مصنّفات ميرداماد

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]

مصنّفات ميرداماد

المؤلف:

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]


المحقق: عبدالله نوراني
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: منشورات مطبعة وزارة الإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-528-006-0
الصفحات: ٥٢٧
الجزء ١ الجزء ٢

المحالات استحالتها لا تظهر فى نفسها ، بل إنّما تستبين بالبرهان. والوهم لا يستنكر أن يكون زمان محدود مع المستقيم والمستقيمة ، وإن لم يكن فى الوجود مستدير ومستديرة. لكنّ النّظر فيما يصحّ فى الوجود ، لا فيما يستصحّه الوهم فى الوجود ، وإن كان وجوده من المستحيلات.

فاعلم : أنّ الحركة الدّوريّة ـ أعنى الّتي هى أسرع الدّوريّات ـ غنيّة عن سائر الحركات ، وهى غير مستغنية عنها ، فهى إذن أقدم الحركات بالطبع. ويجب أن يتقدّم فى الوجود سائر الحركات حتّى يصحّ وجودها. وكذلك موضوع تلك الحركة بالقياس إلى موضوعات سائر الحركات.

<١٥>تمهيد

أليس أنّ لفظ الحركة عند أرباب الصّناعات الحكميّة اسم لمعنيين. أحدهما : توسّط الجسم بين مبدأ المسافة ومنتهاها ، بحيث أىّ حدّ يفرض لا يكون المتحرك قبله وبعده لا كحدّى الطرفين. فهذا هو صورة الحركة وصفتها. وهى حالة واحدة بسيطة شخصيّة موجودة مستمرّة ما دام الشّيء يكون متحرّكا. فهو يلزم المتحرّك ولا يتغيّر ما دام هو متحرّكا؛ فإنّه وإن تغيّرت حدود المسافة بالغرض الانتزاعىّ ، لكن ليس كون المتحرّك متوسّطا ومتحرّكا لأنّه فى حدّ معيّن من الوسط دون حدّ وإن لم يكن متحرّكا عند خروجه منه ، بل إنّما لأنّه متوسّط على الصّفة المذكورة وتلك الحالة ثابتة فى جميع حدود ذلك الوسط. وهى أمر بسيط يحصل بتمامه بعد نهاية زمان السّكون ولا يعقل له أجزاء.

ولا يصحّ أن يقال : إنّه من الأمور الغير القارّة إلاّ أنّ هذا الأمر البسيط له نسبة إلى حدود المسافة الممكنة الانفراض لا إلى الوقوف على نهاية بعينها بالموافاة المتّصلة الواقعة فى كلّ آن بعينه من الآنات بالقياس إلى حدّ بعينه من تلك الحدود.

فالكون فى الوسط واحد (١٣١) شخصىّ بسيط فى جميع زمان الحركة. لكنّه فى كلّ آن من الآنات مواف لحدّ من الحدود فهو مستمرّ بحسب الذّات غير مستقرّ

٣٢١

بحسب النّسبة إلى تلك الحدود ؛ فإنّ موافاة كلّ حدّ يخالف موافاة حدّ آخر.

فإذن ، نسب هذا الأمر البسيط إلى تلك الحدود غير قارّة ، وكلّ موافاة لا تتميّز عمّا يليها بالفعل إلاّ بالقوّة بحسب تعيين الحدود بالفرض.

والحركة بهذا المعنى يقال لها الحركة التّوسّطيّة ، وهى وجود بين صرافة القوّة ومحوضة الفعل. فهى كمال أو فعل أوّل ، به يتوصّل إلى كمال أو فعل ثان هو الوصول إلى الغاية. فلذلك رسموها بكمال أو فعل أوّل لما هو بالقوّة من جهة ما هو بالقوّة أو بالخروج من القوّة إلى الفعل يسيرا يسيرا على سبيل اتّجاه نحو شيء.

وثانيهما : الأمر المتّصل للمتحرّك من المبدأ إلى المنتهى منطبقا على الممتدّ من المسافة بين طرفيها ، وهو قابل للانقسام لا إلى نهاية بعينها حسب قبول المسافة للانقسامات.

والحركة بهذا المعنى يقال لها الحركة بمعنى القطع ، ويكون للمتحرك بحسبها نيل المسافة فى زمان ما على سبيل الانطباق عليه وبحسب الحركة التوسّطيّة بين حدّيها الطرفين ، بل بين جميع حدودها المأخوذة بالفرض فى جميع ذلك الزّمان لا على جهة الانطباق وفى كلّ جزء من أجزائه وفى كلّ آن من آناته.

فإذا استذكرت ذلك فتذكّر ما من البيّنات أنّ الحركة التّوسّطيّة خارجة عن الحركة بمعنى القطع غير قائمة بها ، بل راسمة لها وقائمة بموضوع الحركة. وهناك امور بسيطة غير منقسمة سواها تقوم بالحركة القطعيّة فى اعتبار الذّهن وتحصل إذا انقسمت الحركة القطعيّة بالفرض الذّهنىّ ، فتكون حدود الأقسام المتحصّلة بالفرض كالحدود العارضة للمسافة عند الأقسام.

<١٦> تشييد تنظيريّ

أما اختطفت من يقولون : من النّقاط : نقطة فاعلة للخطّ ، كالوحدة للعدد ، ومنها : نقطة قائمة بالخطّ ؛ فإنّ طرف المتحرك وليكن نقطة ما ، كرأس مخروط

٣٢٢

يرسم بحركته وسيلانه مسافة ما ، بل خطّا ما كأنّه ـ أعنى : ذلك الطرف ـ هو المنتقل. فقد تعرض للنّقطة مماسّة منقلة ، والمماسّة لا تحدث إلاّ فى آن ، فلا يصحّ تتالى المماسّات.

فإذن ، بين كلّ مماسّتين حركة وزمان ، فيوجد هناك لا محالة خطّ ينطبق عليهما. ثمّ ذلك الخطّ تنفرض فيه نقطة متوهّمة ، لا على أنّها فاعلته أو أجزاؤه ، بل على أنّها قائمة به واصلة بين أجزائه الوهميّة ؛ فالفاعلة للخطّ غير المتوهّمة فيه.

فهذا القول فى النّقطة وإن كان أمرا يقال للمتخيّل ، لا على أنّه [يكون] سبيلا محققا فى الوجود ؛ فإنّه إذا ماسّ الجسم جسما بنقطة ثمّ ماسّه باخرى تكون النّقطة الأولى قد بطلت بالحركة الّتي بينهما ؛ إذ المماسّة لا تثبت والجسم يكون بعد المماسّة كما كان قبل المماسّة ، فلا تبقى فيه نقطة ثابتة تكون مبدأ خطّ بعد المماسّة ولا يبقى امتداد بينها وبين آخرة المماسّة ؛ فإنّ تلك النّقطة إنّما هى نقطة بالمماسّة لا غير. فإذا بطلت تلك المماسّة بالحركة فكيف تبقى هى نقطة. وكيف يبقى الخطّ الّذي هى مبدأ له. وأيضا ما لم يكن هناك سطح موجود لم يصحّ للنّقطة حركة. فإذن يكون للسّطح والخطّ وجود قبل النّقطة ، فلا تكون حركة النّقطة علّة لوجود الخطّ ، بل هذه جميعا حدود متأخّرة عن وجود الجسم.

لكنّك إذا واعيت لحاظة أعانتك على التّدرّج إلى ما أنت الآن بسبيله ، فسهل عليك أن تحكم أنّ فى الحركة بمعنى القطع شيئا ، كالنّقطة الفاعلة للخطّ وأشياء كالنّقط المفروضة فيه الّتي لم تفعله بل تأخّرت عنه. وذلك الشّيء هو الحركة التّوسّطيّة ، وتلك الأشياء هى الحدود المفروضة فى الحركة القطعيّة إزاء للحدود المفروضة فى المسافة.

<١٧> تنصيص

كما تعرّفت ذلك فى الحركة فاحكم بمثله فى الزّمان أيضا. ففى الزّمان شيء راسم خارج عنه غير قائم به ولا بالحركة ، بل بموضوعها ، بسيط غير صالح للانقسام أصلا منطبقا على الحركة التّوسّطيّة ومكيال لها يقال لها الآن السّيّال. وهو أيضا

٣٢٣

كالحركة التّوسّطيّة مستمرّ الذّات غير مستقرّ النّسبة إلى حدود المسافة وحدود الحركة القطعيّة. وليس هو طرفا للزّمان ، بل هو مباين الذّات له متقدّم الذّات عليه. وكما تطابقه الحركة التّوسّطيّة فكذلك النّقطة الفاعلة فى المسافة الخطيّة أو الخطّ الفاعل فى المسافة السّطحيّة أو السّطح الفاعل فى المسافة الجسميّة.

وفيه أيضا بعد حصول أشياء غير قابلة للانقسام متوهّمة فيه ، هى الفصول المشتركة بين أجزائه الوهميّة يقال لها : الآنات الّتي هى حدود الأزمنة وأطرافها القائمة بها ، كلّ منها محفوف بحاشيتيه الماضى والمستقبل ، ونسبتها إلى الزّمان نسبة النّقاط المتوهّمة فى الخطّ إليه أو الخطوط الموهومة فى السّطح إليه أو السّطوح الموهومة فى الجسم إليه أو الوصولات المفروضة إلى الحدود الفرضيّة للمسافة إلى الحركة القطعيّة المتّصلة الممتدّة.

فإذن ، الآن يقال بحسب اصطلاح الصّناعة على الآن السّيال وعلى الآن الّذي هو طرف الزّمان والفصل المشترك بين الحاشيتين الماضى والمستقبل من الزّمان باشتراك الاسم.

والآن السيّال موجود فى الأعيان واحد بالشّخص ولا يكون نوعه إلاّ لشخصه ومحلّه هو محلّ الحركة الّتي هى محلّ الزّمان ، أعنى جرم الفلك الأقصى. والآن الّذي هو طرف الزّمان لا يوجد بالفعل أصلا ، وإنّما يتحقق فى الذّهن على أن يتوهمه الوهم فى مستقيم الامتداد ، وتتكثّر أشخاصه الوهميّة بتكثّر الفروض أو بتأدية الأسباب إلى غير ذلك ، كموافاة الحركة حدّا متعيّنا مشتركا غير منقسم ، كمبدإ طلوع أو غروب أو غير ذلك. وليس يمكن أن تتشافع تلك الآنات الموهومة ، وإلاّ استلزمت الأجزاء الّتي لا تتجزّى فى الجسم.

<١٨> تفصلة

قد يكون العادّ للشّيء ما يحصّله ويعطيه المعنى الّذي بحسبه حصول العدد والصّلوح للمعدوديّة ؛ وقد يكون ما عنده تحصل الكثرة ويعرض العدد للشّيء

٣٢٤

بالفعل. والعادّ الحقيقىّ هو أوّل معطى للشّيء معنى الوحدة ومعطى للشّيء معنى الكثرة بالتّكرير. فإذن الآن بكلّ من المعنيين يعدّ الزّمان بوجه.

فأمّا الآن السّيّال فإنّه يعدّ الزّمان ؛ لأنّه يجعله ذا عدد ، بما يحصّله من التّقدّم والتّأخّر بحسب الحركة فى متقدّمة المسافة ومتأخّرتها. وذلك التّقدّم والتأخّر عين أجزاء الزّمان. فنسبة هذا الآن إلى الزّمان تشبه نسبة الوحدة إلى العدد.

وأمّا الآن الطرف ، وهو المحفوف بالماضى والمستقبل ، فهو يعدّ الزّمان. والمتقدّم والمتأخّر منه بمعنى أنّه ما لم يتعيّن آن من الآنات الّتي هى من الحدود لم يكن إلاّ الزّمان البسيط المتصل الواحد القابل للانفصال الوهمىّ. فما لم يكن آن لم يتعدّد الزّمان ولم يكن متقدم ولا متأخر.

فإذا تعيّن آن ما (١٣٢) انفصل الزّمان إلى جزءين محدودين به مشتركين فيه ، أحدهما متقدّم بذاته والآخر متأخّر بذاته. فعند حصول هذا الآن فى الذّهن يعرض العدد للزّمان ويظهر التّقدّم والتّأخّر بالفعل وإن لم يكن ذلك بسبب حدوث هذا الآن ، بل عند حدوثه فقط ؛ فإنّ الزّمان بذاته متقدّم ومتأخّر عند الانفصال. وحدوث الانفصال فى الوهم لازم مع حصول هذا الآن ، لا أنّه مستند إليه متأخّر عنه. وإنّما فاعل الانفصال هو الذّهن باعتبار لحاظه بحسب ما يؤدّى إليه تأدية الأسباب وترتّب المسبّبات. وبالجملة ، فكما الآن بمعنيين فكذلك العدد هناك بمعنيين ، وقد التبس الأمر فيه على بعض تلامذة الرّؤساء(١).

وأمّا الجمهور فكأنّهم عن هذه المشكلة من الذّاهلين وهناك عدّ بمعنى آخر ثالث ؛ وهو كون ما ، يقال له عادّ عدد ما ، يقال له معدود.

فالمتقدّمات والمتأخّرات تعدّ الزّمان على أنّها أجزاؤه. وكلّ جزء من أجزاء الزّمان فإنّ من شأنه الانقسام ، كأجزاء الخطّ والسّطح والجسم. وأجزاء الزّمان ، بل المتّصل مطلقا ، متشابهة الحقيقة مختلفة بالقبليّة والبعديّة بالنّسبة إلى الآن المحفوف

__________________

(١). عنى به تلميذ الشّيخ الرّئيس أبى عليّ بن سينا ، بهمنيار ؛ فإنّه قد التبس عليه أمر الآنين والعددين ، وقال فى التحصيل ما هو على البعد من السّبيل. منه سلّمه اللّه تعالى.

٣٢٥

بجزءين من تلك الأجزاء ، وإلى الزّمان الّذي هو إليه والأقرب من أجزاء الماضى إليه بعد والأبعد قبل ، وفى المستقبل بالعكس. ولو لا الحركة بالفعل فى المسافة من حدود التّقدّم والتّأخّر للزّمان لما وجد للزّمان عدد. وهذه المعانى للعدّ غير معناه الرّابع المستعمل فى الهندسيّات ، وهو كون ما يقال له عادّ متعيّنا لما يقال له معدود بإسقاطه عنه مرّة بعد اخرى.

<١٩> توضيح

الآن بمعنى الطرف الوهمىّ للزّمان واصل بين حاشيتيه من حيث إنّه حدّ مشترك بينهما ، بل يتصل أحدهما بالآخر ، وفاصل من حيث إنّه حدّ يفصل المقدّم عن التّالى ؛ لكونه نهاية لذاك وبداية لذا. لكنّ الفصل لا يكون إلاّ فى الوهم.

وهذا الآن تتحصّل فعليّته الذّهنيّة بشعور دفعىّ بمماسّة جسم لآخر أو وصول مركز النيّر إلى محاذاة الافق أو شيء من أشباه ذلك ، وهو نفس طرف الزّمان ، لا شيء فى طرفه، وكذلك شاكلة الأطراف.

فالسّطح هو نفس ظاهر الجسم ، لا شيء فى ظاهره. والخطّ هو : نفس طرف السّطح وظاهره ، لا شيء هو كذلك ، وكذلك النّقطة.

فإذن ، سبيل الآن من الزّمان يشبه من وجه سبيل النّقطة من الخطّ. وهى للخطّ طرف ونهاية ، كما الخطّ للسّطح ، والسّطح للجسم. لكنّ الآن لا يوجد أصلا إلاّ بحسب التّوهّم على خلاف الأطراف ؛ والأطراف ربما تكون فاصلة ، والآن لا يكون إلاّ واصلا ولا يكون له تحقّق فى الأعيان بالفعل وإن لم يكن الزّمان فى جهة الماضى متماديا إلى لا نهاية بالفعل على ما سيتلى عليك إن شاء اللّه تعالى.

فإذن يشبه أنّ أحقّ ما يجب أن يحقّق فى أمر الآن هو أنّ نسبته إلى الزّمان نسبة النّقطة إلى الخطّ المستدير المتناهى مقدارا ، لا وضعا.

٣٢٦

<٢٠> تفصيل انصراميّ

الفلاسفة الّذين يحيصون عن صراط الحقّ ومحجّة الحكمة وينصرفون عن الفلسفة الحقيقيّة إلى ركوب التّفلسف ، فيتهوّسون بإثبات القدم لبعض الجائزات واللاّنهاية لبعض الكميّات ، يجعلون الزّمان موجودا بالفعل أزلا وأبدا غير مسبوق بالعدم فى الواقع أصلا ، ومتماديا فى كميّة إلى لا نهاية بالفعل غير متناهى التّمادى فى جانب الأزل ، ولا ممكن انقطاع الامتداد فى جانب الأبد.

ويظنّون أنّ عدم وجود الآن بالفعل إنّما يترتب على ذلك ؛ إذ يصحّ أن يقال : إنّ الآن لا يوجد بالفعل بالقياس إلى نفس الزّمان أصلا. ولا يقطع اتّصاله ، بل إنّما وجوده على أن يتوهمه الوهم واصلا فى مستقيم الامتداد ، والواصل لا يكون بالفعل فى المستقيم الامتداد من حيث هو واصل ، وإلاّ لكانت واصلات بلا نهاية ففعليّته إنّما تكون لو قطع الزّمان ضربا من القطع ومحال أن يقطع اتّصاله. فلو جعل له قطع فإمّا فى بدايته فيكون معدوما ثمّ وجد ، فعدمه قبل وجوده ، ولا شيء غير الزّمان يحصل به هذا النّوع من القبليّة ، فيكون هذا الزّمان قبله زمان يتصل بذلك قبل ، وهذا بعد ، وهذا الفصل يجمعهما وقد فرض فاصلا أو على أنّه نهاية له. وليس لا يمكن أن يوجد بعده شيء ، حتّى يستحيل أن يوجد شيء مع عدمه.

فالوجود الواجب والإمكان المطلق لا يرتفعان ، فيكون بعده إمكان وجود شيء ، فله بعد وهو قبل. فالآن واصل ، لا فاصل. فقد خولف ما فرض وصفه. فالزّمان لا يكون له آن بالفعل موجود بالقياس إلى نفسه ، بل بالقوّة القريبة من الفعل ؛ فإنّه يتهيّأ أن يفرض الآن فيه دائما. فهذا ما يقوله معلّم الفلسفة المشّائيّة والرّؤساء اليونانيّون والإسلاميّون.

ونحن ـ حنفاء الملّة البيضاء النّورانيّة الإسلاميّة وحكماء الحكمة اللمعاء اليمانيّة الإيمانيّة ـ نردعهم عمّا يقولون ونفضح زلاقاتهم فيما يظنّون. فهناك قبليّة وبعديّة ليس بحسبها استيجاب أن يتصوّر امتداد يكون بينه وبين الزّمان آن واصل

٣٢٧

ومسبوقيّة الزّمان بأصل العدم الصّرف ، لا بالعدم المستمرّ أو اللاّمستمرّ. وليس ذلك يستلزم وجود الآن بالفعل ؛ لأنّ الزّمان ليس بطرفه منتهيا إلى ذلك العدم حتّى يكون طرفه متوسّطا بينه وبين العدم ؛ بل هو ، بنفسه وبكلّ جزء من أجزائه وبكلّ حدّ من حدوده، منته إلى ذلك العدم ، محفوف بذلك اللّيس على سبيل المسبوقيّة به ، والمسبوقيّة بالعدم بالفعل على هذا السّبيل ليس هو مناط تناهى امتداد المقدار بالفعل ولا هو مصادم تماديه إلى لا نهاية بالفعل ، بل إنّما يعيّن الفحص والبرهان أحد الأمرين فيه بنظر آخر.

ونحن إنّما نقضى بانتهاء تمادى الزّمان فى جهة الماضى لانسياق البرهان إلى أنّه يستحيل أن يمتدّ المقدار إلى لا نهاية بالفعل ، أىّ نوع كان من أنواع المقادير ، لا لأنّ الحدوث الدّهرىّ يستلزمه.

فالحدوث الدّهرىّ ليس يستلزم ذلك ولا يصادمه ، كما لا يستلزمه الحدوث الذّاتىّ ولا يصادمه ، وكما لا يستلزم الحدوث الدّهرىّ تناهي الأبعاد القارّة الجسمانيّة ولا يصادمه ، بل يفتقر تحقيق الأمر إلى البرهان.

ثمّ بعد أن ينصرح أنّه يستحيل تمادى الزّمان إلى لا نهاية الفعل لا يجب أن يحكم بلزوم وجود الآن بالفعل فى المبدأ ؛ فإنّه ليس تناهى امتداد المقدار فى مقداريّته مساوق وجود الحدّ والطرف له ، فكثيرا ما يكون المقدار متناهى المقداريّة ولا يكون له طرف موجود بالفعل ، كمحيط الدّائرة ومحيط الكرة. وكثيرا ما ينتفى المقدار عند حدّ ، ولا يكون ذلك الحدّ نهاية له ، كسطح المثلّث (١٣٣) عند كلّ نقطة من نقط زواياه ، وليست هى طرفا ونهاية له.

وكثيرا ما يكون الشّيء حادث الوجود ، ولتقرّره ووجوده مبدأ لكونه بعد البطلان والعدم بالفعل ، ولا يلزمه وجود آن بالفعل فى مبدأ حدوثه ، كالحركات التّوسّطيّة الحادثة. وستعرف ذلك فى مؤتنف الكلام إن شاء اللّه تعالى.

فإذن ليس يلزم من حدوث الزّمان حدوثا دهريا ولا من امتناع تماديه بحسب مقداريّته إلى لا نهاية بالفعل أن يوجد هناك بالفعل آن.

٣٢٨

والحكماء الكرام السّبعة المقتبسون نور الحكمة من مشكاة النّبوة ـ وهم ثالس وأنكساغورس وأنكسيمايس وأنباذقلس وفيثاغورس وسقراط وأفلاطن خاتم الحكماء الإلهيّين ـ وإن طابقونا على أنّ للزّمان بل لجملة الجائزات بدءا فى التّقرّر والوجود ، لكن لم يكن يتهيّأ فحصهم لتقنين القوانين وإحصاف الأحكام وحسم معضلات الشّبه وحلّ معقودات الأوهام.

وأمّا الفرقة الاخرى المتلقّبة بالمتكلمين فأمرهم أوهن من أن يترقب لهم استحقاق تلك الدّرجة. وبالجملة قد كانت فطرة قريحتى لضبط تلك الامور وسدّ تلك الثّغور ، ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء ، واللّه ذو الفضل العظيم.

<١٢> تلخيص ختاميّ

إنّ الزّمان مقدار متّصل محاذ لاتّصال الحركات والمسافات ، فعند الفلاسفة المتهوّسين بإثبات القدم واللاّنهاية ، اولى التّحصيل منهم : هو بجملته من الأزل إلى الأبد موجود متصل واحد شخصىّ ، وكذلك محلّه وهو الحركة المستديرة الحافظة له بسرمديّته. وأهل التّهويل والتّشويش من أسلافهم يضعون أزمنة متكثرة يلتئم التسرمد من تركيبها. وعلى ما حصّله من حمل عرش نضح الحكمة وضمّن تقيين اصول العلم بعصام التّحقيق وتصحيح صناعة الفلسفة عن سقام التّشويش هو ممّا أبدعه الجاعل بعد ما كان باطل الذّات فى وعاء الدّهر ومن المقادير المتناهية التّمادى بالفعل.

فهو بهويّته اللاّامتدائيّة ، لا على أن ينتهى إلى أزل زمانىّ محدود بالآن ، بل على نحو آخر سينكشف لك حقّ الانكشاف إن شاء اللّه تعالى ، موجود وحدانىّ شخصيّ متصل من أزله إلى أبده ، لا من الأزل إلى الأبد ، حذاء اتصال محلّه من الحركة المستديرة كذلك. وليس هو بحيث يمكن وراءه امتداد يوقع العقل بمعونة الوهم بينهما اتّصالا بحسب التّصوّر يجمعهما آن ، فإن جوّزه مجوّز فهو بحت ذات الوهم ، لا غير.

٣٢٩

فإذن ليس مسبوقيّة الزّمان بالبطلان والعدم ولا لا تناهى تمادية بالفعل بحيث يلزم من ذلك وجود آن بالفعل فى المبدأ ولا يتصوّر ذلك فى الأوساط لاتّصاله. فإذن ، لا يوجد الآن البتة بالفعل فى الأعيان وبالقياس إلى نفس الزّمان ، فإن وجد فإنّما هو على أن يتوهّمه الوهم فى المستقيم الامتداد إذا قطعه ضربا من القطع ، فيجده إذ ذاك واصلا [بين متنزعه بالفصل لا فى نفسه ، بل بحسب ذلك التّوهّم. وذلك] لا يظهر لذلك حقّ الظّهور إلاّ بعد أن تتفقّه كيف نحو حدوث الزّمان وكيف نحو انتهائه فى تماديه.

٣٣٠

فصل [ثان]

فيه يحقّق معنى الدّهر والسّرمد

ويبيّن متى الكائنات والمبدعات ، ويفرق بين الأشياء الزّمانيّة والحقائق

المرتفعة عن أفق الزّمان ، ويعلم كيفيّة انتساب الموجودات الزّمانيّة والموجودات

الغير الزّمانيّة إلى الزّمان وغير ذلك ممّا يرتبط بما ريم بالقصد شدّة الارتباط.

<فى الفصل الثانى تسعة عشر عنوانا >

<١>استصباح

ما أيسر لك ، إن كنت من أبناء الحدس ، أن يستقرّ فى سرّك أنّ الامتداد ـ إذ هو من أوصاف المقادير والكميّات المتّصلة لا غير ـ ليس يصحّ أن يوصف به التقرّر والبطلان والوجود والعدم بالذّات ، بل إنّما يصحّ ذلك بالعرض على أن يكون الممتدّ حقيقة هو الزّمان ، واتّصاف التّقرّر والوجود أو البطلان والعدم بالامتداد عبارة عن المقارنة لما هو الموصوف به حقيقة ، أعنى الزّمان.

فإذن ، وجود شيء من الوجودات لا يعقل فيه صلوح أن يحكم عليه بامتداد ما بخصوصه أو بالامتداد المطلق إلاّ بحسب المقارنة لزمان ما بعينه أو لمطلق الزّمان ، وكذلك الامتداد ، أى : كون الشّيء دفعيّا غير ممتدّ الحصول ، كما فى موافاة المتحرّك حدّا ما غير منقسم متعيّنا بالفرض فى سياقة الحركة ؛ فإنّ موصوفه بالذّات إنّما هو

٣٣١

الآن طرف الزّمان ، لا شيء آخر أصلا.

وأمّا الوجود أو العدم أو أيّة طبيعة كانت من الامور الّتي هى غير الآن ، فلا يمكن أن يتّصف بلا استمرار الحصول إلاّ بحسب مقارنة الآن على سبيل الانطباق عليه.

ألست قد استسهلت ما يضاهى هذا الأصل ، حيث حكمت فيما استقنيت من طبقات العلوم : أنّ الكيف فى سنخ طباعه ليس يقبل القسمة ولا اللاّقسمة ، بل ربما يعرض ذلك بحسب مقارنة المحلّ ، كالسّواد الحالّ فى الجسم ؛ فإنّه سار فى محلّه. فبحسب انقسام ما سرى فيه من المحلّ بالذّات ينقسم هو بالعرض على معنى (١٣٤) أنّه ينسب إليه ذلك الانقسام بعينه لا بالذّات وبحسب لا انقسام حدود المحلّ بوصف السّواد الحاصل لكلّ حدّ من تلك الحدود باللاّانقسام بالعرض ، أى بعين اللاّانقسام الّذي هو لذلك الحدّ بالذّات ، والسّواد فى حدّ نفسه ليس بحيث يكون منقسما أو غير منقسم أصلا.

ولا نعنى بذلك : أنّ الكيف متوسّط بين الانقسام واللاّانقسام ؛ إذ لا يعقل بينهما حالة متوسّطة. بل إنّما يعنى أنّه خارج عن جنس القسمة واللاّقسمة. فإذن ، الوجود بما هو وجود ـ أى لا بحسب مقارنة الزّمان والآن به ـ ليس إلاّ التّحقّق الصّرف من دون أن يكون على امتداد أو لا امتداد. وكذلك فى العدم الصّرف ليس إلاّ الانتفاء البحت من غير أن يتّصف باستمرار أو لا استمرار على معنى أنّ الوجود أو العدم بسنخ طباعه مع عزل النّظر عن تعلّقه بالزّمان أو الآن خارج عن جنس الاستمرار واللاّاستمرار ، لا أنّه متوسّط بينهما.

كما يقال : الفلك لا خفيف ولا ثقيل ، ولا يعنى متوسّط بينهما ؛ بل إنّه خارج عن جنس الخفّة والثّقل ، فهو سلب على الإطلاق. وكما يقال : الصّوت لا يرى ؛ فإنّه سلب على الإطلاق ، لا بمعنى أنّه متستر عن الرّؤية. وليس ذلك كما يقال : إنّ هذا الجسم لا حارّ ولا بارد. ويعنى به الفاتر.

ولست أعنى باللاّامتداد واللاّاستمرار مجرّد سلب الامتداد والاستمرار ، أى مقابلة السّلب والإيجاب. أفليس من البيّن أنّ المتقابلين تلك المقابلة لا يكون

٣٣٢

موضوعا عروا عنهما بحسب نفس الأمر البتة. وإن عريت عنهما الذّات بحسب خصوص بعض الملاحظات الّتي هى أنحاء وجود الشّيء فى نفس الأمر ، أعنى بحيث تؤخذ الماهيّة من حيث هى هى.

بل إنّى أعنى بذلك : إمّا مقابل الامتداد والاستمرار مقابلة العدم والقنية الّذي هو أخصّ من النّقيض بقيد الاستعداد. فيخلو عنهما الموضوع الغير القابل ، كالوجود الّذي لا يشاب بالدّخول تحت الكون ، وهو العدم الّذي لا يتعلّق بوقوعه بأنّه فى الزّمان أو فى طرفه ؛ فإنّ هذا الوجود أو العدم يكون واقعا فى الأعيان لا فى زمان أو آن ، بل فى نفسه.

كما أنّ وجود الموجود المفارق للمادّة يكون فى الأعيان لا فى مكان أو فى حدّ من حدود المكان ، بل فى نفسه ، وكذلك عدم ما لا يتعلّق وجوده فى حدّ ذاته بالمادّة عدم وجوده فى نفسه ، لا عدم وجوده فى مكان أو فى حدّ من حدود المكان.

أو أعنى الأخصّ من ذلك أيضا ، أى كون الشّيء دفعىّ التّحقّق غير ممتدّ الحصول مختصّ الوجود بالوقوع فى طرف الزّمان.

ومثل ذلك فى العدم ؛ فإنّ هذا المعنى قد يكذب هو والامتداد كلاهما معا ، وإن كان الموضوع على وصف القابليّة باعتبار الدّخول فى افق الزّمان والوقوع فى حيّز الزّمانيّات ، كحدوث الحركة التوسّطيّة المنطبقة على الآن ؛ فإنّه ليس حدوثا ممتدّا تدريجيّا ولا مختصّا بالوقوع فى آن ما بعينه ؛ وكعدم الآن فيما بعد ذلك الآن من الزّمان ؛ فإنّه أيضا كذلك.

فإذن ، إنّما يعقل الامتداد والاستمرار واللاّامتداد واللاّاستمرار على المعنى الّذي علمت فى الأمور الزّمانيّة الواقعة فى افق الزّمان دون الحقائق المتعالية عن الوقوع تحت حكم الزّمان. وهناك إنّما يعقل من جهة الزّمان والآن ، لا غير.

وهذا ما يرومه رؤساء الفلسفة بقولهم : كلّ ما يكون له أوّل وآخر فبينهما البتة اختلاف مقدارىّ أو عددىّ أو معنوىّ. فالمقدارىّ كالوقت والوقت أو الطرف والطرف ، والعددىّ كالواحد والعشرة ، والمعنوىّ كالجنس والنّوع ، والوجود لا أوّل

٣٣٣

له ولا آخر بذاته.

وبالجملة ، الامتداد والاستمرار ليس بحسب أصل الوجود أو العدم ، بل منه يقدر فى الوجود والعدم بحسب الانطباق على مقدار ما من الزّمان. وكذلك اللاّامتداد واللاّاستمرار ليس بحسب أصل الحصول أو الانتفاء ، بل بحسب الانطباق على طرف الكم المتصل الغير القارّ.

فإذن ، كلّ ذلك من الامور الزّائدة على طباع التقرّر والبطلان ، والأيس واللّيس. وربّما يلحق الوجود والعدم بالعرض فى بعض الموضوعات لخصوصيّة ذات الموضوع. وهذا سرّ عظيم ينطوى فيه سائر الأسرار.

<٢>مشرع فيه شوارع تحصيليّة

ألم يكن ممّا قد تمّت استبانته : أنّ مقولة «متى» هى نسبة ما للشّيء إلى الزّمان. وهى كونه فى نفسه أو فى طرفه ؛ فإنّ كثيرا من الأشياء يقع فى الأطراف أزمنة لا فى زمان أصلا. ويسأل عنها ويجاب ، كالمماسّة والتّقاطع بين الخطّين والوصول إلى ما إليه الحركة. ونعنى بالتّقاطع هاهنا الّذي لا يحصل بالحركة ، كوقوع خطّ على خطّ على سبيل التّقاطع ابتداء ، لا ما يحصل بحركة ما ، كتقاطع الخطّين المنطبق أحدهما على الآخر بالحركة ؛ فإنّه إنّما يحدث فى نفس زمان الحركة بعد آخر آنات الانطباق.

ويجب أن يؤخذ الكون فى الزّمان نفسه أعمّ ممّا يكون على سبيل الانطباق عليه بحسب التّدريج فى المنطقتين جميعا أولا على ذلك السّبيل ، بل بأن يقع الشّيء بتمامه فى كلّ جزء من أجزاء ذلك الزّمان وفى كلّ حدّ من حدوده حتّى يستغرق الكون التّدريجىّ والكون فى نفس الزّمان ، ولا يكون فى البيان خداج وقصور عن إحاطة أنواع النّسبة إلى الزّمان واستيعاب متى الكائنات الزّمانيّة بقبائلها.

وكما أنّه لم يكن مقولة الإضافة معنى مركّبا ، فكذلك الأين ومتى يجب أن لا يظنّ فيهما تركيب. فقولنا : «متى ، وأين» لسنا نعنى به كون الشّيء فى المكان

٣٣٤

أو الزمان مركّبا ونعنى بالتّركيب الموضوع مع نسبة ؛ بل نعنى بذلك نفس النّسبتين. فنفس النّسبة هى الأين أو متى ، لا المنسوب ولا المنسوب إليه ولا مجموع النّسبة والمنتسبين معا أو أحدهما فى الإضافة ، (١٣٥) كالاخوّة.

فإذن ، متى الشّيء هو نفس كونه فى زمانه على أحد الوجهين أو فى آنه ، وقد يكون الزّمان موجودا ولا يكون ذو الزّمان فيه ، فلا يكون متى ؛ وكذلك الأين. وقد يوجد أيضا موضوع الإضافة ولا يكون هناك إضافة بالفعل.

ومقولتا «أين» و «متى» متضاهيتان فى الأحكام مضاهاة المكان والزّمان فى الخواصّ والعوارض ، إلاّ أنّ هناك مباينات بعد مشاركات.

فالأين : منه حقيقىّ أوّلىّ ، وهو كون الشّيء فى مكانه الحقيقىّ ؛ ومنه ما هو ثان غير حقيقىّ ، وهو كون الشّيء فى مكانه الغير الحقيقىّ ، كالكون فى الدّار أو فى السّوق ؛ ومنه جنسيّ ، كالكون فى المكان المطلق ؛ ومنه نوعيّ ، كالكون فى الهواء ؛ ومنه شخصيّ ، ككون هذا الشّيء فى هذا الوقت فى الهواء ، وهو مكان ثان ، أو كون هذا الجسم فى هذا المكان الحقيقىّ.

وكذلك المتى : منه حقيقىّ ، ككون الشّيء فى زمان مطابق له لا يفضل عليه ، كقولهم : كان هذا الأمر وقت الزّوال ، أو عاش فلان ثمانين سنة. ومنه غير حقيقىّ ، كقولهم : كان ذلك الأمر فى سنة كذا ولم يكن الأمر فى جميع السّنة ، بل فى جزء منها ، فالسّنة فى المتى نظير السّوق فى الأين. ومنه جنسيّ ، كمطلق الكون فى الزّمان أو فى طرفه. ومنه نوعيّ ، ككلّ من ذينك المذكورين. ومنه شخصيّ ، ككون هذا الشّيء فى هذا الزّمان المطابق له أو فى هذه السّنة. لكنّ الزّمان الواحد قد يكون بعينه زمانا بالتّحقيق لأشياء كثيرة على سبيل المطابقة وإن كان متى كلّ منها غير متى الآخر ؛ لأنّ كون كلّ واحد منها فى ذلك الزّمان ليس هو كون الآخر فيه ، فيختلف النّسبة والمنسوب لا المنسوب إليه. ولا كذلك المكان الواحد ؛ فإنّه لا يكون حقيقيّا لعدّة فوق الواحد. فهناك إنّما يختلف النّسبة المنتسبان جميعا ، اللّهمّ إلاّ فى الغير الحقيقىّ ، فيختلف النّسبة والمنسوب فقط دون المنسوب إليه.

٣٣٥

وأيضا يقع المضادّة فى «الأين» ؛ فإنّ الكون عند المحيط يخالف الكون عند المركز ، وهما معنيان بوجد لهما موضوع واحد يتعاقبان عليه وبينهما غاية الخلاف. وهناك الايون متوسّطة ، ليس بينهما تلك الغاية ، وليست تقع فى المتى ؛ فإنّ الكون فى الأمس وإن كان يخالف الكون فى اليوم ، مثلا ، ولكن ليس بينهما غاية الخلاف ، والكون فى الزّمان وإن كان بخلاف الكون فى طرفه على أنّ بينهما غاية الخلاف ، ولكن ليس يوجد موضوع واحد يتعاقبان عليه. فكيف يصير التّدريجىّ تارة دفعيّا اخرى.

ثمّ سبيل الأين أن يقبل الأشدّ والأضعف ، فقد يكون اثنان فوقين أو تحتين وأحدهما أشدّ فوقيّة أو تحيّة ، إلاّ أنّ قبول الشّدّة والضّعف لا يكون له باعتبار طبيعة الفوقيّة والتّحتيّة ، بل بحسب الإضافة إلى فوقيّة أو تحتيّة اخرى.

والفوق الحقّ لا يقبل الأشدّ والأضعف ، بل ربما الفوق المضاف إلى فوق آخر ، كالسّواد الحقّ ، لا يكون أشدّ وأضعف ، بل ربما السّواد المضاف إلى سواد آخر.

وأمّا «متى» ، فلا يكون فيه أشدّ وأضعف مطلقا أو بحسب الإضافة ، بل ربما كان فيه أطول وأقصر أو أكثر أو أقلّ بحسب الإضافة فقط ؛ فإنّ الزّمان بحسب الكميّة الاتصاليّة الذّاتيّة يكون منه طويل ومنه قصير ؛ وبحسب الكميّة الانفصاليّة العارضة له للانفصالات الذّهنيّة إلى متقدّمات ومتأخّرات يكون منه كثير ومنه قليل. أليس الزّمان كما متّصلا بالذّات وبالعرض أيضا وكما منفصلا بالعرض فقط باعتبار فى الوهم إلى قبليّات وبعديّات.

والّذي يشبه أنّ الحقّ ليس يتعدّاه هو أنّ الفوقيّة أو التّحتيّة ممّا يلزم «الأين» ويعرضه ؛ لا أنّها نفس الأين ، إذ الأين هو الكون فى مكان بعينه ؛ والفوقيّة أو التّحتيّة تعرض ذلك المكان وتلزمه. فإذن الشّدّة والضّعف فى لوازم الأين لا فى نفس المقولة. وكذلك «متى» نفس الكون فى الزّمان. ويلزم ذلك : إمّا التّقدّم الزّمانىّ أو التّأخّر الزّمانىّ ، والمتقدّمات والمتأخّرات الزّمانيّة يكون بعضها أشدّ تقدّما أو تأخّرا من بعض ، كما سيقرع سمعك.

فإذن كما يقع الأشدّ والأضعف فى الفوق والتّحت بحسب الفوقيّة والتّحتيّة

٣٣٦

المكانيّتين باعتبار الإضافة إلى فوق آخر أو تحت آخر ، أى فى لوازم الأين وعوارضه لا فى نفس المقولة ، فكذلك يكون الأشدّ والأضعف فى المتقدّم والمتأخّر الزّمانيّين من جهة الإضافة إلى متقدم آخر ومتأخّر آخر ، أى فى لوازم المتى وعوارضه ، لا فى نفس المقولة.

وأنت إذا استقصيت تبيّن لك أنّ المقولتين بينهما مشاركات جامعة ومتباينات فاصلة ، ومزاوجتهما فى التّشارك كاد تبلغ مبلغ المضادّة التّامّة.

<٣> حكومة

إنّ بعض من حمل عرش تعليم الفلسفة ورئاستها فى الإسلام ذكر فى العبارة عن المتى الخاصّ : «إنّ متى نسبة الشّيء إلى الزّمان الّذي [يساوق وجوده] تنطبق نهايتاه على نهايتى وجوده ، أو زمان محدود ، هذا الزّمان جزء منه».

وقال رئيس الفلاسفة الإسلاميّة أبو على بن سينا فى قاطيغورياس الشفاء :

«إنّه هوّل تهويلا مفرطا ؛ فإنّ كون الشّيء فى آن ما ، لا يحمل عليه هذا الحدّ. لكن الحقّ أنّه يكون للشّيء نسبة إلى الزّمان ، لا على أنّه فيه ، بلى على أنّه فى طرفه ، ويكون ذلك أينا. فهذا يفسد ما ذكره ، إلاّ أن يحكم بأنّ النّسبة إلى الآن ليست من مقولة «متى» ، لكنّها لا مقولة لها تليق بها غير هذه المقولة ، ولا هى غير داخلة فى مقولة أصلا» (١).

ونحن نحكم أنّ هذا القول أحقّ. لكنّ التّهويل ليس مخصوصا بذلك ؛ بل إنّ من لم يأخذ النّسبة إلى الزّمان على أن يستوعب كون الكائن فى ذلك الزّمان على التّدريج وكون الكائن بتمامه فى نفس ذلك الزّمان وفى كلّ جزء من أجزائه وفى كلّ حدّ من حدوده ، سواء كان هناك آن يتعيّن بآن أوّل حدوث ذلك الكائن الحادث فيه أو لم يكن. فقد هوّل أيضا تهويلا ليس هو دون ذلك التّهويل فى الإفراط.

__________________

(١). ابن سينا ، الشفاء ، المنطق ، المقولات ، ص ٢٣١ ـ ٢٣٢.

٣٣٧

<٤> هداية استشراقيّة

ألا إنّ ما تلى عليك هو متى الزّمانيّات ، لا غير ، أعنى الامور الواقعة فى الزّمان على التّدريج أو فى نفس الزّمان أو فى طرفه ، والزّمان نفسه ليس لوجوده أو عدمه متى ؛ فإنّ الزّمان ليس وجوده فى زمان فكذلك ليس يعدم فى زمان ، والآن نفسه ليس لوجوده متى ، بخلاف عدمه ؛ فإنّ متاه نفس مجموع الزّمان الّذي بعده. وهذا كما أنّ المكان نفسه ليس له أين أصلا. والنّقطة بنفسها ليس وجودها فى الخطّ أو النّقطة وأنّها معدومة فى مجموع خطّ بعدها.

وأمّا الامور الغير الزّمانيّة فربّما يقال بحسب جليل النّظر متاها مباين متى الزّمانيّات ، فمتى الزّمانيّات هو النّسبة إلى الزّمان بالفيئيّة على الجهة المستوعبة. وقد أومأنا إليها أو إلى الآن طرف الزّمان بالفيئيّة ، ومتى ما هو أعلى من الكون ومن الوقوع فى افق الزّمان نسبته إلى الزّمان وطرفه بالمعيّة (١٣٦) دون الفيئيّة.

ثمّ إنّ ضربا من النّظر الدّقيق يأتى بحفص بالغ ولحظ غائر ، فيحكم بأنّ هذا الأخير كون على طور آخر وأعلى من أن يكون متى ؛ بل إنّما هو بإزاء المتى ، أى : كون كلّ من الزّمانيّات فى مجموع زمان ما أو فى نفس ذلك الزّمان وفى أبعاضه وحدوده جميعا أو فى طرفه فقط. فهذه أنواع المعنى ، وهو خارج عنها جميعا.

فإذن ، ليس ينبغى أن يدخل فى الاسم إلاّ سلوكا لمسلك التّشبيه من طريق بعيد ؛ فإنّ المعيّة إن كانت متقدّرة زمانيّة منقسمة أو آنيّة غير متجزّئة لزمها أن تكون البتّة منتهية إلى الفيئيّة وإن كانت معيّة غير متقدّرة خارجة عن جنس الزّمانيّة والآنيّة والتّجزّى واللاّتجزّى ، فكيف يطلق عليها اسم النّسبة المتقدّرة الدّاخلة فى جنس التّجزّى واللاّتجزّى والنّسبة التى هى الّتي يعتبر فيها انطباق المنسوب على المنسوب إليه بوجه ما ، وما يرتفع عن الزّمان لا ينسب إلى شيء من الأزمنة والآنات بالانطباق ، بل إنّه يحيط بالجميع. فإذن ، بالحرى أن ينزّه عن الدّخول تحت ما يعتريه هذا الاسم. فكيف والزّمان لا يكون له متى. فما ظنّك بشواهق العوالى ومن

٣٣٨

هو العلىّ الأعلى.

ولقد أعلن تعرّف الحقّ فى ذلك رئيس فلاسفة الإسلام فى أكثر كتبه وتعاليقه. وقال فى رسالة له على هيئة خطبة لقّبها الكلمة الإلهيّة :

«سبحان الملك القهّار ، الإله الجبّار ، لا تدركه الأبصار ولا تمثّله الأفكار ، لا جوهر يقبل الأضداد فيتغيّر ، ولا عرض فيسبق وجوده الجوهر ، لا يوصف بكيف فيشابه ويضاهى ، ولا بكم فيقدّر ويجزّى ، ولا بمضاف فيوازى ويحازى ، ولا بأين فيحاط ويحوى ، ولا بمتى فينتقل من مدّة إلى اخرى».

هذا قوله وقد اقتدى فيه بأساليب أئمّتنا الطاهرين وسننهم ـ صلوات اللّه عليهم اجمعين ـ فإنّ هذا المعنى فى كلماتهم الطيّبات القدسيّات وفى خطب مولانا وسيّدنا أمير المؤمنين ويعسوب المسلمين ـ عليه صلوات من اللّه ومن الملائكة ومن سائر المصلّين ـ على أقصى أمد السّطوع الشّعشعانىّ والبلاغة العقليّة.

<٥>توثيق تبصيريّ

يجب عليك أن تهجر الوهم هجرا جميلا وتثق بالعقل وثوقا أصيلا ، تصدّقه فيما يحكم أنّ الامور الزّمانيّة الّتي يوصف أنّها فى زمان وأنّ لها متى هى امور متعلّقة بالمادّة واقعة تحت التّغيّر. وأمّا المفارقات الثّابتة فحيث إنّه لا يتصوّر لها تغيّر وتجدّد فى حال من الأحوال أصلا ، كما يكون للمادّيّات ، فلا يصحّ أن يقال : إنّها موجودة فى زمان أو آن.

أليس إذا كان للشىء بحسب ذاته أو بحسب حال ما من حالات ذاته تغيّر وتجدّد تدريجىّ أو دفعىّ كان له تعلّق وتخصّص ما باعتبار ذلك الحصول التّجدّدىّ بالزّمان الّذي هو متغيّر متجدّد بذاته أو بحدّ من حدوده ، ونسبة ما إلى أحدها بالوقوع فيه إمّا سيّالة متغيّرة متجزّئة مستمرّة التّجدّد والحصول أو متجددة غير ممتدّة الحصول.

٣٣٩

وأمّا إذا لم يتصوّر فى ذاته لا بحسب ذاته ولا بحسب شيء من حالات ذاته والأوصاف اللاّحقة لذاته تجدّد وتغيّر أصلا ، لا تدريجىّ ولا دفعىّ ، فلا يكون له تخصّص وتعلّق بالزّمان ولا بحدّ من حدوده بتّة.

فليس من شرط طباع الوجود بما هو وجود أو العدم بما هو عدم أن يكون حصوله فى زمان أو آن ؛ بل إنّما ذلك من شرط التغيّر والتّجدّد والتّدريجيّة والدّفعيّة. وأمّا الوجود بما هو وجود فما له بطباعه هو أنّه إمّا واقع فى نفس الأمر بذاته أو بعلّة أو ليس بواقع فى نفس الأمر. ثمّ ربما يلحقه فى بعض الموجودات بخصوصه أن يكون حصوله فى زمان أو آن. وذلك كما أنّه ليس من شرط الوجود أو العدم أن يكون فى مكان أو فى حدّ من حدود المكان بل يلحق الوجود فى المادّيّات بخصوصها أن يكون فى المكان أو فى حدّ ما منه.

فكما يكون وجود الموجود فى الأعيان لا فى مكان ولا فى جميع الأمكنة ولا فى حدّ ما من حدود المكان ولا فى جميع الحدود ، بل هو فى نفس الأمر مع جميع الأمكنة ومع جميع الحدود معيّة على نسبة واحدة متشابهة غير مختلفة إلى الجميع مرّة واحدة ، لا معيّة مستلزمة لفيئيّة مكانيّة أو منتهية إليها ، بل متباينة للفيئيّة وخارجة عن جنس المعيّة المتقدّرة المكانيّة والمفارقة الانفصاليّة المكانيّة.

فكذلك يكون وجود الموجود فى الأعيان ، لا فى زمان ما ولا فى جميع الأزمنة ولا فى حدّ ما من حدود الزّمان ولا فى جميع الحدود ، بل هو حاصل فى نفس الأمر مع جميع الأزمنة ومع جميع الحدود الزّمانيّة معيّة على نسبة واحدة إلى الجميع متشابهة غير مختلفة حاصلة مرّة واحدة. لا معيّة مستلزمة لفيئيّة زمانيّة أو منتهية إليها ، بل مباينة للعينيّة خارجة عن جنس المعيّنة الزّمانيّة ، والتّقدّم والتأخّر الزّمانيّين غير متشابهة لذلك الطور.

واعتبر الحكم بكون الكلّ أعظم من جزئه ؛ فإنّه لا يمكن أن يقال : إنّه واقع فى زمان أو فى جميع الأزمنة ، كما لا يقال : إنّه واقع فى مكان أو فى جميع الأمكنة. وإذا كان الحكم كذلك ممّا يتوقف عليه الحكم ، كالتّصوّرات ، أولى بأن

٣٤٠