يَسْتَوِيانِ) يعني الفريقين (مَثَلاً) تشبيها (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أيها الكفار الأغمار.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) (٢٧)

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي : «أني» بفتح الهمزة ، بتقدير حرف الجار ، وكأن وجه الكلام : بأنه لهم نذير ، لكنه من باب الالتفات وخطاب التكوين.

وقرأ الباقون : «إني» بكسر الهمزة ، على إضمار القول (٢).

__________________

(١) البيت لامرئ القيس. انظر : ديوانه (ص : ٣٨) ، واللسان ، مادة : (أدب) ، والتصريح (١ / ٣٨٢) ، والمنصف (٢ / ١١٧) ، ودلائل الإعجاز (ص : ٦٦) ، والدر المصون (٤ / ٩٠) ، وروح المعاني (١٢ / ٣٤ ، ٢٢ / ١٤٠).

(٢) الحجة للفارسي (٢ / ٣٨٥) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٣٣٧) ، والكشف (١ / ٥٢٥) ، والنشر ـ

١٤٤

(أَنْ لا تَعْبُدُوا) بدل من (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ)(١) ، أي : أرسلناه بأن لا تعبدوا إلا الله ، أو تكون مفسرة متعلقة ب «أرسلنا» أو ب «نذير».

(إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) وصف اليوم بالأليم ، ووصف العذاب بالأليم من الإسناد المجازي ؛ لوقوع الألم فيه ، ومثله قولهم : نهارك صائم وليلك قائم.

(فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) يعنون إنسانا مثلنا ، لا فضل لك علينا يوجب اختصاصك بالرسالة.

(وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) قال ابن عباس : يريد : المساكين الذين لا عقول لهم ولا شرف ولا مال (٢).

والرّذل : الدّون من كل شيء (٣) ، والجمع أرذل ، ثم يجمع على أراذل ، مثل : كلب وأكلب وأكالب.

قوله تعالى : «نرى» فعل مستقبل ، والكاف للمفعول.

وقوله : «اتّبعك» فعل ، فاعله : (الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) ، والفعل والفاعل في موضع النصب مفعول ثان ل «نراك» إن كان بمعنى : نعلم ، وفي محل الحال إن كان من رؤية العين (٤).

__________________

ـ (٢ / ٢٨٨) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٥٥) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣٣٢).

(١) انظر : الدر المصون (٤ / ٩١).

(٢) ذكره الواحدي في الوسيط (٢ / ٥٧٠).

(٣) انظر : اللسان (مادة : رذل).

(٤) التبيان (٢ / ٣٧) ، والدر المصون (٤ / ٩١).

١٤٥

(بادِيَ الرَّأْيِ) اتفقوا على ترك الهمز من «بادي» وعلى إثباته في «الرأي» ، إلا أبا عمرو فإنه قرأهما بالعكس من ذلك (١).

ومعنى الكلام : اتبعوك في الظاهر وخالفوك في الباطن ، أو اتبعوك في ظاهر الرأي ولم يتدبروا ما قلت ولم يتفكروا فيه ، فهو من بدا يبدو. ومن همز فهو من الابتداء ، أي : اتبعوك حين ابتدؤوا ينظرون.

قال بعض البصراء بالعربية : قوله : (بادِيَ الرَّأْيِ) ، نصب على الظرف ، أي : ظاهر الرأي. والعامل فيه «نراك».

فإن قلت : فما قبل «إلّا» لا يعمل فيما بعده إلا إذا تم الكلام قبل «إلّا». لا يجوز : ما أعطيت أحدا إلا زيدا درهما.

فإن أبا علي قد كفاك جواب هذا السؤال ، وحمل «بادي الرأي» على أنه ظرف لما قبله ، ثم رجع عنه في قوله : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) [الشورى : ٥١] ، فحمله على إضمار فعل آخر دلّ عليه «يكلم» ، على تقدير : أو يكلمهم من وراء حجاب.

وقال : والظرف عندنا في الاثنين على الفعل قبل «إلا» ؛ لأن الظرف يكتفى فيه برائحة الفعل.

قوله تعالى : (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) ازدراء منهم لنوح وأتباعه ، (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) في دعوى نوح الرسالة إلينا.

__________________

(١) الحجة للفارسي (٢ / ٣٨٦) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٣٣٨) ، والكشف (١ / ٥٢٦) ، والنشر (١ / ٤٠٧) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٥٥) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣٣٢).

١٤٦

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) (٢٨)

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ) أي : أخبروني (إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أي : يقين وبصيرة.

قال ابن الأنباري (١) : «إن كنت» شرط لا يوجب شكا يلحقه ، لكن الشك يلحق المخاطبين من أهل الزيغ.

(وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ) وهي النبوة.

فإن قيل : هل بين هذا الموضع وبين قول صالح : (وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً) فرق في المعنى؟

قلت : كلا ، لكن هاهنا تقدمها قوله : (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) ، وقوله : (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) ، وقوله : (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) ، فلما تقدمتها أفعال ثلاثة متعدية إلى مفعولين لا يحجز بينهما معمول فيه ، أجري هذا الفعل مجراها. وفي قصة صالح تقدمه : (يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا) فوقع خبر «كان» الذي هو كالمفعول ل «كان» ، وقد تقدمه الجار والمجرور ، وجرى جواب صالح في تقديم الجار والمجرور مجرى قولهم.

قوله تعالى : (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) أي : خفيت عليكم. وقيل : عميتم عنها ، فهو من المقلوب ، كقولك : أدخلت القلنسوة في رأسي ، وأدخلت القبر زيدا.

__________________

(١) انظر : زاد المسير (٤ / ٩٦ ـ ٩٧).

١٤٧

قال الفراء (١) : وهذا مما حوّلت العرب الفعل إليه ، وهو في الأصل لغيره ، كقولهم : دخل الخاتم في يدي ، والخفّ في رجلي ، وإنما الإصبع تدخل في الخاتم والرّجل في الخفّ. واستجازوا ذلك إذا كان المعنى معروفا.

وقرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر : «فعمّيت» بتشديد الميم وضم العين (٢) ، بمعنى : أخفيت عليكم. ويؤيدها قراءة أبي بن كعب : «فعمّاها عليكم» (٣).

(أَنُلْزِمُكُمُوها) أي : أنكرهكم على قبولها ، (وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ).

قال قتادة : والله لو استطاع نبي الله ألزمها قومه ، ولكن لم يملك ذلك (٤).

وقرأت على شيخنا أبي البقاء عبد الله بن الحسين النحوي لأبي عمرو من رواية

__________________

(١) معاني الفراء (٢ / ١٢).

(٢) الحجة للفارسي (٢ / ٣٨٨) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٣٣٨) ، والكشف (١ / ٥٢٧) ، والنشر (٢ / ٢٨٨) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٥٥) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣٣٢).

(٣) انظر : زاد المسير (٤ / ٩٧).

قال الزمخشري في الكشاف (٢ / ٣٦٩) : فإن قلت : فما حقيقته؟ قلت : حقيقته : أن الحجة كما جعلت بصيرة ومبصرة ، جعلت عمياء ؛ لأن الأعمى لا يهتدي ولا يهدي غيره ، فمعنى (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) : البينة ، فلم تهدكم ، كما لو عمي على القوم دليلهم في المفازة بقوا بغير هاد.

فإن قلت : فما معنى قراءة أبيّ؟ قلت : المعنى : أنهم صمموا على الإعراض عنها ، فخلاهم الله وتصميمهم ، فجعلت تلك التخلية تعمية منه ، والدليل عليه قوله : (أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) يعني : أنكرهكم على قبولها ، ونقسركم على الاهتداء بها ، وأنتم تكرهونها ولا تختارونها ، ولا إكراه في الدين.

قال أبو حيان في البحر المحيط (٥ / ٢١٧) : وتوجيهه في قراءة أبيّ هو على طريقة المعتزلة.

(٤) أخرجه الطبري (١٢ / ٢٩) ، وابن أبي حاتم (٦ / ٢٠٢٣). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٤١٦) وعزاه لابن جرير وأبي الشيخ.

١٤٨

عبد الله بن عمر الزهري ، عن أبي زيد سعيد بن أوس الأنصاري النحوي عنه : «أنلزمكموها» بجزم الميم ، وهو لحن عند الخليل وسيبويه وحذاق البصريين. وبعضهم يقول : كان أبو عمرو يختلسها ، وظن الراوي أنه أسكنها.

(وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٣٠)

(وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي : على تبليغ الرسالة (مالاً) فيوجب ذلك التهمة في حقي ، (إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) لا عليكم (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا).

قال ابن جريج : سألوه طردهم أنفة وحمية من أن يكونوا معهم على سواء (١).

(إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) فمعاقب من ظلمهم وطردهم وحقرهم.

(وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) قال ابن عباس : تجهلون ربوبية ربكم وعظمته (٢).

وقيل : تجهلون لأمركم إياي بطرد المؤمنين (٣).

ويجوز أن يكون المعنى : تجهلون أنهم خير منكم ، أو تجهلون على المؤمنين وتدعونهم أراذل سفها منكم وحمقا.

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٢٩ ـ ٣٠).؟ وانظر : الوسيط (٢ / ٥٧١) ، وزاد المسير (٤ / ٩٨). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٤١٦) وعزاه لابن جرير وأبي الشيخ.

(٢) ذكره الواحدي في الوسيط (٢ / ٥٧١).

(٣) زاد المسير (٤ / ٩٨).

١٤٩

(وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ) أي : من يمنعني من عذابه إن طردت المؤمنين ذهابا مع أنفتكم وكبركم (أَفَلا تَذَكَّرُونَ).

(وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١) قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٣٤)

(وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) فأدعي فضلا عليكم في الملك والغنى حتى تقولوا : ما نرى لكم علينا من فضل ، (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) فأطلع على الضمائر فأعلم المخلص من المنافق ، فإنهم نسبوا المؤمنين إلى النفاق.

وقيل : نزل ذلك بهم ؛ لأنهم قالوا له : متى يجيء العذاب؟

وقيل : أجدبت أرضهم فسألوه : متى يجيء المطر؟.

(وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) حتى تقولوا : ما نراك إلا بشرا مثلنا.

(وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ) تحتقر وتستصغر ، حتى قلتم : هم أراذلنا ، (لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً) هوانهم عليه ، (اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ) فهو مجازيهم بعلمه فيهم ، (إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) إن صدر مني ما نفيته عني.

(قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا) أي : بالغت في خصومتنا (فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في وعد العذاب.

١٥٠

فنفى عن نفسه وعنهم القدرة وأثبتها لله ، فقال : (إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ* وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ) وجزاء الشرط في قوله : (إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) ما دل عليه قوله : (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي).

ومعنى «يغويكم» : يضلّ كّم ويهلككم.

قال ابن السكيت (١) : من قولك : غوى الفصيل يغوي غوى ؛ إذا لم يرو من لبأ أمه حتى يموت هزالا (٢).

وقال غيره : هو أن يكثر من شرب اللبن حتى يهلك (٣).

(هُوَ رَبُّكُمْ) يتصرف فيكم كيف شاء بالإغواء والإرشاد (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يوم المعاد.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) (٣٥)

(أَمْ يَقُولُونَ) بل يقولون (افْتَراهُ) اختلق الوحي وأتى به من عند نفسه ، (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي) إثم إجرامي ، والإجرام : اكتساب السيئة.

وقرأت لأبي عمرو من رواية عبد الوارث عنه : «أجرامي» بفتح الهمزة ، وهي قراءة أبي المتوكل وابن السميفع (٤) ، وهو جمع جرم.

قال صاحب الكشاف (٥) : المعنى : إن صح وثبت أني افتريته فعليّ عقوبة

__________________

(١) إصلاح المنطق (ص : ١٨٩).

(٢) انظر : اللسان (مادة : غوى).

(٣) مثل السابق.

(٤) زاد المسير (٤ / ١٠٠).

(٥) الكشاف (٢ / ٣٧١).

١٥١

إجرامي ، أي : افترائي ، وكان حقي حينئذ أن تعرضوا عني وتتألّبوا عليّ.

(وَأَنَا بَرِيءٌ) يعني : ولم يثبت ذلك ، وأنا بريء منه.

ومعنى : (مِمَّا تُجْرِمُونَ) من إجرامكم في إسناد الافتراء إليّ ، فلا وجه لإعراضكم ومعاداتكم.

(وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) (٣٩)

قوله تعالى : (وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) قال المفسرون : حينئذ استجاز نوح الدعاء عليهم فقال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً)(١) [نوح : ٢٦].

(فَلا تَبْتَئِسْ) تحزن حزن بائس مستكين بما فعلوه من تكذيبك وإيذائك ، فقد حان حين الانتقام منهم.

(وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) قال ابن عباس : بمرأى منا (٢).

وقال الربيع : بحفظنا (٣).

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم (٦ / ٢٠٢٤). وانظر : الوسيط (٢ / ٥٧٢) ، وزاد المسير (٤ / ١٠٠).

(٢) ذكره الواحدي في الوسيط (٢ / ٥٧٢) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٤ / ١٠١).

(٣) مثل السابق.

١٥٢

وهو في محل الحال ، بمعنى : اصنعها محفوظا آمنا من أعدائك.

(وَوَحْيِنا) أي : بوحينا إليك أن تصنعها وكيف تصنعها ، (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي : لا تسألني الصفح عنهم ولا إمهالهم ، (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) محكوم عليهم بذلك في سابق علمي وقضائي.

الإشارة إلى كيفية عمل السفينة :

قال ابن عباس : كان نوح عليه‌السلام يضرب ، ثم يلفّ في لبد فيلقى في بيته يرون أنه قد مات ، ثم يخرج فيدعوهم ، حتى جاء رجل ومعه ابنه وهو يتوكأ على عصا ، فقال : يا بني ، انظر هذا الشيخ لا يغررك. قال : يا أبت أمكني من العصا ، فأخذها فضربه ضربة شجة موضحة ، وسالت الدماء على وجهه فقال : رب [قد](١) ترى ما يفعل بي عبادك ، فإن (٢) يكن لك فيهم حاجة [فاهدهم](٣) ، وإلا فصبرني إلى أن تحكم ، فأوحى الله تعالى إليه (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) إلى قوله : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ) ، قال : يا رب ، وما الفلك؟ قال : بيت من خشب يجري على وجه الماء ، أنجي فيه أهل طاعتي ، وأغرق أهل معصيتي. قال : يا رب! وأين الماء؟ قال : إني على ما أشاء قدير. قال : يا رب! كيف أتخذ هذا البيت؟ فبعث الله تعالى إليه جبريل عليه‌السلام فعلّمه ، وأوحى الله تعالى إليه أن عجّل عمل السفينة فقد اشتد غضبي على من عصاني ، فاستأجر نجّارين يعملون معه ، وسام وحام ويافث ينحتون السفينة ، وكانت من خشب الساج ، وجعل لها ثلاث بطون ،

__________________

(١) زيادة من زاد المسير (٤ / ١٠٢).

(٢) في الأصل زيادة : لم. انظر : زاد المسير ، الموضع السابق.

(٣) زيادة من زاد المسير ، الموضع السابق.

١٥٣

وجعل طولها ستمائة ذراع ، وعرضها ثلاثمائة [وثلاثون](١) ذراعا ، وعلوها ثلاثة وثلاثين ذراعا ، وفجّر الله تعالى له عين القار تغلي غليا فأطلاها ، وحمل في البطن الأول الوحوش والسباع والهوامّ ، وفي الوسط الثاني الدواب والأنعام ، وركب هو ومن معه في البطن الأعلى(٢).

وزعم مقاتل (٣) : أنه صنع السفينة في أربعمائة سنة. والله تعالى أعلم.

قوله تعالى : (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) حكاية حال ماضية ، (وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ) وهو يصنعها (سَخِرُوا مِنْهُ) تضاحكوا استهزاء به.

قال ابن عباس : لم يكن في الأرض قبل الطوفان نهر ولا بحر ، فلذلك سخروا منه ، وإنما مياه البحار بقية الطوفان (٤).

قال ابن إسحاق : كانوا يسخرون ويقولون : صرت بعد النبوة نجارا (٥).

وقال مقاتل (٦) : كانوا إذا قالوا له : ما تصنع؟ يقول : أصنع بيتا يمشي على وجه الماء ، فيسخرون من قوله.

(قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا) في هذه الحال (فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ) في المآل ، وقيل :

__________________

(١) في الأصل : وثلاثون. والتصويب من زاد المسير (٤ / ١٠٢).

(٢) زاد المسير (٤ / ١٠١ ـ ١٠٢).

(٣) تفسير مقاتل (٢ / ١١٧).

(٤) الماوردي (٢ / ٤٧١) ، وزاد المسير (٤ / ١٠٣).

(٥) الطبري (١٢ / ٣٦) ، والوسيط (٢ / ٥٧٣) ، والماوردي (٢ / ٤٧١) بلا نسبة ، وزاد المسير (٤ / ١٠٣). وانظر : الدر المنثور (٤ / ٤٢١).

(٦) تفسير مقاتل (٢ / ١١٧). وانظر : الوسيط (٢ / ٥٧٣) ، والماوردي (٢ / ٤٧١) بلا نسبة ، وزاد المسير (٤ / ١٠٣).

١٥٤

المعنى إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم لاستجهالكم إيانا ، وهذه اللغة الغالبة.

وروى أبو زيد والخليل : سخرت به أيضا.

ثم هددهم فقال : (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) يذله ويهينه وهو الغرق في الدنيا.

وقوله : (مَنْ يَأْتِيهِ) منصوب : ب «تعلمون» أي : فسوف الذي يأتيه عذاب يخزيه ، (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ) في الآخرة (عَذابٌ مُقِيمٌ) دائم.

(حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) (٤٠)

(حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا) قال الزمخشري (١) : هذه «حتى» التي يبتدئ بعدها الكلام ، دخلت على الجملة من الشرط والجزاء.

فإن قلت : وقعت غاية لماذا؟

قلت : لقوله : (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) ، أي : وكان يصنعها إلى أن جاء وقت الموعد.

فإن قلت : فإذا اتصلت «حتى» ب «يصنع» ، فما تصنع بما بينهما من الكلام؟

قلت : هو حال من «يصنع» ، كأنه قال : يصنعها. والحال أنه لما مرّ عليه ملأ من قومه سخروا منه.

فإن قلت : فما جواب «كلّما»؟

قلت : أنت بين أمرين ؛ إما أن تجعل «سخروا» جوابا و «قال» استئنافا على تقدير سؤال سائل ، أو تجعل «سخروا» بدلا من «مرّ» ، أو صفة ل «ملأ» و «قال»

__________________

(١) الكشاف (٢ / ٣٧٣).

١٥٥

جوابا. والمعنى : حتى إذا جاء أمرنا بإهلاكهم.

(وَفارَ التَّنُّورُ) قال علي عليه‌السلام : هو وجه الأرض (١).

قال ابن عباس : قيل له : إذا رأيت الماء قد علا وجه الأرض فاركب أنت وأصحابك(٢).

ونقل عن علي عليه‌السلام أيضا : أنه طلوع الفجر ونور الصبح (٣).

وقال الحسن ومجاهد : كان تنّورا من حجارة (٤).

قال ابن عباس : هو تنّور آدم ، وهبه الله تعالى لنوح عليهما‌السلام ، وقيل له : إذا فار الماء منه فاحمل ما أمرت به ، فإنه هلاك قومك (٥).

واختلفوا في المكان الذي فار منه الماء ؛ فقال علي عليه‌السلام : فار من مسجد

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٣٨) عن ابن عباس وعكرمة ، وابن أبي حاتم (٦ / ٢٠٢٩). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٤ / ١٠٥) ، والسيوطي في الدر المنثور (٤ / ٤٢٢) وعزاه لأبي الشيخ عن عكرمة.

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٣٨) ، وابن أبي حاتم (٦ / ٢٠٢٩). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٤٢٢) وعزاه لسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ٣٨ ، ٣٩) ، وابن أبي حاتم (٦ / ٢٠٢٨). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٤٢٣) مجزءا ، وعزا الجزء الأول من الأثر لابن جرير وابن المنذر. وعزا الجزء الثاني لابن جرير وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٤) أخرجه الطبري (١٢ / ٣٩). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٤٢٢) وعزاه لابن جرير عن الحسن.

(٥) أخرجه الطبري (١٢ / ٣٩) ، وابن أبي حاتم (٦ / ٢٠٢٩). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٤٢١) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.

١٥٦

الكوفة ، وهو قول الأكثرين (١).

وروي عن ابن عباس : أنه فار بالهند (٢).

وقال مقاتل (٣) : فار من دار نوح ، وكانت بالشام في موضع يقال له : عين وردة.

(قُلْنَا احْمِلْ فِيها) أي في السفينة (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) وقرأ حفص : «من كلّ» (٤) بالتنوين هنا وفي المؤمنين (٥) ، أي : من كل شيء ، أو من كل صنف ، زوجين اثنين ، فنصب «زوجين» بالفعل ، وجعل «اثنين» نعتا ل «زوجين». وفيه معنى التوكيد كقوله : (إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) [النحل : ٥١] ، وقوله : (وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ) [ص : ٢٣] ، والباقون عدّوا الفعل إلى «اثنين» وجرّوا «زوجين» لإضافة «كل» إليها.

قال ابن قتيبة (٦) : الزوج يكون واحدا ويكون اثنين ، وهو هاهنا واحد.

قال مجاهد : من كل صنف ذكرا وأنثى (٧).

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم (٦ / ٢٠٢٨). وانظر : الطبري (١٢ / ٤٠) ، والماوردي (٢ / ٤٧٢) ، وزاد المسير (٤ / ١٠٥). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٤٢٢) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٤٠) ، وابن أبي حاتم (٦ / ٢٠٢٩). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٤ / ١٠٦).

(٣) تفسير مقاتل (٢ / ١١٨).

(٤) الحجة للفارسي (٢ / ٣٩٠) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٣٣٩) ، والكشف (١ / ٥٢٨) ، والنشر (٢ / ٢٨٨) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٥٦) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣٣٣).

(٥) الآية رقم (٢٧).

(٦) تأويل مشكل القرآن (ص : ٤٩٨).

(٧) أخرجه الطبري (١٢ / ٤٠) ، وابن أبي حاتم (٦ / ٢٠٣٠) ، ومجاهد (ص : ٣٠٣).

١٥٧

أخرج الإمام أحمد في كتاب الزهد (١) عن وهب بن منبه قال : «لما أمر نوح عليه‌السلام أن يحمل من كل زوجين اثنين ، قال : كيف أصنع بالأسد والبقر ، وكيف أصنع بالعناق والذئب ، وكيف أصنع بالحمام والهرّ ، قال : من ألقى بينهم العداوة؟ قال : أنت. قال : فإني أؤلف بينهم حتى لا يتضاروا».

قوله تعالى : (وَأَهْلَكَ) معطوف على قوله : «اثنين» ، أي : واحمل أهلك.

ومن الأقوال الشاذة قول بعضهم : أنّ «أهلك» فعل ماض مسند إلى الله تعالى ، أي : أهلك الله تعالى كلهم إلا من سبق عليه القول.

والصحيح الأول.

والمعنى : إلا من سبق عليه القول أنه من أهل النار ، يعني : امرأته واعلة ، وابنه كنعان.

(وَمَنْ آمَنَ) أي : واحمل المؤمنين.

(وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) قال ابن عباس وأكثر المفسرين : كانوا ثمانين إنسانا (٢).

قال مقاتل (٣) : أربعين رجلا وأربعين امرأة.

قال ابن عباس : ونجا معه بنوه الثلاثة وكنائنه ـ نساء بنيه ـ (٤).

__________________

(١) لم أقف عليه في المطبوع من الزهد.

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٤٣) ، وابن أبي حاتم (٦ / ٢٠٣٢). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٤٣١) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٣) تفسير مقاتل (٢ / ١١٨).

(٤) زاد المسير (٤ / ١٠٧).

١٥٨

وقال قتادة : ذكر لنا أنه لم ينج في السفينة إلا نوح ، [وامرأته](١) ، وثلاث بنين له ونساؤهم ، فجماعتهم ثمانية ، وهذا قول [القرظي](٢) وابن جريج (٣).

(وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) (٤٣)

(وَقالَ ارْكَبُوا فِيها) أي : قال نوح للذين أمر بحملهم في السفينة : اركبوا فيها.

قال ابن عباس : ركبوا لعشر مضين من رجب ، وخرجوا منها يوم عاشوراء (٤).

قال ابن جريج : دفعت من عين وردة يوم الجمعة لعشر مضين من رجب ، فأتت موضع البيت ، وكان البيت قد رفع في ذلك الوقت ، ورست بباقردى على الجودي [يوم عاشوراء](٥).

__________________

(١) في الأصل : وامرأتيه. والمثبت من زاد المسير (٤ / ١٠٧).

(٢) في الأصل : القرضي. والتصويب من زاد المسير ، الموضع السابق.

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ٤٢) عن قتادة وابن جريج ، وابن أبي حاتم (٦ / ٢٠٣١). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٤٣١) وعزاه لابن جرير وأبي الشيخ عن ابن جريج.

(٤) الماوردي (٢ / ٤٧٣) من قول قتادة ، وزاد المسير (٤ / ١٠٧).

(٥) أخرجه الطبري (١٢ / ٤٧). وأخرج نحوه ابن أبي حاتم (٦ / ٢٠٣٢). وانظر : الوسيط (٢ / ٥٧٥) ، وزاد المسير (٤ / ١٠٧ ـ ١٠٨). وما بين المعكوفين زيادة من زاد المسير (٤ / ١٠٨).

١٥٩

(بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) قرأ حمزة والكسائي وحفص : «مجراها» بفتح الميم والإمالة ، وقرأ الباقون بضم الميم وبالتفخيم ، إلا أبا عمرو فإنه أمال (١).

وأمال «مرساها» حمزة والكسائي ، وأجمعوا على ضم الميم في «مرساها» (٢).

قال الشيخ أبو علي ابن البناء رحمه‌الله : من فتح الميم أراد المصدر من قولك : جرت مجرى ، ومن ضم أراد المصدر أيضا ، لكن من قولك : أجرى يجري مجرى.

قال : وذكر الزجاج (٣) الوجهين ، فقال : من فتح الميم كان المعنى : بالله يكون جريها وإرساؤها. ومن ضمّ فمعناه : بالله إجراؤها وإرساؤها. يقال : أجريته مجرى وإجراء في معنى واحد.

وقال صاحب الكشاف (٤) : يجوز أن يكون كلاما واحدا وكلامين ، فالكلام الواحد : أن يتصل (بِسْمِ اللهِ) ب «اركبوا» حالا من الواو ، بمعنى : اركبوا فيها مسمّين الله ، أو قائلين : باسم الله وقت إجرائها ووقت إرسائها ؛ إما لأن المجرى والمرسى للوقت ، وإما لأنهما مصدران كالإجراء والإرساء ، فحذف منهما الوقت المضاف كقولهم : خفوق النجم ، ومقدم الحاج.

والكلامان : أن يكون (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) جملة مقتضية من مبتدأ وخبر ، أي : بسم الله إجراؤها وإرساؤها.

__________________

(١) الحجة للفارسي (٢ / ٣٩٣) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٣٤٠) ، والكشف (١ / ٥٢٨) ، والنشر (٢ / ٢٨٨ ـ ٢٨٩) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٥٦) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣٣٣).

(٢) انظر : المصادر السابقة.

(٣) معاني الزجاج (٣ / ٥٢).

(٤) الكشاف (٢ / ٣٧٣).

١٦٠