مصنّفات ميرداماد

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]

مصنّفات ميرداماد

المؤلف:

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]


المحقق: عبدالله نوراني
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: منشورات مطبعة وزارة الإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-528-006-0
الصفحات: ٥٢٧
الجزء ١ الجزء ٢

والأجزاء مفروغ عن اعتبارها فى حقيقة المركّب حين ما يقصد أن يعتبر استناده إلى العلّة المفيضة ومعتبرة فيما هو المستند إليها.

وهذا ، كما علّمناك فى مباحث الجعل ، أنّ الجاعل يفيض وجود الماهيّة : بأن يبدع نفس الماهيّة ، فيلزمها بعين ذلك الإبداع أن تكون موجودة ، لا أنّه يبدع نفسها. ثمّ هى تقتضى أن تكون موجودة ، على أن تكون هى واسطة فى التّأثير. وكيف يعقل أن تكون ماهيّة مؤثّرة فى وجود نفسها.

فأمّا قول بعض من يحمل عرش التّحصيل والتّحقيق (١) : «إنّ المؤثّر التّامّ القريب فى كلّ مجموع آحاده بأسرها ممكنة لا يمكن أن تكون غير آحاده بأسرها ؛ والبعيد يكون مؤثّرا فى الآحاد بأسرها وبتوسّطها فى المجموع».

وأمّا المجموع الّذي بعض آحاده الواجب ، فالمؤثّر التّامّ القريب فيه ليس إلاّ آحاده بأسرها ، ولا يتصوّر مؤثّر بعيد فيه إلاّ بتوسّط بعض الأجزاء ، فلو كان للمجموع مؤثّر تامّ غير الآحاد لكان ذلك المؤثّر غير قريب ، بل كان مؤثّرا فى الآحاد بأسرها قبل تأثيره فى المجموع ؛ فإن صادف الحقّ من جهة التّفطّن للفرق بين الآحاد بالأسر وبين المجموع الّذي هو معروض المعيّة اللاّحقة ؛ فإنّ الآحاد بالأسر غير الكلّ الأفرادىّ بالذّات وغير المجموع المعروض لاعتبار التّألف بالاعتبار. والحكم بأنّ المؤثّر التّامّ فى كلّ مجموع يجب أن يكون مؤثّرا فى آحاده بأسرها ؛ فإنّ المؤثّر التّامّ فى البعض ليس مؤثّرا تامّا فى المجموع ، لكنّه يصادم الصّدق من جهة الغفول عن نحوى العلّة فى علّة تقوّم الماهيّة وعلّة تقريرها.

فكون الشّيء ما يتألّف منه تقوّم الماهيّة وراء كون الشّيء ما يفعل تقرّر الماهيّة المتألّفة ويفيض نفسها ، والآحاد بالأسر علّة تامّة لتمام تقوّم المجموع ، لا أنّها الجاعل لتقرّره ، والمؤثّر التّامّ فيه ، بل المؤثّر التّامّ فيه هو المؤثّر التّامّ فيها على ما حققناه.

__________________

(١). هو خاتم الحكماء نصير الملة والدين الطوسىّ ، نوّر اللّه. منه مدّ ظلّه.

٤٨١

<١> تذنيب

فإذن ، افتياق الشّيء المركّب إلى ما هو جزء لذاته وبحسب جوهر ماهيّته. وأمّا افتياقه إلى ما هو خارج عن قوام حقيقته فإنّما هو من جهة جزئه. فالفاقة إلى الجزء هى فاقة نفس الذّات من حيث الذّات ، والفاقة إلى المؤثّر وإلى كلّ علّة خارجة عن الذّات هى بالحقيقة فاقة الجزء أو الأجزاء بأسرها. وربما يفتاق هو إلى بعض الأجزاء بحسب جوهر الذّات ولكن من تلقاء ذات الجزء. وذلك إذا كان ذلك البعض جزء الجزء ، لا جزءا أوّليّا.

وقد يعرض لكلّ من المادّة والصّورة أن يكون علّة بواسطة وبغير واسطة معا من وجهين.

أمّا المادّة ، فإذا كان المركّب ليس نوعا ، بل صنفا ، وكانت الصّورة الّتي تخصّ باسم الصّورة هيئة عرضيّة ، فحينئذ تكون المادّة مقومّة لذلك العرض الّذي يقوّم ماهيّة ذلك الصّنف من حيث هو صنف ، فتكون علّة ما للعلّة ، لكنّها من حيث المادّة جزء من المركّب وعلة مادّيّة ، فلا واسطة بينهما.

وأمّا الصّورة ، فإذا كانت هى صورة حقيقيّة ، أى من مقولة الجوهر ، وكانت تقوّم المادّة بالفعل ، والماهيّة علّة لماهيّة المركّب ، فتكون علّة ما لعلّة المركّب ؛ لكنّها من حيث الصّورة جزء من المركّب وعلّة صوريّة ، فلا واسطة بينهما ، وتقوّم ماهيّة المركّب يترتّب على الأجزاء بالأسر بالذّات أيسا وليسا.

وأمّا التّرتّب على الصّورة كذلك ، فليس بالذّات ولا من حيث هى جزء من الأجزاء ، بل من حيث إنّها هى الجزء الأخير والمقوّم الّذي لا مقوّم بعده.

فالأجزاء بالأسر : إن لوحظت من حيث هى أشياء كثيرة هى المقوّمات كانت علّة تامّة هى مقوّمات وعلل لتقوّم الحقيقة ؛ وإن لوحظت بما هى شيء تامّ التنوّع والتّقوّم وعزل النّظر فيها عن اعتبار الكثرة بالقصد الأوّل كانت شيئا مجملا تترتّب عليه آثار التّنوّع ، والتّقوّم هو بعينه المتأخّر المعلول المتألّف من تلك العلل.

٤٨٢

وليس تفصيل ذلك المجمل إلاّ نفس تلك المقوّمات الكثيرة بالأسر الملحوظة من حيث هى هى لا بشرط المعيّة واللاّمعيّة أصلا ؛ فإنّ تلك هى عين المجموع المجمل بالذّات وإن غايرته بالأغيار دون الكلّ الأفرادىّ الملحوظ فيه كلّ واحد واحد على البدليّة بلحاظ اللاّمعيّة ، كما فى قولهم : «الدّار تسع القوم كلّهم ، لا معا ؛ إذ تلك بذلك اللّحاظ عن المجموع المجمل على مغايرة غائرة وبون باين».

<١٢>إفصاح

التّقدّم بالعلّيّة هو تقدّم العلّة الفاعلة من حيث قد استبدّت هى بالعليّة ، إذ لم يشذّ عن الحصول معها بالفعل شيء ما ليس منه بدّ فى الإفاضة : بأن يتحقق كلّ ما يفتاق إليه المعلول فى حصول صدوره عنها بالفعل. فالفاعل حينئذ هو بعينه المفيض الموجب بالذّات. وأمّا العلّة التّامّة ـ وهى آحاد المتقدّمات بالطبع بأسرها ـ فهى ليست شيئا واحدا متقدّما بتقدّم واحد ، بل أشياء كثيرة متقدّمة بتقدّمات عدّة ، كلّ منها تقدّم واحد بالطبع ولا المعلول يتوقّف عليها بتوقّف واحد ، بل إنّما بتوقّفات شتّى.

فإن لوحظت تلك المتقدّمات باعتبار التّأليف حتى يحصل بذلك الاعتبار شيء واحد هو مجموعها لم يكن فى ذلك استيجاب أن يكون هذا الشّيء يستحقّ البتة أن يتقدّم.

فمجموع المتقدّمات ليس يلزمه أن يكون له أيضا تقدّم حتى يكون هناك تقدّم آخر وراء التّقدّمات الّتي هى للآحاد. وأ ليس لو لزم ذلك لم تكن الّتي فرضت المتقدّمات والعلل بالأسر المتقدّمات والعلل بالأسر ؛ ولا الّذي فرض مجموع المتقدّمات والعلل بالأسر مجموع المتقدّمات والعلل بالأسر.

ومن حيث تبيّن فساد كون العلّة التّامّة شيئا له تقدّم على المعلول وراء التقدّمات الّتي هى لآحاد العلل ، فسد ما يوضع تبيانا لفساده أنّ ذلك يستلزم تقدّم المعلول المركّب على نفسه بدرجتين ، ضرورة كون مجموع المادّة والصّورة ، وهو نفس

٤٨٣

المعلول جزءا من العلّة التّامّة المتقدّمة ، فيكون متقدّما عليها.

أما اتّضح أنّ كون المادّة والصّورة ، بما هما شيئان ، جزءين من العلّة التّامّة ومن معلولها ليس يستلزم كونها بحسب اعتبار التأليف جزءا ، بل إنّما اللاّزم أن يكون المعتبر بذلك الاعتبار مجموع الجزءين.

فإن قيل : خروج الكلّ عن شيء من دون خروج شيء من أجزائه عنه فطريّ الاستحالة. فلو دخل كلّ جزء من مجموع ما فى شيء ما كان المجموع إمّا عين الشّيء أو جزءه. وإذ يدخل غير المادّة والصّورة فى العلّة التّامّة فمجموعهما جزء منها قطعا.

قيل : دخول كلّ جزء من مجموع ما فى الشّيء إذا كان للشّيء جزء آخر إنّما يستوجب أن يكون المجموع (١٧٦) جزءا منه باعتبار ما ، لا كونه جزءا منه بقاطبة الاعتبارات ؛ فقد يكون جزءا منه باعتبار ، خارجا عنه باعتبار آخر. وخروج الكلّ لا بخروج جزء ما ، إنّما استحالته فطريّة إذا كان هو بقاطبة الاعتبارات خارجا.

فالمادّة والصّورة ، بما هما تلحظان فى حيّز الكثرة ، جزءان ومتقدّمان ؛ وبما هما ملحوظان فى حيّز الوحدة اللاّحقة بحسب اعتبار التّألف شيء هو مجموعهما. فهما بهذا اللّحاظ عين المعلول ، لا من أجزاء العلّة.

أليس كلّ نوع من أنواع العدد إنّما تألّفه بنوعيّته من الوحدات الّتي هى أجزاؤه ، لا من الأعداد الّتي تحته. فكلّ من أجزاء العدد الّتي هو الثّلاثة ، مثلا ، جزء من العدد الّذي هو الأربعة. وليس مجموع تلك الأجزاء ـ وهو العدد الأوّل ـ جزءا من العدد الأخير.

وهذا الحكم ليس له تخصّص بما إذا اثبت للعدد جزء صورىّ ، كما قد ظنّ ، بل إنّه متمشّ على مسلك التّحصيل أيضا. وهو أنّه ليس لكلّ عدد صورة نوعيّة مغايرة لوحداته ، بل إنّ كلّ مرتبة من الأعداد نوع آخر متميّز عن سائر المراتب بخصوصيّة المادّة فقط ، لا بصورة مغايرة لموادّها. وهذا من خواصّ الكم الانفصالىّ. وكأنّ الظّانّ إنّما عضّل عليه الأمر غموض افتصال الأمر بالأمر عن مجموع الأجزاء.

٤٨٤

ولعلّ بين الاعتبارين فرقا جليّا عند تأمّل دقيق. فإذا جبّ عرق الاصول وافتصل أحد الاعتبارين عن الآخر استوى الحكم فيما له جزء صورىّ أو ما بمنزلته وفيما ليس له ذلك ، كالكثرة الصّرفة. ثمّ هل الأجزاء المادّيّة والصّوريّة بأسرها فى ذلك إلاّ كالأجزاء المادّية. فقط بأسرها فى هذا.

فإذا لم يكن اعتبار الأجزاء بالأسر غير اعتبار مجموع الأجزاء بلحاظ التّأليف فى ذا ، لم يكن اعتبار الأجزاء المادّيّة والصّوريّة بأسرها غير اعتبار مجموع تلك الأجزاء بحسب لحاظ التأليف فى ذاك أيضا. فلا يتوهّم الفصل بين المقامين إلاّ ما إذا احقوقف التّأمّل واسخوخف الوجدان. (١)

فالمعلول المركّب مطلقا إذا كان تألّفه من الممكنات الصّرفة إنّما تكون أجزاؤه بالأسر أجزاء علّته التّامّة ومتقدّمة عليها ، وأمّا مجموع تلك الأجزاء فعين المعلول وخارج عن العلّة ، والعلّة التّامّة مجموع العلل المتقدّمات ، لا العلّة المتقدّمة.

وإن سألت الحقّ فالمفتاق إليه بالذّات ليس إلاّ المتقدّم بالعليّة ، وهو العلّة الفاعلة بالفعل ، أعنى الجاعل الموجب. وأمّا سائر العلل فليست مفتاقا إليها بالذّات ، بل إنّما افتاق المعلول إليها فى تهيّئ الاستناد إلى الفاعل الموجب وصلوح الفيضان عنه بالفعل.

فإذن ، المتقدم المفتاق إليه بالذّات وبالقصد الأوّل هو الجاعل الموجب التّامّ. وأمّا الافتياق إلى سائر العلل والتأخّر عنها فإنّما بالقصد الثّاني.

ثمّ إنّ ذلك أيضا ـ على ما قد تلونا عليك نسخا للذّائعات الغير المحمودة وفسخا للضّابطات الغير الموثّقة ـ إنّما يصحّ فى العلل الخارجة عن جوهر ذات المعلول ، كالشّرط والمعدّ. وأمّا جوهريّات الماهيّة وأجزاؤها فلا يسوغ أن تعدّ من المفتاق إليه فاقة الاستناد أصلا ولو بالقصد الثانى ، بل إنّما يفتاق إليها المعلول المركّب منها فاقة التّألّف فحسب ؛ لأنّها موضوعة فى حيّز المفتاق متمّمة لقوامه ، لا أنّها ملحوظة

__________________

(١). احقوقف : اى اعوجّ. واسخوخف : اى سخف وضعف. منه ، مدّ ظلّه.

٤٨٥

فى حيّز المفتاق إليه.

ألسنا ، أوّلا ، نضع شيئا قد تمّ تقوّمه النّوعىّ وتألّفه الجوهرىّ ، ثمّ ننظر فيما يفتاق إليه ذلك الشّيء فى تقرّره وفعليّته بالذّات ، وهو المفتاق إليه فاقة الصّدور والاستناد بالقصد الأوّل. وفيما يتوقف استناد تقرّره وفعليّته إليه بالفعل عليه ، وهو المفتاق إليه فاقة الصّدور والاستناد بالقصد الثانى.

<١٣> تذكير

لعلّك غير ناس ما قد أسمعناك من قبل : أنّ طباع : وجد فوجد ، أو وجب فوجب ، إنّما مقتضاه : أنّ ما هو العلّة متقدّم بالوجود أو الوجوب ، لا أنّ ذلك الوجود أو الوجوب المتقدّم من جملة ما هو الموصوف بالعليّة. فقد يكون الأمر كذلك ، كما إذا كان المتأخّر بالوجود والوجوب من عوارض الشّيء المتقدّم بحسب وجوده ووجوبه ؛ كقولنا : وجد الجسم ، فصار أبيض ؛ وقد لا يكون ، كما إذا كان هو من عوارضه بحسب نفس ماهيّته المرسلة ، كقولنا : وجد المثلّث ، فصار ذا الزّوايا.

<١٤> إحصاء استقصائيّ

السّبق بالماهيّة من حيّز الجعل البسيط ، والسّبق بالطبع والسّبق بالعليّة من حيّز الجعل المؤلّف. والمتّصف بالسّبق بالماهيّة إنّما هو جوهريّات الماهيّة بالقياس إليها ونفس الماهيّة بالقياس إلى وجودها وجاعل الماهيّة جعلا بسيطا ؛ إلاّ أنّ سبق الماهيّة على وجودها ليس إلاّ السّبق بالماهيّة ؛ إذ يمتنع أن يكون بحسب الوجود أو كيفيّته حتّى يكون بالطبع أو بالعليّة ؛ وجوهرىّ الماهيّة أنّ له عليها سبقا بالماهيّة. فربّما يقال : إنّه يتّصف أيضا بالسّبق عليها بالطبع بحسب الوجود ، لكونه من علل وجود الماهيّة ، كما أنّه من علل نفسها وداخل فى قوامها.

وذلك إن قلنا بالجزئيّة فى طرف الخلط والتّعرية أو بما يشبه السّبق بالطبع إن

٤٨٦

قلنا : إنّ الحكم بالجزئيّة هناك أيضا إنّما هو على سبيل المسامحة والتّشبيه ، لا على الحقيقة. أو يدقّق التّأمّل فيقال : إنّه إنّما يقع فى حيّز المفتاق ، لا فى حيّز المفتاق إليه ، فسبقه على الماهيّة بالطبع إنّما معناه : أنّ العقل بعد التحليل بلحاظ التّحصّل والإبهام يجد الجوهرىّ الموجد أحقّ ما يوجد أوّلا من تلقاء الجاعل ، لا بإيجاد منحاز ووجود مغاير ، بل بنفس إيجاده الماهيّة وبعين وجودها الّذي لها من تلقائه.

وأمّا الأجزاء العينيّة ، كالمادّة والصّورة الخارجيّتين ، فإنّما قوام جوهر الماهيّة بها بحسب خصوص وقوعها فى الأعيان ، فسبقها على الماهيّة باعتبار التّقرّر إنّما يكون بحسب خصوص تجوهرها فى الأعيان ، لا بحسب نفس الماهيّة بما هى هى.

وكذلك الأجزاء العقليّة ، كالمادّة والصّورة العقليّتين ، إنّما تقوم نفس الماهيّة بها بحسب خصوص تمثّلها فى العقل ، لا بحسب سنخ الماهيّة بما هى هى. ولذلك ما إنّ التّحديد ليس يصحّ إلاّ بالجوهريّات ، لا بالأجزاء العينيّة أو العقليّة ؛ إذ الحدّ إنّما يقع بما يدخل فى قوام الماهيّة المتقرّرة الموجودة بما هى هى ، لا بما هى موجودة.

وجاعل الماهيّة أيضا سبقه عليها سبق بالماهيّة ، وربما يتقدّم عليها تقدّما بالعلّيّة أيضا. وذلك إذا كان بذاته مبدأ إيجاب المعلول ؛ كالقيّوم الواجب بالذّات ـ تعالى شأنه ـ بالقياس إلى المجعول الأوّل.

فإن لم يشترط فى المتقدّم بالطبع أن لا يكون متفرّدا بالعليّة ، بل يكون علّة غير مجدية، وإنّما اعتبر مجرّد أن يأخذ تقدّمه بحسب الوجود ، كان له ـ تعالى كبرياؤه ـ على مجعوله الأوّل تقدّم بالطبع أيضا ، حيث إنّ الوجود هناك ما به التّقدّم من حيث لحاظ بحت الفاعليّة وإن كان التّقدّم بالعلّيّة أيضا تقدّما متحققا من حيث إنّ هذا الفاعل موجب تامّ بذاته.

وأمّا سائر العلل ، فلا يلحظ فى سبقها على المعلول إلاّ الوجود ، والتّقرّر إنّما يلحظ بالعرض من حيث إنّ الوجود لا يفارق التّقرّر ، بل يتبعه لزوما على البتّ.

ثمّ إنّ للشّيء لواحق بحسب مرتبة تقرّر سنخ الماهيّة ، ولواحق بحسب مرتبة الوجود فى الأعيان أو فى الذّهن ، وفى اللّواحق بحسب مرتبة التّقرّر ، كالوجود

٤٨٧

والوجوب السّابق والإمكان ، ولوازم الماهيّة بالاصطلاح الشّائع متقدّمة على اللّواحق بحسب الوجود ، كالأعراض العينيّة أو اللّوازم الذّهنيّة أو اللّوازم الماهيّة والإضافات والسّلوب المنتزعة بحسب الوجود فى الأعيان أو فى الذّهن وسبق لواحق الذّات بحسب تقرّر سنخ الماهيّة (١٧٧) على اللّواحق بحسب الوجود من توابع السّبق بالماهيّة.

وللماهيّة على اللاّحق بحسب الوجود ، كالجسم على البياض ، نحوان من السّبق : سبق بالماهيّة بنفس التّجوهر وسبق بالطبع بالوجود. أليس المعروض للبياض هو الجسم الموجود ، على أنّ الوجود له مدخل فى المعروضيّة ، بخلاف معروض الوجود ؛ فإنّه نفس الماهيّة المرسلة ، لا الماهيّة الموجودة ، ولذلك كان سبق الماهيّة على الوجود سبقا بالماهيّة فقط.

ثمّ قد كان قرع سمعك واستبان لك فيما قد سلف : أنّ وجود الماهيّة سابق على لوازمها ، لا لأنّ الوجود يدخل فيما يستند إليه لازم الماهيّة. فقد كنت تعرّفت أنّ علّة اللاّزم نفس الماهيّة المرسلة ، لا الماهيّة باعتبار مطلق الوجود ، كما توهّم بعض المجازفين ، بل لأنّ علّة الشّيء يتقدّم عليها بالوجود تقدّما بالذّات وإن لم يكن للوجود مدخل فى العلّيّة ، ولأنّ الوجود أوّل ما يتبع تقرّر الماهيّة وينتزع منها ، وليس طباع لازم الماهيّة يستدعى ذلك ، بل إنّ سنّة الماهيّة المتقرّرة وشاكلة الوجود تستحقّانه ، إذ الوجود ليس مطابقة إلاّ نفس الماهيّة المتقرّرة ، ولا كذلك الأمر فى لوازم الماهيّة.

فإذن ، الوجود متقدّم على لوازم الماهيّة تقدّما بالماهيّة وليس داخلا فيما تستند هى إليه. كما أنّ لازم الماهيّة يتقدّم على غيرها من اللّواحق المتأخّرة تقدّما بالماهيّة فقط ، لا بالوجود ؛ إذ التقدّم بالوجود ينحصر فى سبق العلّة على المعلول ناقصة أو تامّة ، وليس يتعدّاه ، بخلاف التّقدّم بالماهيّة. وعند هذا ، فقول شيخ فلاسفة الإسلام فى إلهيّات الشفاء : «ما يلحق جوهر الشّيء بذاته أقدم ممّا يلحقه بغيره فى مرتبة متأخّرة» ، قد اقترّ مقرّه.

٤٨٨

<١٥> حكمة يمانيّة

المتقدّم والمتأخّر بالماهيّة ، إذا اتّحدا حقيقة ووجودا ، كالشّيء وكلّ من جوهريّاته ، أو بحسب الوقوع فى الأعيان فقط ـ على أن لا يكون فى الأعيان إلاّ نفس ماهيّة المتقدّم فقط ، لا على أن يكون المتأخّر موجودا فى الأعيان بعين وجود المتقدّم ، كالماهيّة والوجود ـ لم يكن للمتقدّم بالماهيّة على ما يتأخّر عنه تأخّرا بالماهيّة تقدّم سرمدىّ أيضا ؛ وذلك باطل.

وأمّا إذا كانا متباينين بالحقيقة وبحسب الكون فى الأعيان جميعا ، كجاعل نفس الماهيّة ، أى : مفيضها ، بالجعل البسيط والماهيّة المجعولة ، فلا محيص من أن يكون للمتقدّم بالماهيّة تقدّم سرمدىّ أيضا على ما يتأخّر عنه بالماهيّة وينقلب سبقه السّرمديّ بعد إفاضة ماهيّة المسبوق وجعله إيّاها إلى المعيّة الدّهريّة وينحفظ سبقه بالماهيّة على شأنه ، فيكون له بالقياس إليها معيّة بالدّهر وسبق بالماهيّة ، وكذلك بالعليّة. وذلك حيث يكون فاعل الماهيّة غير زمانىّ هو وتأثيره ، بل كان فعله نفس الماهيّة فى الأعيان ، لا فى زمانىّ ما أو فى جميع الأزمنة.

<١٦> مرصاد

إنّى انيلك دراية عست أن تجديك فى مقامات كثيرة : التّقدّم والتأخّر بالذّات بحسب التّقرّر والوجود المحمول يتعاكسان بحسب الوجود الرّابط ، لكنّ التّعاكس إنّما يكون باعتبار مطلق القدر المشترك بين الأضرب الثّلاثة ، لا باعتبار خصوصيّات الأنحاء ، أعنى بذلك أنّ المتأخّر عن الشّيء بالذّات فى التقرّر والوجود المحمول ، سواد كان تأخّره بالماهيّة أو بالطبع أو بالعليّة ، فإنّه ينعكس بحسب الوجود الرّابط متقدّما عليه والمتقدّم متأخّرا بالمعلوليّة. ولا يلزم أن ينقلب ما هو العلّة معلولا ، بل إنّما يكون وصف ما يعتبره العقل للمعلول علّة لمفهوم ما إضافىّ عارض للعلّة.

فالجسم ، مثلا ، متقدّم على الحيوان بحسب التّقرّر تقدّما بالماهيّة ومتأخّر عنه

٤٨٩

بحسب الثّبوت للإنسان والحمل عليه تأخّرا بالمعلوليّة ؛ فإنّ كون الإنسان حيوانا سبب موجب تامّ لكونه جسما الجسميّة المحمولة على الحيوان ، أى الحصّة المتخصّصة به. وكذلك كون الشّيء أسود ، مثلا ، علّة موجبة لكونه ذا اللّون المحمول عليه. وإن كان اللّون فى نفسه مقوّما للسّواد فى نفسه متقدّما عليه بالماهيّة ، والشّرط متقدّم على المشروط بحسب الوجود المحمول تقدّما بالطبع ومتأخّر عنه تأخّرا بالمعلوليّة بحسب الثّبوت الرّابط ؛ فإنّ كون الشّيء ذا شيء مشروط سبب موجب لكونه ذا شروط ذلك الشّيء بما هى شروطه ، والعلّة الموجبة للذّات المؤلّفة متقدّمة عليها بحسب وجوب الوجود المحمول تقدّما بالعليّة وثبوتها الرّابط عن ثبوتها الرّابط تأخّرا بالمعلوليّة ؛ فإنّ كون الشّيء ذاتا مؤلّفة علّة موجبة لكونه ذا علّة موجبة للذّات المؤلّفة ؛ وكذلك كون الشّيء ذا الشّيء الّذي له ذات مؤلّفة علّة موجبة لكونه ذا تلك العلّة الموجبة لتلك المؤلّفة بما هى علّة موجبة لها.

فإذن ، المتقدّم بالذّات بحسب التقرّر والوجود المحمول ، أىّ ضرب كان ، من أضرب التّقدّم بالذّات ، قد صار ثبوته الرّابط ، أى انتسابه إلى شيء متأخّرا بالمعلوليّة عن الثّبوت الرّابط لما هو المتأخّر عنه فى نفسه بالماهيّة أو بالطبع أو بالعليّة ، أى : انتسابه إلى ذلك الشّيء بعينه.

<١٧> تبيين

يقال : إنّ السّبق الرّتبىّ هو كون أحد الشّيئين بالنّسبة إلى مبدأ محدود أقرب من الآخر ، وهو المسبوق. ويرام أنّه كون الشّيء نفس المبدأ المحدود أو أقرب إليه. فالسّابق بالرّتبة على الإطلاق هو المبدأ الّذي يضاف إليه أشياء اخر ، فيكون بعضها أقرب منه وبعضها أبعد ، مثل الجنس الأعلى فى حكم الجنسيّة والنّوع السّافل فى حكم النّوعيّة.

وأمّا بعد المطلق فالسّابق هو أقرب المنسوبين إلى ذلك المبدأ منه ؛ فإنّ ما هو أقرب الاثنين منه فهو أقدم فى المرتبة ، مثل الجسم ، فإنّه يتقدّم على الحيوان إن

٤٩٠

اعتبر الابتداء من الجنس الأعلى. والحيوان أقدم من الجسم إن اعتبر ذلك من النّوع الأسفل. والسّابق بالرّتبة ليس بحسب ذاته أن يكون سابقا ، بل إنّما بحسب النّسبة المذكورة. ولذلك قد ينقلب الأسبق ، فيصير الأشدّ تخلفا.

وإذ التّرتيب فى الأشياء قد يكون طبعا ، كما فى العلل والمعلولات المترتّبة ، سواء اعتبرت على التّنازل من العلّة أو على التّصاعد من المعلول ، وقد يكون وضعا ، كما فى الصّفوف فى المكان منسوبة إلى مبدأ الوضع.

فالسّابق بالمرتبة قد يكون فى امور عقليّة وقد يكون فى امور عقليّة وقد يكون فى امور وضعيّة. ثمّ قد يكون بالطبع ، كما فى الأجناس والأنواع المتنالية ، وقد يكون بالاتفاق ، كالّذي يقع متقدّما فى الصّف الأوّل ، فيكون أقرب إلى المحراب ، وقد يكون بالأحرى ، كما فى تقديم إيساغوجى وقاطيغورياس على باريرميناس فى الميزان.

فإذن ، المتقدّم بالمكان قد يكون سبقه الرّتبىّ فى الوضع بالاتفاق ، كالصّف الأوّل ، من صفوف المجلس ، وقد يكون فى الوضع بالطبع ، كالنّار المستقرّة فى حيّزها بالقياس إلى الهواء. وكذلك سائر الأجرام البسيطة ، كفلك زحل ، المتقدّم على فلك المشترى ، إن جعل المحدّد مبدءا. والعكس إن جعل فلك القمر مبدءا. وكذلك المتقدم الرّتبىّ فى العقليّات ؛ وقد يقع السّابق بالمرتبة فى العلوم البرهانيّة. فالمقدّمات قبل الأقيسة والنّتائج. وكذلك الحروف قبل الهجاء ، والصّدر فى الخطبة قبل الاقتصاص.

وإن أشكل عليك الأمر فظننت أنّ المقدّمات قبل القياس ليس فى المرتبة ، بل بالطبع ؛ فإنّه إن كان القياس كانت المقدّمات وليس إن كانت المقدّمات كان القياس. وكذلك فى الحروف والهجاء.

قيل لك : ألم نسمعك أنّه قد تحشد تقدّمات مختلفة فى متقدّم بعينه من حيثيّات شتّى ، فليس يمتنع أن يكون القبل بالطبع قبلا فى المرتبة من وجه آخر ، كما أنّ القبل بالعليّة قبل البعد بالمعلوليّة بالرّتبة الطّبيعيّة إذا وقع الابتداء من العلّة ، [فيكون فيه (١٧٨) نحوان من القبليّة بالقياس إليه وبعديّة

٤٩١

بالرّتبة الطبيعيّة إذا وقع الابتداء من المعلول] فيكون فيه قبليّة بالعلّيّة وبعديّة بالرّتبة طبعا.

فالمقدّمة بالقياس إلى القياس متقدّمة بالطبع وبالمرتبة الطبيعيّة جميعا ؛ فإنّ النّظر هناك فى المقدّمة ليس بحسب نفسها ، بل بحسب استعمالنا إيّاها فى التعليم.

ونحن نتناول المقدّمات مرّة على طريق التّحليل ومرّة على طريق التّركيب. فإن سلكنا مسلك التّركيب كانت المقدّمات قبل القياس ، وإن سلكنا سبيل التّحليل ، بأن فرضنا ، أوّلا ، النّتيجة وطلبنا وسطا انعقد لنا القياس بعد النّتيجة. ولأنّ أخذ الوسط بين الطرفين على أنّه مشترك بينهما قبل تخصيصه بأحدهما ، حتى تحصل إحدى المقدّمتين بصفة ؛ وبالآخر حتى تحصل الاخرى بصفة ، فيكون القياس منعقدا لنا أوّلا ، ثمّ نتدرّج منه إلى اعتبار مقدّمة ما حافظ. وكذلك الأمر فى الهجاء والحروف.

فإذن ، التّرتيب الواحد يكون موضوعا للتركيب والتّحليل. والمتقدّم بحسب التّركيب فى المرتبة غير المتقدّم بحسب التّحليل. وذلك بحسب استعمالنا المقدّمة. وهى وإن كانت متقدّمة بالطبع من حيث نفسها ، فليست متقدّمة من حيث الانتهاء إليها بالتّحليل ، بل هى متأخّرة بالرّتبة طبعا بحسب التّحليل ، ولا تقدّمها بالرّتبة طبعا من حيث الابتداء منها بالتّركيب هو عين تقدّمها بالطبع ، من حيث نفسها. فلها بحسب نفسها تقدّم بالطبع وبحسب التّركيب تقدّم بالرّتبة الطبيعيّة. على أنّا فى اعتبار التقدّم فى المرتبة لا نولّى وجوهنا شطر الالتفات إلى حال الشّيء بحسب نفسه أو إلى حاله من جهة استعمالنا إيّاه ، بل إنّما نلتفت إلى حال نسبته إلى طرف اتّخذناه مبدءا.

والمقدّمات المنتظمة من الفطريّات الأوائل وما يجرى مجراها إلى النّتيجة القصوى المقصودة منتظمة بين طرفين هما النّتيجة والمبدأ الأوّل. فما هو أقرب منها فهو أبعد منها وما هو أقرب منه فهو أبعد منها. فقد يختلف مقدّمتان فى القرب

٤٩٢

والبعد من أحد الطرفين ويكون حكمهما بالقياس إلى الطرف الآخر على الخلاف. فأقربهما من الطرف الأوّل أبعدهما من الطرف الآخر وبالعكس.

<١٨> تكملة اختتاميّة

المعنى الّذي فيه السّبق فى التّقدّم بالكمال والشّرف هو نفس المعنى المجعول ، كالمبدإ المحدود ، لا التّرتيب بحسب القرب والبعد منه ، كما دريت فى السّبق بالرّتبة الحسّيّة أو العقليّة. فإذا كان لأحد الشّيئين من ذلك المعنى ، أى : من نفسه ، ما ليس للآخر ، وليس للآخر منه إلاّ ما لذلك الأوّل ، بل إلاّ عضة ممّا له ، كان هو متقدّما بالكمال والشّرف على ذلك الآخر. فالمتقدّم بالشّرف هو الفائق الفاضل بل الزّائد بالكمال ولو فى معنى ما غير الفضل والشّرف.

ومن هذا القبيل ما جعلوا المخدوم والرّئيس قبل بالشّرف ؛ فإنّ للرئيس من الاختيار ما ليس للمرءوس ، وليس للمرءوس منه إلاّ بعض ما للرّئيس. فهذا المعنى بحسب نفسه أمر محصّل معدود من أقسام السّبق. وهو غير القسم الّذي يتسبّب هو له أكثريّا ، أعنى السّبق بالرّتبة ، كالتّقدّم المكانىّ فى المحافل غالبا ؛ فإنّه سبق بالرّتبة الحسّيّة. وأكثر ما يكون سببا له إنّما هو السّبق بالشّرف ، أعنى الزّيادة فى الفضل والكمال ، أى فى نفس المعنى الّذي فيه السّبق. وربّما يكون هو سببا للتقدّم الزّمانىّ ، كما يقصد إلى السّابق فى الكمال على شيء أولا ، أى فى زمان متقدّم ، ثمّ إلى الشّيء المسبوق به ، بل فيه أخيرا ، أى : فى زمان متأخّر.

فإذن ، سقط ما يتوهّم ، من إرجاع السّبق بالشّرف إلى السّبق بالرّتبة أو السّبق بالزّمان. وظهر أنّ كلّ ما هو أزيد فى معنى ما من شيء آخر ، فهو أسبق منه بالشّرف والكمال إذا جعل نفس ذلك المعنى بحسب الثّبوت لهما ، كالمبدإ المحدود. ولذلك ما إنّ المتقدّم بالشّرف من جهة ربّما يكون متأخّرا بالشّرف من جهة اخرى بالقياس إلى شيء بعينه.

وإذ قد نفضنا النّفس نفضا ورفضنا الوهم رفضا ، فومضت لنا بارقة الحقّ

٤٩٣

ومضا ، ورمضت ساهرة العقل رمضا ، فبلغنا بسلوك السّرّ وصعود الرّوع حدّا من تقويم الحكمة وترميم الفلسفة لم يكن ارتقاب الوصول إليه لشركائنا اللّذين سبقونا برياسة الصّناعة فى الأوّلين. فعلى ذلك فليكن اختتام هذا الفصل ، والحمد للّه ربّ العالمين.

٤٩٤

فصل خامس

<آراء أهل الحكمة والكلام وختم المسافة السّادسة >

يؤتى فيه بما هناك من الآراء المتشتّتة والأهواء المتشعّبة بقضّها وقضيضها ، سواء وقعت فى الفلسفة النّيّة الّتي ظنّتها ظنون المتفلسفين أو الطريقة الّتي خيّلتها أوهام فئة تلقّبت بالمتكلّمين ؛ ثمّ يجاء بأنواع المعيّة وأحكامها. فهنا لك تختم المسافة السّادسة بفضل اللّه وسماح طوله.

<فى الفصل الخامس اثنتى عشرة عنوانا >

<١>إخاذة

قد ذاع لدى الجماهير مغريا إلى الفلاسفة تخميس أقسام السّبق بالانتقال عن السّبق السّرمديّ بالدّهر لاحتباس الّذي يجب بحسبه أن يتخلّف السّابق عن المسبوق فى التّحقّق البتة فى السّبق بالزّمان وعن السّبق بالماهيّة لاحتباس السّبق العقلىّ بالذّات فى الّذي بالطبع والّذي بالعليّة.

ثمّ إنّ قرنا آخرين يتلقّبون بالمتكلّمين من أحداثهم يسدّسون الأقسام فيعزلون السّبق الزّمانىّ عن سبق أجزاء الزّمان ، بعضها على بعض مثلا ، ويجعلون ذلك السّبق نوعا سادسا ، هو وراء السّبق الزّمانىّ ووراء الأنواع الأربعة الباقية من الخمسة ، ويسمّونه السّبق بالذّات.

٤٩٥

فهم من سخافة عقلهم يخرجون ما هو سبق زمانىّ بالذّات عن السّبق بالزّمان ويقصرون السّبق بالزّمان على ما هو سبق زمانىّ بالعرض. وكأنّ الغريزة إذا ارتضعت لبن العلم من ثدى التّحصيل لم تكن من المرتابين فى فساد هذا التّهويش. وإذ نحن قد برهنّا على تحقق السّبق السّرمديّ بالدّهر على أنّه مباين الحقيقة ومخالف الأحكام للسّبق بالزّمان والسّبق الذّاتىّ بالماهيّة على أنّه وراء السّبق بالطبع والسّبق بالعليّة بالمعنى وبالخواصّ واللّوازم. فقد انصرح تسبيع الأنواع وفسخ ضوابطهم المحفوفة بالجبّ والتخريق.

<٢> تفصيل وفيصل

ممّا يضيّق المخرج على المتفلسفين المخّمنين لأنواع السّبق ، بناء على ضوابطهم المحفوفة بالفسح : أنّهم قد سدّسوا أنواع المعيّة بالمعيّة الدّهريّة ، ولم يسعهم أن يستنكروها ، ضرورة المفارقات المحضة ، لتعاليها عن المادّة وعوارضها متعالية عن الحركة والسّكون والزّمان والمكان ومتقدّسة عن الإضافات الزّمانيّة والمكانيّة والنّسب الكونيّة والمكانيّة ؛ فيمتنع أن يكون فى عالم الأنوار العقليّة معيّة بالزّمان.

فمعيّة البارى ـ عزّ مجده ـ بالنّسبة إلى مجعولاته المفارقة فى الوجود أو بالنّسبة إلى معلولاته الكيانيّة الزّمانيّة ؛ وكذلك معيّة بعض مجعولاته المفارقة العقليّة بالنّسبة إلى بعض آخر أو بالنّسبة إلى الكيانيّات والزّمانيّات ، وبالجملة ، معيّة الثّابت والثّابت ، أو معيّة الثّابت والمتغيّر فى الوجود فى الواقع ، أى فى وعاء الدّهر ـ ليست معيّة زمانيّة ، بل هى معيّة بالدّهر ، وهى خارجة عن المعيّات الّتي هى بإزاء أقسام السّبق الخمسة ، وهم لم يكونوا فى غفول عن هذه المعيّة وعدّها نوعا سادسا وتسميتها معيّة بالدّهر.

فإذن ، قد لزمهم لزوما باتّا أن يسدّسوا أنواع التّقدّم والتّأخّر أيضا ؛ فإنّ المع يجرى مجرى المتقدّم والمتأخّر فى معانيهما المختلفة. أليس إثبات كلّ من التّقدّم والتّأخّر والمعيّة لشيء فى قوّة نفى الآخرين عنه ، فتكون المعانى المتصوّرة من كلّ منها بإزاء المعانى المتصوّرة من الآخرين بتّة.

٤٩٦

ومن المستغربات أنّهم يزعمون أنّ كون أقسام المعيّة بحسب أقسام التقدّم والتأخّر من البتّيات الفطريّة. ثمّ إنّهم يخمّسون أقسام السّبق والمسبوقيّة ويسدّسون أقسام المعيّة (١٧٩). فإذن ، لا منتدح ولا محيص لهم من إثبات نوع آخر للسّبق وراء الخمسة بإزاء المعيّة الدّهريّة : هو السّبق بالدّهر والسّرمد.

وهذا التّعضيل عليهم قد تصدّيت له منذ سنين ، حيث أحطت بكتبهم الحصيفة البيان الوثيقة البرهان ، كالشفاء والنجاة والتعليقات وغيرها ، من الصّحف الفلسفيّة ، ثمّ ثقفت مثير فتنة التشكيك قد تعرّض له فى المباحث المشرقيّة ولم يتعرّف لهم منه مخرجا. والفيصل الحقّ هناك أنّهم لم يكونوا فى ذهول عن السّبق بالدّهر والسّرمد الّذي هو بإزاء المعيّة الدّهريّة ، على أنّه نوع مباين للأنواع الخمسة.

أليس من الفطريّات الأوائل ، بعد العلم بوجود القيّوم الواجب بالذّات ـ جلّ ذكره ـ أنّه كان اللّه ولم يكن معه هذا الحادث اليوميّ ، مثلا ، موجودا فى وعاء الدّهر ؛ ثمّ الحادث قد وجد فيه. ومن كان ذا تحصيل ما لا يرتاب فى أنّ ربّ الزّمان والمكان لا يكون تقدّمه على شيء لكون حصوله فى زمان متقدّم على زمان حصول ذلك الشيء.

ومن البيّن أنّ الفلاسفة المحصّلين ، مع شدّة تعمّقاتهم وتوغّلاتهم فى تقديس المبدأ وتنزيهه عن شوب التّعلّق بافق الزّمان والمكان ، ليس ممّن يخفى عليه ذلك ؛ كيف وتنصيصاتهم عليه فى صحفهم الفلسفيّة أكثر من أن تعدّ وفوق أن تحصى فى هذا الكتاب.

فإذن ، من المستبين المنصرح أنّ سبقه ـ تعالى ذكره ـ على الحادث الزّمانىّ وعلى كلّ جزء من أجزاء الزّمان عندهم سبق بالدّهر والسّرمد ، لا سبق بالزّمان. لكنّهم حين حاولوا الفحص عن أقسام السّبق فى مباحث التقدّم والتأخّر أخذوا السّبق الزّمانىّ على وجه يشتمل النّوعين إلى السّبق بالزّمان والسّبق بالدّهر والسّرمد ، حيث قالوا : السّبق الزّمانىّ هو ما يجب أن يتخلّف المسبوق عن السّابق فى الوجود البتّة ؛ ولم يقيّدوا ذلك : بأن يصحّ للعقل أن يتوهّم تخلّلا ممتدّا بالذّات أولا ممتدّا بالذّات بينهما ، لصحّة مرور ممتدّ بالذّات ولو وهمىّ بهما فى التّصوّر ؛

٤٩٧

أو لا يصحّ له ذلك التّوهّم ، لامتناع مرور ممتدّ بالذّات ولو وهمىّ بهما أصلا. فلا محالة كان ذلك المعنى المطلق بالإرسال من هذا التّقييد وعدمه قدرا مشتركا بين السّبق بالدّهر والسّرمد وبين السّبق بالزّمان.

فهذا غاية ما يتجشّم من قبلهم ، إلاّ أنّ هذا الإهمال منهم ليس على سنن المحصّلين ؛ فإنّ تحصيل معنى ما مشترك بين نوعين من السّبق متباينين بالحقيقة ومتخالفين بالخواصّ والأحكام ، لا يسوغ إسقاطهما عن اللّحظ ، وعدّ المعنى المشترك نوعا واحدا.

أليس أنّ السّبق ـ بالذّات ـ ، وهو سبق المفتاق إليه على المفتاق سبقا عقليّا ـ معنى مشترك بين السّبق بالعليّة وبين السّبق بالطبع ، بل وبين السّبق بالماهيّة أيضا ، ولم يكن من السّائغ عزل اللّحظ عن اعتبار تلك الأنواع المختلفة ، وعدّ ذلك المعنى المحصّل المشترك نوعا واحدا.

وأيضا ، إنّهم حين حاولوا بتهوّساتهم أن يثبتوا تسرمد الوجود فى وعاء الدهر للمعلولات الإبداعيّة. وعند محاولة إثبات وجود الزّمان وفى كثير من المقاصد الفلسفيّة بنوا تبياناتهم على أنّ السّبق الّذي لا يمكن بحسبه السّابق والمسبوق ليس يتحقق إلاّ بحسب الوقوع فى افق الزّمان ، وليس معروضه بالذّات إلاّ أجزاء الزّمان ، وبالعرض إلاّ ما يتحصص وجوده بالوقوع فى زمان ما.

وبالجملة ، اصولهم متدافعة وتبياناتهم متصادمة وإن كانوا قد استشعروا التّقدّم السّرمديّ الّذي هو بإزاء المعيّة الدّهريّة. فإذا قيل لهم : تعالوا إلى سبيل الحكمة ، رأيتهم يستنكرون الحقّ وهم شاعرون.

<٣> فصّ

إنّى لست أستصحّ إرسال التّقدّم الزّمانىّ بحيث يصحّ أن يطلق على ما يجب تنزيه المبدأ الحقّ ـ سبحانه ـ والمفارقات المحضة عنه ، وهو التّقدّم الزّمانىّ وعلى ما يتصف به البارئ الأوّل ـ تعالى ـ وهو التّقدّم بالدّهر والسّرمد ، كما يتجشّمه من

٤٩٨

يحاول الانتصار لرؤساء الفلسفة وإن كانت المشاحّة فى إطلاق اللّفظ بعد تصحيح ما يعنى به خبيئة ؛ فإنّ التّقدّم بالزّمان أشدّ بعادا عن التّقدّم بالدّهر من أن يتكلّف أن يجمعهما طباع واحد ، فضلا عن طباع التّقدّم الزّمانىّ.

أما انصرح لك : أنّ التّقدّم بالزّمان بما هو تقدّم بالزّمان إنّما يجب بحسبه أن لا يجامع المتأخّر المتقدّم فى افق الزّمان فقط ، لا فى وعاء الدّهر أيضا. فالمتأخّر بالزّمان إنّما يلزم من حيث هو متأخّر بالزّمان أن يكون متخلّفا عمّا يتقدّم عليه بالزّمان فى افق الزّمان فقط ، لا أن يكون متخلّفا عنه بحسب الوجود فى الواقع والحصول فى وعاء الدّهر ؛ إذ التأخّر والافتراق فى افق الزّمان ليس يستلزم التّأخّر والافتراق فى وعاء الدّهر. وأيضا لا يلزمه من حيث هو متأخّر بالزّمان أن يكون متخلّفا فى الوجود عمّن يتعالى عن افق الزّمان ويحيط بجميع الأزمنة وبقاطبة الامور الواقعة فيها مرّة واحدة دهريّة ، بل إنّما يلزمه التّخلّف عنه فى الوجود بحسب التّأخّر عنه تأخّرا بالدّهر ، لا بما هو متأخّر بالزّمان عن زمانى ما.

ثمّ التّقدّم والتأخّر بالزّمان قد يقع فيهما الأشدّ والأضعف أو الأزيد والأنقص. فعيسى ، مثلا ، أشدّ تأخّرا بالزّمان بالنّسبة إلى نوح ، من موسى ـ على نبيّنا وعليهم الصّلاة والسّلام ـ ولا يتصوّر وقوع ذلك فى التقدّم والتأخّر بالدّهر ؛ فإنّ كافّة المتأخّرات بالدّهر فى حكم متأخّر واحد بتأخّر واحد دهرىّ. وإنّما يتكثّر ذلك التّأخّر بالإضافة إلى تلك الموضوعات المتكثّرة ، وهى قد صارت عن الجاعل فى وعاء الدّهر معا معيّة دهريّة.

وأيضا التّقدّم بالزّمان يكون لموضوعات غير محصورة ، والتقدّم بالدّهر لا يكون إلاّ للواحد الحقّ ـ سبحانه ـ إلى غير ذلك من الخواصّ واللّوازم المتحالفة. فهل يستحيل ذو قريحة ملكوتيّة أن يؤخذ التقدّم الزّمانىّ بحيث يندرج التقدّم بالدّهر تحته.

والفلاسفة المتهوّشون بتسرمد التقرّر للمعلولات الإبداعيّة فى وعاء الدّهر يستنكرون الاختلاف فى الخاصيّة الأخيرة ، فعندهم التّقدّم السّرمديّ للبارئ الحقّ ـ سبحانه ـ ولجميع مبدعاته معا ، والتأخّر الدّهرىّ لكافّة الكائنات المسبوقة بالمدّة

٤٩٩

والمدّة الحادثة بجملتها فى وعاء الدّهر مرّة واحدة معا. ولو شاء اللّه لجمعهم على الهدى ، فلا تكوننّ من الجاهلين.

<٤> تلخيص

فإذن ، تحديد حريم النّزاع بين معلّم الحكمة اليمانيّة وبين رؤساء الفلسفة اليونانيّة : أنّ التّقدّم السّرمديّ عندهم حدّ نوعى ما يطلق عليه التقدّم الزّمانىّ فى مباحث السّبق وإن باينه بحسب إطلاقاتهم فى سائر أبواب العلم وأجزاء الصّناعة وأنّهم يظنّون أنّ جملة المبدعات كمبدعها الحقّ ـ سبحانه ـ فى التّقدّم السّرمديّ معا ، وقاطبة الكائنات الزّمانيّة والزّمانيّات الكونيّة سواسية الأقدام فى التّأخّر الدّهرىّ معا.

ومن حمل عرش تعليم الحكمة اليمانيّة يقدّس التّقدّم السّرمديّ عن أن يعتريه الاندراج فى التّقدّم الزّمانىّ ولو بحسب التّسمية. فهل يستعذب ذو ذوق سليم أن يستعار اسم النّوع الخسيس للنّوع الشّريف البهىّ أو لطباع المعنى المشترك بينهما ؛ ثمّ إنّه يحقّق الحقّ ويوحّد المتقدّم بالدّهر والسّرمد ، ولا يشرك بإثبات السّرمديّة لربّه أحدا. فيشهد أنّ سلاسل عالم الجواز بقبائلها ، أى : بمفارقاتها وزمانيّاتها ومبدعاتها وكائناتها (١٨٠). وبالجملة ، بقضّها وقضيضها ، متأخّرة عن جاعلها فى الوجود معا ، تأخّرا بالدّهر.

وما مثلها بجملتها فى التّأخّر بالدّهر عن الجاعل المتقدّم تقدّما سرمديّا إلاّ مثل متّصل ما شخصىّ إذا تأخّر بهويّته الاتصاليّة. فكما أنّ أجزاءه المقداريّة المفروضة متشابهة ومشابهة للكلّ فى التّأخّر معا عمّن يتقدّم عليه فى وعاء الدّهر ؛ فكذلك عوالم الإمكان ، أى : بجملة ما فى حيّز الجواز بالأسر.

فسبق البارئ الأوّل ـ سبحانه ـ فى الوجود على كلّ جزء من أجزاء الزّمان وعلى كلّ من آحاد الحوادث هو عين سبقه على مجموع الزّمان الشّخصىّ المتصل من أزله إلى أبده وعلى سلسلة الحوادث بمجموعيّتها. وكذلك هو بعينه سبقه على الأنوار المفارقة العقليّة آحادا ومجموعا. فهذا القول الفصل المقشوّ عن قشر الزّور

٥٠٠