مصنّفات ميرداماد

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]

مصنّفات ميرداماد

المؤلف:

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]


المحقق: عبدالله نوراني
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: منشورات مطبعة وزارة الإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-528-006-0
الصفحات: ٥٢٧
الجزء ١ الجزء ٢

يكن المفروض قيّوما واجبا بالذّات على وفاق الفرض ، بل إنّما كان مجموع قيّومات واجبات بالذّات.

وأيضا ، قد استبان لك أنّ ما هو قيّوم واجب بالذّات لا يكون بين ذاته وبين ذات قيّوم واجب وجود غيره تكافؤ لزومىّ يمتنع بحسبه أن يدخل أحدهما فى التّقرّر والوجود وليس للآخر دخول فى التّقرّر والوجود. فكيف يتصوّر أن يكون أشياء متفاصلة الحقائق والذّوات ليس يعقل بين ذواتها علاقة عقليّة طبيعيّة لزوميّة يتجوهر منها ذات متأحّدة وحقيقة وحدانيّة. فذلك ـ مع شدّة وضوحه فى الفساد ـ سيتلى عليك بطلانه إن شاء اللّه تعالى.

(٢) وإمّا أن يكون بعض تلك الأشياء ، ولا أقلّ من واحد ، ليس إذا اعتبر بذاته يجب له أن يكون متقرّر الحقيقة بنفسه ، فيكون لا محالة من الطبائع الإمكانيّة. فكيف يدخل طبيعة إمكانيّة فى سنخ حقيقة القيّوم بالذّات حتى يكون يتجوهر سنخ حقيقته من ممكن ما ومن قيّوم واجب بالذّات؟ وهل المفروض قيّوما واجبا بالذّات إلاّ الّذي هو ما وراء ذلك الممكن؟ فالّذى فرض مجموع تلك الأشياء عاد إلى أنّه بعضها.

وأيضا يلزم أن يكون تلك الطبيعة الإمكانيّة المعلوليّة متقدّمة على القيّوم الواجب بالذّات تقدّما بالطبع أو تقدّما بالماهيّة ، وذلك فطرىّ الاستحالة. فإذن ، القيّوم الواجب بالذّات يمتنع أن يجتمع ذاته من أجزاء متباينة فى الوجود أو ينحلّ إلى أشياء متّحدة فى الحقيقة. وبالجملة يمتنع أن يتصوّر تحليل حقيقته إلى شيء وشيء بوجه من الوجوه أصلا.

وإذا امتنع ذلك استحال أن يكون له طبيعة جسمانيّة أو طبيعة مقداريّة امتداديّة. فإذن ، يستحيل أيضا أن يكون بحيث يصحّ أن ينتزع منه شيء من الأجزاء المقداريّة. فإذن ، هو بسيط حقّ ، ليس يتصوّر فى ذاته الواحدة الحقّة شيء من أنحاء التّكثّر.

وإذ هو وجود حقّ متقرّر بنفسه موجود بذاته ؛ فهو تقرّر نفسه ووجود نفسه ، لا تقرّر شيء ووجود شيء ، وهو تقرّر ووجود بالفعل لنفسه بنفسه.

١٨١

فليس يمكن أن يكون متعلّق الحقيقة والوجود بشيء أصلا ، ولا مادّة يستحيل هى إليه ، ولا موضوع أو محلّ يوجد فيه ، ولا صورة يتلبّس هو بها ، ولا غاية يكون هو لها ؛ بل هو الغاية لكافّة الماهيّات وقاطبة الإنّيّات وجملة الحقائق وجميع الوجودات.

فإذن ، القيّوميّة الواجبيّة بالذّات مساوقة للبساطة الحقّة الخالصة المطلقة ، والقيّوم الواجب بالذّات أحد بسيط حقّ ، تمجّد عن أن يتعلّق بسبب أصلا. فإذن ، قد انكشف أنّه ليس له سبب به ، ولا سبب منه ، ولا سبب عنه ، ولا سبب فيه ولا سبب له ؛ وهو مسبّب الأسباب من غير سبب.

وهذا التّبيان الأقاصىّ القدسىّ ، بحيث يقع بإزاء جملة ما ريم بالقصد فى هذه المسألة، ولا يكون يجوج إلى تبيين أنّه لا قيّوم واجب الوجود فى التّقرّر والوجود إلاّ واحد ، حتى إذا اخذت هذه المسألة فى تبيان ذلك الأصل كان تهيّئا لمتحيّن أن يقول : إنّ الأمر قد دار ، ولم يتحقّق لجمهور العشيرة الفلسفيّة من الرّؤساء والأتباع إلى الآن ، وهو كجملة نظائره من الحكمة النّضيجة الّتي أوتيتها من فضل ربّى ورحمته.

<٥> تقديس

كما أنّ القيّوم الواجب بالذّات أحديّ الذّات ، وليس مزدوج الحقيقة ، إذ ليس هناك كثرة بالفعل ولا صحّة الخلال إلى شيء وشيء ، بل هو البسيط الحقّ والبساطة الصّرفة ، فكذلك يمتنع أن يكون ذاته جزءا من حقيقة ما متأحّدة ومزدوجة ، يتألّف منه ومن غيره. وكيف يتحصّل حقيقة وحدانيّة من واجب التّقرّر والوجود بذاته وممّا ليس له تقرّر ووجود ، ولا تقرّر ولا وجود فى حدّ ذاته. وهل يسع طباع الفطرة الإنسانية أن يتصوّر ذاتا وحدانيّة من ازدواج الفعليّة الحقّة والقوّة المحضة.

<٦> تبصير تقديسيّ

ألست قد تحصّلت ، من قبل ، أنّ لازم الماهيّة إنّما علّة كونه للماهيّة هى نفسها

١٨٢

المتقرّرة المقتضية لذلك اللاّزم على أن يكون هى حالة الاقتضاء مخلوطة بالوجود ؛ إذ كان الوجود أوّل ما ينتزع من الماهيّة المتقرّرة بالقياس إلى سائر اللّواحق. فالماهيّة المتقرّرة هى بعينها مطابق هذا الحكم ومبدأ هذا الانتزاع ، فيكون موجوديّتها قبل اعتبار تلبّسها بشيء ما ـ أىّ شيء كان ـ ممّا هو يلحق جوهر الذّات ، وليس يدخل فى قوام سنخ الحقيقة.

وإذا كان كلّ مقتض لشيء يجب أن يصحّ تخليل الفاء بينهما بحسب الوجود ، لكون طباع الاقتضاء يستوجب ذلك ، بل إنّ مفاده هو. ولست أقول : إنّ ذلك هو ما يفتقر إليه طباع اللاّزم ، حتّى يكون هو متوقّفا على وجود الماهيّة أيضا (١)، على أن يؤخذ الوجود جزءا ما من العلّة المقتضية. فيرجع الأمر إلى أنّ المقتضى هو مجموع الماهيّة وحيثيّة مطلق الوجود. فمن المتحقق : أنّه (٨٤) لو كان فى طباع وجد فوجد ما يوجب استيجاب هذا ، لم يكن يتصوّر أن يتحقق علّيّة بين شيئين أصلا ، سيجيء تبيانه فى مؤتنف القول إن شاء اللّه تعالى.

إنّما طباع «وجد فوجد» تقدّم موجوديّة ما هو علّة ، لا اعتبار وجود ما هو علّة فى العلّيّة حتّى يلزم تقدّم موجوديّة ذلك الوجود أيضا. فليس يتصوّر أن يكون الوجود لازما لماهيّة ما أصلا ؛ وإلاّ كان يقع طباع «وجد فوجد» بين الماهيّة ووجودها اللاّزم لها بعينها ، فيتقدّم وجود الماهيّة على وجودها اللاّزم : فإمّا أن يكون الوجود المتقدّم هو الوجود المتأخّر بعينه ، فكيف يتصوّر أن يكون شيء بعينه يتقدّم على نفسه ، وإمّا أن يكون هناك وجودان بنفسه : متقدّم ومتأخّر ، فكيف يتكثّر الوجود مع لا تكثّر الموضوع ، على أنّ الكلام فى المتقدّم كالكلام فى المتأخّر ، فيتسلسل.

وليس الغرض بطلان التسلسل ؛ فإنّه ممّا لم يتبيّن بعد ، بل إنّ مجموع الموجودات المتسلسلة ، كالوجود الأوّل. فقد انكشف أنّه يستحيل أن يكون شيء من الأشياء مقتضيا لوجوده وأن يكون الوجود من لوازم ماهيّة ذات ما من الذّوات أصلا. فإذن ، فاحكم أنّ القيّوم الواجب بالذّات يجب أن يكون وجوده عين ذاته

__________________

(١). أى : كأنّه متوقف على أصل الماهيّة المتقرّرة. سمع.

١٨٣

وأن لا يكون له ماهيّة وراء إنيّته.

وأيضا ، لمّا كان القيّوم الواجب بالذّات متقرّر الحقيقة بذاته ، وإنّما مطابق انتزاع الوجود والمحكىّ عنه بالموجوديّة هو نفس الحقيقة المتقرّرة ؛ فحيث إنّ تقرّر الحقيقة له بنفس الذّات ، لا باقتضاء الذّات ، أفليس ممّا يستحيل على فساد نفسه كون الحقيقة جاعل جوهر نفسها وصانع سنخ ذاتها ، فيكون الوجود الضّرورىّ له بنفس الذّات لا باقتضاء الذّات ، وإلا لزم أن يكون تقرّر حقيقة وحقيقة متقرّرة ، ولا صحّة انتزاع الوجود منها بحسب ظرف التّقرّر. وقد كنّا أوضحنا لك فساده فيما سلف (١).

فإذن ، القيّوم الواجب بالذّات ليس يصحّ تحليله إلى ماهيّة ووجود. فهذا أحديّ الحقيقة ، بسيط الذّات من هذه الجهة أيضا ، كما أنّه أحدىّ الحقيقة من جهة أنّه لا قسمة له بوجه أصلا ، لا فى الكم ولا فى المبادى ولا فى القول. فهو واحد من هذه الجهات الأربع ، بل من الجهات كلّها.

<٧> تذييل

رأيت كيف استحصف التّبيان ، فتفسّخت عصامات الفئة المتسفسطة وتمحّقت جزافاتهم وما يغتال به مثير فتنة التّشكيك أوهام المستضعفين من المقلّدين. وهو أنّه لم لا يجوز أن يكون المؤثّر هو الماهيّة لا بشرط الوجود.

ثمّ لا يلزم من حذف الوجود عن درجة الاعتبار دخول العدم فيها ؛ لأنّ العدم من حيث هى هى لا موجودة ولا معدومة. وهذا كما قالوا فى الممكن : إنّ ماهيّته قابلة للوجود لا بشرط وجود آخر ، وإلاّ وقع التّسلسل.

ولا يلزم أيضا أن يكون القابل للوجود معدوما ، وإلاّ لزم كون الشّيء الواحد فى الوقت الواحد موجودا ومعدوما معا ؛ فقد بأن لك بما قد سلف أنّه من ساقط القول ومن لغو الحديث. وقال بعض من يحمل عرش التّحقيق فى توهينه : «لا شكّ أنّ

__________________

(١). إشارة إلى ما مرّ فى أوائل الكتاب ، من تحقيق معنى الوجود ، سمع منه ره.

١٨٤

الماهيّة من حيث هى هى لا موجودة ولا معدومة» (١).

وإنّا نعلم بالضّرورة أنّ تأثير العلّة مشروطة بتقدّمها فى الوجود ، وإنّما يمكن أن يكون الماهيّة من حيث هى هى علّة لصفة معقولة لها. كما أنّ ماهيّة الاثنين علّة لزوجيّتها وعدم اعتبار الوجود معها عند اقتضائها تلك الصّفة لا تقتضى انفكاكها من الوجود حالة الاقتضاء. وأمّا كونها من حيث هى هى علّة لوجود أو موجود فمحال ، لأنّ بديهة العقل حاكمة بوجوب كون ما هو علّة لوجود ما موجود.

والفرق بين الوجود وبين سائر الصّفات هاهنا أنّ سائر الصّفات توجد بسبب الماهيّة ، والماهيّة توجد بالوجود على معنى أنّه هو موجوديّتها ، فلذلك جاز صدور سائر الصّفات من نفس الماهيّة وصدور بعضها من بعض ، ولم يجز صدور الوجود منها. وليس الأمر كذلك فى قبول الوجود فإذن ، قابل الوجود يستحيل أن يكون موجودا ، وإلاّ فيحصل له ما هو حاصل له. والماهيّة إنّما تكون قابلة للوجود عند وجودها فى العقل فقط. ولا يمكن أن تكون علّة لصفة خارجيّة عند وجودها فى العقل.

ونحن نقول : قبول الماهيّة من حيث هى هى للوجود لا يوجب كون جاعل ذاتها هو نفسها بعينها ، ولا أن يكون ذاتها قابلة لذاتها ، وتأثيرها فى الوجود ليس يتصوّر إلاّ بأن يكون جاعل ذاتها هو نفس ذاتها وأنّ معاد القول المستوفى فيه بعض فصول الشّطر الرّبوبىّ إن شاء اللّه تعالى.

<٨> هداية

قد قرع سمعك فيما سلف ويتلى عليك فيما يأتى ، إن شاء اللّه تعالى ، أنّ الماهيّة المجرّدة عن المادّة لا تكون لذاتين. والشّيئان إنّما هما اثنان ، إمّا بسبب المعنى وإمّا بسبب الحامل للمعنى وإمّا بسبب الوضع والمكان أو بسبب الوقت والزّمان ، وبالجملة لعلّة من العلل. فكلّ شيئين لا يختلفان بالمعنى فإنّما يختلفان لشيء غير

__________________

(١). عنى به خاتم الحكماء ، نصير الملّة والدّين الطوسىّ ، نوّر سرّه ، قال ذلك فى نقد المحصّل ، منه ، ره.

١٨٥

المعنى. وكلّ طباع معنى موجود بعينه لكثيرين مختلفين فهو متعلّق الذّات بشيء من العلل ولواحق العلل.

فإذا قيل : فى كلّ طباع معنى ليس هو لمادّة ولا يعتريه لواحق مادّة إنّه لا يكون لاثنين بالعدد ، فبالحرىّ أن يقال قولا مرسلا : إنّ المعنى الّذي ليس هو للشىء ولا يجوز أن يتعلّق إلاّ بذاته فقط ؛ فإنّه لا يخالف مثله بالعدد البتّة.

فإذن ، الوجود البحت الّذي ليس هو الماهيّة ، وإنّما هو وجود نفسه ، وهو القيّوم الواجب بالذّات ، يمتنع أن ينقسم بالحمل على كثيرين بالعدد ، وأن يكون نوعه لغير ذاته الواحدة الحقّة ؛ فإنّ وجود نوعه له إمّا بنفس ذات نوعه ، فلم يوجد إلاّ له ، أو لعلّة ؛ ولا يصحّ ذلك إلاّ أن يكون جوهر الشّيء معلولا باطل الذّات ، ناقص الحقيقة ، تعالى القيّوم الواجب بالذّات عن ذلك علوّا كبيرا.

وكان قد استبان أنّه قد يستحيل أن ينقسم بالفصول حتّى يحمل على كثيرين بالحقيقة النّوعيّة ، وإلاّ كان له أجزاء الحدّ. فلم يكن أحدىّ الذّات.

فإذن ، لا قيّوم واجب الوجود إلاّ واحد ، والقيّوم الواجب الذّات (٨٥) لا شريك له. وإذ هو بريء من المادّة وعلائقها وعن الفساد ، والأضداد متفاسدة مشتركة فى الموضوع ، فلا ضدّ له.

فقد بيّن من هذا أنّه لا مكافئ له ولا شريك له ، وأنّ معنى شرح اسمه له فقط ، ولا جنس ولا فصل ولا ماهيّة ولا كيفيّة ولا كمّية ولا أين ولا وضع ولا متى ولا ندّ ولا مثل ولا ضدّ له ـ تعالى وجلّ وتمجّد ـ وأنّه لا حدّ له ولا برهان عليه ، بل هو البرهان على كلّ شيء ، وإنّما السّبيل إليه دلائل واضحة.

وإذ هو هو تامّ الحقيقة من جهة أنّ حقيقته وشرح اسمه له فقط. فهو واحد من جهة تماميّة تقرّره ووجوده ؛ وواحد من جهة أنّه لا ينقسم لا بالكم ولا بالمبادى المقوّمة ولا بأجزاء الحدود ؛ وواحد من جهة أنّ لكلّ شيء وحدة تخصّه ، وبها كمال حقيقته وصفاته الذّاتيّة ؛ وواحد من جهة أنّ مرتبته من التقرّر والوجود ، أى : وجوب التقرّر والوجود له فوق التمام ووراء التّناهى فى لا تناهى الشّدّة ، أى شدّة تأكّد تقرّره وتمحّض وجوده غير متناهية اللاّتناهي.

١٨٦

<٩> استيناف

أما بيّن أنّ وجوب التّقرّر والوجود هو الحقيقة الحقّة الّتي هى مبدأ كلّ حقيقة ، لا أنّ هناك ماهيّة ما يقارنها وجوب التقرّر والوجود. فيجب أن يعقل واجب التقرّر والوجود نفس واجب التقرّر والوجود ، لا كما يعقل شيء ما ، كإنسان أو فلك أو عقل ، مثلا ، هو واجب التقرّر والوجود. وذلك كما قد يعقل الواحد نفس الواحد ، لا هواء أو ماء أو نار أو فلك أو غير ذلك هو الواحد.

ففيثاغورس وأصحابه ، أبناء الوحدة ، يجعلون المبدأ ذات الواحد من حيث هو واحد ، لا شيئا ما هو الواحد ؛ إذ الواحد الحقّ هو نفس الواحد البحت ، لا ماهيّة ما قارنها الواحد. أليس تأكّد الحقيقة وتصحّحها مبدأ كلّ حقيقة ، فكيف لا يكون هو بنفسه حقيقة؟ فإذن ، تأكّد التّقرّر وتمحّض الوجود هو بذاته واجب التّقرّر والوجود ، وهو الحقيقة الحقّة المطلقة.

فبعد ذلك نقول : إنّ وجوب التّقرّر والوجود لا يمكن أن يتكثر ، وإلاّ : فإمّا هو لمختلفى الحقائق على سبيل الانقسام بالفصول ، أو لمتّفقي الحقيقة النّوعيّة على سبيل الانقسام بالعوارض. والفصول لا تدخل فى حدّ ما يقام مقام الجنس. فهى لا تفيد المعنى الجنسىّ حقيقته من حيث معناه ، بل إنّما تفيده التّحصّل والقوام بالفعل ذاتا موجودة خاصّة ؛ إذ لا عليّة لها إلاّ لتقويم الحقيقة موجودة معيّنة ، لا لتقويمها فى نفسها.

ففصول وجوب التقرّر والوجود وإن صحّت وجب أن لا تفيد وجوب التّقرّر والوجود حقيقة وجوب التقرّر والوجود ، بل إنّما الوجود بالفعل. وقد دريت أنّ حقيقة وجوب التقرّر والوجود ليس إلاّ نفس تأكّد التقرّر وتمحّض الوجود ، لا كحقيقة الحيوانيّة الّتي هى معنى غير تأكّد التقرّر والوجود. والموجوديّة أمر خارج عن ذاتها داخل عليها. فإفادة الوجود بالفعل لوجوب التّقرّر والوجود هى إفادة ما فى سنخ الحقيقة.

فإذن ، يلزم أن يدخل ما هو كالفصل من حيث هو كالفصل فى ماهيّة ما هو

١٨٧

كالجنس من حيث هو كالجنس فى اللّحاظ الّذي هو ظرف تمايز حيثيّتى التّعيّن والإبهام ، وهو فاسدا وأيضا يلزم أن يكون حقيقة وجوب التّقرّر والوجود الّذي تمّ حقيقة وجوب التقرّر والوجود له متعلّقة فى أن تحصل بالفعل بموجب. فيكون المعنى الّذي به يكون الشّيء واجب التّقرّر يجب حصوله بغيره ، فيكون واجب التقرّر والوجود بالذّات واجبا بغيره أيضا ، وكان قد ظهر بطلانه.

فإذن ، لا يمكن أن يتكثّر وجوب التقرّر والتقرّر والوجود تكثّر المعنى الجنسىّ بالفصول ، فإمّا أن يتكثّر تكثّر المعنى النّوعىّ بالعوارض حتّى يكون شيئان لهما وجوب التّقرّر والوجود ، ولا يخالف أحدهما الآخر فى شيء ممّا هو غير خارج عن المعنى الّذي هو جوهر الحقيقة ، بل إنّما التّخالف بأنّ ذا ليس ذاك وذاك ليس ذا بالعدد. فلا محالة يكون هناك لواحق لجوهر الحقيقة بها المباينة.

واللّواحق : إمّا أن تعرض الحقيقة بما هى تلك أو وجود الحقيقة بما هو وجودها ، فلا يتصوّر الاختلاف فيها ، بل يجب أن يتّفق الكلّ فيه ؛ وإمّا أن تعرض الحقيقة بأسباب خارجة ، لا بنفس الماهيّة ، فيكون لو لا تلك الأسباب لم تعرض ، فتكون لولاها لم تختلف ، فتكون لولاها كانت الذّات واحدة أو لم تكن ذات ؛ فتكون لولاها ليس هذا بانفراده واجب التقرّر والوجود.

فيكون وجوب كلّ واحد منهما الخاصّ به المنفرد له مستفادا من غيره. وقد قيل لك: إنّ الواجب بالغير لا يكون واجبا بالذّات. وبعبارة اخرى : إنّ كون الواحد منهما واجب التقرّر والوجود ، وكونه هو بعينه إمّا أن يكون واحدا ، فيكون كلّ ما هو واجب التقرّر والوجود فهو هو بعينه وليس غيره.

وإذ كان كونه واجب التّقرّر والوجود غير كونه هو بعينه. فمقارنة واجب التّقرّر والوجود لما به هو ذا بعينه : إمّا أن يكون أمرا لذاته أو لسبب موجب غيره. فإن كان لذاته ولأنّه واجب التقرّر والوجود ، فيكون كلّ ما هو واجب التّقرّر والوجود (٨٦) هو هذا بعينه ، ولا يكون غيره أصلا ؛ وإن كان لموجب غيره ، فيكون لكونه واجب التّقرّر والوجود هذا بعينه بسب ، فيكون لخصوصيّة تقرّره ووجوده المنفرد سبب ،

١٨٨

فيكون هذا المنفرد بخصوصه معلولا غير واجب التقرّر والوجود.

فإذن ، القيّوم الواجب بالذّات واحد بالمعنى والحقيقة ليس كأنواع تحت جنس ؛ وواحد بالهويّة ليس كأشخاص تحت نوع.

وربّما يعبّر عنه بوجه يظنّ أو جزء فيقال : القيّوم الواجب لذاته يستحيل أن يكون محمولا على الاثنين ؛ لأنّه إمّا أن يكون ذاتيّا لهما أو عرضيّا لهما أو ذاتيّا لأحدهما ، عرضيّا للآخر. فإن كان ذاتيّا لهما ، فالخصوصيّة الّتي بها يمتاز كلّ واحد عن الآخر لا يمكن أن يكون داخلا فى المشترك ، وإلاّ فلا امتياز ، فهو خارج منضاف إلى المعنى المشترك. فإن كان داخلا فى كلّ واحد منهما كان كلّ منهما ممكنا بما هو موجود وممتاز عن الآخر ؛ وإن كان فى أحدهما فهو ممكن بما هو كذلك ؛ وإن كان عرضيّا لهما أو لأحدهما فمعروضه فى ذاته لا يكون واجب التّقرّر والوجود.

فإن قيل : المخصّص سلبيّ ، وكلّ واحد منهما مختصّ بأنّه ليس الآخر. قيل : سلب الغير لا يتحصّل إلاّ بعد حصول الغير ، وحينئذ يكون كلّ واحد هو هو بعد حصول الغير ، فيكون ممكنا.

<١٠> عقدة وانفكاك

ولعلّك تقول : إنّما تستتبّ التّبيانات لو كان وجوب التّقرّر والوجود طباعا مشتركا بين ذاتين على سبيل ما هو شأن جوهريّات الماهيّات أو كان هناك طباع مشترك يجب أن يتخصّص بهويّات متمايزة. فما الّذي أحال أن تكون بسيطتان مفترقتان بتمام الماهيّة ليس لحقيقتهما البسيطتين اتّفاق فى شيء أصلا ، وكلّ واحدة متقرّرة بذاتها صالحة لانتزاع هذا الوجود المطلق الانتزاعىّ الفطرىّ منها بنفسها من غير لحاظ اعتبار آخر؟ وكذلك الوجوب الانتزاعىّ ، فيكون كلّ واحد منهما ماهيّتها بعينها هى الإنيّة ، ولا ماهيّة لهما وراء الإنيّة ؛ ويكون لمفهوم وجوب التّقرّر والوجود حقيقتان بسيطتان مجهولتا الكنه مختلفتان بنفس جوهرى

١٨٩

الماهيّتين الغير المعلومتين بالكنه أصلا. وهذا المفهوم عرضيّ منتزع من ذات كلّ واحدة منهما بنفس ماهيّتها المتقرّرة بذاتها.

فيقال لك : إنّ هذه معضلة عويصة عوصاء غرية الإشكال لزجة الإعضال ؛ لم يكن لبيان من جهتها أمن ولا تبيان من تلقائها فى أمان إلى زماننا هذا.

فنحن بعون حكمة بارئنا وأيد إفاضة ربّنا القيّوم الواجب بالذّابّ ـ جلّ ذكره ـ قمعنا عليها وعلى ما هى مثلها أو أشدّ منها إعضالا فى سائر أبواب هذا العلم وغيره من العلوم والصّناعات العلميّة دار الصّعوبة ، وقلعنا متن الاشكال ، وحسمنا عرق الغموضة ، وقطعنا وتين الإعضال.

فالآن نذكر ما لفّفته أيدى قرائح السّالفين من شركائنا الرّؤساء ، وهو لدينا من المساعى المشكورة والمحاولات المحمودة الغير البالغة مبلغ الإجداء ونصاب الإغناء ؛ ونؤخّر ما هو من اجتهاداتنا التّامّة المغنية وفتاوانا الحقيقيّة المجدية إلى مظانّ ذكره ومستقرّ عرشه فى المسائل الرّبوبيّات فى الشّطر الرّبوبىّ إن شاء اللّه. فنقول على سياق ما ذكر فى الشفاء والنّجاة.

إنّ وجوب التقرّر والوجود : إمّا أن يكون شيئا لازما لماهيّة تلك الذّات الّتي ينتزع هو منها ؛ كما يقال للشىء : إنّه مبدأ ، فيكون لذلك الشّيء ذات وماهيّة. ثمّ يكون المبدأ لازما لتلك الذّات. كما أنّ إمكان الوجود يوجد لازما لشيء له فى نفسه معنى ، مثل أنّه جسم أو بياض أو لون. ثمّ هو ممكن الوجود ولا يكون داخلا فى حقيقته ؛ وإمّا أن يكون واجب التّقرّر والوجود بنفس كونه واجب التقرّر والوجود ، وهو تلك الماهيّة ويكون نفس وجوب التقرّر والوجود طباعا ذاتيّا له.

وقد علمت أنّه لا يجوز أن يكون وجوب التقرّر والوجود من المعانى اللاّزمة لماهيّة ؛ فإنّ تلك الماهيّة حينئذ تكون سببا لوجوب التّقرّر والوجود ، فيكون وجوب التّقرّر والوجود متعلقا بسبب ، فلا يكون وجوب التّقرّر والوجود متقرّرا موجودا بذاته.

ثمّ إذا لم يكن وجوب التّقرّر والوجود فى مرتبة ماهيّة شيء ، بل كان الشّيء ،

١٩٠

كإنسان أو سماء أو عقل أو غير ذلك ، ممّا ليس وجوب التقرّر والوجود فى مرتبة ماهيّته ، ثمّ كان يتلبّس به الماهيّة ، فقد كان هو لازما لذلك الشّيء ، كالخاصّة والعرض العامّ ، لا هو له ، كالجنس والفصل. وإذا كان كذلك كان هو تابعا غير متقدّم ، والتّابع معلول متبوعه ، فيكون وجوب التقرّر والوجود معلولا ، فلم يكن وجوبا بالذّات ؛ فتعيّن أن يكون هو طباعا ذاتيّا ، لا كاللّازم.

فإمّا هو ماهيّة ، فتعود إلى أنّ النّوعيّة واحدة ، وإمّا هو داخل فى الماهيّة ؛ فتلك الماهيّة إمّا أن تكون بعينها لشيئين ويعود الاشتراك فى طباع نوع وجوب التقرّر والوجود ، أو تكون لكلّ ماهيّة غير ماهيّة الاخرى.

فإمّا أن يكون انفصال ماهيّة أحدهما عن ماهيّة الآخر ، بأنّ له حقيقة وجوب التقرّر والوجود وشيئا هو الشّرط فى الانفصال ، وللآخر حقيقة وجوب التقرّر والوجود مع عدم ذلك الشّرط على أن قد فارق صاحبه بهذا العدم فقط ، فالعدم لا معنى له محصّلا فى الأشياء ، وإلاّ لكان فى شيء واحد معان بلا نهاية ؛ إذ تسلب عن كلّ شيء أشياء بلا نهاية.

وإمّا أن يكون (٨٧) لكلّ منهما ما ينفصل به عن الآخر ، فيكون هناك زيادة ، كالفصل. فإمّا أن يكون وجوب التقرّر والوجود قد تمّ وجوب تقرّر ووجود دون كلّ من الزّيادتين ، فيكون الزّيادتان من العوارض اللاّحقة.

وإمّا أن يكون ذلك شرطا له فى أن يتمّ ، فلا يخلو : إمّا أن يكون لا يتمّ دون ذلك فى أن يكون له حقيقة وجوب التقرّر والوجود ، وإمّا أن يكون وجوب التقرّر والوجود معنى تامّا فى نفسه.

وليس شيء من الأمرين داخلا فى تقوّم ذلك المعنى فى نفسه ، بل إنّما يصير حاصل الوجود بأحدهما : مثل الهيولى لها لما فى حدّ جوهر هيوليّتها فعليّة التهيّؤ ، وإنّما وجودها بالفعل بإحدى الصّور. ومثل اللّون لا يوجد بالفعل إلاّ سوادا أو بياضا ، لا بعينه ، بل أيّهما اتّفق ، ولكن هذا فى حال وذاك فى حال. وإن كان فصل السّواد لا يقوّمه من حيث هو لون ، ولا فصل البياض. والهيولى أيضا إحدى

١٩١

الصّورتين بعينها شرط لها فى زمان بعينه دون الاخرى ، والاخرى بعينها فى زمان آخر بعينه دون الأولى. وهى بما هى هيولى إنّما يشترط حصولها بالفعل بإحدى الصّور لا بعينها.

فإن كان الأمر على الوجه الأوّل : فحيث كان وجوب التّقرّر والوجود وجب أن يكون ذلك الشّرط معه ؛ وإن كان على الوجه الثّاني فوجوب التقرّر والوجود يفتقر إلى شيء يوجد به ، فيكون واجب التقرّر والوجود من بعد ما يتمّ له معنى أنّه واجب التّقرّر والوجود يحتاج شيء إلى آخر يوجد به.

وأمر الهيولى واللون ليس على هذا السّبيل ؛ فإنّ الهيولى بما هى هيولى شيء وبما هى موجودة شيء آخر. واللّون بما هو لون شيء وبما هو موجود شيء آخر. بخلاف التقرّر والوجود ؛ فإنّ حيثيّة وجوب التقرّر والوجود فيه هى بعينها حيثيّة الوجود.

فالوجود بالفعل هنا لمّا لم يكن خارجا عن نفس المعنى الّذي هو بإزاء المعنى الجنسىّ فى اللّون وكان الّذي يفيده المعنى الفصلىّ هناك ، وما بإزاء ذلك المعنى هاهنا هو الوجود بالفعل ، لم يكن يتصوّر الافتراق هاهنا بما هو بإزاء المعنى الفصلىّ هناك.

ولمّا لم يكن داخلا هناك فى نفس المعنى الجنسىّ تصوّر الافتراق بالفصل ، والاحتياج فى مطلق الحصول بالفعل لا فى نفس جوهر المعنى إلى أحد الفصول لا بعينه ، وفى حصول التّحصّل نوعا معيّنا بالفعل إلى فصل بعينه ؛ إذ للطبيعة المبهمة وجودات متعدّدة. وكذلك الوجود بالفعل خارج عن نفس حقيقة الهيولى بما هى هيولى. فلذلك كانت إحدى الصّور لا بعينها شرط مطلق حصولها بالفعل من حيث جوهرها ؛ وخصوصيّة صورة معيّنة بعينها شرط حصولها بالفعل فى زمان بعينه. ولكن لا من حيث جوهرها ، بل بحسب خصوصيّة استعداد خاصّ لها وخصوصيّات أسباب مقتضية.

فإذن ، طبيعة وجوب التقرّر والوجود لا يمكن تحصّلها بالفعل بغير ذاتها ، لا بأحد

١٩٢

الفصول بعينه ولا لا بعينه ولا بشيء من الخصوصيّات بخصوصها ولا لا بخصوصها ؛ إذ ليس يطرأ علّة وجود ليس فى نفسه ، كما فى الإنسانيّة واللّونيّة.

وبالجملة ، المدخل للخصوصيّة بخصوصها أولا بخصوصها إنّما يتصوّر فى أن يصير المعنى كاللّون أو الإنسان شيئا زائدا عليه ، ووجوب التّقرّر والوجود هو نفس التقرّر والوجود مع امتناع بطلان وعدم عدم ، وواجب التقرّر والوجود هو نفس المتقرّر الموجود مع امتناع البطلان وعدم العدم.

فالموجوديّة بالفعل هنا بمنزلة اللّونيّة والإنسانيّة هناك ، فكيف يتصوّر أن تفيدها الفصول أو الخصوصيّات. وقد استغنى فيها واجب التقرّر والوجود عن أىّ شيء فرض ممّا هو غير ذاته. وليس له وجود ثان بعد ما له فى نفسه ، واللّون أو الإنسان له بعد اللّونيّة والإنسانيّة وجود يستند إلى علله. فإذن ، لا يمكن أن يكون وجوب التقرّر والوجود مشتركا فيه ولا أن كان لازما ولا أن كان طباعا بذاته.

فإذن ، واجب التقرّر والوجود واحد لا فى النّوع فقط أو بالعدد أو فى عدم الانقسام أو فى التّمام فقط ، بل فى أنّ وجوده ليس لغيره وإن لم يكن من جنسه. ولا يجوز أن يقال : إنّ واجبى التقرّر والوجود لا يشتركان فى شيء ، وكيف وهما مشتركان فى واجب التّقرّر والوجود وفى البراءة عن الموضوع.

فإن كان وجوب التّقرّر والوجود يقال عليهما باشتراك الاسم فلسنا ننظر فى معان متكثّرة يقال لها واجب التّقرّر والوجود بالاسم ، بل فى معنى واحد من معانى الاسم ؛ وإن كان بالتّواطؤ فقد حصل معنى عامّ عموم لازم أو عموم جنس ، وقد أوضحنا استحالة ذلك. وكيف يكون عموم التقرّر والوجود لشيئين على سبيل اللّوازم الّتي تعرض من خارج. واللّوازم معلولة ، ووجوب التقرّر والوجود المحض غير معلول.

<١١> حكومة كنقد

إنّ هذا نظر فحصىّ تحصيليّ ، محقق النّمط ، محصّل الأسلوب ، لا يشينه إلاّ رذيلة الخلوّ عن فضيلة الإجداء ؛ أليس قد يكشف أنّ كون الوجود ووجوب التّقرّر

١٩٣

والوجود عين ذات الواجب التقرّر والوجود بذاته ، ليس سبيله أن يقال : مفهوم الوجود المصدرىّ المنتزع العقلىّ عين حقيقته ، وكذلك الوجوب الانتزاعىّ.

وكيف يستصحّ ذو تحصيل ما أن تكون المفهومات العقليّة الانتزاعيّة نفس ذات من هو ذات الذّوات وحقيقة الحقائق ؛ بل سبيل تحصيله أنّ واجب التّقرّر والوجود متقرّر بنفس ذاته ، لا بعلّة ؛ ومصداق لحمل الموجود والواجب عليه وسنخ حقيقته المتقرّرة بذاتها من غير أن يعتبر تحيّث ذاته بحيثيّة ما من الحيثيّات أصلا ، لا تقييديّة ولا تعليليّة ، كما يقال : مفهوم الإنسان أو الإنسانيّة عين ذات الإنسان. وليس امرا وراء حقيقته على معنى أنّ نفس ذات الإنسان مبدأ انتزاع الإنسانيّة منه ومصداق حمل مفهوم الإنسان عليه ، لا أنّ الإنسانيّة الانتزاعيّة هى (٨٨) عين ذات الإنسان القائم بذاته. ولا يلزم من ذلك أن تكون الإنسانيّة من اللواحق المعلولة ؛ فإنّها مفهوم اعتبارىّ معقول.

وشأن مثل هذه المفهومات الانتزاعيّة المعقولة أن تكون معلومة للعقل عند لحاظة الحقائق الّتي هى بنفس ذواتها من حيث هى هى مبادى انتزاع تلك المعانى المصدريّة منها ؛ فإنّ العقل ينتزع منها تلك ويصفها بها. وكذلك الوجود ووجوب التقرّر والوجود بالنّسبة إلى الذّات المتقرّرة بنفسها ، بخلاف الحقائق المجعولة والذّوات المعلولة.

فإذن ، عاقد عقدة الإعضال يقول : تبياناكم ما أحالت أن يكون كلّ من شيئين مفترقين بتمام الماهيّة بسيطين مجهولى الكنه متقرّرا بنفسه ، فيكون بالضّرورة مبدأ انتزاع مفهومى الوجود ووجود التقرّر والوجود المصدريّين بنفس ذاته بما هو هو ، وليس يستلزم ذلك أن يكون الوجود ووجوب التقرّر والوجود من المعانى الزّائدة على الحقيقة ومن اللّوازم المعلولة المتأخّرة عن مرتبة الماهيّة ، فيقال له : سبيل فكّ عقدتك سيساق إليه بالغ الفحص وأبلغ القول فى الشّطر الرّبوبىّ إن شاء اللّه تعالى.

١٩٤

<١٢> تأصيل أساسيّ

القيّوم الواجب بالذّات من لو فرض استناد ذات ما إليه ، أوجب ذلك فرض التقرّر والموجوديّة لتلك الذّات البتّة. وكلّ ما لم يكن فرض استناد ذات ما إليه بخصوصه من حيث هو هو يوجب فرض التقرّر والوجود لتلك الذّات البتّة. فهو ممكن بالذّات وينعكس فى الذّات كليّا.

أليس القيّوم الواجب بالذّات واجب التقرّر والوجود بذاته ، والممكن بالذات لا واجب التقرّر والوجود ، ولا واجب اللاّتقرّر واللاّوجود بذاته. [فإذن ، الاستناد إلى القيّوم الواجب بالذّات مناط التقرّر والوجود ووجوبهما.]

وبالجملة ، مناط الفعليّة والاستناد إلى الممكن بالذّات بما هو ممكن بالذّات مناط لا وجوب التقرّر واللاّتقرّر ولا وجوب الوجود واللاّوجود ؛ فيكون مناط اللاّتقرّر واللاّتقرّر ، واللاّوجود ولا اللاّوجود. وبالجملة مناط القوّة المحضة.

وهذا أصل كأساس حصيف فى باب التوحيد. وربما تجده من مبادى مسائل ربوبيّات يحوج صاحب الشّطر الرّبوبىّ من هذا العلم إلى أخذه.

<١٣> تعليم استيجابيّ

أليس عندك من المستبين أنّه إذا تبيّن أنّ القيّوم الواجب بالذّات أحدىّ الذّات بسيط الحقيقة من كلّ وجه لا يصحّ تحليل ذاته الحقّة إلى شيء وشيء وحيثيّة وحيثيته بوجه من الوجوه ، فيكون من البيّن : أنّ كلّ ما له من حيثيّات الصّفات التّمجيديّة والتّقديسيّة يجب أن يضمن فى حيثيّة واحدة جبروتيّة قدّوسيّة ، هى سنخ جميع الحيثيّات الكماليّة الجماليّة والجلاليّة وجوهرها وروعها وينبوعها. وهى حيثيّة القيّوميّة الوجوبيّة ، أعنى حيثيّة وجوب التقرّر والوجود بالذّات.

فكلّ حيثيّة كماليّة إيجابيّة أو سلبيّة فهى للقيّوم الواجب بالذّات من تلقاء تلك الحيثيّة المحيطة الحقيقيّة الوجوبيّة الذّاتيّة الرّبوبيّة.

١٩٥

فإذن ، فاعلم أنّ القيّوم الواجب بالذّات واجب من جميع جهاته ؛ إذ كلّ جهة من جهاته فهى راجعة إلى جهة وجوب التقرّر والوجود بالذّات.

فهذه الجهة وحدها منزلتها منزلة جميع جهات العزّ والكمال ومثابتها مثابة جملة حيثيّات العلوّ والمجد. فاتّصاف القيّوم بأيّة صفة من الصّفات الكماليّة الّتي تليق بجناب مجده ، معناه استحقاق إطلاق الاسم الموضوع لتلك الصّفة على حيثيّة وجوب التقرّر والوجود له ، وهى الحيثيّة القيّوميّة الوجوبيّة الذّاتيّة.

ومن سبيل آخر : ليس يجوز أن يتّصف القيّوم الواجب بالذّات بصفة كماليّة لعلّة غير ذاته ؛ فإنّ ما سوى ذاته ليس إلاّ مجعولات ذاته على الاستغراق الشّمولىّ.

وكيف يكون المجعول أكرم من جاعله القيّوم الواجب بالذّات ـ تعالى عن ذلك ـ حتّى يفيده كمالا ما؟ وكيف وكلّ ما له من الكمال فهو من حيثيّة جاعله ومن وجود علّته؟ بل إنّما هو ظلّ كمال الجاعل ولا أن يكون ذلك الاتّصاف بعلّته واقتضاء من ذاته ، وإلاّ كان فى مرتبة الذّات خلوا من تلك الصّفة. ثمّ هو متلبّس بها أخيرا. وذلك ينتهى إلى تكثّر الحيثيّة التّقييديّة فى ذاته الأحديّة وقد بان بطلانه وظلمه.

فإذن ، كلّ صفة كماليّة فإنّها نفس ذاته وعين حقيقته ، فيكون لا محالة عين وجوب التّقرّر والوجود بالذّات. فإذن ، ليست له جهة إمكانيّة بوجه من الوجوه أصلا.

ومن سبيل آخر : كما أنّ ذاته الحقّة أعلى من أن يكون وراء معنى ما بالقوّة فكذلك هو بحسب الفعليّة أرفع من أن يتصوّر له ملابسة معنى ما بالقوّة. فلو كان هو من جهة واجب الفعليّة ومن جهة اخرى ممكن الفعليّة ، فيكون تلك الجهة تكون له ولا تكون له. ولا يخلو الأمر من ذلك ، وكلّ منهما بعلّة يتعلّق الأمر بها ضرورة ، فيلزم أن يكون ذاته متعلّقة بعلّتى أمرين لا يخلو منهما لو لم يكن واجب الفعليّة بذاته مطلقا ، بل مع العلّتين ، سواء كان أحدهما وجودا والآخر عدما ، أو كلاهما وجودين.

١٩٦

فتبيّن من هذا : أنّ القيّوم الواجب بالذّات لا يتأخّر عن وجوده وجود منتظر ولا صفة من الصّفات ، بل كلّ ما هو ممكن له فهو واجب له. فلا إرادة منتظرة ولا طبيعة منتظرة [ولا علم منتظر] ولا صفة من الصّفات له منتظرة ، ولا تجدّد لشيء بالقياس إليه. وإنّما التّجدّدات للمعلولات فى حدّ أنفسها وبقياس بعضها إلى بعض. وإنّما أبدع المعلولات وأوجدها فى وعاء الدّهر مرّة واحدة بالقياس إلى ذاته الحقيقيّة وإن كانت تلك المرّة الواحدة فى وعاء الدّهر بالقياس إلى ذاته مرّات شتّى بالقياس إلى ذوات المعلولات فى أفق الزمان. فالتّجدّدات بحسب أفق الزّمان ليست توجب تجدّدا بالقياس إليه ولا فى الإضافات. ولهذا ذكر فيما يجاء به من ذى قبل إن شاء اللّه تعالى (٨٩).

<١٤> تعقيب

حاول بعض الأتباع (١) تبيان المسألة بأنّه «لو فرض اتّصاف القيّوم الواجب بالذّات بأمر ثبوتىّ أو سلبىّ لا يكفى فى تحقّقه ذاته ، لتوقّف حصول ذلك الأمر له ، أو انتفاؤه عنه على حضور غير خارجىّ أو عدمه ، وذاته من جهة ذلك الاتصاف متوقفة على حضور ذلك الحصول أو الانتفاء. والموقوف على الموقوف على الغير موقوف على الغير ، فيلزم أن يكون القيّوم الواجب بالذّات موقوفا على الغير ، والموقوف على الغير إنّما هو ممكن ، تعالى اللّه عنه». ثم قال : «هذه الحجّة لا تتمشّى إلاّ بنفى كون الإضافات امورا وجوديّة فى الأعيان».

فردّ عليه بعض من يحمل عرش التّحصيل والتّحقيق (٢) بانّ : «توقّف أمر متعلّق بالواجب وغير الواجب لا يوجب توقّف الواجب على غير الواجب ، بل لا يوجب إلاّ توقّف ذلك الأمر على غير الواجب. والإضافيّات والسّلبيّات من الصّفات كلّهما كذلك. والحكماء يقولون باتّصاف القيّوم الواجب بالذّات بها.

__________________

(١). عنى به الإمام الرّازىّ. قاله فى تصانيفه ، من «شرح الاشارات» وغيره ، سمع.

(٢). عنى به خاتم الحكماء ، نصير الملّة والدّين الطوسىّ. قاله فى نقد المحصّل وفى شرحه للإشارات ، سمع.

١٩٧

فمقصودهم من قولهم : «القيّوم الواجب بالذّات واجب الوجود من جميع جهاته» أنّه واجب من جميع جهات تتعلق به وحده ولا تتوقف على الغير ؛ لكونه مصدرا ومبدءا ، لا ككون الغير صادرا منه أو متأخّرا عنه ؛ فإنّ بين الاعتبارين فرقا.

ونحن نقول : الفرق بين الإضافات والسّلوب وبين مباديهما الّتي بإزائهما. وهى من صفات القيّوم الواجب بالذات حقيقة ، ككون ذاته هو مصدر المعلول ، لا كون المعلول صادرا منه ، وكونه فى ذاته قائما بذاته ، لا فى مادّة لا كون المادّة مسلوبة عنه حقّ. والإضافات والسّلوب ممكنات متوقّفة على القيّوم الواجب بالذّات وعلى الغير ، لكنّها غير ممكنة التّجدّد بالقياس إليه وإن كانت متجدّدة فى أنفسها وبقياس البعض إلى البعض بحسب افق الزّمان.

<١٥> ختم تحقيقيّ

حقّيّة كلّ شيء تقرّره ووجوده ، وحقيقة كلّ شيء خصوصيّة تقرّره ووجوده الّذي يثبت له ؛ والممكن بالذّات لا تقرّر ووجود له بنفسه ؛ والقيّوم الواجب بالذّات هو المتقرّر الموجود الواجب التّقرّر والوجود بذاته.

فإذن ، لا حقّ أحقّ من القيّوم الواجب بالذّات ، بل هو الحقّ المحض ؛ وكلّ شيء غيره فإنّه باطل فى حدّ ذاته. وإنّما تطرأ على ذاته بحسب نسبة ذاته إلى الحقّ المحض بالاستناد إليه حقيّة من جهة ذلك الاستناد (١) هى ظلّ الحقيّة المحضة المطلقة.

فهذه جملة من خواصّ طباع وجوب التقرّر والوجود بالذّات. واستقصاء القول فيها إنّما له حيّز طبيعىّ فى الشّطر الرّبوبىّ. فترقّب هتافا من عالم الملكوت : أن قد آن آنه وحان حينه. وإنّى معك لرحمة ربّى لمن المترقّبين.

__________________

(١). فى الأصل : اختتام المسافة الخامسة.

١٩٨

فصل [رابع]

فيه خواصّ الممكن بالذّات وعليه اختتام المسافة الخامسة

<في الفصل الرابع ثلاثة وخمسون عنوانا >

<١> مدخل

إنّما عروض الإمكان بالذّات للممكن عند لحاظ جوهر الماهيّة ، كالإنسان ، مثلا ، بما هو إنسان ، مع عزل النّظر عن اعتبار الفعليّة والبطلان والوجود والعدم ، وعن تحقّق العلّة الموجبة ولا تحقّقها. فللماهيّة بجوهرها الإمكان بالذّات ؛ ولها بحسب تحقّق العلّة الموجبة أو لا تحقّقها ومع اعتبار الفعليّة والوجود أو البطلان والعدم الوجوب بالغير أو الامتناع بالغير ؛ ولا يتصادم الإمكان الذّاتىّ وأحد ذينك الغيريّين فى التّحقّق.

بل إنّ الماهيّة ؛ كما لا تنسلخ عن الإمكان الذّاتىّ فى أىّ حال فرض من الأحوال. وذلك لها باستحقاق جوهر الذّات بالذّات ، إذ حقّ جوهر الماهيّة لا استحقاق شيء من الطّرفين بنفس الذّات ؛ فكذلك لا يمكن سلخ أحد ذينك المتواردين ، لا بخصوصه عنها بحسب نفس الأمر البتّة ؛ إذ حالها فى نفس الأمر إمّا وجوب الفعليّة والوجود بتحقّق السّبب الموجب أو امتناع ذلك. وهو المساوق لوجوب البطلان والعدم بلا تحقّقه ، لا باستحقاق جوهر الماهيّة ؛ فإنّ كلّ شيء من

١٩٩

الأشياء وإن كان حقّه بحسب نفس الأمر أن لا يكون عروا من أحد النّقيضين لا بعينه بحسب نفس الأمر. لكن ليس حقّه بحسب نفس الأمر أن يكون له بجوهره إمّا وجوب أحد النّقيضين لا بعينه أو امتناعه ؛ بل إنّما ذلك قسط بحسب نفس الأمر من تلقاء تحقّق السّبب الموجب ولا تحقّقه ومن تلقاء أن يؤخذ من حيث إنّه معتبر ، إمّا مع الفعليّة أو مع البطلان.

فإذن ، لزوم الإمكان الذّاتىّ على كلّ حال بحسب جوهر الماهيّة ولزوم أحد الغيريّين، لا بعينه ، فى نفس الأمر بحسب إيجاب العلّة وجودا أو عدما ، لا بالخصوص ، وبحسب شرط الفعليّة أو البطلان لا بالخصوص. كما أنّ تحقّق أحدهما بعينه فى نفس الأمر بحسب إيجاب العلّة وجودا أو عدما بالخصوص وبحسب شرط الفعليّة أو البطلان بالخصوص.

<٢>استصباح أسطرلابيّ

كأنّك إذن قد تعرّفت من تلقاء تعريفاتنا البرهانيّة سبيل أن يقال : كما أنّ وجوب التّقرّر والوجود بالذّات منار البساطة والأحديّة ومساوق الفرديّة والوتريّة ، فكذلك الإمكان الذّاتىّ شقيق التّركّب والازدواج وسبيل التّشافع والامتزاج ، وأنّ كلّ ممكن زوج تركيبىّ. ألست قد دريت أنّ كلّ ممكن فإنّه يحلّله العقل إلى جنس وفصل ، ثمّ إلى ماهيّة وإنيّة. وهذا الأخير يستوعب عمود الإمكان ويستغرق جملة الطبائع الإمكانيّة حتّى الأجناس العالية وفصول الأنواع البسيطة ، وقد تبرهن فى سالف القول : أنّ الوجود خارج عن كلّ ماهيّة ممكنة ، زائد على كلّ طبيعة إمكانيّة. فإذن ، ما من ممكن إلاّ وهو غير بسيط الحقيقة.

فإن أزعجك صرف النّظر إلى كلّ من الماهيّة والوجود ، فقلت : ما شأن هذا الحكم بالنّسبة إلى كلّ منهما ، إذ لم يتطرق تحليل آخر إلى سنخ طبيعة الفصل البسيط مع عزل النّظر عن الوجود (٩٠) ولا إلى وجوده مع عزل النّظر عن سنخ الطبيعة. وكذلك إلى طبائع الأجناس العالية ووجوداتها. فكيف يؤخذ الحكم الكلّىّ

٢٠٠