مصنّفات ميرداماد

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]

مصنّفات ميرداماد

المؤلف:

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]


المحقق: عبدالله نوراني
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: منشورات مطبعة وزارة الإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-528-006-0
الصفحات: ٥٢٧
الجزء ١ الجزء ٢

<١٤> تسجيل فيه هداية وتحصيل

كأنّ الآن قد استبان لك من الذّائعات المحققة من مذهب الفلاسفة : أنّ ترتّب أجزاء الزّمان وتعاقبها ، وبالجملة ، تعاقب كافّة المتعاقبات إنّما يكون بالقياس إلى ما وجوده تحت الكون وفى حيطة الزّمان.

وأمّا من يتعالى عن افق الزّمان ويرتفع عن محتد الزّمانيّات ، أعنى القيّوم الواجب الذّات ، جلّ ذكره ؛ فإنّ وجوده لا يكون مشمولا للزّمان ولا هو مقارن الزّمانيّات مقارنة زمانيّة ، بل هو وجود صرف سرمدىّ محيط بالامتداد والاستمرار والزّمان والزّمانيّات.

فالامور التّدريجيّة لا تعاقب لها بالنّسبة إليه أصلا ؛ بل إنّما تحضر عنده معا دفعة غير متخلّف آخرها عن أوّلها فى الحضور عنده. أليس لا يكون علّة الزّمان والأكوان الزّمانيّة تحت الكون والزّمان ، بل يكون كونا بنوع آخر أعلى وأرفع من هذا الطّور محيطا بالزّمان وبما فيه من الزّمانيّات ، بل بجميع الأشياء من أوّلها إلى آخرها ، ضربا ما من الإحاطة أعلى وأشدّ من الّتي لمحيط الدّائرة بالنّسبة إلى سطحها أو مركزها أشديّة لا متناهية المرّات. فكلّ إحاطة تامّة من تلك الإحاطة المتقدّسة المجهولة الكنه ، وكلّ الأشياء من مبدعها القدّوس الأعلى كنحو الظلّ من ذى الظلّ ، بل كبرياؤه أرفع من ذلك كلّه. وكلّ ما فيه تقريب من وجه فهو تبعيد من وجوه شتّى. فكم بين الإحاطة الوهميّة الزّمانيّة أو الجسميّة المكانيّة وبين الإحاطة النّوريّة السّرمديّة الخارج اكتناهها عن طوق طاقة العقل.

فإذن ، الأوّل ، تعالى ، كما لا يقرب منه مكان بالنّسبة إلى مكان ، بل إنّ جملة الأمكنة والمكانيّات سواسية عنده بالقرب والبعد ، فكذلك لا يقرب منه زمان بالنّسبة إلى زمان ، بل إنّ جميع الأزمنة والزّمانيّات وجملة الوجودات والموجودات سواسية عنده بالحضور لديه.

فإذن ، ليس هناك ماض أو مستقبل أو حال ، بل هو محيط بالكلّ دفعة واحدة

٣٦١

بالدّفعة الدّهريّة والسّرمديّة ، لا بالدّفعة الآنيّة. ومن ذلك يعلم الأمر فى المراتب العالية على الزّمان من الجواهر المفارقة.

فإذن ، الامتداد الزّمانىّ المتصل الّذي هو سنخ التّغير وعنصر التّقضّى والتّجدّد وفلك المتغيّرات وعرش الزّمانيّات حاصر بجملة ما هو خاف من الحوادث الكونيّة عند مبدع الكلّ أزلا وأبدا. فحضور الشّيء عنده ـ وهو بعينه علمه بذلك الشّيء وعقله للأشياء ـ هو فيضانها عنه معقولة.

فإذن ، البارئ الجاعل يعلم جملة الزّمانيّات كلاّ منها فى وقته علما غير زمانىّ ويشاهد ما بينها من الأزمنة ، فلا يفوته شيء ولا يعزب عن علمه مثقال ذرّة فى الأرض ولا فى السّماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، وهو بكلّ شيء محيط. فهذا هو صراط الحكمة الحقّة.

وكذلك قد حصّله الفلاسفة المحصّلون ، مشّاءوهم ورواقيّوهم. فمعلّم المشّائيّة فى الدّورة اليونانيّة بسط ذلك أو فى البسط تحصيلا وتفصيلا فى زبره ، ولا سيّما اثولوجيا. ورئيسهم فى الملّة الإسلاميّة بلغ الأمد الأقصى بسطا وتقريرا فى كتبه ، ولا سيّما التعليقات ، وقد نالوا الحقّ بما قالوا لو كانت الصّور العقليّة فائضة عن الأوّل ، لا معا ولا دفعة واحدة بلا زمان ، بل شيئا بعد شيء لم تكن معقولة بالحقيقة ، بل كانت ماديّة إذا كانت تكون بعد ما لم تكن. ولو كانت هو لا يدركها بالفعل معا ، بل شيئا بعد شيء لكان فيه أيضا قوّة تقبل الأشياء بعد ما لم يقبلها وكان مادّيّا.

<١٥> تشبيه وتمثيل

ألست إذا أخذت خيطا مختلف ألوان الأجزاء فأمررت فى محاذاة بعض ضيّقات الحدقة من الإحاطة بتلك الجملة دفعة ، كذرّة أو غيرها ، وجدت المتساوقة فى الحضور لديك لسعة إحاطتك متعاقبة الحضور عندها لضيق حدقتها. فاعتبر الأمر فى الامتداد الزّمانىّ بما فيه من الحوادث المرتبطة بالأزمنة والآنات المنتزعة منه واختلاف حضورها بالقياس إلى الزّمانيّات وبالإضافة إلى من هو خارج عنها

٣٦٢

تعاقبا ومعيّة ؛ كما قال فى اثولوجيا :

«إنّ البصر إذا رأى شجرة رآها من أصلها إلى فرعها دفعة واحدة ، يعلم أصلها قبل أن يعلم فرعها بنوع ترتيب وشرح ، لا بنوع زمان ؛ لأنّ البصر إنّما رأى أصل الشّجرة وفرعها وبينهما دفعة واحدة. فالبصر يعرف أوّل الشّجرة وآخرها بالتّرتيب لا بالزّمان ؛ فإن كان البصر يعلم كذلك فبالحرى أن يكون العقل يعلم أوّل الشّيء وآخره بالترتيب (٢٣٨) ، لا بالزّمان والشّيء الّذي يعلم أوّله وآخره بالتّرتيب لا بالزّمان يعرف كلّه دفعة واحدة معا» (ص ٣١)

وذكر فيه أيضا : «إنّ الإنسان الحسّىّ هو صنم الإنسان العقلىّ وظلّ له ، والإنسان العقلىّ روحانىّ وجميع أعضائه روحانيّة : ليس موضع العين فيه غير موضع اليد ، ولا مواضع الأعضاء كلّها مختلفة ؛ لكنّها كلّها فى موضع واحد» (ص ٦٩).

فهذه امور يرام بها التّشبيه تارة وضرب الأمثال بها اخرى ، كما ينتقل متوقّد القريحة من ذلك إلى اعتبار الأمر فى العالم العقلىّ وينفعه أنّ الأزل لا يقع لدى البارى الجاعل حيث لا يقع الأبد ، بل هما وموقعاهما هناك على سبيل واحد. ومع ذلك فإنّه ـ جلّ مجده ـ يعلم ويشاهد ما بينهما من الامتداد. وحقّ الحقّ فيه ما فى إلهيّات الشفاء : «إنّ هذا من العجائب الّتي يحوج تصوّرها إلى لطف قريحة».

<١٦> وعد وتخليص

إنّ لإحصاف هذا المقام معادا حقيقيّا وحيّزا طبيعيّا فى الشّطر الرّبوبىّ. فلنعده إليك هناك بما هو حقّه من الفحص والتّبيين ، إن شاء اللّه تعالى. والآن نقول : إنّ تلخيص ما يجب أن يعتقد فى هذا الباب هو ما قاله فى الميمر الخامس من اثولوجيا. وهو أنّه :

«ينبغى أن يعلم أنّ أفعال الفاعل الأوّل ـ تعالى وتقدّس ـ هى قائمة عنده ، وليس شيء عنده أخيرا ، بل الشّيء عنده أوّلا هو هاهنا أخيرا. وإنّما يكون

٣٦٣

الشّيء أخيرا ؛ لأنّه زمانىّ ، والشّيء الزّمانىّ لا يكون إلاّ فى الزّمان الّذي وافق أن يكون فيه. فأمّا فى الفاعل الأوّل فقد كان لأنّه ليس هناك زمان ؛ فإن كان الشّيء الملاقى فى الزّمان المستقيل هو قائم هناك ، فلا محالة أنّه إنّما يكون هناك موجودا قائما ، كما أنّه سيكون فى المستقبل. فإن كان هذا هكذا ، فالشّيء إذن الكائن فى المستقبل هو هناك موجود قائم لا يحتاج فى تمامه (١٤٤) وكماله هناك إلى أحد الأشياء البتّة.

فالأشياء إذن عند البارى ـ جلّ ذكره ـ كاملة تامّة ، زمانيّة كانت أم غير زمانيّة ، وهى عنده دائما. وكذلك كانت عنده أوّلا ، كما تكون عنده أخيرا ، فالأشياء الزّمانيّة إنّما يكون بعضها من أجل بعض ، وذلك أنّ الأشياء إذا هى امتدّت وانبسطت وبانت عن البارى الأوّل كان بعضها علّة كون بعض ، وإذا كانت كلّها معا ولم تمتدّ ولم تبسط ولم تبن عن البارئ الأوّل لم يكن بعضها علّة كون بعض ، بل يكون البارئ الأوّل علّة كونها كلّها».

فهذا الآن ما عليه التّعويل فى الفتوى ؛ فاحفظ إلى حيث يحين أن يتلى عليك فى ضرب آخر من الذّكر تارة اخرى.

<١٧> تبصرة ...

أسمعت رؤساء الفلاسفة ومعلّميهم يقولون : إنّ للزّمان اسوة بالمكان ، وللمنتسب إلى الزّمان اسوة فى الأحكام بالمنتسب إلى المكان ، والزّمان والمكان متضاهيان بحسب الخواصّ وبحسب الامور المنسوبة إليهما ، وكلّ مكانىّ فهو زمانىّ البتة.

فاعلم أنّ ذلك ليس إلاّ على سبيل الحكمة الحقّة. فالزّمانىّ هو كلّ ما يصحّ أن يتعلّق بالزّمان بالفيئيّة أو المعيّة المنتهية إليها آخرا ، سواء كان ذلك له بالذّات أو بحسب معروضيّة الحركة أو بحسب التّوقّف على الحركة والتّخصّص بزمان دون زمان. فالمعتبر فيما ليس بزمانىّ هو عدم ذلك التعلّق بحسب نفس الأمر مطلقا ، لا

٣٦٤

بالنّظر إلى الذّات من حيث هى فقط.

فإذن ، الجسمانيّات قاطبة من الأجرام السّفليّة والعلويّة بأسرها مع كلّ ما يتعلّق بالمادّة وجودا ، ذاتا أو فعلا ، وحدوثا فقط أو حدوثا وبقاء جميعا زمانيّات.

وكيف يكون شيء مكانيّا ولا يكون زمانيّا ، وكلّ مكانىّ فإنّه ذو وضع ، والوضع يتشخّص بذاته وبالزّمان ، والزّمان يتشخّص بالوضع. وكلّ زمان له وضع مخصوص ؛ لأنّه تابع لوضع مخصوص من الفلك الأقصى ، والمكان أيضا يتشخّص بالوضع ؛ فإنّ لكلّ مكان نسبة إلى ما يحويه تغاير نسبة المكان الآخر إلى ما يحويه. وليس هذا الموضع حيّزا طبيعيّا لتحقيق هذه المفاحص ، وهذا القدر يتمّ به الغرض فيما نحن بسبيله.

<١٨> تبصار مكشافيّ

إنّ إبصار البصائر المستضيئة المستقيمة النّافذة فى طبقات أرض الحقيقة ، بعد ما تعوّدت أن تتخذ من الحكمة مرآة تنطبع فيها صور الحقائق الملكوتيّة ، ليس يعسر عليها أن تبصر بعين اليقين أنّ ما يستلزم الامتداد الّذي هو من خواصّ افق الزّمان إنّما هو سبق استمرار العدم أولا استمراره ؛ فإنّه حينئذ يلزم تصوّر امتداد يطابق السّابق شيئا من أجزائه أو من حدوده والمسبوق شيئا آخر من تلك الأجزاء أو الحدود.

وأمّا سبق أصل العدم الّذي هو بمعزل عن توهّم الاستمرار واللاّاستمرار فيه وفى سبقه ، فإنّما يستلزم صحّة أن يحكم بأنّ وقوع الشّيء فى الأعيان إنّما هو بعد العدم بالفعل بعديّة هى وراء التّقدّر واللاّتقدّر. فالبعديّة شيء وكونها من البعديّات المتعدّدة شيء آخر. وإنّما تكون البعديّة بعديّة متعدّدة لو كان الشّيء بالقبل ذا امتداد أو ذا لا امتداد.

فإذن ، ليس هذا السّبق بحيث يصحّ أن يتصوّر بحسبه أنّ السّبق فى جزء أو حدّ بخصوصه من امتداد والمسبوق فى جزء أو حدّ آخر بخصوصه منه ، بل إنّما هو سبق

٣٦٥

فى الأعيان ، لا فى زمان أو آن. فإذن ، لا يكون بحسبه امتداد ولا لا امتداد. فإذن هذا النّحو من السّبق فى وعاء الدّهر والسّرمد ليس يستوجب الامتداد الّذي يأباه طباع وعاء الدّهر والسّرمد.

لكنّ القريحة ما لم تكن مرضعة رضاع العلم من ثدى العرفان ومسقية لبان الحكمة من مسقات البرهان لم تقو على حمل أعباء هذه المسألة وإيفاء حقّ هذه الحقيقة.

وإذ قد علمت أنّ افق الزّمان منقسم ، ووعاء الدّهر والسّرمد مرتفع عن توهّم الانقسام واللاّانقسام فيه ، فقد انصرح عندك أنّ حصول الوجود فى وعاء الدّهر والسّرمد إنّما يكون بارتفاع العدم الواقع فى نفس الأمر ، وكذلك العكس ، وإلاّ اجتمع النّقيضان فى الواقع.

فإذن ، إذا تحقق الوجود فى وعاء الدّهر بعد العدم بعديّة دهريّة غير زمانيّة. وذلك يكون لا محالة بارتفاع العدم عن الواقع رأسا يمنع بطلان ذلك الوجود الدّهرىّ وانتفاءه فى الواقع بتّة ، وإلاّ لزم : إمّا اجتماع النّقيضين أو اللاّامتداد فى وعاء الدّهر للزوم طرفين هما العدم السّابق والعدم اللاّحق وواسطة هو الوجود المتوسّط بينهما. فالتقدّم قد يكون دهريّا ، لكنّ التقدّمات المترتّبة لا تتصوّر إلاّ أن تكون زمانيّة.

وأمّا حصول الوجود للشّيء فى أفق الزّمان فليس يجب أن يكون بارتفاع عدمه عن الواقع رأسا ، بل إنّما يجب أن يرفع عدمه فى زمان وجوده فقط ، لئلاّ يجتمع النّقيضان ، مع جواز كونه واقعا فى زمان آخر غير زمان الوجود. وكذلك حصول العدم فى افق الزّمان إنّما يكون ببطلان الوجود فى زمان العدم ، لا فى زمان آخر زمان العدم ، فإذن ، يتصوّر انبتات الوجود الحاصل بعد العدم فى افق الزّمان ، ولا يتصوّر ذلك فى وعاء الدّهر.

وبالجملة ، لمّا كان افق الزّمان منقسما أمكن أن يكون عدم الشّيء واقعا فى زمانين ووجوده فى زمان بين زمانى عدميه ، ووعاء الدّهر لمّا لم يتصوّر فيه الانقسام

٣٦٦

لم يكن بحسبه ذلك ، بل إنّما يمكن وجود الشّيء بعد سنخ العدم من غير أن يبطل ذلك الوجود مرّة اخرى.

ثمّ ممّا يجب أن يعلم هو أن وجود الشّيء فى افق الزّمان لا يكون ببطلانه عدمه فى زمان العدم ، بل هو بانتفاء العدم فى زمان الوجود. وكذلك عدمه هناك لا يكون ببطلان وجوده فى زمان الوجود ، بل إنّما هو بانتفاء وجوده فى زمان العدم.

فإذن ، لا العدم يرتفع فى زمان العدم ولا الوجود فى زمان الوجود ، وإلاّ يلزم أن يقترن النّقيضان فى التّحقّق ، بل الوجود فى زمان الوجود واجب غير مرتفع. وكذلك العدم فى زمان العدم واجب غير مرتفع ، لكن وجوبا بالغير ، فقد تلونا عليك شأن الوجود اللاّحق من قبل.

فإذن ، وجود الحادث فى افق الزّمان إنّما هو بحصوله فى الواقع ، لكن فى زمان هو بعد زمان العدم ، لا بارتفاع عدمه السّابق على الوجود عن ذلك الزّمان السّابق. وكذلك عدمه بعد الوجود معناه : عدم حصول وجوده فى زمان هو بعد زمان الوجود ، لا ارتفاع وجوده عن الزّمان الّذي هو قبل زمان العدم.

فالشّيء الواقع إذا وقع فى زمان ما لا يمكن أن يرتفع عن زمان وقوعه أبدا وإن لم يكن واقعا فى زمان آخر غير زمان وقوعه. وإذا وقع فى وعاء الدّهر فلا يتصوّر ارتفاعه فى وعاء الدّهر أصلا. ولهذا الفحص معاد ، ذكرىّ فى مستأنف القول ، فارتقبه فعسى بفضل اللّه أن يكون قريبا.

<١٩> ختم

إنّ مجعوليّة الماهيّات بالجعل البسيط الّذي بحسبه إثبات التّقدّم بالماهيّة ووعاء الدّهر والسّرمد بحسبه إثبات التّقدّم السّرمديّ ، وهما أصلان للحكمة الحقيقيّة اليمانيّة كالعمودين ، (أى كالوالدين منه ره) عنهما يتشعّب أكثر غصونها فى سماء الفحص التّحصيلىّ ، وبهما يرسخ عرق أعظم اصولها (١٤٥) فى أرض النّضج العلمىّ والاستواء العقلىّ ، وبازدواجهما يكمل قوام الحكمة القسطاسيّة

٣٦٧

الرّبوبيّة ويتمّ نظام الصّناعة البرهانيّة الإلهيّة. وعند ذلك تتكشّف الأسرار الغيبيّة وتتجلّى الأنوار القدسيّة ، وبالجملة ، هما مرآتان للحكمة النّاخلة المفشوّة ومصفاتان للفلسفة الرّائفة المغشوشة.

والإنسان لا يكون محقوقا بأن يعدّ من الحكماء وبصره الرّوعىّ عن لحظ الحدوث الدّهرىّ فى غشاوة هيولانيّة. وإنّما يستبين له سبيل إلى تفرقة لو وعى علم وعاء الدّهر والسّرمد. ثمّ اعتمل فى سرّه كوّة من القريحة إلى ضياء صقع القدس وروزنة من البصيرة إلى فضاء عالم الملكوت.

فبذلك يتهيّأ للنّفس المجرّدة الّتي هى فى سنخ جوهرها من حىّ المفارقات النّوريّة ووطنها الفطرىّ الطبيعىّ فى تهامة وعاء الدّهر أن تتولى فكّ أسر الوهم الزّمانىّ وحلّ عقد الطبيعة الجسمانيّة. وللنّفس همسات وخلسات فى سلوك درجاتها الرّوحانيّة وعصام العقل فى كلّ الشّئون والأطوار أيد العصمة الرّحمانيّة وأياد القوّة الرّبّانيّة.

٣٦٨

فصل [ثالث]

فيه يتبيّن أمر الدّوام والبقاء والأزل والأبد والسّرمديّة

ويثبت وجود الحركة القطعيّة والزّمان الممتدّ فى الأعيان ، ويوضح استيجاب براهين امتناع اللانهاية بالفعل فى أبعاد المقادير المكانيّة فى استحالة تأدّى المقدار الزّمانىّ أيضا إلى لا نهاية بالفعل ، ويحقق معنى أنّ الزمان غير قارّ الذات ومعنى أنّ العدم منه ما هو أزليّ ومنه ما هو طار وغير ذلك ممّا يلتصق بالغرض أشدّ الالتصاق.

<فى الفصل الثالث أحد وأربعون عنوانا >

<١> إضاءة إيقاظيّة

أتفطنت بما نوّر فطنتك أنّ كلاّ من الدّوام واللاّدوام يقع على ما بحسب التقرّر الزّمانىّ وعلى ما بحسب التقرّر الغير الزّمانىّ بمعنيين مختلفين. فالدّوام الزّمانىّ ما بحسبه يمتدّ التقرّر ويستمرّ الوجود فى افق الزّمان بجميع أجزائه من أزله إلى أبده. ويقابله اللاّدوام الزّمانىّ من جهة التّخصّص بآن ما أو ببعض أجزاء الزّمان فقط. والدّوام الغير الزّمانىّ يتعالى عن ذلك. فهو ما بحسب التقرّر الصّرف والوجود المحض الّذي لا يعقل فيه امتداد واستمرار ولا لا امتداد ولا استمرار ، بل إنّه يكون محيطا بذلك كلّه ولا يكون إلاّ مقدّسا عن تصوّر سبق العدم عليه أو لحوقه إيّاه. وهو الدّوام السّرمديّ ويقابله اللاّدوام من جهة سبق العدم بحسب الواقع سبقا سرمديّا ،

٣٦٩

لا زمانيّا. والدّوام السّرمديّ لا يكون لشيء من الذّوات الجوازيّة والحقائق الإمكانيّة ، بل إنّما استأثر به الجاعل المبدع ـ تعالى ذكره ـ على ما أدّى إليه صراط نضج الحكمة ، والمتهوّسون بقدم بعض الجائزات يجعلون الجائز بالذّات القديم بالزّمان سرمدىّ الوجود متأخّر التقرّر عن ذات المبدع لا غير ، تأخّرا بالذّات ؛ ويعبّرون عن دوام المعلومات بالسّرمديّة. وذلك إثم كثير فى الفلسفة.

وهناك نحو آخر هو الدّوام بالذات ، وهو القدم الذّاتىّ ، ومرجعه إلى عدم مسبوقيّة التقرّر بالبطلان بالذّات ، وإنّما يتحقق إذا كان المتقرّر واجبا بذاته ويقابله اللاّدوام بالذّات ، وهو المعبّر عنه فى لسان الفلسفة بالحدوث الذّاتىّ ، أعنى مسبوقيّة تقرّر الشّيء بالبطلان بالذّات ويستغرق جملة الجائزات من المفارقات والمادّيّات على الإطلاق. فكما إذا تسرمد التقرّر بحسب الواقع تحقّق الدّوام السّرمديّ فكذلك إذا سرمد التقرّر بالذّات تحقق الدّوام الذّاتىّ ، وسيكون مساقك إلى مسلك التّحصيل إن شاء اللّه تعالى.

<٢> تلويح توضيحيّ

ألم يقرع سمعك ما قاله الشّركاء المحصّلون السّالفون أنّ البقاء مقارنة الوجود لأكثر من زمان واحد بعد الزّمان الأوّل. وذلك لا يعقل ممّا لا يكون زمانيّا ، فاستوضح ذلك : بأنّ وجود الشّيء الزّمانىّ وإن كان فى نفسه بما هو وجود أمرا بسيطا قارّا ، ولكنّه بحسب نسبته إلى أجزاء الزّمان وحدوده بالمقارنة غير قارّ ؛ فإنّه غير مستقرّ النّسبة إليها ، وملاك الاستمرار الزّمانىّ هو مجموع ذلك التقرّر وهذا الاستمرار. فالموجود الثّابت الذّات الّذي هو من الزّمانيّات ، ويصحّ أن يوصف بالمقارنة لزمان وآن وبالمعيّة أو التقدّم أو التّأخّر الزّمانيّة بالقياس إلى شيء ما له صلوح أن ينسب إلى متغيّر ما ، فيوجد فى ذاته قارّا ثابتا مع جميع ذلك المتغيّر غير قارّ بحسب نسبة وجوده إلى أبعاض ذلك المتغيّر وحدوده ؛ لعدم استقرار نسبته إليها بالمقارنة فيشعر باعتبار ذلك الشّبات.

٣٧٠

وهذا اللاّاستقرار اتّصال نسبة متقدّرة زمانيّة تنطبق على امتداد خاصّ هو زمان ما بعينه ، واتّصال تلك النّسبة هو الّذي يعبّر عنه بالبقاء الزّمانىّ ، والامتداد فيه لا يكون فى المنسوب ولا فى النّسبة بحسب نفسها أو من جهة المنسوب ، بل إنّما فى النّسبة باعتبار اختلافها بالقياس إلى حدود المنسوب إليه ، فهذا حقيقة الاستمرار الزّمانىّ. قال فى القرآن الكريم عزّ من قائل : وَتَرَى الْجِبٰالَ تَحْسَبُهٰا جٰامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحٰابِ (النمل/٨٨).

وذلك يضاهى أمر الحركة التّوسّطيّة فى المسافة الأينيّة ، مثلا ؛ فإنّ ذاتها بسيطة قارّة ثابتة لا يتصوّر لها فى نفسها امتداد أصلا ، ونسبتها إلى حدود المسافة بالموافاة مختلفة غير مستقرّة. وإنّما يتصوّر (٢٤٣) فيها بذلك الاعتبار فقط امتداد نسبة متقدرة أينيّة تنطبق على الامتداد المكانىّ الأينىّ المسافيّ.

فالحركة التّوسّطيّة أمر بسيط قارّ فى نفسه غير قارّ بحسب النّسبة إلى أجزاء المسافة وحدودها بالموافاة ، وملاك الاستمرار المسافيّ فيها مجموع قرار الذّات وعدم استقرار النّسبة والاستمرار إنّما يكون للذّات بحسب الامتداد فى المنسوب إليه وفى النّسبة المختلفة إلى أجزائه. وليس هو نفس الامتداد. ولذلك ما إنّ الزّمان ممتدّ وليس مستمرّا. وكذلك الحركة القطعيّة والحركة التّوسّطيّة مستمرّة وليست ممتدّة ، وكذلك الموجود الباقى.

فقد استقرّ الآن أنّ وجود المعلول الحادث الزّمانىّ بحسب تلك النّسب الغير القارّة يدخل فى علّته التامّة أمر غير قارّ. فهو فى ذلك الاستمرار البقائىّ يستند إلى الحركات المقارنة له باعتبار الأعداد. وإذا المبدأ الخلاّق آنا فآنا بحسب الإفاضة بنفس التأثير الأوّل بتحصيل مستأنف ، كما أنّه يستند فى أصل الحدوث إلى الحركات المنقضية قبله إلى حين حدوثه بحسب الإمداد. وإلى المبدأ الجاعل بحسب الجعل (١) وليس يلزم استناد الغير القارّ إلى القارّ الثابت الذّات ، ولا العكس ،

__________________

(١). أى : ليس يلزم انتهاء استناد الغير القارّ ، كالحركة ، إلى القارّ الثابت الذّات ، أعنى الواجب ـ جلّ شأنه. وللاستناد القارّ الثابت الذّات كالحادث الزّمانىّ إلى شيء هو غير قارّ الذات ، كالحركات ـ على ما سيبيّن سبيله فى مقامه. أى فى مقام كيفية تبيين كيفيّة ارتباط الحادث بالقديم. سمع شرح.

٣٧١

على ما ستبيّن سبيله فى مقامه.

فإذن ، قد انصرح أنّه إن ارتفع ما هو ثابت الذّات عن افق الزّمان وما يعتوره ويعتريه من الأحكام والأعراض لم يصحّ أن يوصف بأنّه ينفصل عنه شيء ما انفصالا زمانيّا أو آنيّا أو تقرن معه معيّة زمانيّة أو آنيّة إذا كان يمتنع أن يتخلّل بينه وبين شيء ما امتداد زمانىّ أو لا امتداد آنيّ ، (١٤٦) كما أنّه يمتنع أن يقع بينه وبين مكانىّ ما ، بل شيء ما بعد أو لا بعد مكانىّ.

فإذا نسب إلى متغيّر لم يكد يتصوّر امتداد واستمرار متقدّر أصلا ، لا فى ذات المنسوب ولا فى النّسبة باعتبار نفسها ولا بحسب عدم استقرارها بالقياس إلى أجزاء المتغيّر وحدوده بالمقارنة والمفارقة ؛ إذ لم يكن هى من النّسب المقدّرة الزّمانيّة ، بل كانت النّسبة إلى جميع تلك الأجزاء والحدود متشابهة من جهة المنسوب مطلقا إذا لم يكن فيه بحسبها تجدّد حال ما لم يكن أو تقضّى حال ما لم تكن كانت أصلا ، ومن جهة المنسوب إليه بالقياس إلى ذات المنسوب فقط إذا كان ذات المنسوب مع كلّ واحد واحد من أجزاء المنسوب إليه وحدوده ومع جميعها فى الوجود أبدا على وصف واحد معيّة سرمديّة غير متقدرة ، لا مقارنة زمانيّة أو آنيّة. وأمّا المنسوب إليه فى حدّ نفسه بالقياس إلى نفس ذاته فله الامتداد وأجزائه وحدوده فى حدّ أنفسها وبقياس بعضها إلى بعض متتالية.

فإذن ، لا يكون لمن هو ثابت الذّات على هذا الوصف وهو المحيط بكلّ شيء أزلا وأبدا بقاء زمانىّ ، بل يجلّ جناب مجده عن ذلك ، حيث الأمر فيه أرفع وكبرياؤه أعلى ؛ اللّهمّ إلاّ على مجرّد التّسمية الشّرعيّة ؛ إمّا رعاية للمجاز التّشبيهىّ تنزّلا إلى استيناس الفطر العاميّة وإمّا بناء على أنّ ما هو أقدس وأرفع من ذلك ، ثابت ثقة بعدم استيحاش المدارك الخاصّة ، لعدم التباس الأمر على الّذين هم للحقائق متفهمون وللأسرار مستشعرون. ولذلك فى صفاته وأسمائه ـ عزّ ذكره ـ نظائر كثيرة.

وإذا لوحظ نسبة ذاته القدّوس إلى مكان ومكانىّ وكميّة قارّة لم يكد يتصوّر بعد كميّ قارّ مكانيّ ولا لا بعد كذلك ، بل كان هو بالقياس إلى مجموع المنسوب إليه.

٣٧٢

فإلى كلّ واحد واحد من أجزائه وحدوده على نسبة متقرّرة متشابهة غير مختلفة أصلا متقدّسة عن الموافاة المكانيّة والقرب والبعد المتقدّرين ، وإطلاق القرب عليه ـ تعالى ـ بمعنى أجلّ ممّا يتعرّفه الجمهور من الغاغة. ولهذه المسائل محتد فى «الصّرحة الثّانية» الّتي فيها يحصل الشّطر الرّبوبيّ إن شاء اللّه تعالى.

<٣> إلاحة ملكوتيّة

الآن تهيّأ أن نلوّح لك : أنّ الأزل على ضربين : أزل زمانىّ وأزل سرمدىّ أرفع من الزّمانىّ.

(١) فأمّا الأزل السّرمديّ ، فهو ما بحسب وجود المبدأ الأوّل ـ تعالى ـ وجودا صرفا متقدّسا عن الامتداد والاستمرار وعن مقابلهما اللّذين باعتبار الدّفعيّة وعدم البقاء ـ سبحان اللّه عن ذلك ـ وعدم الزّمان عدما صرفا بمعزل أيضا عن ذلك ، متقدّما على وجوده تقدّما سرمديّا لا زمانيّا. والزّمان بامتداده الاتصالىّ وبكلّ جزء من أجزائه الممكن انحلاله إليها ، لا بطرفه فقط ، مسبوق بهذا الأزل. ونسبة الزّمان الماضى إليه كنسبة الزّمان المستقبل إليه من غير فرق. فليس مثلا زمان آدم عليه السّلام بالنّسبة إليه بأقرب من زماننا هذا ، بل جميع الأزمنة والآنات سواسية بالنّسبة إليه. ومع وجود الزّمان ذلك العدم مرتفع فى الواقع. والمبدأ الأوّل ـ تعالى ـ باق متفرّد موجود فى الواقع ، وهو محيط بجميع الأزمنة وبقاطبة الموجودات.

فإذن ، أزليّة عدم الزّمان بل جملة الجائزات معناها سبقه على الجميع سبقا سرمديّا. وأزليّة القيّوم الواجب بالذّات ـ جلّ ذكره ـ ليس معناها ذلك فقط ، بل مفهومها سبق وجوده المتعالى عن شوب العدم من كلّ وجه على وجود الزّمان وجميع الممكنات سبقا سرمديّا ، ثمّ إحاطته بكلّ ما تسعة الشّيئيّة ويشمله الوجود إحاطة تامّة على نسبة واحدة يعبّر عنها بالمعيّة الغير الزّمانيّة.

فحيث الأزليّة لا يعقل ماض ولا مستقبل ، وهى محيطة بالمستقبل إحاطتها بالماضى من غير فرق. فجميع الأزمنة والزّمانيّات نسبتها إلى هذه الأزليّة على شاكلة

٣٧٣

واحدة. ونسبة هذه الأزليّة إلى جميع الأزمنة نسبة العلوم الكلّيّة المجرّدة إلى الأمكنة.

(٢) وأمّا الأزل الزّمانىّ فهو جملة المتمادى من الزّمان فى جهة المضىّ الزّمانىّ بحيث لا يتقدّمه زمان أو شيء آخر زمانىّ أو آنيّ أصلا ، وبالجملة أزمنة متمادية فى جانب الماضى بحيث لا يكون فى الوجود أو فى الوهم زمان يكون هو قبل تلك الأزمنة ولا يكون أيضا قبلها آن ، كما سيصرّح إن شاء اللّه تعالى.

وبذلك يعلم حال الأبد بالمقايسة إلاّ أنّ الأبد السّرمديّ ، لا يخالف الأزل السّرمديّ إلاّ بنحو من الاعتبار ، والأزليّة والأبديّة السّرمديّتان لا تتغايران بالمعنى إلاّ بالاعتبار ، ولا يتصوّر بينهما امتداد واختلاف. ولا يمكن أن ينفصل إحداهما عن الاخرى لا فى الوجود ولا فى الوهم.

والأبد الزّمانىّ جملة من الأزمنة المتمادية فى جهة الاستقبال ، إذ حيث لا يكون زمان آخر بعد تلك الأزمنة ، فهو غير الأزل الزّمانىّ بالمعنى ويخالفه فى الجهة ومنفصل فى الوهم امتداده عن امتداده.

والزّمان لا يجب أن ينتهى فى جانب الأبد إلى حيث لا يلحقه شرط آخر منه. فتمادى اتّصاله فى جهة الأبد سيّال غير واقف عند حدّ بعينه ؛ وأزليّة البارى تعالى وأبديّته معنى واحد هو بعينه دوامه السّرمديّ. فهذا سبيل طبخ الفلسفة ونضح الحكمة.

<٤> شعاب

المتهوّسون بقدم بعض الجائزات وبلا تناهى بعض المقادير من الفلاسفة يجعلون الأزل الزّمانىّ مقدارا غير متناهى الكميّة فى الماضى من الزّمان الّذي لا بداية لوجوده ، كما لا تناهي لتمادى مقداره ؛ والأبد الزّمانىّ مقدارا منه فى المستقبل لا ينتهى تماديه إلى حيث لا يستمرّ اتّصاله بعده ؛ والأزليّة استقرار الشّيء فى الأزمنة الماضية بحيث لا يكون له أوّل ، أى دوام الوجود فى الماضي ؛ والأبديّة استمراره فى الأزليّة الآتية بحيث لا يقف عند حدّ ، أى دوام الوجود فى المستقبل ؛ والسّرمديّة

٣٧٤

لا انبتات وجود الشّيء فى الأوّل والآخر. (١)

ويقولون : الأزليّة الغير الزّمانيّة هى كون الشّيء لا أوّل له ولا هو ممّا يتعلق بالحركة وينتسب إلى الزّمان ويتصوّر فيه التّغيّر والتجدّد كما فى المفارقات ؛ والأبديّة الغير الزّمانيّة هى كون الشّيء لا آخر لوجوده (١٤٧) ولا هو من الامور المرتبطة بالزّمان والحركة.

وهذه الأبديّة لا تغاير هذه الأزليّة بالمعنى ، بل بالاعتبار فقط ، بخلاف الزّمانيّين ، ولذلك ما إنّ أكثر التّعبير عن مفارقات المادّة عندهم بالأبديّات ، وربما يطلق الأزليّة أو الأبديّة الغير الزّمانيّة عندهم على مجرّد كون الشّيء غير متعلّق الحصول بالزّمان والحركة.

وأزليّة البارى الأوّل ـ تعالى ـ وأبديّته نفس هذا المعنى السّلبىّ. قالوا : «إنّ له صفات عدميّة ، أعنى لا صفتيّة ، كالوحدة ؛ فإنّ معناها أنّه موجود لا شريك له أولا جزء له. وإذا قيل : إنّه أزليّ ، أى : إنّه لا أوّل لوجوده ، فإنّما يعنى سلب حدوث عنه أو سلب وجود متعلّق بالزمان ، والسّلوب والإضافات لا يتكثّر بها الذّات ، فإنّ الإضافة معنى عقلىّ لا وجود له فى ذات الشّيء. والنّفى والسّلب معا عدميّة ، أى رفع الصّفات عن الشّيء ولو كان لمثل هذه السّلوب ألفاظ محصّلة ، مثل الوحدة والأزليّة ، ربّما ظنّ أنّها صفات محصّلة. وقد تكون ألفاظ محصّلة ومعانيها غير محصّلة ووجوديّة بل سلبيّة ، وقد تكون ألفاظ غير محصّلة ومعانيها محصّلة ووجوديّة. والأوّل كالواحد والفرد ، والثّاني كالّلاأعمى» أى : البصير (٢) ؛ والأزليّة

__________________

(١). فالأبديّة هى اعتبار آخر غير اعتبار الأزليّة ، لا أنّهما مختلفان بحسب الحقيقة. وإنّما اعتبار الأبديّة أن يلحظ أنّ الشيء الموجود مع المبدأ الحقّ فى الواقع لا ينقطع وجوده ولا يرتفع عن وعاء الدّهر بعد تحقّقه. وأمّا الأبديّة الزّمانيّة فهى مخالفة الأزليّة الزّمانيّة بالذّات وبحسب المعنى ، لا أنّها فى جهة المستقبل من الأزمنة والأزليّة فى جهة الماضى منها. سمع منه ره.

(٢). قوله : والثانى كاللاأعمى اى البصير. تتمة العبارة فى التعليقات ، بهذه الألفاظ : «وهذا كما يقال : الغنىّ والفقير ، فإنّ الغنىّ ليس إلاّ اضافة ذى المال إلى ماله ، لا صفة موجودة فى ذات ذى المال ؛ والفقير معى عدمىّ ومعناه : أنّه ليس بذى مال. وليس لهاتين الصّفّين وجود فى ذات صاحبيهما. فصفات واجب الوجود لذاته إمّا أن تكون لوازم له ، فلا يتكثر بها على ما ذكرنا وإمّا أن تكون عارضة له من خارج. وذلك إمّا معنى إضافىّ وإمّا معنى عدمىّ ، فلا يتكثّر بها» ، انتهى. منه ، رحمه اللّه تعالى.

٣٧٥

والأبديّة من القسم الأوّل. ومن متأخرة المقلّدة من يقول : أزليّة الشّيء إثبات السّابقيّة له على غيره ونفي المسبوقيّة عنه.

وأمّا الفرقة المتسمّية بالمتكلمين ، فإذا إنّهم يتوهّمون أنّ بين وجود الجاعل المبدع ـ تعالى ذكره ـ وبين حدوث العالم عدما للعالم مستمرّا إلى حين حدوثه متماديا فى جهة المبدأ لا إلى أوّل أصلا ؛ فيضعون بحسب هذا الوهم أزمنة موهومة غير متناهية من جهة المبدأ منبتة التّمادى الوهمىّ من جهة المنتهى عند حدوث العالم ، ويعبّرون عن ذلك الامتداد الموهوم الغير المتناهى بالأزل.

ولا يستصحّ ذلك إلاّ القرائح السّقيمة والغرائز العقيمة ولا يكاد يذهب إليه إلاّ مسياح الوهم المتوغّل فى هتيهة الطبيعة الجسمانيّة وتيهاء الظلمة الهيولانيّة.

<٥> إخاذة

الضّرورة الفطريّة قاضية بأنّ للمحرّك بما هو متحرّك حالة موجودة وأنّ تلك الحالة توجد فى كلّ آن من زمان الحركة ؛ فليس يخلو إمّا أن يكون له فى كلّ آن وفى كلّ حدّ حالة اخرى. والحالات الآنيّة المتعدّدة بالشّخص إن اتصل بعضها ببعض من غير أن يكون هناك شيء آخر فاصل يلزم تشافع الآنات وتركّب المسافة من حدود غير منقسمة ، والبرهان قد أحاله ؛ وإن لم يكن بينها اتصال كان هناك سكون وبطلان للحركة فى الوسط قبل الوصول إلى المنتهى ، والفرض قد أبطله.

فإذن ، تعيّن أن يكون حالة التوسّط واحدة بالشّخص مستمرّة باقية بعينها ما دام موضوع الحركة متحرّكا متوسّطا بين المبدأ والمنتهى ، ولا محالة ينطبق عليها من قبل الزّمان أيضا أمر بسيط مستمرّ ، وهو الآن السّيّال.

وأيضا ، الحركة الممتدّة الّتي هى قطع المسافة والمنطبق عليها. والزمان الممتدّ الّذي هو مقدارها والمنطبق عليها امتدادان مرتسمان فى الخيال ، والعقل جازم بأنّه مهما انفصل شيء منهما إلى أجزاء يمتنع بالنّظر إلى ذوات تلك الأجزاء أن يوجد فى الأعيان على سبيل المعيّة والاجتماع فى افق الزّمان ، بل إنّما على سبيل التّقدّم

٣٧٦

والتأخّر الزّمانيّين.

ولا ارتياب فى أنّ هذين الامتدادين بما هما موصوفان بهذا الوصف لم يصحّ أن يرتسما فى الذّهن من العدم. فإذن ، لا يحصل شيء منهما فيه إلاّ إذا كان فى الأعيان شيء مستمرّ غير مستقرّ يحصل منه بحسب الاستمرار وعدم الاستمرار هذا الامتداد فى الذّهن الخيالىّ : أمّا من الحركة فالحركة التّوسّطيّة الواحدة الشّخصيّة الفاعلة بسيلانها الحركة القطعيّة ؛ وأمّا من الزّمان فالموجود البسيط الشّخصىّ المعبّر عنه بالآن السّيّال الرّاسم بسيلانه الزّمان الممتدّ. فالممتدّان الخياليّان الدّالان على موجودين عينين. فهذا أمر لم يستنكره أحد من أولياء العقل وأبناء التّمييز.

ثمّ حزب الفحص والتّحصيل أدركوا أنّ الموجود العينىّ من الحركة والزّمان ليس هو التّوسط والآن السيّال لا غير ، بل الممتدّ من كلّ منهما أيضا موجود فى الأعيان كاللّذين لا ينقسمان. فالمنتقل متحرّك معدّ من كلّ واحد من المسافة والحركة والزّمان فى الأعيان شيء متصل يقبل الانقسام وشيء بسيط لا ينقسم باق دائما ما بقى الانتقال.

أمّا المتّصلات الممتدّة : فمن الحركة القطع الممتدّ المنطبق على المسافة ، ومن الزّمان مقدارها الممتدّ المنطبق عليها ، ومن المسافة الخطّ والسّطح مثلا فى المسافة الأينيّة وغير ذلك فى غيرها.

وأمّا البسائط المستمرّة الّتي لا تقبل الانقسام بحسب أنفسها : فمن القطع التّوسّط ومن الزّمان الآن السيّال ومن المسافة الحدّ إمّا نقطة أو غيرها.

والمتفلسفة المشوّشة للفلسفة والمقلّدة التّائهيّة فى أتياه الوله والحيرة لمّا لم تسع مقدرتهم أن يدبّروا للخروج عن مضائق هو سات الشّكوك إلى متندح فضاء التّحصيل تدبيرا خاضوا عن الحقّ وحادوا عن السّبيل وأنكروا الوجود العينىّ ، إلاّ للحركة التّوسّطيّة والآن السيّال. وإذ قد تمّ تحديد حريم النّزاع فلعلّ الآن بفضل اللّه يقترّ الأمر مقرّه ويستقرّ الحقّ مستقرّه.

٣٧٧

<٦> استيناف تقديرىّ

أما علمت : ما يقرّر قول شيخ الفلسفة فى الإسلام : إنّ المنتقل يعقل نقلة متصلة على مسافة متصلة يطابقها زمان متصل. فالمنتقل نهاية لنفسه من حيث انتقل ، كأنّه شيء ممتدّ من مبدأ المسافة إلى حيث وصل ؛ فإنّه من حيث هو ينتقل شيء ممتدّ من المبدأ إلى المنتهى وذاته الموجودة المتصلة حدّ ونهاية لذاته من حيث قد انتقل إلى هذا الحدّ.

فحريّ بنا أن ننظر : هل كما أنّ المنتقل ذاته واحدة وبسيلانه فعل ما هو حدّه ونهايته ، فكذلك فى الزّمان ، فأيضا شيء هو الآن ، فيكون ذاتا غير منقسمة من حيث هى هو ، وهو بعينه باق من حيث ذلك ، وليس باقيا من حيث هو الآن ؛ لأنّه إنّما يكون أنا إذا اخذ مجدّدا للزّمان.

كما أنّ ذلك إنّما يكون منتقلا إذا كان محدّدا لما يحدّده ويكون فى نفسه نقطة أو شيئا آخر. وكما أنّ المنتقل يعرض له من حيث هو منتقل أنّه لا يمكن أن يوجد مرتين ، بل هو يفوت بفوات انتقاله ، كذلك الآن من حيث هو لا يوجد مرّتين. لكن الشّيء الّذي لأمر ما صار آنا عسى أن يوجد مرارا ، كما أنّ المنتقل من حيث هو أمر يعرض له الانتقال عسى أن يوجد مرارا. فإن كان شيء مثل هذا موجودا ، فيكون حقّا ما يقال : إنّ الآن يفعل بسيلانه الزّمان ولا يكون (١٤٨) هذا هو الآن الّذي يفرض بين زمانين يصل بينهما. كما أنّ النّقطة الفاعلة بحركتها مسافة هى غير النّقطة المتوهّمة فيها. فإن كان هذا الآن له وجود فهو وجود الشّيء مقرونا بالمعنى الّذي حقّقنا أنّه حركة من غير أحد متقدّم ولا متأخّر ولا تطبيق.

وكما أنّ كون الشّيء ذا أين إذا استمرّ سائلا فى المسافة أحدث الحركة ؛ فكذلك كونه ذا هذا المعنى الّذي سمّيناه الآن إذا استمرّ سائلا فى متقدّم الحركة ومتأخّرها أحدث الزّمان.

فنسبة هذا الشّيء إلى المتقدّم والمتأخّر هى كونه آنا ، وهو فى نفسه شيء يفعل

٣٧٨

الزّمان ، ثمّ إذا حدث الزّمان حدّ بعد ذلك بالآن المحفوف الماضى والمستقبل.

<٧> سياقة حدسيّة

هل اقتدرت على أن تتلطف فى سرّك وتتبصّر من نفسك فتتحدّس : أنّ استمرار الشّيء البسيط الّذي هو الكون فى الوسط مع لا استقرار نسبته إلى الحدود المفروضة المسافيّة بحسب الوجود فى الأعيان واتّصال ذلك مدّة الحركة بالانطباق على المسافة المتصلة فى ذاتها وصيرورة المسافة مقطوعة فى الخارج ، لا على أن تكون هناك قطوع لأجزاء المسافة متمايزة على الانفصال حتّى تكون هى ذات مفاصل بالفعل إذا لوحظ بما هو حال المتحرّك فى الأعيان كان مبدأ استيجاب الحكم البتّى بوجود حركة ممتدّة متّصلة فى الأعيان منطبقة على المسافة المتّصلة. لكن على أن يكون حصول وجودها العينىّ فى مجموع الزّمان الشّخصىّ الّذي هو زمان الحركة ، لا فى شيء من أبعاضه وفى شيء من حدوده.

فحصول مجموع تلك الحركة الشّخصيّة فى مجموع زمانها الشّخصىّ على التّطابق بحيث تنفرض الأجزاء فيها حسبما تنفرض فيه ، ولا يجتمع جزء آن مفروضان منها فى جزء واحد مفروض فيه ولا فى شيء من الآنات الجائزة الانفراض. وكذلك وجود الآن السّيّال فى الخارج على وصفى استمرار الذّات ، ولا استقرار النّسبة يوجب الحكم بتّة بوجود الزّمان الممتدّ المتصل فى الخارج على نحو ما فى الحركة ، إلاّ أنّ الزّمان الممتدّ موجود فى نفسه لا فى زمان ، إذ الزّمان ليس له متى ، بخلاف الحركة المتصلة ؛ فإنّها توجد فى الزّمان. وذلك متاها. وأيضا إذا ثبت وجود الحركة الممتدّة مع انطباقها على الزّمان ثبت أيضا وجود الزّمان الممتدّ.

ثمّ أليس قد انكشف لك : أنّ نسبة الحركة التّوسّطيّة والآن السيّال إلى الحركة المتّصلة والزّمان الممتدّ نسبة النّقطة الفاعلة إلى الخطّ الّذي هى ترسمه أو الخط الفاعل إلى السّطح الّذي يرتسم منه.

والنّقطة الفاعلة لو كانت فاعلة فهى تكون ترتسم الخطّ فى الأعيان ، فكذلك يكون

٣٧٩

الكون فى الوسط والآن السّيّال يحصل منهما الحركة المتصلة والزّمان الممتدّ فى الأعيان ؛ على أنّ الأمر هناك على سبيل التّخييل وهاهنا على سبيل التّحقيق والتّحصيل.

وبالجملة ، إذا لم يكن للحركة القطعيّة حصول فى الأعيان لم يكن المتحرّك حال تحرّكه فى الأعيان شيئا من المسافة المتصلة أصلا. ولم يكن له بحسب الحركة الّتي له فى الأعيان موافاة وموازاة بالنّسبة إلى المقدار المتصل المسافيّ بتّة ، ضرورة أنّ المسافة المتصلة تكون حينئذ مطابقة للحركة المعدومة المنطبقة على الزّمان المعدوم ، فلم يصحّ أنّه نال مسافة متّصلة بحركة ما متّصلة فى زمان ما متّصل ، بل إنّما يكون له بحسب تلك الحركة أنّه يكون فى الأعيان ما دامت له الحركة متوسّطا بين حدود المسافة ، ولا يكون يقطع فى الأعيان شيئا من المسافة ، لا بقطع متصل ولا بقطوع منفصلة وإن كان يرتسم من ذلك فى الخيال أمر متصل فإذن يكون قد مرّ المتحرك فى الإتيان على شيء متصل ولم ينله ولا ... وأفاد بقطعة متصلا. فإذن يرجع المرتسم الخيالىّ إلى أن يكون من اعتمالات الحواسّ ، لا على محاذات حال الشّيء فى الأعيان.

فإن انجال على وهمك : أنّ الكون فى الوسط على الوصفين فى الأعيان هو الّذي يرتسم الممتدّ فى الخيال بحذائه ؛ صرم جولانه بأنّ الكون فى الوسط على الوصفين ، إنّما للكائن فى الوسط بحسبه على ذلك التّقدير أن يكون متوسّطا بين حدود المسافة فى زمان الحركة أبدا ولا يكون له نيل المسافة المتّصلة ولا نيل شيء من أبعاضه ولا نيل شيء من حدوده بالفعل البتة ، بل بالقوّة (١) ، على معنى أنّه إذا ثبتت

__________________

(١). قوله «بل بالقوّة على معنى الخ إشارة إلى دفع ما قاله الإمام الرازىّ فى بعض مصنفاته ، من أنه يحصل له هذا الفعل بالقوّة وإن لم يحصل له بالفعل. وهذا كاف لنا فى هذا المقام. فاشار المصنف بقوله «بالقوة» إلى معنى إنّه الخ. وملخصه أن هذا الدليل إنّما يصح إذا قلنا بوجود الحركة القطبيّة فى الخارج ، فإنّ للمتحرك حينئذ أفراد آنيّة وزمانيّة ، فحين انبتات الحركة تلبس المتحرك بفرد من الافراد الزمانيّة. فيكون له على هذا التقدير صلوح أن يكون هو مطابق موافاة المتحرك للمسافة المتصلة فى زمان الحركة وقطعه اياها بذلك القطع المتصل المرتسم فى الخيال وله صلوح أن يكون بحذائه ارتسام ذلك المتصل منه. وأما اذا قلنا بوجود الحركة التوسطية لم يكن للمتحرك حين الحركة إلاّ أفراد آنية. فإذا ثبتت الحركة تلبس المتحرك بفرد منها بالفعل فلا يكون له على ذلك التقدير إلاّ صلوح أن يكون هو مطابق الحكم بموافاة المتحرك للحدّ المعيّن من المسافة المتصلة فى زمان الحركة وليس هذا بحذائه ارتسام ذلك المتصل فى الذهن ، فيعود ذلك الارتسام حينئذ تخيلا اعتماليّا. تبصّر. سمع منه ره.

٣٨٠