مصنّفات ميرداماد

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]

مصنّفات ميرداماد

المؤلف:

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]


المحقق: عبدالله نوراني
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: منشورات مطبعة وزارة الإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-528-006-0
الصفحات: ٥٢٧
الجزء ١ الجزء ٢

على تقدير جعل الوجود رابطة يكون غير الثابت على تقدير جعل الوجود رابطة ـ وهم سخيف متفرع عن أخذ قولنا : «زيد معدم» مثلا موجبا ، وجهالة أنّه ينعزل بذلك عن أن يكون سلبا لقولنا «زيد موجود» ؛ ويرجع العقد إلى موجب سالب المحمول والحكم إلى إيجاب سلب الوجود. ولذلك يختلف العقدان بحسب العنصر. فأيّ مفهوم اخذ ، فإنّ له ، بما هو محمول ، حالا عند الموضوع بالنّسبة الإيجابيّة لا يتغيّر عند سلب تلك النّسبة.

فكما أنّ حال زيد فى نفسه بإيجاب الوجود ، أى عنصر هليّته البسيطة بحسب الاستحقاق واللاّاستحقاق ، لا يختلف فى نفس الأمر ، سواء أوجب أو سلب ؛ فكذلك حال ثبوت سلب الوجود لزيد ، أى حال مفهوم سلب الوجود بالقياس إلى زيد بالنّسبة الإيجابيّة. وهو عنصر هليّته المركّبة بحسب الاستحقاق واللاّاستحقاق بذلك لا ينقلب فى نفس الأمر ، سواء اوجب أو سلب.

ولا ينبغى أن يؤخذ «زيد معدوم» حين ما يرام سلب وجوده فى نفسه عقدا إيجابيّا ، بل يجب أن يعنى به انتفاؤه فى نفسه وسلب ذاته فى وجوده ، ليكون العقد من سوالب الهليّات البسيطة ، لا ثبوت سلب الوجود له ، حتّى يصير العقد موجبا من الهليّات المركّبة الإيجابيّة ؛ ولا سلب (٥٧) الوجود عنه ؛ ولا سلب نفسه عن نفسه ، حتى يرجع إلى أن يكون من سوالب الهليّات المركّبة.

ولذلك ما يقول شركاؤنا السّالفون من الحكماء الأقدمين أنّ محمول العقد الحملىّ ؛ سواء كان موجبا أو سالبا ، قد يكون ثبوتيّا وقد يكون عدميّا فى الخارج.

وأمّا فى الذّهن ، فلا بدّ وأن يكون ثابتا ، لاستحالة الحكم بما يكون متصوّرا. وأمّا موضوعه ، سواء كان موجبا أو سالبا ، فلا بدّ وأن يكون له ثبوت فى الذّهن ، لاستحالة الحكم على ما لا يكون متصوّرا.

وأمّا فى الخارج ، فكذلك إذا كان الحكم بالإيجاب فى الخارج لاستدعائه وجود الموضوع ؛ لأنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوته فى نفسه. اللّهمّ إلاّ إذا كان المحمول فى معنى السّلب المطلق ، نحو : «زيد معدوم فى الخارج» أو «شريك الإله ممتنع» ؛

١٢١

فإنّه وإن اضيف إلى الخارج لكنّه نفس السّلب عن الخارج ، فكأنّه قيل : «زيد المتمثّل فى الذّهن ليس فى الخارج». وإذا كان الحكم بالسّلب عن المعدوم فلا يقتضي وجود الموضوع فيه ، لجواز سلب المعدوم والسّلب عن المعدوم.

ومن لم يفرّق بين مسلكى الهليّتين ـ وظنّ أنّ سبيل طباع العقد مطلقا إعطاء ثبوت شيء لشيء ، أو سلب شيء عن شيء ، ولم يصدّق : أنّ قولنا : «وجد الفلك» مثلا ، يعطى تحقّق ذات الفلك ، لا تحقّق أمر له هو وجوده ، وكذلك قولنا : «عدم الفلك» ، يعطى بطلان ذاته ، لا انعقاد صفة عنه هى الوجود. وأمّا قولنا : «تحرّك الفلك» ، فإنّه يعطى ثبوت صفة للفلك ، يعبّر عنها بالحركة ، وكذلك قولنا : «سكن الفلك» ، يعطى انسلاب صفة عن الفلك ، هى الحركة ؛ ولم يجعل بإزاء المرتبة الّتي هى قبل مرتبة إثبات شيء لشيء ، وهى مرتبة ثبوته فى نفسه عقلا ، وأرجع ثبوته فى نفسه إلى ثبوت شيء له ـ فهو فاسد طباع الإنسانيّة ؛ فليصلح مزاج غريزته ، وليدبّر طباع عقله.

<١١> تكشاف

الشّيء الموضوع فى العقد إذا كان ضرورىّ التّجوهر ويلزمه أن يكون ضرورىّ الوجود فى نفسه ، أو المحمول ضرورىّ الوجود له ، كان الشيء الواجب إمّا باعتبار نفسه أو بحسب ثبوت المحمول له وعنصر العقد الوجوب.

وإن كان ضرورىّ اللاّتجوهر ويلزمه أن يكون ضرورىّ العدم أو المحمول ضرورىّ الانسلاب عنه كان هو الممتنع وعنصر العقد الامتناع.

وإن لم يكن ضرورىّ التّجوهر ولا ضرورىّ اللاّتجوهر ويلزمه أن لا يكون ضرورىّ الوجود ولا ضرورىّ سلب الوجود أو لم يكن ضرورىّ انبتات المحمول له ولا ضرورىّ انسلابه عنه كان هو الممكن ، وعنصر العقد الإمكان ، ولا يكون شيء من المفهومات التّصوريّة ، ولا شيء من العقود عروا منها ، بل كلّ مفهوم أو عقد ، فإنّ له واحدا من هذه العناصر ، وأمّا الجهات فمتكثّرة غير محصورة فيها.

١٢٢

وقد يتوافق الجهة والعنصر وقد يتخالفان ، ولا يلزم أن يكون كلّ عقد ذا جهة ، بل قد يخلو عن الجهة ويكون ذا عنصر. ولكن إهمال الجهة مغلّط.

فالّذى ينبغى هو أن تكون العقود مقرونة بالجهات ومعانى هذه العناصر من الطبائع الفطريّة التّصوّر. ولذلك ما يقنع بشرح ما وضع له اللّفظ بلفظ آخر مرادف.

ولا يتحاشى من أخذ البعض فى تحديد البعض ، فيقال : الوجوب ضرورة تقرّر الحقيقة وضرورة وجودها ، والامتناع ضرورة اللاّتجوهر ويستلزم ضرورة العدم ، والإمكان سلب ضرورة التّقرّر وسلب ضرورة اللاّتقرّر ، ويستلزم لا ضرورة الوجود ولا ضرورة اللاّوجود ، أى سلب الضّرورتين والوجوب ، لكونه حقيّة الحقيقة وقوّتها وتأكّد الوجود ووثاقته أظهر وأعرف عند العقل من قسيميه ، فلذلك هو يؤخذ فى تعريفهما ، ولا يستحسن العكس.

<١٢> أصل يمانيّ ميزانيّ

العقد قد يكون مطلقا عامّ الإطلاق ، وهو الّذي بيّن فيه حكم من غير بيان ضرورته أو دوامه السّرمديّ والدّهرىّ أو وجوده الغير الزّمانىّ فى وعاء الدّهر من بعد العدم الدّهرىّ أو دوامه الزّمانىّ (٥٨) أو كونه حينا من الأحيان.

والإطلاق فى العقد يقابل التّوجيه تقابل العدم والملكة ، وقد يعدّ المطلق فى العقود الموجّهة ، كما يعدّ السّالب فى العقود الحمليّة. وقد يبيّن فيه شيء من ذلك إمّا ضرورة وإمّا دوام سرمدىّ ودهرىّ ، وإمّا وجود غير زمانىّ فى وعاء الدّهر من بعد العدم فيه ، وإمّا دوام زمانىّ من غير ضرورة وإمّا وجود من غير دوام وضرورة.

والإطلاق العامّ يتناول جميعها من حيث العموم ويقابلها من حيث الاعتبار والعموم بحسب الوجود ، والتّقابل بحسب الصّدق. فمتى تحقّق الموجّه تحقّق المطلق. وما صدق عليه المطلق لم يصدق عليه الموجّه.

وأمّا الإمكان ، فقد يكون من الجهات ، ويقابل الإطلاق العامّ من حيث

١٢٣

الاعتبار ، ولكن لا يتناوله من حيث العموم ، إذ العقد من حيث بيّن فيه حكم إنّما يتناول ما يكون مشتملا على حكم قد حصل بالفعل ولا يتناول ما يكون مشتملا على حكم لم يحصل إلاّ بالقوّة.

فالعقد المطلق يدلّ على ثبوت النّسبة بالفعل والممكن لا يدلّ على وقوع النّسبة ؛ لجواز أن يبقى بالقوّة دائما. فلا حكم فيه بالفعل ، فهو لا يعمّ الممكن من حيث هو ممكن. فإذن الإمكان مغاير للإطلاق العامّ من حيث العموم والاعتبار جميعا.

<١٣> حكمة ميزانيّة يمانيّة

إنّ أسبق شركائنا السّالفين وهو رئيس مشّائيّة الإسلام فى السّابقين قال فى باريرميناس الشفاء : إنّ حقّ الجهة أنّ تقرن بالرّابطة. وذلك لأنّه جهة رابطة للمحمول على شيء مطلقا أو بسور معمّم أو مخصّص. فالسّور مبيّن لكميّة حمل مكيّف الرّبط. فإذا قلنا : «كلّ إنسان يمكن أن يكون كاتبا» فهو الطبيعيّ.

ومعناه : أنّ كلّ واحد من النّاس يمكن أن يكون كاتبا ؛ فإن قرن بالسّور ولم يرد به إزالة عن الموضع الطبيعىّ ، على سبيل التّوسّع ، بل اريد به الدّلالة على أنّ موضعها الطبيعىّ مجاورة السّور لم يكن جهة للرّبط بل جهة للتّعميم والتّخصيص ، وتغيّر المعنى وصار الممكن هو أن يكون كلّ واحد واحد من النّاس كافّتهم كاتبا ممكنا. والدّليل على تغيّر المعنى أنّ الأوّل لا يشكّ فيه عند جمهور النّاس ؛ فإنّ كل واحد واحد من النّاس يعلم أنّه لا يجب له فى طبيعته دوام كتابة أو غير كتابة.

وأمّا قولنا : يمكن أن يكون كلّ إنسان كاتبا ، على أنّ الإمكان جهة الكلّيّة والسّور ، فقد يشكّ فيه ؛ فإنّ من النّاس من يقول : محال أن يكون كلّ الناس كاتبين ، أى : محال أن يوجد أنّ كلّ إنسان هو كاتب حتى يكون اتفق أن لا واحد من النّاس إلاّ وهو كاتب. فإذن بين المعنيين فرقان.

وأمّا فى الجزئيّات ، فإنّ الأمرين فيهما يجريان مجرى واحدا فى الظهور

١٢٤

والخفاء. ولكنّه قد يعلم مع ذلك أنّ بين المعنيين خلافا إذا رجع إلى حقيقة المفهوم واستعين فيه باعتبار الكليّة.

وأمّا السّلب الكلّيّ ، فليس فى لغة العرب ما يدلّ بالحقيقة على السّلب الممكن العامّ ، بل المتعارف فيها إنّما يدلّ على إمكان سلب العامّ.

ولذلك يشكل أن يقال : يمكن أن لا يكون واحد من النّاس كاتبا. فلقائل أن يقول : إنّ هذا لا يمكن أن يصدق البتة ، بل يجب أن توجد الصّناعات فى بعض لا محالة.

وليس كلامنا فى أنّ هذا القول حقّ وباطل ، فليست معرفة هذا من صناعة المنطق ، بل غرضنا أنّ الأمر الّذي قد يقع فيه شكّ ليس هو الأمر الّذي لا يقع فيه. والّذي لا يقع فيه شكّ هو إمكان سلب الكتابة عن كلّ واحد واحد. لكنّه لا يوجد فى لغة العرب ما يدلّ على هذا إلاّ بالإيجاب ، كقولهم : «كلّ واحد من النّاس يمكن أن لا يكون كاتبا».

ونحن نقول : كلامه فى السّلب الكلىّ : أنّ الجهة ، كالإمكان العامّ ، مثلا ، إذا قرنت بالسّور ، كقولهم : «بالإمكان لا شيء من الإنسان يكون كاتبا» ، كانت جهة لاستغراق السّلب وعمومه ، لا لكون كلّ واحد من الآحاد مسلوب الكتابة (٥٩) عنه فى طبيعته ، فكان الّذي يفاد بذلك القول هو أنّه يمكن أن يستغرق سلب الكتابة جميع النّاس كافّة. وليس هو ما ريم بالعقد ، كما قال فى الإيجاب. وإن قرنت بالرّابطة ، كقولهم : «لا شيء من الإنسان يمكن أن يكون كاتبا» كان السّلب واردا على جهة الرّبط الإيجابيّ ، فكان العقد يعطى سلب الإمكان العامّ للرّبط الإيجابيّ ، لا الإمكان العامّ لذلك السّلب.

والسّرّ فى ذلك أنّه ليس فى السّالب ربط حقيقة ، بل الرّبط فيه عبارة عن قطع الرّبط الإيجابيّ. فإذا جاورت الجهة الرّبط فيه كانت جهة للرّبط الإيجابيّ وكان السّلب قاطعا لذلك الرّبط الّذي جهته تلك. فكانت جهة الرّبط الإيجابيّ مسلوبة ، لا لسلب الرّبط موجّها.

١٢٥

وممّا يستأهل أن يستغرب ، من كبراء المشّائيّة ولا سيّما من هذا الرّئيس الواسع التّعقّل النّافذ النّظر الراقد القريحة ، أنّهم يطّلعون على هذا السّرّ ، ثمّ يذهلون عن الحكم بأنّه كما لا يكون بحسب النّسبة السّلبيّة عنصر كذلك لا يكون بحسبها جهة. ولا يختلف ذلك باختلاف اللّغات ؛ إذ هو أمر عقلىّ لا يتجاوزه العقل فى مادّة أصلا.

أليس بين ثبوت العدم ـ وهو الّذي يعطيه الموجب المعدول أو الموجب السّالب المحمول ـ وبين عدم الثّبوت ، وهو الّذي يعطيه السّالب البسيط ، فرق على قياس الفرق بين لزوم السّلب وبين سلب اللّزوم ، أعنى بين لزوم العقد السّالب للمقدّم فى المتصل الموجب وبين سلب لزوم العقد الموجب له فى المتصل السّالب.

والحكم السّلبيّ ليس بما هو حكم سلبىّ إلاّ قطع النّسبة الإيجابيّة ، ولا يكون فيه إلى ذلك السّلب التفات حتّى يمكن للعقل ـ حين ما هو سالب للنّسبة بما هو سالب لها ـ أن يلاحظ حال مفهوم السّلب ويحكم عليه : بأنّه مفهوم أو متحقق أو منتف وغير ذلك. بل إنّما له من تلك الجهة أن يقول : ليس يتحقق النّسبة الإيجابيّة وليس فيه وضع شيء ما ليصحّ تكيّفه ، بل رفع بحت وليسيّة صرفة.

فإن أراد لحاظ حال هذه النّسبة عزل القصد عن حاشيتى النّسبة الإيجابيّة والتفت إلى ذلك السّلب القاطع لها. فإذن ، ليس يلحظ فى السّالب أن يسلب النّسبة الإيجابيّة إيجابا أو سلبا حتى تكون له جهة عند العقل ، بل إنّما يمكن ذلك فى لحاظ آخر عند ما ينسب إلى ذلك السّلب ثبوت أو سلب [بما هى نسبة سلبيّة].

وبالجملة ، إنّما يكون للشّيء حال بما هو شيء ، لا بما ليس هو بشيء. وإنّما يصحّ تكيّف الرّبط بما هو ربط ، لا بما ليس هو بربط. وليس السّلب بما هو سلب ربطا ولا شيئا من الأشياء ، وإنّما يكون له الشّيئيّة بما هو متمثّل فى الذّهن ، لا بما هو رفع الرّبط. وكذلك ليس الموضوع بما سلب فى نفسه أو بما سلب عنه المحمول شيئا ، ولا المحمول بما سلب عن الموضوع هو شيء ؛ بل إنّما الشّيئيّة للموضوع أو

١٢٦

للمحمول أو للسّلب من حيثيّة اخرى غير السّلب. وإنّما يتصوّر تكييف الشّيء من حيث له شيئيّة ، لا من حيث تسلب عنه الشّيئيّة. فالتّكييف إنّما يصحّ فى الإيجاب والسّلب برفع النّسبة الإيجابيّة المكيّفة.

فإذن ، لا تكون للنّسبة السّلبيّة بما هى نسبة سلبيّة جهة ، إذ ليس بحسبها إلاّ رفع الإيجاب ، لا لحاظ حال ذلك الرّفع ، كما لا يكون بحسبها عنصر من هذا السّبيل.

ومن سبيل آخر أيضا قد استبان لك. وهو أنّ العنصر حال الموضوع بالإيجاب أو حال المحمول بالقياس الإيجابيّ إلى الموضوع بحسب نفس الأمر ، لا فى حكم العقل بحسب التّعقّل.

فإذن ، لا يكون العقود الموجّهة إلاّ موجّهات. وحيث إنّ كلّ سالب ، موضوعه موجود فى الذّهن ، والموجب السّالب المحمول يلزم السّالب إذا كان موضوعه موجودا ، فكلّ سالب يرجع عنه ويوجب السّلب الّذي هو حكمه على الموضوع. فيحصل نسبة إيجابيّة ذات جهة معتبرة لها. فتنسب الجهة إلى السّا لب الّذي هو ملزوم لتلك النّسبة الإيجابيّة من حيث وجود الموضوع بالعرض ، لا نسبة بالذّات على أنّها للسّالب بالحقيقة.

فإذن ، الجهات للموجبات الّتي هى اللّوازم وإن سومح بذكرها فى الملزومات الّتي هى السّوالب (٦٠) ، كما يسامح فى باب التّناقض ، فيطلق النّقيض على لوازم النّقائض ويجعل الإيجاب نقيض السّلب ، وأنّ نقيضه سلب السّلب المستلزم للإيجاب ، ونقيض العقد إنّما يتحصّل بإدخال «ليس» على ما أوجب بعينه بما له من العنصر والجهة.

فنقيض قولنا : «لا شيء من الإنسان بكاتب» : «ليس لا شيء من الإنسان بكاتب». ويلزمه : «بعض الإنسان كاتب» ، ونقيض قولنا : «ليس زيد يمكن أن يكون كاتبا» : «ليس ليس زيد يمكن أن يكون كاتبا». ويلزمه : «زيد يمكن أن يكون كاتبا». فتؤخذ اللوازم وتذهل عن النّقائض.

وكذلك فى باب الجهات يترك ذو الجهة ويوضع ملزومه مكانه ، فليس يصحّ أن

١٢٧

يكون السّلب ذو الجهة هو ما يعطيه السّالب ؛ كقولنا ؛ «ليس زيد يكون كاتبا» ، بل ما يعطيه الموجب السّالب المحمول ، كقولنا : «زيد يكون ليس بكاتب». وهو يلزم السّالب بحسب وجود الموضوع.

وبما عرّفناك ، يمتحق ما يغتال الأوهام بعدم اشتراط الإيجاب فى صغرى السّياق الأتمّ الأخيرة من ذنابته ، أى السّياق الثّالث ، لأنّه إذا قيل : «ج ليس هو ب. وكلّ ما ليس ب أ» أنتج : «بالضّرورة : فج هو أ».

وقد سبق بذلك فريق من المنتسبين إلى التّشبّه بأهل العلم إلى الغواية ، فوقع فى ظنونهم : أنّ الحقّ أنّ الموجبة الّتي تشترط فى إنتاج السّياقين لا يجب أن يكون موضوعها موجودا محقّقا أو مقدّرا ، لأنّه متى صدق نسبة اعتبار إلى مفهوم وجودىّ أو عدمىّ وتكرّر ذلك الاعتبار فى الكبرى أنتج القياس قطعا. فإذا صدق سلب محمول عن موضوع وصدق أمر على كلّ ما صدق عليه ذلك السّالب ، فقد أنتج لحصول الاندراج ؛ وإن كانت الصّغرى سالبة. نعم إذا لم يتكرّر حرف السّلب مع ما بعده فى الكبرى لا ينتج القياس شيئا. كقولنا : «أليس ب ، وكلّ ب ج» ، فإنّه لا ينتج أصلا.

والسّفسطة فيه بما أفدناك ظاهرة ؛ فإنّه ليس فى السّالب نسبة اعتبار إلى مفهوم ، بل سلب نسبة اعتبار إلى مفهوم. والاندراج المتوهّم فاسد ما لم ينقلب السّالب موجبا سالب المحمول.

ألسنا قد ألقينا عليك فيما سلف : أنّ عقد الوضع تركيب تقييديّ مشير إلى تركيب حملىّ ، ففى قولنا : «ليس أب ، وكلّ ما ليس ب ج» ، لم يحمل فى الصّغرى : «ليس ب» على شيء ، بل إنّما قطع حمل ب على أ ، ورفع هو عنه ، وليس يصدق بحسب ذلك «ليس ب» على شيء ، إلاّ إذا رجع وحكم به (١) على شيء بالإيجاب ؛ وفى الكبرى حكم على ما حمل عليه «ليس ب» على المساوقة لتركيب

__________________

(١). انتهى النسخة المخطوطة فى مكتبة جامعة طهران ، رقم المجموعة ٢٦٦.

١٢٨

حملىّ صادق. فكيف يندرج «أ» فيه ما لم يحكم عليه ب‍ «ليس ب» بالإيجاب. فإذن ، إنّما يندرج الأصغر فى الأوسط لو قيل : «أهو ليس ب ، لا أليس هو ب».

ولمّا تأصّل أنّ الجهة لا تتغيّر باختلاف نسبة العقد إيجابا وسلبا ، كما العنصر بذلك لا يتغيّر ؛ تمحّقت تطويلات المشّائيّة بالتّعمّقات فى نقائض العقود بحسب الجهات المختلفة ، وتنطّقت حكمة الميزان بالخلوص عن تشويش الزّوائد والنّقاء عن فضول الإطنابات.

<١٤> حكمة إشراقيّة ميزانيّة

وممّا حاولت به الإشراقيّة تنقية حكمة الميزان وتصفية صناعة البرهان ردّ قاطبة العقود المستعملة فى العلوم بحسب الكيف والكم والجهة إلى الموجب المحيط الضّرورىّ البتّان بعقد موجب سالب المحمول بعد كلّ سالب وحذف مرسل كميّة الموضوع بإسقاط المراسيل ، لما بيّن فى أساسات التّعاليم أنّ مرسلات العلوم محيطات ، وقلب الجزئيّة محيطة بتسمية الأبعاض المحكوم عليها فى الجزئيّات بأسماء معيّنة ، ثمّ الحكم على عنوان المسمّى بذلك الاسم على الإحاطة بالقياس إلى جميع أفراده وحذف مهمل الجهة بتوجيه المطلقات ؛ لما وضع فى اصول التّعاليم : أنّ المستعملات فى العلوم وإن كانت مطلقات من حيث الصّورة (٦١) ، فهى موجّهات ، بل ضروريّات من حيث المعنى ، وحصر مطلق الجهة فى الضّرورة البتّانة ، لكون كلّ عنصر ضروريّا لذى العنصر.

فلمّا كان الواجب إذا جعل موضوعا ونسب إليه وجوبه وجد أنّه ضروريّ له ، وكذلك الممكن إذا نسب إمكانه إليه كان ضروريّا له. وكذلك الممتنع امتناعه ضروريّ له. فكان الأولى جعل الجهات من الوجوب وقسيميه أجزاء للمحمولات حتى تصير العقود على كافّة الأحوال ضروريّات ، فنقول :

كلّ إنسان بالضّرورة هو ممكن أن يكون كاتبا ، أو بالضّرورة يجب أن يكون حيوانا ؛ أو بالضّرورة يمتنع أن يكون حجرا. فهذا هو العقد الضّرورىّ

١٢٩

البتّان. والضّرورة البتّانة هى الضّرورة الّتي جعلت جهة ربط المحمول الّذي جعلت إحدى الجهات الثّلاث جزءا منه. وهذا هو المطلوب فى العلوم والمقتنص بالحجج والبراهين.

فإذا رمنا فى العلوم تحصيل إمكان شيء أو امتناعه كان ذلك جزء المطلوب ، لا جهة له. والجهة على الإطلاق هى الضّرورة المطلقة ؛ ولا يمكننا أن نحكم حكما جازما بتّة إلاّ بما نعلم أنّه بالضّرورة كذا ، والإمكان للممكن ضرورىّ ، سواء كان الممكن ضرورىّ الوقوع أو اللاّوقوع فى وقت ما ، كالتّنفّس واللاّتنفّس ، أو لم يكن كذلك ، كالكتابة. فيصحّ : «كلّ إنسان بالضّرورة هو متنفّس وقتا مّا».

وكون الإنسان ضرورىّ التّنفّس وقتا مّا أمر يلزمه أبدا ؛ وكونه ضرورىّ اللاّتنفّس فى وقت ما ، غير ذلك الوقت ، أمر يلزمه أبدا فى الوجود الخارجىّ ، فإذن لا يعتبر من العقود إلاّ البتّان.

وإذا كانت الجهة الّتي تجعل جزء المحمول هى الضّرورة كفت الّتي هى جهة الرّبط عنها من غير تكوير ، فيقال ، مثلا : كلّ إنسان بالضّرورة هو حيوان ، أو يشار إلى كونها بتّاتة. لا مع إدخال جهة اخرى فى المحمول ، فيقال : كلّ إنسان بتّة هو حيوان. وإذا كانت هى الإمكان أو الامتناع وجعل العقد بتّاتا فلا بدّ من إدراج الجهة فى المحمول للأمر من أن يكون قولا مغلّطا. فإذن ، ينبغى أن لا يورد من العقود إلاّ البتّان.

وربما لم تر فئة من الرّواقيّة بأسا بترك التّعرّض للسّلب بعد التّعرّض للجهات ؛ لأنّ السّلب التّامّ هو الضروريّ ويدخل تحت الإيجاب الضّرورىّ إذا أورد الامتناع فى المحمول ، على ما تلى عليك ، كما يقال : «كلّ إنسان بالضّرورة يمتنع أن يكون حجرا». والسّلب الّذي هو غير تامّ ، وهو الممكن ، ينقلب سالبه إلى موجبه ، وموجبه يقع تحت الإيجاب البتّانىّ إذا اورد الإمكان فى المحمول. كما سمعت. فيستغنى عن مثل قولهم : «الإنسان يمكن أن يكون ليس هو كاتبا» بمثل قولهم : «الإنسان بالضّرورة يمكن أن يكون كاتبا».

١٣٠

وإنّى لست أسوّغ أن يطفر عن اعتبار السّلوب البسيطة طفرة ، ويهمل جانب النّقائض إهمالا ، فيصير ذلك طريقا واسعا لتطرّق الأغاليط إلى الأذهان ، فيطفح إقليم الحكمة بشرور الوهم طفوحا ، ويسيح مسياح الغلط فى أرض العلم سيوحا. بل الواجب عقد السّوالب البسيطة أوّلا ، ثمّ ثني النّظر إلى إيجاب سلوبها للموضوعات ، فجعل الموجبات الّتي محمولاتها تلك السّلوب بتّاتيّات. فلعلّ ذلك سبيل تسوية الميزان.

<١٥> تلويح

كما أنّ العقود ليست ممكنة الانسلاخ عن العناصر بحسب نسبتها الإيجابيّة بين المحمولات والموضوعات ، وذو العنصر إمّا الموضوع بحسب ثبوت المحمول ، أو المحمول فى ثبوته للموضوع ، أو النّسبة الحكميّة الّتي بينهما من حيث الإيجاب ؛ كذلك يكون فيها لعقد الوضع عنصر بحسب الوصف العنوانىّ الّذي يوصف الموضوع به ويوضع معه ؛ فإنّه يشبه المحمول من حيث كونه وصفا للموضوع ، ويفارقه بأنّ المحمول وصف محمول عليه ، وهو وصف موضوع معه. ولذلك الوصف نسبة إلى الموضوع ، كما للمحمول ، بعينها فى أنّها لا تخلو من أنّها إمّا واجبة أو ممكنة أو ممتنعة (٦٢). ولا بدّ للنّاظر فى أحوال الجهات من مراعاتها ؛ فإنّ الغفلة عنها ممّا يقتضي الفساد فى أبواب العكوس والقياسات المختلطة.

<١٦> تنبيه

وإذ قد دريت أنّه لا يصحّ تكيّف السّلب من حيث هو رفع الإيجاب ، بل إنّما من حيث يلحظ له ثبوت أو يعتبر إيجابه لشيء ، ولا يكون للسّلب بما تسلب به نسبته ويرفع به إيجاب عنصر ولا جهة ؛ فقد علمت أنّه لا تكون نسبة سلبيّة مكيّفة بضرورة أو دوام أو غير ذلك ؛ بل إنّما معنى ضرورة النّسبة السّلبيّة امتناع النّسبة الإيجابيّة الّتي هى نقيضها. ومعنى دوام النّسبة السّلبيّة سلب تلك النّسبة الإيجابيّة فى

١٣١

كلّ وقت على أن يعتبر ذلك فى النّسبة الإيجابيّة ، ويجعل السّلب قاطعا لها بذلك الاعتبار، فيرفع الإيجاب بحسب أىّ وقت فرض من الأوقات.

فإذن ، ليس الفرق بين السّالب الضّرورىّ وسالب الضّرورىّ أو بين السّالب الدّائم وسلب الدّائم مثلا ، على ما نالته ظنون رؤساء الحكمة العامّة ، بل على ما أبدته الحكمة الخاصيّة الخالصة الحقّة.

وكذلك القول فى السّالب المطلق وسالب المطلق ، فإنّ الإطلاق مقابل التّوجيه مقابلة العدم والقنية. وفصل إطلاق السّلب عن سلب الإطلاق ليس سبيله ما أدّت إليه أنظارهم. وليس تحقيق ذلك على ذمّة هذا العلم. وإنّما كفالته إلى الحكمة الّتي هى مكيال العلوم ، وهى صناعة الميزان.

<١٧> استقراء

الإمكان بحسب ما يستعمله جماهير النّاس من العامّة فى قوّة سلب امتناع ذات الموضوع أو سلب امتناع النّسبة بين الحاشيتين فى العقد والامتناع ، ضرورة انتفاء الموضوع فى نفسه ، أو ضرورة عدم النّسبة. وبالجملة ، ضرورة الطّرف المخالف إمّا بالقياس إلى الذّات باعتبار تحقّقها فى نفسها أو بالقياس إلى تحقّق النّسبة.

(١) فمعنى الإمكان سلب ضرورة الطرف المخالف على ما هو موضوع له فى الوضع الأوّل. وإنّما توصف به النّسبة المتحققة من باب وصف الشّيء بحال متعلّقه الغير الواقع فى نفس الأمر. وهنالك ما ليس بممكن فهو ممتنع. والممكن واقع على الواجب وعلى ما ليس بواجب ولا بممتنع ، ولا يقع على الممتنع الّذي يقابله. وإنّما ذلك بحسب ما يتصوّر العقل ويستحصل مفهوما يقع عليهما ، لا بحسب ما فى نفس الأمر ، طبيعة متناولة لهما ؛ إذ ليس هذا الإمكان فى نفس الأمر شيئا متناولا للوجوب والإمكان الحقيقىّ ، بل ما فى نفس الأمر هو أحدهما بالضّرورة. وإنّما هذا المعنى نسبة متحصّلة فى العقل هى فى نفس الأمر أحد ذينك المعنيين ، لا طبيعة مبهمة متحصّلة بهما فى نفس الأمر. ولذلك فليس هو بعنصر ، وإنّما يقع جهة.

١٣٢

ثمّ كان هذا من تصاريفه بعد ذلك الوضع أن اعتبر ذلك المعنى تارة فى جانب الإيجاب ، كما فى الوضع الأوّل وتارة فى جانب السّلب ، إذ من شأن الامتناع أن يدخل إمّا على الإيجاب وإمّا على السّلب. وحينئذ وقع على الممتنع وعلى ما ليس بواجب ولا ممتنع وتخلّى عن الواجب.

فثمّة يصير الإمكان مقابلا لكلّ واحد من ضرورتى الجانبين ؛ إذ بحسب دخوله على الإيجاب صار الممكن أن يكون غير ممتنع أن يكون وقابل ضرورة السّلب. وبحسب دخوله على السّلب صار الممكن أن يكون غير ممتنع أن لا يكون وقابل ضرورة الإيجاب. فإذن صار ملازما لسلب ضرورة أحد الجانبين لا بخصوصه بحسب ما يضاف إليه من الإيجاب والسّلب.

(٢) وأمّا هو قبل هذا الانضياف فهو بإزاء سلب الامتناع فقط. ولمّا لزم وقوعه على ما ليس بواجب ولا ممتنع فى حالتيه جميعا وضع بحسب النّقل الخاصّىّ لسلب الضّرورة فى جانبى الإيجاب والسّلب جميعا حتى يكون الشّيء بحسبه ممكنا أن يكون وممكنا أن لا يكون ، أى : غير ممتنع أن يكون (٦٣) وغير ممتنع أن لا يكون ، وهو الإمكان الحقيقىّ المقابل للضّرورتين جميعا ، وهو أخصّ من الأوّل.

فإذن ، كان الأوّل إمكانا عامّا أو عاميّا منسوبا إلى العامّة ، والثانى خاصّا أو خاصيّا ، وصارت الأشياء بحسبه إمّا واجبة وإمّا ممتنعة ، كما كانت بحسب المفهوم الأوّل إمّا واجبة وإمّا ممكنة أو إمّا ممتنعة وإمّا ممكنة.

(٣) ثمّ قد يقال : الإمكان ، ويعنى به ما يقابل جميع الضّرورات الذّاتيّة والوصفيّة والوقتيّة. وهو أحقّ بهذا الاسم من الأوّلين. فالممكن (أى ؛ فإنّ الممكن ، منه ره). بهذا المعنى أقرب إلى حاقّ الوسط بين طرفى الإيجاب والسّلب ، كالكتابة للإنسان إذ الطبيعة الإنسانيّة متساوية النّسبة إلى وجود الكتابة له أولا وجودها. والضّرورة بشرط المحمول وإن كانت مقابلة بهذا الإمكان بالاعتبار فربما تشاركه فى المادّة ، لكنّها توصف بتلك الضّرورة من حيث الوجود. وبهذا الإمكان من حيث الماهيّة لا الوجود. وحال هذا المعنى من اللّذين قبله يناسب حال

١٣٣

الأخصّ من الأعمّ.

ولسنا نقول : إنّه أخصّ منهما ؛ لأنّ الأخصّ والأعمّ هما اللّذان يدلاّن على معنى بعينه ويختلفان بأنّ أحدهما أقلّ تناولا وأضيق اعتبارا من الأمر. أمّا إذا دلّ أحدهما على عضة ممّا يدلّ عليه الآخر باشتراك اللّفظ ؛ فإنّه لا يقال له : إنّه أخصّ منه إلاّ بنوع من المجاز ، كما إذا سمّى واحد من السّودان ، مثلا ، بالأسود ، فلا يقال : إنّ الأسود يقع عليه وعلى صنفه بالخصوص والعموم. ولفظ الممكن هاهنا يقع على المعانى المذكورة ، بل على الأخير بجميعها بالاشتراك.

(٤) وقد يطلق الإمكان ويفهم منه معنى رابع : وهو أن يكون الالتفات فى الاعتبار ليس لما يوصف به الشيء فى حال من أحوال الوجود من إيجاب أو سلب ، بل بحسب حاله فى الاستقبال. فإذا كان ذلك المعنى غير ضرورىّ الوجود أو العدم فى أىّ وقت فرض له فى المستقبل فهو ممكن ، وهو الإمكان الاستقبالىّ.

وإنّما اعتبره فريق من الميزانيّين لكون ما ينسب إلى الماضى والحال من الامور الممكنة إمّا موجودا وإمّا معدوما ، فيكون قد ساقتها من حاقّ الوسط إلى أحد الطرفين ضرورة ما. والباقى على الإمكان الصّرف لا يكون إلاّ ما ينسب إلى الاستقبال من الممكنات الّتي يجهل حالها : أتكون موجودة إذا حان حينها أم لا.

وينبغى أن يكون هذا الممكن ممكنا بالأخصّ مع تقيّده بالقياس إلى الاستقبال ؛ لأنّ الأوّلين ربما يقعان على ما يتعيّن أحد طرفيه بضرورة ما ، كالكسوف ، فلا يكون ممكنا صرفا.

ومن اشترط منهم فى هذا أن يكون معدوما فى الحال فقد ركب شططا لا ينبغى ؛ فإنّه قد حسب أنّ جعله موجودا قد أخرجه إلى ضرورة الوجود ، ولم يتفطّن أنّ فرض العدم الحالىّ يسوقه إلى ضرورة العدم ، كما الوجود الحاليّ إلى ضرورة الوجود. فإن استنصر بذاك فقد أوجب أن يستنصر بهذا أيضا ؛ والواجب فيه أن لا يلتفت إلى الوجود الحالىّ ولا إلى عدمه ، بل يقتصر على اعتبار الاستقبال. فاعلم أنّ الوجود لا يمنع الإمكان. أليس إمّا أن يعتبر من حيث يقتضيه ضرورة ما

١٣٤

ذاتيّة أو غير ذاتيّة ، وإمّا أن يعتبر لا من حيث كذلك.

فهذه أقسام ثلاثة. والأوّل يدخل تحت الإمكان العامّ ، والثّاني يصدق عليه الإمكان الخاصّ ، والثّالث لا يصادم الإمكان الاستقبالىّ الّذي هو أخصّ الإمكانات بطبيعة الإمكان فضلا عمّا فوقه ؛ لأنّه لا ينافى العدم الّذي يقابله إذا اختلف وقتاهما. فكيف ينافى الإمكان الّذي هو أقرب من العدم إليه. فليس إذا كان الشّيء متحرّكا فى الحال يستحيل أن لا يتحرّك فى الاستقبال فضلا عن أن يكون غير ضرورىّ له أن يتحرّك وأن لا يتحرّك فى الاستقبال. وهذا قول يستصحّه النّظر الميزانىّ.

وأمّا الفحص الحكمىّ فيعطى (٦٤) أنّ ضرورة الوجود الحالىّ المساوق لامتناع العدم فى الحال من جهة اقتضاء العلّة الّتي لا يصادم لا ضرورتهما بالقياس إلى ذات الممكن فى الحال ، كما فى الاستقبال ، والممكن فى الاستقبال لا يتخلى عن الضّرورة باعتبار أحد الطرفين. والامتناع باعتبار مقابل ذلك الطرف من جهة إيجاب العلّة ، كما فى الحال.

نعم ، الوجود فى الحال لا يأبى العدم فى ثانى الحال ، وإنّما يبطل العدم فى الحال. فإذن ، الإمكان متساوى النّسبة إلى الحال والاستقبال بالقياس إلى الممكن.

والحقّ فيه ما قاله بعض من سبقنا ، من حملة عرش العلم. وهو أنّ الصّدق والكذب قد يتعيّنان ، كما فى مادّتى الوجوب والامتناع ، وقد لا يتعيّنان ، كما فى مادّة الإمكان ، ولا سيّما الاستقبالىّ ، فإنّ الواقع فى الماضى والحال قد يتعيّن طرف وقوعه ، وجودا كان أو عدما ، ويكون الصّادق والكاذب بحسب المطابقة وعدمها متعيّنين وإن كانا بالقياس إلينا بجهلنا بالأمر غير متعيّنين. وأمّا الاستقبالىّ ، فقد نظر فى عدم تعيّن أحد طرفيه : أهو كذلك فى نفس الأمر ، أم بالقياس إلينا؟

والجمهور يظنّونه كذلك فى نفس الأمر. والتّحقيق يأباه ، لاستناد الحوادث فى أنفسها إلى علل تجب بها وتمتنع دونها. وانتهاء تلك العلل إلى فاعل أوّل يجب لذاته.

١٣٥

وإذ نحن نعرّفك لما يحين وقته إن شاء اللّه ـ تعالى ـ أنّ تعاقب الامور الغير القارّة إنّما يصحّ بحسب الوقوع فى افق الزّمان ، لا بحسب الحضور لدى المبدأ المحيط بالكلّ أو بالقياس إلى المفارقات النّوريّة من الملائكة ، يستبين لك هذا السّبيل من طريق آخر أوضح.

وبما قرع سمعك ظهر لك : أنّ الدّوام لا ينفكّ عن الضّرورة فى نفس الأمر ، بل فى خصوص لحاظ الذّهن فقط ، حيث يلحظ الشّيء من حيث الدّوام ، لا من حيث الضّرورة. فالدّوام ، لا يكون عنصرا ، وإنّما يقع للعقد فى الذّكر اللّهجىّ أو اللّحاظ السّرّىّ.

(٥) ثمّ قد يطلق الإمكان ، ويعنى به الإمكان الاستعدادىّ الّذي هو تهيّؤ الهيولى واستعدادها لما يحصل لها من الصّور والأعراض ، بتحقّق بعض الأسباب والشّرائط بحيث لا يصل إلى ميقات الوجوب الحاصل عند تمام العلّة.

وهو كيفيّة استعداديّة هى من الأعراض القائمة بالمادّة وتتفاوت شدّة وضعفا بحسب القرب من الحصول والبعد عنه ، بناء على حصول الأكثر ممّا لا بدّ منه أو الأقلّ ، كاستعداد الإنسانيّة الحاصل للنّطفة ثمّ للعلقة ثمّ للمضغة ، وكاستعداد الكتابة الحاصل للجنين ثمّ للطفل ، وهكذا إلى أن يتعلّم.

وليس هو من الاعتبارات الانتزاعيّة العقليّة اللاّزمة للماهيّة ، كالإمكان بالمعانى السّابقة ، بل إنّه يوجد بعد العدم بحدوث بعض الأسباب والشّرائط ، وينقطع استمراره بحدوث الشّيء بالفعل ، ويكون جزءا من المحمول ولا يعدّ من الجهات ، وسيعاد إليك بالذّكر ، وعسى أن يكون قريبا.

<١٨> لحاقة

قسمة المفهوم بحسب العناصر الثلاثة إلى الواجب والممكن والممتنع قسمة حقيقيّة جارية فى قاطبة المفهومات بالقياس إلى أىّ محمول كان. فكلّ مفهوم إمّا أن يكون واجب الحيوانيّة مثلا أو ممتنعها أو ممكنها. لكن حيثما يطلق الواجب

١٣٦

أو الممتنع أو الممكن فى الحكمة الحقيقيّة ، أعنى علم ما فوق الطبيعة ، يتبادر إلى الذّهن الواجب الوجود أو الممتنع الوجود أو الممكن الوجود. فالوجوب والامتناع والإمكان الدّائرة فى هذه الصّناعة هى ما هى جهات العقود وموادّها فى صناعة الميزان. لكنّ المستعملة هاهنا هى تلك العناصر مقيّدة بنسبة مفهوم المحمول الّذي هو الوجود.

ومن لم يحصّل ذلك من ضعفاء العقول ظنّ أنّ هذه مغايرة لتلك بحسب المعنى وإلاّ كانت (٦٥) لوازم الماهيّات ، كالزّوجيّة للأربعة ، وكذا الماهيّات الملزومة ، كالأربعة للزّوجيّة ، واجبة لذواتها ، ولم يتفقّه أنّ اللاّزم هو أن تكون الأربعة واجبة الزّوجيّة ، لا واجبة الوجود. فاختلاف المعنى بسبب اختلاف المحمول ، لا بسبب اختلاف مفهوم الوجوب الّذي هو العنصر والجهة فيه.

ثمّ من لم يتعرّف (١) من مقلّدة المتشبّهين بالحكماء ـ أنّ لازم الماهيّة ، كثبوت الزّوجيّة للأربعة ، إنّما يستند بالذّات إلى نفس الماهيّة المتجوهرة ، ولا يتوقّف ذلك الثّبوت الرّابطىّ على جاعل الماهيّة ، إلاّ بالعرض ، من حيث إنّ ماهيّة الأربعة ، مثلا ، من الطبائع الّتي لا تتجوهر إلاّ بجعل الجاعل ، ولا على وجود تلك الماهيّة المتقرّرة إلاّ بالعرض أيضا ؛ من حيث إنّها استدعت أن تكون حالة الاقتضاء مخلوطة بالوجود لا بالذّات ، حتّى تكون العلّة المقتضية لثبوت الزوجيّة للأربعة بالنّظر إلى استدعاء ذلك الثّبوت بخصوصه من حيث خصوصيّة الطرفين مركبّة عند العقل من ماهيّة الأربعة ومن اعتبار حيثيّة الوجود لها على أن تكون القضيّة المعقودة بذلك الحكم وصفيّة بحسب أخذ الموضوع مع قيد تلك الحيثيّة ، وقد تحقّقته بالوجوه الّتي عرّفناكها فى ما سلف ـ

توهّم أنّ كون اللّوازم واجبة لملزوماتها نظرا إلى ذواتها إنّما يتصوّر إذا كانت الملزومات واجبة الوجود لذواتها ؛ إذ لو لم يكن كذلك لاحتاج ثبوت اللّوازم لها إلى ما يوجدها ، وأنّ الضّرورة فى قولنا : «الأربعة زوج ما دامت موجودة بالضّرورة»

__________________

(١). هو المحقّق الدّوانىّ تقوية لصاحب المواقف ؛ سمعته ، سلّمه اللّه.

١٣٧

ضرورة وصفيّة مقيّدة بقيد الوجود ؛ ولم يميّز الضّرورة الذّاتيّة عن الضّرورة بشرط الوصف ؛ ولم يستطع ، الفرق بين الضّرورة الذّاتيّة الأزليّة السّرمديّة ، كما فى قولنا : «اللّه عالم بالضّرورة» وبين الضّرورة الذّاتيّة الصّادقة حالة الوجود ، أى مع الوجود ، لا بالوجود ، كما فى هذه الضّرورة ، سبيلا.

ألست إذا لاحظت قولنا : «المعلول موجود ما دامت العلّة موجودة بالضّرورة» ، وقولنا : «العلّة موجودة ما دام المعلول موجودا بالضّرورة» ، أو : «أحد معلولى علّة واحدة موجود ما دام معلولها الآخر موجودا بالضّرورة» ، وقولنا : «اللّه موجود بالضّرورة» ؛ كان ذلك صراطا إلى الفصل بين الضّرورة بالشّيء ، دهريّة كانت أو زمانيّة ، وبين الضّرورة مع الشّيء إمّا دهريّة أو زمانيّة ، وبين الضّرورة الذّاتيّة الأزليّة السّرمديّة.

فاتّخذه سبيلك المستبين إلى تحصيل الضّرورة الوصفيّة والضّرورة الذّاتيّة مع الوصف ؛ لا بالوصف ، كما فى ضرورة ثبوت اللّوازم لذوات ملزوماتها مع وصف الوجود وتميّز هذه عن الضّرورة الذّاتيّة السّرمديّة. وقد كنت تحصّلت من قبل أنّ هذه الضّرورة الذّاتيّة مع الوجود ، لا بالوجود ، مشتركة بين جوهريّات الماهيّة ولوازمها. والفارق اعتبار الاقتضاء فيهما عدما ووجودا.

ثمّ إنّ تلك القسمة حاصرة عقليّة ، واحتمال ضرورة طرفى الإيجاب والسّلب جميعا ساقط من الاعتبار إذا تؤمّل مع صحّة طباع الذّهن ، وما يكون ضرورىّ الطرفين مندرج فى الممتنع بالذّات ، إذا لوحظ مقتضى ذلك المفهوم مع سلامة غريزة الإنسانيّة.

١٣٨

فصل [ثان]

< بحث عن أحكام لهذه المفهومات هى كالامور العامّة لها >

فيه استيناف القول فى هذه المفهومات على نمط آخر واستقصاء البحث عن أحكام لها هى كالامور العامّة بالقياس إلى مباحث متعلّقة بها على قسط صالح من النّظر.

< في الفصل الثاني اثنان وعشرون عنوانا >

<١> ضابط أساسيّ

إنّ كلاّ من هذه الطبائع المعقولة الّتي هى عناصر المفهومات والعقود يحتمل فى أوّل نظر العقل أن يكون بالذّات أو بالغير أو بالقياس إلى الغير. ثمّ الفحص يحقّق أنّ الإمكان لا يكون بالغير ، بل بالذّات وبالقياس إلى الغير فقط ، فتبقى الاعتبارات المتحقّقة ثمانية.

والّتي هى بالذّات حاصرة حقيقيّة لا يجتمع اثنان منها فى موجود عينىّ أو مفهوم ذهنىّ ، ولا يمكن أن يتصوّر إلاّ أن يكون واحد منها لكلّ تجوهر وتحقّق أو نسبة محمول إلى موضوع أو محمول بالقياس إلى موضوعه أو موضوع بقياس المحمول إليه ، وتكون شاملة لواجب (٦٨) يمتنع انتفاء المحمول عنه بنفس ذاته ، وليس ذاته علّة لثبوته له ؛ بل إنّما هو ضرورىّ لذاته بذاته من غير اقتضاء ، وهو

١٣٩

القيّوم الواجب بالذّات فى وجوده وفى سائر صفاته.

والضّرورة هناك ضرورة ذاتيّة سرمديّة ، لا بشرط خلط الموضوع بوصف ، ولا مع كون الموضوع على وصف ، ونسب ضروريّة لمحمولات إلى موضوعات لا يكون الموضوع بحسبها علّة لثبوت المحمول له ، ككون الإنسان إنسانا أو حيوانا. وضرورتها ذاتيّة مع وصف الوجود للموضوع لا به ، ونسب ضروريّة يكون لها علّة هى نفس ذوات الموضوعات ، ككون الأربعة زوجا والثّلاثة فردا ، وضرورتها أيضا ذاتيّة بالنّظر إلى اقتضاء ذات الموضوع ، ولكن مع وصف الوجود لا بالوصف ؛

وأمور ممتنعة يمتنع التّقرّر بالنّظر إلى ذواتها من حيث هى ، لا بعليّة منها لذلك ـ كشريك الإله ، عزّ عن ذلك ، واجتماع النّقيضين والمعدوم المطلق ـ فى كونها متحقّقة ؛

وامور ممتنعة ، يمتنع المحمولات بالنّظر إلى ذواتها من حيث هى لا بعليّتها لذلك ، ككون الإنسان جمادا ، أو بعليّتها ، ككون الأربعة فردا ؛ وأمور ممكنة يصدق فى كلّ منها بحسب الإمكان الخاصّ ، إمكانان عامّان موجب وسالب. ويستلزم الموجب فيه السّالب ، ويكون العقد مركّبا من قضيّتين موجبة وسالبة ؛

وامور مركبّة تكون من حيث هى مركبّة ممكنات ، كالمركّب من الممتنعين أو الضدّين أو الواجبين ؛ فإنّ ضرورة العدم أو الوجود لتلك المركّبات ليست لذواتها بما هى مركّبات ، بل لعلّة هى خصوصيّات الأجزاء. واللّذان هما بالغير من الوجوب والامتناع إنّما يعرضان الممكنات ويمتنع عروض شيء منهما للواجب أو الممتنع بالذّات ، وليس يخلو عنهما شيء ما من الأشخاص والطبائع الإمكانيّة فى الوجود والعدم.

وأمّا الّتي هى بالقياس إلى الغير منها ، فإنّها إنّما تقابل الّتي هى بالذّات بحسب المفهوم والاعتبار ، وهى لا تصادمها بحسب التّحقّق.

فالوجوب بالقياس إلى الغير يعمّ الموجودات بأسرها ، ولا يكون موجود ما عروا منه ، ويكون للقيّوم الواجب بالذّات بالقياس إلى كلّ موجود ولكلّ موجود

١٤٠