مصنّفات ميرداماد

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]

مصنّفات ميرداماد

المؤلف:

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]


المحقق: عبدالله نوراني
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: منشورات مطبعة وزارة الإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-528-006-0
الصفحات: ٥٢٧
الجزء ١ الجزء ٢

الدّهر العدم السّابق على الوجود فقط ، وإلاّ لزم أن يكون بحسب وعاء الدّهر طرفان وواسطة ، وذلك يستلزم الامتداد فى وعاء الدّهر. والقول به سفاهة فى جهالة.

وأمّا أنّ ذلك الامتناع ـ هل هو بالنّظر إلى طباع وعاء الدّهر فقط من جهة عدم متصوّريّة الامتداد فيه ، أو بالنّظر إلى سنخ ذات الماهيّة أيضا ، من حيث إنّ الشّيء إذا تجوهرت حقيقته التّصوّريّة لا تبطل هى ولا يفقدها هو بحسب نفس الأمر أبدا ، حتّى يصحّ أن لا يكون له حقيقة بحسب نفس الأمر ، وقد صار هو ذا حقيقة فى نفس الأمر ـ فمحلّ إسباغ للنّظر وموقع إعمال للقريحة. ولعلّ الغريزة المتوقّدة تقضى فيه بالحدس الصّائب.

ثمّ العدم العينىّ الطارئ على الماهيّة فى وعاء الدّهر أيضا ممتنع ، كما العدم الطّارئ بالقياس إلى الوجودين معا (٤٩) فيه بعين ما كدّر عليك ، من عدم متصوّريّة الامتداد فيه ، بل الحادث الزّمانىّ الّذي ينبتّ وجوده بانقطاع استمراره فى افق الزّمان ليس يتصوّر له عدم عينىّ طار فى وعاء الدّهر ، وإنّما هو يتّصف فى وعاء الدّهر بوجوده الّذي له فى زمان وجوده بعد العدم.

وهذا الوجود ، يلحظ تارة من حيث هو وجود بما هو وجود ، لا بما هو مستمرّ أو غير مستمرّ. وهو من هذه الحيثيّة وجود دهرىّ ؛ وتارة باعتبار أنّه متخصّص بالزّمان ومرتبط بالوقوع فيه ، وهو بهذا الاعتبار وجود زمانىّ يعقل فيه الاستمرار والانقطاع ، ولا يتلبّس بحسب ذلك الوعاء المتقدس عن التّقضّى والتّجدّد بالوجود فى زمان آخر أصلا فى الآزال والآباد.

وذلك الوجود ـ أعنى الّذي هو له فى زمان الحصول ـ لا يكاد يصحّ العدم الطارئ بالقياس إليه من سبيلين ، أحدهما : عدم الامتداد فى وعاء الدّهر ، وثانيهما : أنّ ذلك إنّما يتصوّر بارتفاع الوجود عن ذلك الشّيء الموجود فى ذلك الزّمان ؛ إذ الوجود فى غير ذلك الزّمان مرتفع فى الآزال والآباد ، فكيف يكون رفعه طاريا. وذلك ممّا هو يتضمّن ضمّ النّقيضين ؛ والشّيء الزّمانىّ لا يكون اتّصافه بطبيعة الوجود إلاّ بأن يكون موجودا فى زمان ما أو فى جميع الأزمنة. وإن صحّ سلخ هذا الاعتبار عن ذلك الوجود وانسلاخ

١٠١

ذلك الوجود عن هذا الاعتبار فى لحاظ العقل بأن يؤخذ بما هو وجود ذلك الشّيء فى نفس الأمر ، لا بما هو متخصّص بأن يكون فى افق الزّمان.

وهو بهذه الحيثيّة وجود فى وعاء الدّهر والزّمان كسائر الماهيّات الممكنات فى أنّ طرء العدم عليها فى وعاء الدّهر طرءا دهريّا ممتنع من جهة أنّ وعاء الدّهر يرتفع شأنه عن صحّة تصوّر الطرفين والوسط والامتداد واللاّامتداد فيه ، لا لخصوصيّة زائدة لماهيّة الزّمان ليست لتلك الماهيّات.

وإنّما خصوص ماهيّة الزّمان يقتضي امتناع طرء العدم على الزّمان من بعد الوجود طرءا زمانيّا يكون بحسب الوجود قبل العدم قبليّة زمانيّة ؛ فإنّ ذلك يمتنع على طبيعة الزّمان بنفس ماهيّته. وليست سائر الماهيّات على هذه الشّاكلة ، كما يمتنع على نفس ماهيّته أن يسبق وجوده العدم سبقا بالزّمان ، وإنّما يمكن ذلك بالنّظر إلى سنخ طبيعته بالسّبق الدّهرىّ فقط ، وليست هذه السّنّة لسائر الماهيّات.

وهذه المعانى إنّما تتعرّف بثقافة البصيرة وشحاذة السّجيحة وأنّ المدارك العاميّة المخدجة الغير المراهقة نصاب البلوغ لهى بمعزل عن إدراك هذه الحقائق ونظائرها. فعليك باستضاءة غشاوة الوهم والاستمساك بالضّراعة إلى واهب العقل ؛ فإنّ تلك الدّرجة هى العروة الوثقى لهذه النّفس المجرّدة ، وبها انساح لنا بال الرّوع لإيعاء العلوم الشّاهقة فى وعاء القريحة الدّاهقة ، والحمد للّه ربّ العالمين.

١٠٢

المسافة الخامسة

<الوجوب والامكان والامتناع >

من الصّرحة الأولى من كتاب الأفق المبين ، عجّل اللّه فرج الحكمة بتيسيرنا

لإتمامه ، بمنّه وإكرامه. يستقصى فيها القول فى عناصر العقود ـ وهى الوجوب

والإمكان والامتناع ـ ويستوفى النّظر فى خواصّها وأحكامها ، وتوفّى حقوقها

بتحقيق ما يلتصق بذلك القول ، ويقفّى بيانها بتبيان ما يلتحق بذلك النّظر.

< في المسافة الخامسة فصول أربعة >

١٠٣

[المسافة الخامسة]

الوجوب الإمكان والامتناع

فيها فصول أربعة

الفصل الأوّل فى كشف المفهومات والحقائق

فى هذا الفصل ثمانية عشر عنوانا

الفصل الثاني فى أحكام كالأمور العامّة لها

فى هذا الفصل اثنان وعشرون عنوانا

الفصل الثالث في خواصّ الواجب بالذّات جلّ ذكره

في هذا الفصل خمسة عشر عنوانا

الفصل الرابع في خواصّ الممكن بالذّات

في هذا الفصل ثلاثة وخمسون عنوانا

١٠٤

فصل [أوّل]

< كشف المفهومات والحقائق >

فيه تكشف طبائع هذه المفهومات ببروق وامضة وتحصل حقائق باهرة فيها

وعلوم غامضة. وإذا رأيتنى على حيدة عن مألوف ذهنك ، فكن بعقلك متضائلا لحمل أعبائه ، ولا تكن بوهمك متخائلا على الاستدارة حول دوران رحائه.

< في الفصل الأوّل ثمانية عشر عنوانا >

<١>إخاذة

إنّه إذا لوحظ تجوهر الحقيقة ، وكذا لا تجوهرها ، أو حمل الوجود ، أو جعل رابطة ، وكذا العدم ؛ تثبت كيفيّات ثلاث لنسب العقود حالّة على الوثاقة والضّعف هى الوجوب والإمكان والامتناع (٤٨). وهى عناصر وموادّ فى أنفسها وجهات بحسب التّعقّل وليست الجهات تنحصر فى الموادّ. فكلّ ما يتعقّل من الكيفيّات أو يدلّ عليها بلفظ جهة ، سواء كانت هى إحدى تلك أو غيرها ربما هى أعمّ أو أخصّ وقد يكون مباينا. والجهة بما هى جهة يلزمها أن تطابق المادّة. فالمادّة هى بحسب نفس الأمر. وإنّما الجهة بحسب إدراك العقل ، طابق الواقع أو خالفه ، ولا مادّة النّسب سوالب العقود بما هى نسب سلبيّة ، بل إنّما المادّة بحسب النّسب الإيجابيّة فحسب.

١٠٥

<٢> إيماض مصباحيّ

مطلب «هل» ينقسم إلى جسمين ، بسيط ومركّب. ثمّ البسيط إلى نوعين ، حقيقىّ ومشهورىّ. والعقد بحسبه إلى هل بسيطىّ وهل مركّبىّ. ثمّ الهلىّ البسيط إلى بسيطىّ على الحقيقة وبسيطىّ مشهورىّ. أمّا الهل البسيط فهو هل الشّيء ، أى السّؤال عن تقرّره فى نفسه. وأمّا هل المركّب فهو هل الشّيء شيء ، أى : السّؤال عنه على صفة ، ويرجع إلى كون تلك الصّفة له ، أو كونه على تلك الصّفة.

والحقيقيّ من البسيط سؤال عن نفس الشّيء بحسب تجوهر حقيقته فى نفسها وتقرّر ماهيّته فى سنخها ؛ أعنى المرتبة المتقدّمة على مرتبة الوجود ، وهى الصّادرة عن الجاعل ابتداء بلا وسط فى لحاظ العقل أصلا.

والمشهوريّ منه سؤال عن نفس الشّيء بحسب مرتبة الموجوديّة والكون إمّا فى نفس الأمر على الإطلاق أو فى الأعيان أو فى الذّهن. وهى المرتبة المترتّبة على المرتبة الأولى بلا وسط.

فالواقع فى مطلب «هل» مطلقا : إمّا التّجوهر أو ليس ، أو الموجود على الإطلاق أو ليس ، أو الموجود شيئا ما ، إمّا شيئا جوهريّا للموضوع أو عرضيّا ذاتيّا أو عرضيّا خارجيّا أو ليس.

وعدم تثليث الأقسام بإهمال البسيط من قسمى الهل البسيط ، وهو الأحقّ بالاعتبار. ثمّ باعتبار البساطة فيه مغلط فى المعارف التّصوّريّة والعلوم التّصديقيّة ومفسد فى أبواب الاقتناصات الحدّيّة والبرهانيّة.

وإن كانت المرتبتان متخالطتين فى غير اللّحاظ الّذي هو ظرف الخلط والتّعرية من ظروف الوجود ، فالسّؤال عن تجوهر الحقيقة ؛ كما يقال : «هل العقل» ؛ أى هل ماهيّة هى العقل. والجواب : نعم ؛ أى : بعض الماهيّات المتجوهرة هى العقل : وهل ماهيّة هى العقل؟ والجواب : ليس. أى : لا ماهيّة متجوهرة هى اجتماع النّقيضين.

وإذا ثبت أنّ الشّيء ، كالعقل ، مثلا ، متجوهر الحقيقة فى الأعيان ، استغنى بذلك

١٠٦

عن السّؤال عن وجوده فى الأعيان ، وكذا العكس ؛ إذ الشّيء لا يصحّ أن يكون له حقيقة متقرّرة وليس لتلك الحقيقة المتجوهرة وجود فى ظرف تجوهرها ، وإنّما يختلق ذلك قوم ليسوا هم من المميّزين ، بل إنّ حقيقته التّصوّريّة المتجوهرة فى ظرف يتبعها ويلزمها ، أى : لا يسلخ أن تكون موجودة فى ذلك الظّرف. ولكن ينبغى أن لا يهمل فصل إحدى المرتبتين عن الاخرى وسبق السّابقة السّابقة منهما ، لئلاّ تضيع حقوق الأحكام المختلفة بحسب ذلك.

ومطلب هل البسيط متقدّم على المركّب ؛ إذ طبيعة إثبات شيء لشيء تقتضى أن يكون المثبت له ثابتا فى نفسه حتّى يثبت له شيء ، فيكون الشّيء فى نفسه ثمّ يكون له صفة.

وتحقّقن أنّ عقود الهليّات البسيطة ليس مفادها ثبوت شيء للموضوع أو اتّحاد الموضوع والمحمول ، بل مفادها تجوهر حقيقة الموضوع أو لا تجوهرها ، وكون الموضوع فى نفسه أو انتفاوه فى نفسه. وإنّما ذلك فى الهليّة المركّبة فقط ؛ فإنّ العقد فى الهليّات البسيطة إنّما يشتمل بحسب الضّرورة النّاشئة من طباع العقد على الموضوع والمحمول والنّسبة الحكميّة بينهما فى الذّكر والتّعبير عمّا أدركه العقل ، لا بحسب ما يرجع إليه مفاد العقد ويتعلّق القصد بالتّعبير عنه.

أليس من يستأهل محاولة النّظر فى أسرار العلوم (٤٩) إذا راجع غريزة عقله وجد أنّ قولنا : العقل متقرّر أو موجود مثلا ، إذا أفاد ثبوت مفهوم التّقرّر أو الوجود للعقل أو اتّحاد العقل ، والمتقرّر أو الموجود كان ذلك شيئا وراء تقرّره فى سنخه أو كونه فى نفسه ومتأخّرا عنه ؛ وما يرام ليس إلاّ الشّيء المتقدّم ، أعنى تحقّق نفس ذات الموصوف ، لا الشيء المتأخّر ، وهو ثبوت وصف له ، سواء كان ذلك الوصف مفهوم الثّبوت أو غيره. فإذن ، تحصيل ذات الموصوف من حيّز الهليّات البسيطة وتحصيل وصف له من حيّز الهليّة المركّبة.

وكذلك السّالب ، كقولنا : ليس اجتماع النّقيضين متقرّرا أو موجودا ، مفاده بالحقيقة ليسيّة سنخ حقيقته أو سلب ذاته وانتفاؤه فى نفسه ، لا سلب مفهوم التّقرّر

١٠٧

أو مفهوم الوجود منه ؛ فقد كنّا عرّفناك من قبل : أنّ الوجود نفس كون الماهيّة وموجوديّتها ، لا ما به الموجوديّة ، أى : أمر به تكون الماهيّة. وكذلك عدم الشّيء فى نفسه هو نفس انتفاء ذاته ، لا انتفاء أمر عن ذاته هو الوجود على خلاف عدم صفة من صفات الشّيء ؛ فإنّه عبارة عن انتفاء شيء عن شيء. فإذن الإيجاب فى الهليّات البسيطة تجوهر شيء أو ثبوته ؛ والسّلب ليسيّة شيء أو انتفاؤه.

والإيجاب فى الهلىّ المركّب ثبوت شيء لشيء ، والسّلب انتفاء شيء عنه.

وليس فى العقد الهلىّ البسيط رابطة وراء النّسبة الحكميّة. والمحمول فيه بسيط هو المتقرّر أو الموجود ، ولا يعتبر فيه وجود أو عدم رابط ؛ إذ لا يقصد وجود المحمول للموضوع ، بل تحقّق الموضوع فى نفسه فى موجبه ، وانتفاء ذاته فى ذاته فى سالبه. فليس هناك إلاّ نسبة واحدة ، والحكاية بها ليست إلاّ عن ذات الموضوع الواقعة.

وأمّا العقد الهليّ المركّب ، كقولنا : الفلك متحرّك ؛ ففيه نسبتان ، إحداهما الوجود أو العدم الرّابط ، إذ ما يرومه الرّائم هناك هو وجود شيء لشيء أو انتفاء شيء عن شيء.

فتلحظ للوجود نسبة إلى موضوعه. ثمّ للمجموع إلى متعلّق موضوع الوجود نسبة اخرى هى النّسبة الحكميّة اللاّزمة فى جميع العقود ؛ فإن جعل المحمول موضوع الوجود كان الوجود ينتسب إلى المحمول ، ثمّ ينسب المجموع إلى الموضوع بالنّسبة الحكميّة ، فيقال : إنّ وجود هذا المحمول له وإن جعل موضوعه الموضوع ، كأن ينسب الوجود إلى الموضوع ، ثمّ يربط المحمول بالمجموع بالنّسبة الحكميّة ، فيقال : إنّ وجود الموضوع على صفة كذا. وذلك فى الموجبات.

وفى السّوالب تلحظ نسبة العدم إلى ما يعتبر موضوعا له. ثمّ ينسب المجموع إلى متعلّق موضوع العدم : فإن اعتبر المحمول موضوعا له نسب العدم إلى المحمول ؛ ثمّ المجموع إلى الموضوع بسلب النّسبة الحكميّة الإيجابيّة ، فيقال : لا يوجد للموضوع هذا المحمول. وإن اعتبر الموضوع ذلك نسب العدم إلى

١٠٨

الموضوع ، ثمّ يسلب بذلك ربط المحمول بسلب تلك النّسبة ، فيقال : ليس يوجد الموضوع على وصف كذا.

فإذن إحدى تينك النّسبتين فقط جزء مفرد للعقد ، وهى النّسبة الحكميّة الرّابطة بين حاشيتيها الموضوع والمحمول فى أجناس العقود وأنواعها على الإطلاق.

وأمّا النّسبة الأخرى ، وهى نسبة الوجود إلى المحمول أو إلى الموضوع ، أو نسبة العدم إلى أحدهما ، فهى ليست جزءا مفردا ، بل هى مضمّنة فى المحمول ومدلول عليها به أو فى الموضوع ، فالمحمول مع تلك النّسبة المتعلقة به جزء منفرد للعقد أو الموضوع كذلك.

فإذن قد استبان لك أنّ العقد الهلىّ البسيطىّ ، كما أنّه بسيطىّ فكذلك هو بسيط فى نفسه من جهة أنّ النّسبة فيها واحدة. والعقد الهلىّ المركّبى كما أنّه مركّبي فكذلك هو مركّب فى نفسه ، لتضمّنه النّسبتين. وإنّ ما كشفناه لك هو ما عناه رأس المشّائيّة ومعلّمهم أرسطو طاليس بقوله فى التعليم الأوّل :

«الهليّة البسيطة من العقود الموجود بالكلّ ، والهليّة المركّبة الموجود بالجزء : إمّا لأنّ مفاد العقد فى الهليّات البسيطة إسناد الوجود والشّيء بكلّيّة ذاته ، وكلّ العقد ـ أى : المحكىّ عنه به ـ ليس إلاّ ذلك الشّيء الموجود ، وإيراد مفهوم المحمول فى الذّكر للتّعبير عن ذلك. وإنّما فى الهليّات المركّبة إسناد الوجود إلى أحد جزئى العقد ، وكلّ العقد بحسب المعبّر عنه ليس ما اسند إليه الوجود فقط (٥٠). كما أنّه بحسب التّعبير ليس هو ذلك فحسب ، بل ذلك وما هو مخلوط به جميعا. وإمّا لأنّ الهلىّ المركّب مشتمل على نسبتين : إحداهما بين الوجود وموضوعه ، وثانيتهما بين مجموعهما وموضوع العقد. والثّانية توجب وجود المحمول للموضوع فى العقد دون الأولى ، فيكون ذلك فيه بجزئه ، بخلاف الهلىّ البسيط ، فإنّه لا يتضمّن نسبتين ، بل فيه نسبة واحدة هى نسبة الوجود إلى ذات الموضوع بأنّها فى نفسها واقعة ، لا أنّ المحمول ثابت لها ، فيكون إيجاب وجود الموضوع ، وهو الّذي ريم بالعقد فيه بكلّه. وعلى هذا يراد بالعقد النّسبة العقديّة».

١٠٩

<٣ > ذنابة ردعيّة

بلغتنى مذاهب عجيبة فى مسائل فلسفيّة قد نبغت من شرذمة من المتفلسفة والمقلّدة فى هذه السّنين المتأخّرة. وليس يعلم لها ابتناء على ما قد كان يسلك فى عصور المعلّمين والرّؤساء.

ومن تلك المذاهب العجيبة : ما يظنّ أنّ مفاد العقد مطلقا هو ثبوت المحمول للموضوع أو سلبه عنه ، وتستوى فى ذلك الهليّة البسيطة والهليّة المركّبة مع ما يذعن للحكماء المحصّلين فيما يحكمون بأنّ الوجود المطلق الفطرىّ هو نفس الموجوديّة المصدريّة الانتزاعيّة ، ومطابق الحكم به على الماهيّة نفس ذات الماهيّة الواقعة فى ظرف الوجود ، لا الماهيّة الواقعة مع مفهوم ما غيرها ، انضمامىّ أو انتزاعىّ. وينكر على السّفهاء المهوّشين حيث يزعمون أنّ الوجود هو ما به الحصول ، لا نفس الحصول.

وإذ لم يحصل ما تلوناه عليك حسب أنّ ذلك الفرق يستلزم إسقاط النّسبة الحكميّة عن عقود الهليّات البسيطة بما هى عقود. ولا يستصحّه أحد.

فكلّ عقد عند قدماء الفلاسفة مؤلّف من أجزاء ثلاثة ، الحاشيتين والنّسبة الإيجابيّة أو السّلبيّة ؛ وعند متفلسفة المحدثين من أربعة أجزاء ، بناء على اختراعهم النّسبة الّتي هى مورد الحكم بزعمهم.

وكأنّك قد تعرّفت أنّه زيغ فاضح. فالمسقط فى الاعتبار هو الوجود أو العدم الرّابط ، أعنى النّسبة المضمّنة فى إحدى الحاشيتين ، وهى ولاء النّسبة الحكميّة الرّابطة بينهما. وأجزاء القضيّة هى الحاشيتان والنّسبة الرّابطة بينهما. وإنّما الافتراق بحسب بساطة الأجزاء جميعا فى البسيطة وتألّف أحدها فى المركّبة وبحسب ما يؤول إليه مفاد العقدين لا غير.

ثمّ ما أشدّ سخافة ما يتوهّم أنّ العدم إذا أخذ فى حيّز المحمول ، كقولنا : زيد معدوم ، لا يتصوّر العقد إلاّ موجبا ، مفاده ثبوته للموضوع ، وإن لو اعتبر سالبا كان

١١٠

مفاده سلب العدم عنه ، وهو ضدّ المقصود ، إذ لو ارجع السّلب إلى ذات الموضوع كان المعنى سلب الموضوع عن نفسه. وهو ليس معنى العدم ، بل هو معنى آخر غيره ، ويصحّ تعليله به : بأن يقال : هو مسلوب عن نفسه ، لأنّه معدوم فى نفسه.

أفلست قد تحققت أنّ معنى العدم هو سلب الشّيء فى ذاته وانتفاؤه فى نفسه ، لا سلبه عن نفسه أو سلب الوجود عنه ؛ فإنّ ذلك من حيّز الهليّة المركّبة. ومعنى زيد معدوم انتفاؤه فى نفسه وهو من سوالب الهليّة البسيطة ؛ لا ثبوت انتفائه له حتّى يكون من موجبات الهليّة المركّبة.

وأ ليس من المستغربات ادّعاء تحصيل الجعل البسيط مع استنكار أن يتصوّر ليسيّة الحقيقة فى سنخ ذاتها مع عزل النّظر عن الوجود وسلب الشّيء فى نفسه من دون إضافته إلى ثبوت ذلك الشّيء.

أليس مقابل التّقرّر الصّادر عن الجاعل هو ليسيّة الحقيقة فى جوهرها مع عزل النّظر عن الوجود. هذا مع أنّ حجرة الجعل البسيط من المشّائيّة أيضا لا يستنكرون ذلك ، لتحصيلهم أنّ الوجود هو تحقّق نفس الذّات ، لا ثبوت وصف لها. فالعدم أيضا سلب نفس الذّات وانتفاؤها فى نفسها ، لا سلب مفهوم ما عنها.

ومن حيث ما تعرّفت ، فاحكم أنّ كلّ عقد حملىّ بما هو عقد حملىّ من حقّه أن يكون فيه موضوع ومحمول ونسبة بينهما صالحة للتّصديق والتكذيب ، أى مصحّحة لصلوح الحاشيتين للتّصديق والتّكذيب ؛ فإنّ العقد إنّما يصير عقدا باعتبار تلك النّسبة ، إذ بها يرتبط المحمول بالموضوع ويصير المركّب منهما عقدا بالفعل (٥٢) ومحتملا للتصديق والتكذيب ويصلح متعلقا للإدراك التّصديقىّ إيجابا أو سلبا.

ولست أقول : هى متعلّق الإدراك الإذعانىّ كما يقول من ليس من حزب الحقّ ولا من رجال الحكمة. فمجرى الموضوع والمحمول فى العقد الحملىّ مجرى المادّة ، والنّسبة بينهما تجرى مجرى الهيئة الّتي هى الجزء الصّورىّ. ولهذا ما إنّه يجب معها العقد الحملىّ الّذي له صلوح أن يقع متعلقا للتصديق أو التكذيب. وهى مضمّنة فى

١١١

متعلّق التّصديق وملحوظة بالتّبعيّة ، لا على الاستقلال. وليست حين ما يتعلق الإدراك التّصديقىّ بالعقد هى متصوّرة ، بل إنّما يكون ذلك لو كان قبل أو بعد فى صورة الشّكّ ولا يكون لشيء من العقود جزء خارج عن الثّلاثة ، بل إنّما يكون فى الهلىّ المركّب إحدى الحاشيتين تتضمّن نسبة اخرى هى الوجود أو العدم الرّابط ، وليست فى الهليّات البسيطة. ولذلك ما إنّه يرجع مفادها إلى تحقّق الموضوع أو ليسيّة فى نفسه ، ومفاد الهليّة المركّبة إلى تحقّق المحمول للموضوع وانتفائه عنه.

وأمّا ما اخترعته المبتدعة وسمّته الوقوع واللاّوقوع واعتبرته الجزء الرّابع ، فلست أرى إضاعة الوقت بالبحث عنه ولو بالتّوهين من سنن المحصّلين. وإنّما هذه البدعة فى الفلسفة من أحداث متفلسفة المحدثين.

<٤> تشبيه عقليّ

يشبه أن تكون نسبة عقود الهليّات البسيطة إلى العقود الهليّة المركّبة فى باب التّصديق نسبة الحدود إلى الرّسوم فى باب التّصوّر. فكما أنّ الحدود تعطى الذّوات فى التّصوّر والرّسوم العوارض ، فكذلك عقود الهليّات البسيطة تعطى الذّوات فى التّصديق والعقود الهليّة المركّبة أوصاف الذّوات وعوارضها.

فعلى سنّة التّشبيه ، الهليّات البسيطة كأنّها حدود تصديقيّة ، والحدود كأنّها هليّات بسيطة تصوّريّة. والهليّات المركّبة كأنّها رسوم تصديقيّة. والرّسوم كأنّها هليّات مركبّة تصوريّة ، ثمّ كأنّ الجدير بهذه النّسبة الهليّ البسيط الحقيقىّ ؛ فإنّ ما يعطيه هو التّصديق بجوهر الذّات بحسب سنخ التّجوهر دون المشهورىّ وإن كان هو أيضا يعطى التّصديق بنفس الذّات فى ظرف الوجود.

<٥> تكملة تحصيليّة

وإن سألت الصّواب فينبغى أن لا يعبأ إلاّ بهل البسيطة الحقيقيّة ، فإنّ مطلب هل البسيط الحقيقىّ يستتبع مطلب هل البسيط المشهورىّ إيجابا وسلبا ، سؤالا

١١٢

وجوابا. ولا ينبغى أن يفهم من قولنا ، فى الهليّة البسيطة الحقيقيّة ، الإنسان متجوهر أو العقل متقرّر ، مثلا ، أنّه ريم بذلك ثبوت التّجوهر والتّقرّر للموضوع ، بل إنّه عنى إعطاء التّصديق بنفس تجوهر الموضوع فى ذاته وتقرّره فى سنخه المستتبع للكون المصدرىّ المنتزع. وإنّما تجشّم إيراد المحمول للضّرورة العقديّة ، فإنّ طباع العقد يتضمّنه وطباع التّصديق يقتضي التّعلّق بالعقد ، لا لأنّه حوول حمل مفهوم ما عليه ، سواء كان نفسه أو شيئا من ذاتيّاته أو من عوارض ذاته ، حتّى يصير العقد هليّا مركّبا.

فالعقل يخترع مفهوما وراء ما قصد الحكاية به وحاول إعطاء التّصديق به للضّرورة اللاّحقة للقصد من جهة طباع العقد ، لا بالقصد الأوّل.

وأمّا فى الهليّة المركّبة ، فإنّه يحاول لحاظ الموضوع والمحمول بالقصد الأوّل وإن كان المحمول نفس الموضوع ، كما فى حمل الشّيء على نفسه ، إذ حيث يقصد الحكم على الشّيء بنفسه ، فيلحظه مرّتين بلحاظ بعينه فى حيّز الموضوعيّة وفى حيّز المحموليّة بالقصد الأوّل.

فإذن ، قد استبان لك أنّ اعتبار المحمول فى الهليّة المركّبة بالقصد الأوّل وفى الهليّة البسيطة ليس من جهة طباع ما تعلّق به القصد ، بل من جهة أنّ طباع العقد لا يسع ما قصد إعطاؤه إلاّ بذلك الاعتبار.

<٦> إضاءة اساسيّة

الوجود الرّابطىّ يقع بحسب اصطلاح الصّناعة على معنيين باشتراك اللّفظ :

أحدهما : ما يقابل الوجود المحمول ، أى : وجود الشّيء فى نفسه ، على ما يستعمل فى مباحث الموادّ. وهو ما يقع رابطة فى الهليّة الحمليّة وراء النّسبة الحكميّة الاتّحاديّة الّتي هى فى جملة العقود (٥٣) ، وحدّه : وجود الشّيء شيئا ، ويباين بالحقيقة النوعيّة الوجود المحمول ، أى : تحقّق الشّيء فى نفسه الّذي حدّه :

١١٣

وجود الشّيء على الإطلاق.

والآخر : ما هو أحد اعتبارى وجود الشّيء الّذي هو من الحقائق النّاعتيّة فى نفسه. وليس معناه إلاّ تحقّق الشّيء فى نفسه. ولكن على أن يكون فى محلّ ، أو نعتا لشيء. أو حاضرا عند شيء ، أو غير ذلك ؛ أعنى بذلك : أنّ تحقّقه فى نفسه على هذه الجهة ، لا بأن يكون لذاته ، كما فى تحقّق الحقيقة القائمة بنفسها على سبيل شأن القيود المحصّلة للطّبائع المبهمة ، لا أنّه المعنى الرّابط الّذي هو تحقّق الشّيء شيئا.

وذلك كما يقال : وجود البياض فى الجسم ، أو وجود المعلول للعلّة ، أو وجود المعلوم عند العالم ؛ إذ المراد هو وجود البياض فى نفسه ، ولكن فى الجسم ؛ إذ وجود العرض فى نفسه هو بعينه وجوده فى موضوعه ووجود المعلول فى نفسه. ولكن على أن يكون منتسبا إلى العلّة.

فمن المتحقّق أنّ وجود المعلول فى نفسه من حيث هو معلول هو بعينه وجوده منتسبا إلى علّته ووجود المعلوم فى نفسه ، ولكن بما هو مشكوف لدى العالم.

فإذن ، هذا الوجود الرّابطىّ ليس طباعه أن يباين تحقّق الشّيء فى نفسه بالذّات ، بل إنّه أحد اعتباراته الّتي هو علّتها وأمّا الوجود الرّابطىّ الّذي هو أحد الرّابطين فى الهليّات المركّبة من العقود. ففى طباع نفس مفهومه أن لا يفيد تحقّق الشّيء فى نفسه.

وإنّى لست أعنى بقولى هذا : أنّ الوجود الرّابطىّ بالمعنى الأوّل بما هو كذلك يقع فى الهليّات البسيطة حتّى يكون قولنا : «البياض موجود فى الجسم» عقدا هليّا بسيطا ؛ فإنّ ذلك لا يكاد يصحّ بوجه ؛

بل إنّما أعنى : أنّ وجود الشّيء النّاعتيّ له صلوح أن يجرّد فى لحاظ العقل عن ذلك الاعتبار ، ويؤخذ من حيث هو تحقّق ذلك الشّيء فى نفسه. ويعقد هليّ بسيط ، فيقال: «البياض موجود».

١١٤

أفليس البياض من الموجودات الحقيقيّة وإن كان وجوده الّذي ليس من إقليم المجاز ، بل هو فى ذاته على سبيل الحقيقة ليس لذاته ، بل هو لغيره المنعوت به ، وإنّ وجوده له اعتباران : أحدهما : أنّه تحقّق البياض فى نفسه لا على التّجوّز ، وهو بذلك الاعتبار محمول الهلىّ البسيط من العقود. والآخر : أنّه بعينه هو فى الجسم. وهذا مفهوم آخر غير تحقّق البياض فى نفسه وإن كان هو بعينه تحقّق البياض فى نفسه ملحوظا بهذه الجهة. وإنّما يصحّ أن يقع محمولا فى الهلىّ المركّب ؛ كقولنا : «البياض موجود فى الجسم». ومفاده : أنّه حقيقة ناعتيّة ، ليس وجودها فى نفسها لذاتها ، وإنّما هو فى الجسم والمحلّ.

وربّما يجعل حينئذ موضوع العقد ، فيقال : وجود البياض فى نفسه هو وجوده فى الجسم أو المحلّ. وهذا من خواصّ الماهيّات النّاعتيّة.

ثمّ وجود الشّيء النّاعتيّ ـ بعد ما أن يؤخذ على هذه الجهة ـ يلحظ على نحوين : تارة ينسب إلى ذلك الشّيء ، كما يكشف لك ، فيكون من أحواله ، وتارة إلى المنعوت ، فيقال : الجسم موجود له البياض ، أو الجسم فيه البياض ، فيصير بهذا الاعتبار من حالات المنعوت.

وعلى قياس ما تلى عليك يقع لفظ الوجود فى نفسه أيضا بالاشتراك على معنيين : أحدهما بإزاء الوجود الرّابطىّ بالمعنى الأوّل. وهو وجود نفس الشّيء على الإطلاق وعلى الحقيقة ، ويعمّ ما لذاته ، كوجود الجوهر ، وهو الوجود فى نفسه ولنفسه ، أى : وجود الشّيء لنفس الشّيء ، وما لغيره ، كوجود العرض ، وهو الوجود فى نفسه ، لا لنفسه ، أى : وجود الشيء ، لا لنفس الشّيء. والآخر : بإزاء الرّابطىّ بالمعنى الأخير ، وهو ما يخصّ لنفسه ، ولا يكون للطبائع النّاعتيّة.

وبالجملة ، الوجود الرّابطىّ ، بالمعنى الأوّل ، مفهوم رابطىّ غير معقول على الاستقلال ، ويستحيل أن يسلخ عنه ذلك الشّأن ويؤخذ معنى اسميّا يعقل بتوجيه الالتفات نحوه ، حتّى يصير الوجود المحمول ، لاستحالة أن ينسلخ الشّيء عن طباعه وجوهريّاته. نعم ربّما صحّ أن يؤخذ نسبيّا غير رابطىّ (٥٤). وبالمعنى الثّاني

١١٥

مفهوم مستقلّ بالتّعقّل هو وجود الشيء ، وإنّما لحقه من جهة خصوص المادّة أن يكون منتسبا ومضافا إلى شيء آخر أيضا بالتّحتيّة ؛ لأنّ موضوعه ، وهو الشّيء ، طبيعة ناعتيّة بالإضافة إلى ذلك الشّيء.

فله صلوح أن يلحظ بما هو هو ، فيكون معنى اسميّا حقيقيّا ؛ وبما لحقه من جهة خصوص موضوعه ، وهو الشّيء النّاعتيّ ، فيصير معنى اسميّا إضافيّا ينعت موضوع موضوعه ويكون هو بعينه وجود موضوعه لذلك الموضوع ، ولا يدخل بذلك فيما لا يستقلّ بالتّعقّل ، كسائر النّعوت والإضافيّات الّتي هى مفهومات فى أنفسها ، ثمّ لزمتها الإضافة. فإذن ، قد استوى الأمر وامتحق ما يغلط أنّ معنى واحدا يستقلّ ولا يستقلّ بالتّعقّل بلحاظين.

وهذه الأقوال متأتّية فى العدم على محاذات ما قيل فى الوجود بتلك الاعتبارات ، فالعدم أيضا رابطيّ بالمعنيين وفى نفسه بالمعنيين. ولو اصطلح على الوجود أو العدم الرّابط لأوّل الرّابطيين والرّابطىّ للأخير وبإزائهما الوجود أو العدم المحمول لأوّل المعنيين. والوجود أو العدم فى نفسه للأخير صير إلى وقاية من أغاليط اشتراك الاسم.

<٧> كلمة إلهيّة

إنّ احتباس القسمة فى تثنية القسم بحسب لحاظ وجودات الطبائع الإمكانيّة. فالوجود الممكنىّ وهو الّذي موضوعه الماهيّة ، إمّا وجود نفس الشّيء لنفس الشّيء أو وجود نفس الشيء لا لنفس الشّيء ، بل لغيره. وأمّا الوجود الواجب القائم بالذّات فهو وجود نفسه ، لا وجود شيء غير نفس الوجود. فإذن ، الوجود إمّا وجود نفسه أو وجود شيء هو موضوعه إمّا لنفس ذلك الشّيء أو لغيره.

على أنّك ، إن سألت الحقّ ، فأحد الأقسام وهو وجود الشّيء لنفس ذلك الشّيء، لا لغيره ، ليس بممكن التّحقّق فممّا لك لدينا استكشافه فى مستقبل القول ، إن شاء اللّه تعالى ، إنّ وجود الطبائع المادّيّة فى أنفسها هو بعينه وجودها لموادّها ،

١١٦

وإنّ وجود المعلول بما هو معلول مطلقا هو وجوده لعلّته ، وإنّ وجوده السّافل بما هو سافل مطلقا هو وجوده لدى العالى المحيط بجملة السّافلات.

فالممكنات طرّا ـ مادّيّاتها ومفارقاتها ـ موجودات ، لا لذواتها ، بل لغيرها ، الّذي هو فوق الذّوات المتفوّقات ومسفل العوالى المستعليات ، عزّ مجده وجلّ ذكره.

فإذن ، لا وجود لذاته إلاّ إذا كان الوجود لا موضوع له ، فيكون هو وجود نفسه ، لا وجود شيء غير نفسه. فإذن لا وجود لنفسه فى عوالم الإمكان ، كما لا وجود بنفسه فيها ، بل فيها الوجود المحمول الّذي هو رابطىّ باعتبار آخر. والوجود الرّابط الّذي ليس هو بمحمول بوجه ما أصلا. فإذن ، الموجود لذاته ليس إلاّ القيّوم الواجب بالذّات ، جلّ جنانه ، كما أنّ الموجود بذاته ليس إلاّ هو.

وهذه المسألة من كرائم المسائل الرّبوبيّات ومن شارقات الآيات العقليّة البيّنات الّتي هى أنوار مشرقة فى سماوات النّفوس العاقلات القادسات ، وهى معشوقات قريحتنا الرّوعيّة، ونيلها لدينا أكرم البغية النّوريّة فى عالم العقل بما فيه من الباهجات المعجبات ، ولذلك ما ربّما تعجّلناها لإلظاظ الرّوع بذكرها وانجذاب السّرّ إليها.

<٨> وهم ودفاع

ربّما توهّم أنّه إذا كان الوجود فى الهليّة المركّبة ، ورجع مفاد العقد إلى ثبوت المحمول للموضوع ، فيلزم للمحمول وجود ، إذ الوجود للغير لا يعقل بدونه ، فلا يصحّ إثبات العدميّات للموضوعات. ثمّ إنّ ثبوته للموضوع ثابت أيضا للموضوع ، فيكون له أيضا ثبوت ثابت هو أيضا للموضوع ، إلى لا نهاية.

وإنّا قد كشفنا ، فيما تلونا عليك من قبل ، فسخه. والآن فقد نكشف أنّ ثبوت المحمول للموضوع ليس هو وجوده فى نفسه ، ولكن للموضوع ، كوجود الأعراض (٥٥) لمحالّها حتّى يستلزم وجوده فى نفسه ، بل إنّما هو اتّصاف موضوعه

١١٧

به ـ أى الوجود الرّابط ـ فيجود أن يتّصف الموضوع بالعدمىّ ممّا له ثبوت فى ذهن ما. واللاّنهاية فى الثّبوتات تنبّت بانبتات اعتبار العقل ؛ إذ ما لم يلحظ ثبوت المحمول للموضوع بالذّات ولم يعقل بالقصد ، لم يمكن أن ينتسب إلى الموضوع ويحكم بثبوته له.

فإذا قيل : «الإنسان كاتب» ، فقد يعقل مفهوم ثبوت الكتابة للإنسان ، على أنّه أداة للحاظ حال الإنسان والكتاب ومرآة لتعرّفهما ، لا على أنّه ملحوظ بالالتفات ومعقول بالقصد. فلا يمكن بحسب هذا التّعقّل أن يراعى حال ذلك الثّبوت ولا يتصوّر أن ينسب إلى الموضوع بالثّبوت واللاّثبوت.

فإذا قلت : ثبوت المحمول للموضوع كذا ، فقد جعلته منظورا إليه بالالتفات وملحوظا بالقصد ، لا بالتّبعيّة. وليس هو اتّصاف الموضوع بالمحمول الّذي لا يقع إلاّ بين الحاشيتين لا حاشية للحكم. فلذلك أمكنك أن تنسبه إلى الموضوع وتعتبر له ثبوتا آخر. وحينئذ يرجع الأمر إلى أن يكون ذلك الثّبوت الآخر آلة لتعرّف حال الثّبوت الأوّل ولا يكون معقولا بذاته ولا ملحوظا قصدا.

فإن التفتّ إليه وقلت : ثبوت الثّبوت كذا فقد فاتتك الحاشيتان إلاّ بالعرض ، وأمكنك أن تعتبر للثّبوت الآخر ثبوتا ثالثا ، وهكذا. فإذن ، تعقّل الثّبوت الثّاني يتوقّف على تعقّل الثّبوت الأوّل بالقصد ، وتعقّل الثّالث على تعقّل الثّاني كذلك ، والعقل تنتهى لحاظاته ، فتثبت السّلسلة.

<٩> تنصيص

إنّى أحكمت ما حكم به شركاؤنا السّالفون : أنّ المحمولات بما هى محمولات ليس وجودها فى أنفسها إلاّ وجودها لموضوعاتها ، لسنا نعني بذلك أنّ وجودها فى نفسها هو بعينه وجودها لموضوعاتها ، كما فى الأعراض ؛ إذ المحمول بما هو محمول ليس له وجود فى نفسه يكون هو لموضوع ذلك المحمول ، بل إنّه لا يوجد نفسه ، وإنّما يتصوّر هناك الوجود الرّابط بين الموضوع والمحمول ، فإنّما له ثبوت

١١٨

للموضوع ، لا وجود فى نفسه. ووجوده فى نفسه هو أنّه ثابت للموضوع.

ففرق بين قولنا : «وجوده فى نفسه هو وجوده لموضوعه» ، وبين قولنا : «وجوده فى نفسه هو أنّه موجود لموضوعه» ، ومدلول الأوّل أنّه موجود فى نفسه ؛ ووجوده فى نفسه هو لموضوعه ؛ لأنّه لا يقوم بذاته ، بل بموضوعه. ومدلول الثانى أنّه ليس له وجود فى نفسه ، وموجوديّته ليست بأن يكون هو من الموجودات فى أنفسها ، بل هو موجود لموضوعه. وذلك ما يعنى بموجوديّته فى نفسه.

<١٠> تمشية وردع

إنّى مصوّب سلف الفلاسفة فيما عقلوا أنّ النّسبة الحكميّة فى كلّ عقد ، موجبا كان أو سالبا ، ثبوتيّة ؛ وأن لا نسبة فى العقد السّالب وراء النّسبة الإيجابيّة الّتي هى فى العقد الموجب ، وأنّ مدلول العقد السّالب ومفاده هو سلب تلك النّسبة ، وليس فيه حمل بل سلب حمل. وإنّما يقال له الحمليّ على المجاز والتّشبيه ، وأن لا مادّة للعقد السّالب بحسب النّسبة السّلبيّة. وإنّما تكون المادّة بحسب النّسبة الإيجابيّة. فلذلك لا تختلف المادّة فى الموجب والسّالب بحسب النّسبة الإيجابيّة والنّسبة السّلبيّة.

ورادعك عمّا أحدثته متفلسفة المحدثين من ظنّ أنّ فى السّالب نسبة سلبيّة وراء النّسبة الإيجابيّة وأنّ المادّة تكون بحسب النّسبة السّلبيّة كما تكون بحسب النّسبة الإيجابيّة ، وأنّ مادّة النّسبة السّلبيّة مخالفة لمادّة النّسبة الإيجابيّة. ولا يخلو شيء منهما من الموادّ الثّلاث ، إلاّ أنّ المشهور اعتبارها فى النّسبة الثّبوتيّة ، لفضلها وشرفها ولاندراج ما يعتبر فى النّسبة السّلبيّة فيها (٥٦) ، إذ واجب العدم هو ممتنع الوجود وممتنع العدم هو واجب الوجود ، وممكن العدم هو ممكن الوجود.

فاعلمن أنّ المادّة هى حال المحمول فى نفسه عند الموضوع من وجوب صدق أو امتناع صدق أو إمكان صدق وكذب. وهى فى مطلق الهليّة البسيطة ترجع إلى حال الموضوع فى تجوهره أو فى وجود نفس ذاته المتجوهرة ، لا حال

١١٩

المحمول فى نسبته إلى الموضوع وثبوته له بحسب قوّة الذّات وتأكّد التّجوهر ووثاقة الوجود وحصافة التّحقق ، أو ضعف الذّات وسخافة الحقيقة ووهن الوجود وبطلان التّحقّق.

وفى الهليّة المركّبة هى حال المحمول فى نسبته إلى الموضوع وثبوته له باعتبار وثاقة النّسبة أو ضعفها. وليس فى السّلب إلاّ انتفاء الموضوع فى نفسه أو انتفاء المحمول عنه ، على أنّه ليس هناك شيء ، لا أنّ هناك شيئا هو الانتفاء ، فليس فيه ما المادّة حاله ؛ فإنّ السّلب رفع الذّات أو قطع الرّبط ، لا ثبوت الرّفع أو القطع حتّى ينقلب إيجابا.

فإذن ، لا يتصوّر المادّة إلاّ بحسب النّسبة الإيجابيّة. وكيف يكون لما ليس بما هو ليس حال ، وإنّما يكون للشّيء حال بما هو شيء ، لا بما ليس هو بشيء.

فالمادّة ، وكانت تسمّى عند الأوائل من اليونانيّة والأقدمين من فلاسفة الإسلام عنصرا ، حال الموضوع فى نفسه بالإيجاب بحسب كيفيّة الحقيقة فى التّجوهر وفى الوجود من استحقاق دوام التّجوهر أو استحقاق دوام اللاّتجوهر أو لا استحقاق دوام التّجوهر واللاّتجوهر ، واستحقاق دوام الوجود أو استحقاق دوام اللاّوجود ، أو لا استحقاق دوام الوجود واللاّوجود ، أو حال المحمول فى نفسه بالقياس الإيجابيّ إلى الموضوع بحسب صدق كيفيّة ثبوته للموضوع. ولو دلّ على العنصر بلفظ لكان يدلّ بالجهة.

وقد يكون العقد ذا جهة يخالف العنصر ، إذ العنصر يكون بحسب نفس الأمر والجهة بحسب بياننا وتصريحنا به بالفعل. فإذا قلت : كلّ إنسان يجب أن يكون كاتبا ، فالجهة فيه من الواجب والعنصر من الممكن. وما فى نفس الأمر لا يختلف بالإيجاب والسّلب. فالعقد السّالب توجد لمحموله الحال الّتي له عند الموضوع بالنّسبة الإيجابيّة بعينها ؛ فإنّ محموله يكون مستحقّا عند الإيجاب بأحد الأمور المذكورة ، وإن لم يكن اوجب.

وما توهّم ـ أنّ العنصر الثّابت على تقدير جعل العدم رابطة يكون غير الثّابت

١٢٠