مصنّفات ميرداماد

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]

مصنّفات ميرداماد

المؤلف:

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]


المحقق: عبدالله نوراني
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: منشورات مطبعة وزارة الإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-528-006-0
الصفحات: ٥٢٧
الجزء ١ الجزء ٢

<مقدّمة>

< هذه الكوكبة مرآة لمعاشر المتعلّمين >

وينبغى ، أوّلا ، أن يعترف كافّة المتعلمين بما ألزم اللّه ـ سبحانه ـ لهذا الاسلوب النّقىّ اليمانىّ المروّق والنّمط النّضيج البرهانىّ المحقّق من الحقّ الثّابت على ذمم فطرهم العقليّة والعهد القارّ فى أعناق قرائحهم الرّوعيّة. فلنا : بفضل اللّه ورحمته فى سياقات صناعات العلوم ومسافات «العلم الأعلى» على الإطلاق عموما ، ولا سيّما فى «مسافتنا» هذه من علمنا الأعلى هذا ، خصوصا ، سياحات عقليّة وسباحات روعيّة وسلوكات قدسيّة وشهودات ملكوتيّة.

وإنّى مذ ثقفت انحياصات الفلاسفة فى هذه «المسافة» عن صراط الحقّ وتوغّلاتهم فى طريق الباطل وإحصافاتهم شراسيف دعاويهم برباطات شبهات داهية العوصاء وعصامات احتجاجات داهرة الدّماء واغتيالات تلفيقاتهم المعذوذبة ، عقول جمهور المقلّدة وأذهان عامّة المتعلّمة ؛ كنت أقول ، تأسيّا بقول سيّدى ومولاى ، سيّد المؤمنين ومولى المسلمين وأفضل الوصيّين ـ عليه أبلغ صلوات المصلّين :

«واللّه لإن بقيت لهم لأنفضنّهم نفض اللّحام الوذام التّربة. وأيم اللّه لأبقرنّ الباطل حتّى أخرج الحقّ من خاصرته» (١).

__________________

(١). الشريف الرضى : نهج البلاغة ، خ ٧٧.

٣٠١

وكنت أتضرّع إلى ربّى المفضال وألحّ فى الابتهال والسّؤال. وأجعل نفسى المجرّدة يدا أبسطها إلى جنابه مسألة منه ، وعقلىّ الرّوعىّ عينا أشخصها تلقاء بابه ضراعة إليه ، إلى أن فتح عليّ ببسطه باب العلم وآتانى من جوده مفتاح الحكمة.

فتحصّلت فقه السّرّ وتعرّفت دخل الأمر ، ثمّ حسمت مذاييع الشّكوك من عروقها وجبت سلسلة الأوهام بشقوقها. فالجاهل الحائر لا يستفيق من جهله إلاّ برهيق هذا العلم الرّاوق ، والغاوى التّائه لا يتطرّق إلى سواء السّبيل إلاّ بوميض هذا النّور الشّارق.

فاستضيئوا ، معاشر المتعلّمين ، بأضواء هذه الكوكبة الملكوتيّة ؛ فإنّها مرآة للحكمة ومنساة للظّلمة ومثراة للمعرفة ومصفاة للفلسفة. واللّه وليّ المواهب والخيرات ، وبيده أعنّة الماهيّات والإنيّات وأزمّة الحقائق والوجودات ، وهو على كلّ شيء قدير.

٣٠٢

فصل < أوّل>

<الزّمان>

يذكر فيه ما بالحرىّ أن يقال هاهنا فى أفق التّقضّى والتّجدّد ، وهو الزّمان

إنّا قد استقصينا ما يستحقّه هذا الفصل ، وأو فينا حقّ النّظر فيه على أفضل

الوجود وأبلغ الأقوال فى كتابنا الصراط المستقيم. وإنّما نورد الآن هنا قسطا صالحا

من ذلك ، لسنا على استغناء منه فيما نحن بسبيله.

< فى الفصل الأوّل أحد وعشرون عنوانا >

<١> إخاذة

إنّ كون الزّمان فطرىّ الإنّيّة مقتبص الماهيّة ممتدا امتداد الكميّات المتّصلة ، به تتكمّم الحركة ، يشبه أنّ الحقّ ليس يتعدّاه ، والفئة المستنكرة وجوده غير موثّقة الغريزة. ويعنى بتكمّم الحركة تكمّمها بحسب أجزائها الغير القارّة المتقدّمة والمتأخّرة بحسب الوجود فى الأعيان حدوثا وبقاء جميعا ، أو بحسب الوجود فى الذّهن حدوثا فقط ، فتفترق عن تكمّمها بالمسافة ، سواء أريدت بالحركة جملة أنواعها أو مطلق الحركة فى أيّة مقولة كانت ؛ إذ تكمّم الحركة بها إنّما يكون بحسب أجزائها القارّة المجتمعة باعتبار الوجود البقائىّ الارتسامىّ فى الأذهان لا غير.

٣٠٣

<٢> سياقة تنبيهيّة

أليس بعض الحوادث بوجوده أو عدمه يسبق بعضا بحيث يصحّ للعقل بمعونة الوهم أن يتصوّر مرور أمر ممتدّ بهما ، فيختصّ كلّ منهما بجزء معيّن منه ينطبق هو عليه. فهذا نحو من القبليّة والبعديّة.

وما أسهل لك بسليم ذوقك أن تحكم أنّ الوجود والعدم ، بما هما وجود وعدم أو بما هما مضافان إلى أشخاص معيّنة ليست بينها علاقة التّقدّم والتّأخّر بما هى تلك الأشخاص ، يمتنع أن تعرضها تلك القبليّة والبعديّة بالذّات. فإذن ليس بدّ من أن يكون لهما معروض بالذّات. فالمعروض بالذّات هو ما نسمّيه «الزّمان».

وأنت إذا استقصيت الفحص صادقت المستنكرين فى الاعتراف من حيث هم لا يشعرون. أليسوا يأخذون شطرا شطرا ـ ويعيّنون القرون والسّنين والشّهور والأيّام والسّاعات ، لا على أنّ ذلك مجرّد اعتبار من أذهانهم واختراع من أوهامهم ، بل على أنّه اعتبار وقوعىّ بحسب نفس الأمر.

وما ريم تبيّنه فى أوّل الفحص ليس إلاّ أنّ الزّمان الممتدّ المتشطّر إلى الأشطر موجود فى مطلق نفس الأمر ، سواء كان ذلك بتحقّقه فى الأعيان أو بارتسامه فى الذّهن بحسب وجود راسمه فى الأعيان.

ثمّ النّظر الغائر والفحص البالغ يكشفان الحقّ المتعيّن بوجوب الإذعان ويبيّنان أنّه بامتداده الاتصالىّ موجود فى الأعيان.

فإن هاد سرّك : أنّ التّصديق بهذه القبليّة والبعديّة يتوقف على التّصديق بوجود الزّمان ، كما أنّ تصوّر هما يتوقّف على تصوّره. فكما لا يصحّ تحديده بهما فكذلك لا يصحّ محاولة إثبات وجوده بهما.

قيل لك : إنّ هذه القبليّة والبعديّة من الفطريّات. وليس يتوقف التّصديق بهما على شيء أصلا ، بعد ملاحظة حال الحوادث ، بعضها بالنّسبة إلى بعض ، بما يشاهد

٣٠٤

من التّعاقبات فى التّقرّرات والبطلانات. على أنّا لم نكن نكترث بمثل ذلك فى التّنبيه على وجود الزّمان ، لأنّه من الأشياء المعروفة الإنيّة. وإنّما الغرض الّذي يرام بالتّبيانات التّنبيهيّة إيضاح ما فيه خفاء ببسط ما وكشف ما لا اقتناص حقيقىّ.

وإن أزعجك أنّ التّصديق بالقبليّة والبعديّة على هذا الأسلوب متضمّن للتّصديق بالأمر الممتدّ ، وهو الزّمان ، لا أنّه متوقف عليه مجرّد التّوقّف فحسب. فإذن يكون الشّيء قد أخذ بعينه فى تبيان نفسه.

أزيح : بأنّ مشاهدة حال الحوادث تعطى التّصديق بهاتين على وجه يتضمن الوجود الوهميّ للأمر الممتدّ ، فيجعل ذلك ذريعة إلى إثبات الوجود العينىّ للزّمان : إمّا بنفسه أو براسمه ؛ بأن يقال : القبليّة والبعديّة المستلزمتان للممتدّ الوهمىّ تعرضان المتقرّرات العينيّة فى الذّهن بحسب حالها (١٢٧) فى الأعيان ، فيلزم أن يكون لا محالة لعروضهما وجود عينىّ. فإذن يكون فى الأعيان أمر موجود بحذاء ذلك الممتدّ الوهمىّ ، وهو إمّا نفس الزّمان أو راسمه بتّة.

<٣> مشعب وتحكيم

هل استبان لك سبيل الفلاسفة اليونانيّة والإسلاميّة فى التّبيانات ، وهو أنّ الحادث بعد ما لم يكن له قبليّة يمتنع بها للقبل والبعد أن يكونا معا فى التقرّر ، لا كقبليّة الواحد على الاثنين وأمثالها ، من الّتي لا تمنع ذلك ، ففيه تجدّد بعديّة بعد قبليّة باطلة ، وليست هى نفس العدم فقد يكون العدم بعد ، ولا ذات الفاعل فقد يكون قبل ومع وبعد ؛ فإذن هناك شيء آخر لا يزال يتجدّد ويتصرّم على الاتصال.

وبالجملة ، إنّ العدم المعروض للقبليّة لا يأبى نظرا إليه بما هو فرد من طبيعة العدم أن تزول عنه تلك القبليّة وتعرضه البعديّة ، فينقلب كلّ من القبليّة والبعديّة إلى الاخرى أو أن يكون بحيث يمكن أن تعرضه البعديّة لا القبليّة من بدء الأمر ، كما أنّه يمكن له أن تعرضه القبليّة لا البعديّة ابتداء ؛ إذ طبيعة العدم بما هى تلك الطبيعة لا تقتضى أن تتعاقب أفرادها فى التّحقق ، ولا أن يختصّ شيء من أفرادها بالقبليّة

٣٠٥

أو البعديّة ، ولا يكون أيضا اختصاص ذلك العدم بالقبليّة من جهة الإضافة إلى الحادث المعيّن ؛ فإنّ ذلك الحادث بما هو عدم ذلك الحادث قد يكون بعد بالفعل ، وليس يأبى بما هو عدمه أن تعرضه البعديّة من البدء أو بعد ما كان معروضا للقبليّة. وكذلك ذات الفاعل لا تأبى أن تكون قبل أو مع أو بعد ، بل قد يتحقق جميع ذلك فى نفس الأمر.

فإذن ، يكون إنّما اختصاص ذلك العدم بتلك القبليّة من جهة ما ، أنّه يقارن لما هو فرد من طبيعة متجدّدة متصرّمة. فإذن ، ما يقتضي اختصاص بعض الأفراد بالقبليّة بالقياس إلى بعض وبعضها بالبعديّة إنما هو كون تلك الأفراد أفراد طبيعة متجددة متصرّمة ، لا غير. فإذن يكون معروض القبليّة هو القبل بذاته ومعروض البعديّة هو البعديّة بذاته.

فكما أنّ الموجوديّة تنتهى إلى حيث يكون الوجود عين ذات الموجود ، فيكون هو موجودا بذاته ؛ فكذلك السّبق الّذي لا يجتمع بحسبه السّابق والمسبوق ينتهى إلى أن تكون القبليّة عين ذات القبل والبعدية عين ذات البعد ، فيكون الشّيء قبلا بذاته أو بعدا بذاته.

فإذن ، قد ثبت شيء يلزمه أن يتجدّد ويتصرّم بطباعه ويجب أن يكون ذلك على الاتصال ؛ إذ من الجائز أن نفرض متحرّكا ما يقطع مسافة يكون حدوث هذا الحادث مع انقطاع حركته. فيكون لا محالة ابتداء حركته قبل هذا الحادث ، فيكون بين ابتداء الحركة وحدوث الحادث قبليّات وبعديّات متصرّمة ومتجدّدة مطابقة لأجزاء المسافة والحركة ، فتكون هذه القبليّات والبعديّات متصلة اتّصال المسافة والحركة. فإذن قد استقرّ أنّ ذلك الشّيء المتجدّد المتصرّم موجود غير قارّ الذّات ، متّصل فى ذاته اتّصال المقادير.

فالآن ، لو بدا لك أن تتبادر هذا المسلك وتوازن بينه وبين المحجّة اليمانيّة البيضاء ، فاجعل العقل القائم بالقسط حكما ؛ فإنّه يقضى لك بالحقّ ويحكم أنّ القبليّة الّتي تحجز بين القبل والبعد وبين أن يكونا معا فى حصول التّقرّر أعمّ وأوسع من

٣٠٦

الّتي تعرض الزّمان بالذّات وتتصف بها الزّمانيّات بالعرض. فنحو منها يكون باعتبار الزّمان ونحو آخر منهما يتقدّس عن الوقوع فى افق الزّمانيّات وإنّما يكون بحسب الدّهر والسّرمد.

فإذن ، لو اقتديت بالمحدقين بعرش نضج الحكمة انصرح لك أنّ القبليّة الّتي لا تتصوّر إلاّ مع توهّم تخلّل ممتدّ أولا ممتدّ بين القبل والبعد إنّما تكون لكون طبيعة متجدّدة متصرّمة متّصلة تقتضى أن يكون هناك قبل وبعد بالذّات.

وأمّا مطلق القبليّة الّتي تصدّ القبل والبعد عن الاقتران فى التّحقّق فإنّما يكون لكون التّحقّق حاصلا بالفعل لما هو قبل من دون أن يكون حاصلا لما هو بعد فى نفس الأمر ، ولا يكون حاصلا لما هو بعد إلاّ ويكون قد حصل أوّلا لما هو قبل.

فإن كان ذلك بحيث يتخلل بينهما ممتدّ بالذّات أو لا ممتدّ بالذّات هو من حدود الممتدّ بالذّات كانت القبليّة زمانيّة ، وإلاّ كانت النّحو الآخر ، أعنى الدّهريّة والسّرمديّة ، وسيجاء به فى مستأنف القول إن شاء اللّه تعالى.

فإن استفتيت : أليس مفهوم المطلقة العامّة الفعليّة هو التّحقّق فى أحد الأزمنة.

قيل لك : كلاّ ، بل إنّما يكون كذلك إذا كان موضوع العقد من الزّمانيّات دون ما إذا كان خارجا عنها. وذلك غير مغفول عنه فى أقوال رؤساء الفلسفة فى صناعة الميزان.

فإذن ، قد تكشّف لك أن مصير الفلاسفة فى إثبات وجود الزّمان ليس إلى مقيل (١) التّحصيل ، ومسيرهم ليس على سبيل التّعويل ، وأنّ محجّة نضج الحكمة على ما تلى عليك لمن صرف الحقّ وقراح اليقين ؛ فاستمع بصدق قريحتك للحكمة ولا تكن من الممترين.

<٤> عصام دفاعيّ

__________________

(١). المقيل موضع القائلة وهى القيلولة ، أى الاستراحة فى الظهيرة وإن لم يكن نوم. ويقال : قال ، يقيل قيلولة وقيلا ومقيلا. منه ، رحمه اللّه تعالى.

٣٠٧

القبليّة والبعديّة المخصوصتان وإن كانتا من الإضافات الّتي لا توجد إلاّ فى العقول؛ فإنّ ثبوتهما فى العقل بحسب نحو وجود الأشياء فى الأعيان يفضى إلى وجود معروض لهما بالذّات مع تلك الأشياء ، وهو الزّمان. فالزّمان هو الموجود فى الخارج تلحقه القبليّة لذاته ، ويلحق ما سواه ، ممّا يقع فيه بسببه فى العقل. أمّا نفس القبليّة ، فليست من الموجودات المختصّة بزمان دون زمان ؛ لإنّها أمر اعتبارىّ يصحّ تعقّله فى جميع الأزمنة ؛ وإن اخذت من حيث تقع بحسب التّعقّل فى زمان بعينه كان حكمها حكم سائر الموجودات فى لحوق قبليّة أخرى يعتبرها الذّهن لها ولا يتمادى الأمر إلى غير النّهاية ، بل يتقطّع بانقطاع الاعتبار الذّهنىّ وكونهما إضافيّتين يجب أن توجدا معا ليس يصادم أنّ معروضهما متّصل غير قارّ الذّات ؛ لأنّ الإضافيّتين العقليّتين يجب أن يوجد معروضاهما معا فى العقل ، لا فى الأعيان ؛ وعدم الحادث يصحّ أن يتّصف بالقبليّة باعتبار المقارنة لمعروضها ؛ إذ العدم المقيّد بشيء ما يكون معقولا بسبب ذلك الشّيء ويصحّ لحوق الاعتبارات الوجوديّة العقليّة به من حيث هو معقول.

<٥> توثيق إخصافيّ

إنّ فى هذا العروض بالذّات ـ وهو المسمّى بالزّمان ـ حقيقة متجدّدة متصرّفة بذاتها ، تنفرض فيها قبليّات متصرّمة وبعديّات متجدّدة مطابقة للأجزاء المنفرضة فى المسافة والحركة ومتصلة اتصالهما. فهو مقدار الحركة الّتي هى التّقضّى والتجدّد ، ويضاهى سائر المقادير فى استحالة التّألّف من غير المنقسمات ، وليس له ماهيّة غير اتّصال الانقضاء والتّجدّد.

كما أنّ الكم المتصل هو مقدار الجسم ولا حقيقة له سوى امتداد الجسم. فكذلك الاتصال امتداد ليس يتجزّى إلاّ فى الوهم ، فليس له أجزاء بالفعل ، ولا فيه قبليّة وبعديّة قبل التّجزية. ثمّ العقل بمعونة الوهم ربما يحلّله إلى أجزاء تخرجها من القوّة إلى الفعل. فتلك هى القبليّات والبعديّات.

ولسنا نعنى بذلك : أنّ الزّمان تلزمه تلك لذاته وتلزم سائر الأشياء بسببه ؛ فإنّ

٣٠٨

التّقدّم والقبليّة هو معنى لذات جزء ما من أجزاء الزّمان ، وليس معنى ما يكون لذاته وثابتا مع ثبات ذاته ، ومستحيل فيه أن يبقى مع ذات الجزء الآخر الّذي معناه البعديّة استحالة لذاته ، ومستحيل فيه أيضا أن يصير مع.

وأمّا الشّيء الّذي له هذا المعنى فلا يستحيل فيه ذلك ؛ فإنّه تارة يوجد وهو قبل ، وتارة يوجد وهو مع ، وتارة يوجد وهو بعد ، وهو واحد بعينه. فنفس الشّيء الّذي هو قبل وبعد لذاته لا يجوز أن يبقى هو بعينه (١٢٨) ، فيكون بعدا بعد ما كان قبلا ؛ فإنّه ما جاء المعنى الّذي به الشّيء بعد ، إلاّ وبطل ما هو به قبل ، والشّيء ذو هذا باق مع بطلان الأمر القبل.

فإذن ، إنّما نعنى أنّ ذلك النّحو من القبليّة لا يزيد على حقيقة الزّمان ، بل ما به القبليّة هى نفس أجزاء الزّمان ، سواء كان القبل والبعد هى أو غيرها ، فكلّه جزء من أجزاء الزّمان هو نفس القبل والقبليّة باعتبارين. وكذلك ما به المعيّة فيما يجرى فيه المعيّة الزّمانيّة ؛ فإنّه أيضا بعينه هو جزء من أجزاء الزّمان.

فإذن ، التّقدّم والتّأخّر ليسا بعارضين يعرضان الأجزاء فيصيّرانها متقدّمات ومتأخّرات ، بل إنّ تصوّر عدم الاستقرار الّذي هو حقيقة الزّمان يستلزم تصوّر التّقدّم والتّأخّر للأجزاء المفروضة فيه لعدم الاستقراء ، بل هما جزء آن منه أو حدّان مفروضان فيه.

فالسّؤال : ب‍ «أنّه لم اختصّ هذا الجزء أو هذا الحدّ بالتّقدّم والآخر بالتّأخّر مع تشابه الجزءين أو الحدّين وتساويهما فى الحقيقة» يرجع إلى مثل أن يقال : «لم اختصّ هذا الجزء من المقدار بهذا الحدّ أو هذا الحدّ بهذا الوضع». ولعلّك لا ترتاب فى أنّ هذيّة الجزء لا تحصل بدون ذلك ، فيصير حاصل هذا السّؤال : أنّه لم كان هذا بهذا؟ فهذا معنى عروض التقدّم والتّأخّر للزّمان بالذّات.

فأمّا ما له حقيقة غير عدم الاستقرار يقارنها ذلك فإنّما يصحّ حمل المتقدّم والمتأخّر عليه بتصوّر عروضهما له. فنحن إذا قلنا : اليوم وأمس ، لم نحتج إلى أن نقول : اليوم متأخّر عن أمس ؛ لأنّ نفس مفهوميهما تتضمّن معنى هذا التّأخّر. وأمّا

٣٠٩

إذا قلنا : العدم والوجود ، مثلا ، فقد احتجنا إلى لحاظ أن يقترن معنى التقدّم بأحدهما حتى يصير متقدّما. وكذلك معيّة ما هو فى الزّمان للزّمان غير المعيّة بالزّمان ، أعنى معيّة شيئين يقعان فى زمان واحد ؛ لأنّ الأولى تقتضى نسبة واحدة لشيء غير الزّمان إلى الزّمان هى متى ذلك الشّيء ، والاخرى تنحلّ إلى نسبتين لشيئين يشتركان فى منسوب إليه واحد بالعدد ، هو زمان ما. ولذلك لا يحتاج فى الأولى إلى زمان يغاير الموصوفين بالمعيّة ويحتاج فى الثّانية إليه.

وبالجملة ، القبليّة والبعديّة اللّتان لا تجتمعان ويتصوّر مرور أمر ممتدّ بهما لا بدّ من أن يكون بحسب الزّمان وانفصاله الوهمىّ. أمّا فى أجزاء الزّمان فبحسب الزّمان الّذي هو نفس القبل والبعد. وأمّا فى غيرها فبحسب الزّمان المحيط بالشّيئين اللّذين يقال لهما القبل والبعد ، والمعيّة الّتي بحسب الاجتماع فى جزء من أجزاء الأمر الممتدّ أو فى حدّ من حدوده أيضا على هذا السّبيل.

فمعيّة الحركة للزّمان غير معيّة شيئين هما غير نفس الزّمان ؛ فإنّ معيّة الحركة والزّمان هى متى الحركة ، أى كون الحركة فى زمان ، ومعيّة شيئين زمانيّين غير نفس الزّمان هى أنّ متى أحدهما غير متى الآخر ، أى كونهما فى زمان واحد. فالمعيّة الأولى ليست بحسب زمان خارج عن المعين بخلاف الثّانية ، فلا يلزم من كون الحركة فى زمان كون الحركة والزّمان فى زمان.

<٦> وهم وتنبيه تلخيصيّ

ولعلّك تقول : أليست القبليّة والبعديّة من مقولة الإضافة ، والزّمان كم متّصل ، فكيف يكون الإضافة نفس حقيقة الكم والمقولات متباينة.

فيقال لك : قد تلخّص أنّ الزّمان متصل واحد لا جزء له بالفعل أصلا. فإذا حلّله الذّهن إلى أجزاء وأصناف ، كلا منها إلى آخر ، ووجدان بعضها قبل وبعضها بعد ، على أنّ مصداق حمل القبل والبعد نفس ذينك الجزءين ، لا شيء آخر يكون هو ما به القبليّة والبعديّة.

٣١٠

وأمّا مصداق حمل القبل والبعد على غير أجزاء الزّمان فإنّما هو مقارنة بعض تلك الأجزاء ، لا غير ؛ فهذا ما يعنى بأنّ القبليّة والبعديّة لا تزيدان على حقيقة الزّمان ، لا كون الإضافيّتين عين ذات الزّمان. فإذن مرجع ذلك إلى أنّ الحكم بالقبليّة والبعديّة ليس يحتاج إلاّ إلى تحليل الزّمان إلى الأجزاء وإضافة بعضها إلى بعض. فعند ذلك يصير كلّ منها قبلا وقبليّة أو بعدا وبعديّة باعتبارين ، لا من حيث المقارنة لشيء ، بل من تلقاء هويّتى الجزءين بذاتيهما. فإذن ، ليس أنّ القبليّة والبعديّة من الأعراض الأوّليّة لحقيقة الزّمان. بل الحقّ معنى آخر فوق ذلك. وليس يلزم كون الإضافة عين ذات الكم.

<٧> تقرير

وهناك ضرب من البيان بحسب النّظر فى إمكان قطع مسافة واحدة بحركات مختلفة متشابهة وقطع مسافات متساوية أو مختلفة بحركات متشابهة أو مختلفة. فمن البيّن أنّ فى الحركة اختلافا ، بسببه يختلف قطع مسافات ، وهو اختلاف فى مقادير الحركات ؛ لأنّه لو كان اختلافا فى مقدار ثابت لما اختلف به قطع المسافات والإمكانات المختلفة فى هذا البيان بإزاء القبليّات والبعديات فى البيان الأوّل.

فقد يعتبر مجموع الإمكانات المختلفة ، وقد يؤخذ إمكان واحد منقسم بانقسام المسافة ؛ فإنّ الحركة الّتي يقطع بها نصف المسافة لا يمكن أن يقطع بها جميعها ، ولا التى يقطع بها ثلثها يمكن أن يقطع بها نصفها.

ولا يعنى بالإمكان هاهنا الإمكان الحقيقىّ ؛ فإنّه ليس يتعدّد ولا يكون له نصف وثلث وغيرهما ، بل يعنى أمر يقع فيه الحركات ، أى أمر ممتد يتّسع لقطع المسافة المعيّنة بالسّرعة المعيّنة كأنّه قالب له منطبق هو عليه. فإذن يثبت للحركة مقدار.

وإذ ليس المقدار ماهيّة الحركة ، إذ ماهيّة الحركة هى الخروج من القوّة إلى الفعل يسيرا يسيرا. فيكون هو ... يكون شيء منه قبل شيء ، وشيء منه بعد شيء ، وسائر الأشياء، فما طابق منها جزءا هو قبل قبل له قبل ، وما طابق جزءا هو بعد قبل

٣١١

له بعد. وتلك الأشياء هى ذوات التّغيّر ، إذ لا فائت ولا لاحق حيث لا تغيّر ، وكيف يكون قبل وبعد إذا لم يحدث أمر فأمر ولم يكن اختلاف وتغيّر.

فإذن ، الزّمان إنّما يكون حيث يكون فاسد وحادث ، فهو مادّىّ موجود فى المادّة ، ووجوده متعلق بالمادّة ووجوده فى المادّة بتوسّط الحركة ، ولا يوجد إلاّ بتجدّد حال مع استمرار ذلك التّجدّد ، لأنّه إذا كان أمر دفعة ثمّ لم يستمرّ ، بل كان شيئا آخر دفعة ، لم يخل : إمّا أن يكون بينهما إمكان تجدّد امور أو لا يكون : فإن كان فيكون فيما بينهما قبل وبعد ، وإن لم يكن بينهما هذا الإمكان فهما يلتصقان ، فيلزم أن يتلى الآنات ويلزم من ذلك حركات على مسافات غير متحيّزة ، وكلّ ذلك محال. فإذن ، الزّمان كم متصل غير قارّ وليس هو بذى وضع.

<٨> إشارة

إنّ للحركة كميّة من جهة مقدار المسافة ، فتزيد وتنقص بزيادتها ونقصانها ، وليس معنى ذلك : أنّ للحركة كميّة عارضة من جهة المسافة وللمسافة كميّة اخرى ، بل إنّ كميّة للحركة هى كميّة المسافة. وإنّما الزّيادة والنّقصان تعرضان الحركة لكميّة المسافة ، كما فى السّواد الحالّ فى الجسم.

وكذلك لها كميّة من جهة الزّمان. وهذه عارضة لها. وأيضا لها عدد من حيث انقسامها إلى أجزاء متقدّمة وأجزاء متأخّرة حسب انقسام المسافة إليهما ، إلاّ أنّ الأجزاء المتقدّمة فى المسافة تكون فى الوجود مع المتأخّرة منها ، بخلاف ما بإزائهما من متقدّمة الحركة ومتأخّرتها ؛ فإنّهما لا يكونان معا بحسب الوجود فى افق الزّمان. وكذلك من جهة الزّمان إذا انقسم إلى أجزاء متقدّمة ومتأخّرة. ولكن ذلك إنّما يحصل من جهة المسافة.

فالزّمان يتجزى بالحركة ، والحركة بالمسافة ؛ فإنّ اتصال المسافة اتّصال للحركة الّتي هى علّة للزّمان المتّصل بذاته ، وانفصالها انفصال للحركتين اللّتين هما علّتان لزمانين ، كلّ منهما متصل بذاته.

٣١٢

فالتّقدّم والتّأخّر (١) من جهة ما هما للحركة معدودان لها ، فإنّها بأجزائها تعدّ المتقدم والمتأخّر. فالحركة لها عدد من حيث لها فى المسافة تقدّم وتأخّر ومقدار بإزاء مقدار المسافة.

فإذن ، ما أيسر لك أن تحاول تحديد حقيقة الزّمان : بأنّه كميّة الحركة ومقدارها ما دامت على اتّصالها وعددها إذا انفصلت إلى متقدّم ومتأخّر ، لا بالزّمان ، بل من جهة ما يتبع انقسام المسافة. وأمّا إذا اعتبرته كميّة (١٢٩) وعددا لها لا من جهة المسافة ، بل من جهة التّقدّم والتّأخّر اللّذين لا يجتمعان ؛ فربما أفضى بك إلى الوقوع فى الدّور إلاّ بارتكاب تسامح ما (٢).

ثم إنّ من فلاسفة الإسلام من يجعل الزّمان مقدار الحركة من جهة المتقدّم والمتأخّر اللذين لا يجتمعان بحسب الوجود الغير القارّ ، ومنهم من يجعله مقدارها من تلك الجهة ، لكن بحسب الوجود القارّ فى العقل ، أى : من حيث يجمع العقل متقدّمتها ومتأخّرتها.

ولعلّ الأشبه بالحقّ والأعذب فى ذوق التّحقيق أنّ وجود الحركة فى الذّهن لمّا كان بحسب حدوث الارتسام غير قارّ وبحسب البقاء قارّا ، فالزّمان هو مقدار للحركة بحسب الوجود البقائىّ القارّ الذّهنىّ وفوق ذلك معنى هو سرّ الحقّ وحقّ التّحصيل. وهو أنّ الحركة الممتدّة لمّا كانت على اتصالها أمرا موجودا فى الخارج نحوا ما من الوجود وإن لم يكن لها وجود قارّ فى افق الزّمان بحسب الأجزاء المفروضة فيها. فإذن ، الزّمان مقدار الحركة بحسب وجود مجموعها ذلك النّحو من الوجود فى الأعيان بحسب وعاء الدّهر.

__________________

(١). تفريع على المقدّمة السابقة. أعنى قوله ، مدّ ظلّه ؛ إلاّ أنّ الأجزاء المتقدمة فى المسافة ، الخ ، أى : فيكون للتقدّم والتأخر فى الحركة خاصيّة تلحقها من جهة ما هما للحركة ليس من جهة ما هما للمسافة ويكونان معدودين بالحركة فإنه ... شرح.

(٢). بارتكاب تسامح ما. وقد ذكر وجه التسامح فى حاشيته على كتابه الموسوم بالصراط المستقيم. ليطلب من هناك أى : الّذي هو تحت تصرّفه.

٣١٣

<٩> مقالة تلويحيّة

أما عندك من المستبين أنّ المقدار الممتدّ لا يعرض شيئا على سبيل الانطباق عليه ما لم يكن فيه صلوح لأن يقال : إنّه متّصل ممتدّ. والحركة لا تصلح لذلك من حيث سنخ طبيعتها ، بل إنّما من جهة المسافة على أنّ يتكمّم بنفس كميّة المسافة الخارجة عنها. فهذا المعنى المصحّح لعروض المقدار الّذي هو الزّمان يتقدم فى المحلّ على عروض الحالّ تقدّما بالطبع ، فيكون علّة لوجود الحالّ ، أعنى الزّمان ولعروضه لمحلّه ، أعنى الحركة.

ألست إذا لاحظت الحركة فى ذاتها حكمت أنّها حقيقة هى كمال بالقوّة أو خروج من قوّة إلى فعل. وليس فى طبيعة هذا المعنى أنّ هناك بعدا ما بين المبتدأ والمنتهى متّصلا قابلا للقسمة الوهميّة ؛ بل إنّما يعلم ذلك بنوع من النّظر يحقّق أنّ هذا المعنى إنما يوازى المقدار المتصل لا غير. فلا يدخل فى ماهيّتها تقدّر واتّصال ، بل إنّما يكون لها ذلك من جهة المسافة واتّصال المسافة يصير علّة لوجود التّقدّم والتّأخّر فيها.

فالحركة بحسب اتّصال المسافة تقتضى وجود مقدار لها هو الزّمان باتّصاله ، وبحسب انفراض الأجزاء فى ذلك الاتصال المستلزم لحصول المتقدّم والمتأخّر فى الحركة تقتضى وجود عدد لها هو الزّمان من حيث الانفصال إلى القبليّات والبعديّات. فإذن ، الحركة متصلة من جهتين ، وعلّة اتّصال الزّمان اتّصال المسافة بها بتوسّط اتّصال الحركة بها.

ولسنا نعنى بذلك : أنّه علّة لضرورة الزّمان متّصلا ؛ كيف وهو متّصل بذاته لا بعلّة ولا بأمر عارض ، بل إنّما نعنى عليّته لذات الزّمان المتصل بذاته. فاتصال المسافة من حيث ما هو اتصال للحركة علة لوجود الزّمان الّذي هو بذاته متصل واتّصال لذاته وللحركة. وليس يصحّ أن يفرض للحركة اتصال بسبب اتصال المسافة حتى يكون هناك اتصال آخر غير اتصال المسافة واتصال الزّمان. وأمّا اتّصال الزّمان فإنّه أمر حالّ فى الحركة عارض لها. فإذن علّة الحركة علّة للزمان وهو بنفس ذاته متصل. كما أنّ سبب الحرارة سبب لنفس الحركة الّتي هى كيفيّة بذاتها ، والحركة علّة للزّمان.

٣١٤

ثمّ الزّمان باتّصاله مقدار لها وعلّة لكونها ذات مقدار ، وبحسب الانفصال إلى القبليّات والبعديّات عدد لها وعلّة لكونها ذات عدد. فإذن ، الاتّصال المسافيّ يقتضي وجود المتقدّم والمتأخّر فى الحركة على الاتّصال ، وعدد المتقدّم والمتأخّر يكون بمقدار الحركة ، والحركة بعد الزّمان على أنّها مقتضى وجود عدد الزّمان من المتقدّم والمتأخّر ، والزّمان يعدّ الحركة على أنّه نفسه عدد لها. كما أنّ وجود معروض العدد علّة لوجود العدد العارض ، ثمّ هو يعدّ المعروض على أنّه عدد له.

واعتبر الأمر فى وجود النّاس بالنّسبة إلى عددهم. وهو ، مثلا ، عشرة. فلوجودهم وجدت العشريّة ، وهى جعلهم لا موجودين ، بل أشياء معدودين ، أى ذوى عدد. فإذا عدّتهم نفس لم يكن المعدود طبيعة الإنسان ، بل العشريّة الّتي حصّلها افتراق الطّبيعة وإن كانت هى أوجبت لها المعروضيّة للعدد.

فكما النّفس بالإنسان تعدّ العشريّة فكذلك بالحركة تعدّ الزّمان. ومن لم يستطع إلى التّحصيل سبيلا ظنّ أنّ فى هذا الأصل اشتمالا على الدّور ، وهو تخييل منشؤه تعطيل ترتيل التّدبّر وإهمال الرّويّة له.

<١٠>دعامة تتميميّة

كانّك إذن تحكم أنّ الزّمان ، لكونه بذاته مقدارا ، يكون استعداد الموهوم من القسمة فيه له بذاته ، والحركة ليست كذلك. وأمّا تعيّن الامتداد بالفعل فإنّما يلزمه بسبب الحركة المعيّنة. فإذن ، الحركة علّة لوجود الزّمان كما الجسم لوجود المقدار. وتعيّن الحركة بخصوصها علّة لتعيّن التّناهى واللاّتناهي لامتداد الزّمان. وكذلك تخصيص تناه بعينه من التّناهيات.

ثمّ الزّمان علّة لكون الحركة غير متناهية المقدار أو متناهيته وذات مرتبة بعينها فى تناهى المقدار ، والمحرّك علّة لوجود الحركة ، فهو علّة اولى لوجود الزّمان وعلّة أيضا لثبات الحركة المستتبع لازدياد كميّتها ، أعنى الزّمان ، ولا علّة لكون الزّمان مستعدّا لأن يمتدّ إلى نهاية معيّنة أولا إلى نهاية أصلا ؛ فإنّ ذلك له لذاته ، كما كان

٣١٥

قبول الانقسام له بذاته.

لكن وجود هذا المعنى ـ أعنى التّمادى إلى نهاية أو إلى لا نهاية بالفعل ـ إنّما يكون له بسبب المحرّك وبتوسّط الحركة. كما أنّ وجود الانقسام بالفعل إنّما يكون بقاسم خارج. فالحركة بذاتها توجد الزّمان على نحو يلزمه استعداد قبول الانقسام لذاته ، وبثباتها كونه ممتدّا إلى نهاية أو لا نهاية بالفعل.

ثمّ الزّمان يفيد كون الحركة ذات مقدار متناه أو غير متناه. فكثير من الأشياء يوجد أمرا ، ولذلك الأمر صفة أوّليّة ، ثمّ يكون له تلك الصّفة بالقصد الثانى ، فهذا سبيل الفلسفة.

وأمّا صراط نضج الحكمة فيؤدّى إلى أن تتعرّف مع ما تعرّفت أنّ التّمادى فى الوجود إلى لا نهاية بالفعل مستحيل فى الكم مطلقا ، سواء كان كمّا ذا وضع أو كمّا غير ذى وضع. وسيتلى عليك تبيانه إن شاء اللّه تعالى.

<١١> شكّ وتحصيل

ليس من المستبعد أن يزعج سرّك أنّ الحركة ما لم تكن موجودة مشخّصة لم يصحّ أن تصير علّة للزّمان ؛ لأنّ العلّة متقدّمة على المعلول فى الوجود ، والوجود هو بعينه التّشخّص أو مساوقه. والزّمان هو من جملة مشخّصات الحركة وإن لم يكن من مشخّصات كلّ ما يقع وجوده فى أفق الزّمان على الإطلاق ؛ لأنّ الحركة لا توجد منسلخة عن السّرعة والبطء، وهما لا ينفكّان عن وجود الزّمان ، بل عن تعيّنه ، فالسّرعة المعيّنة إنّما هى بحسب زمان بعينه.

وربّما كان كذلك ، لزم أن يكون الزّمان متقدّما على الحركة ، فلو كان الزّمان عرضا هو مقدار الحركة والحركة علّة له ، لزم تقدّم الحركة على الزّمان ؛ فإذن يلزم تقدّم كلّ منهما على الآخر ، وأنّه محال. فينبغى لك أن تعلم أنّ الحركة بما هى حركة جزء علّة أو شرط فى وجود الزّمان.

٣١٦

ثمّ الزّمان شرط فى تشخّص الحركة وتعيّنها ، كما قد قيل لك من قبل فى الصّورة والهيولى : إنّ الصّورة من حيث هى صورة ما جزء لعلّة الهيولى المتشخّصة ، والهيولى الشّخصيّة بوجه ما علّة لتشخّص الصّورة ، أى للصورة الشّخصيّة من حيث هى صورة شخصيّة.

ثمّ الحركة المتعيّنة المتشخّصة بما هى متعيّنة متشخّصة علّة بنحو ثباتها لكون الزّمان متماديا إلى لا نهاية أو متناهيا بالفعل وعلى مرتبة متخصّصة فى التناهى. ثمّ الزّمان بحسب ذلك التّعيّن علّة لكون الحركة ذات مقدار غير متناه أو متناه متخصّص التّناهى.

ويجب أن يتحقق أنّ معلول الشّيء بما هو معلول ليس يلزمه أن يكون معلولا لتشخّص ذلك الشّيء إلاّ أن تكون العلّة جاعل الذّات فاعل الوجود ؛ فإنّ العقل ينقبض عن كون مرتبة المجعول المفعول فى التّحصّل فوق مرتبة الجاعل الفاعل ، وحظّه من التّعيّن أقوى من حظّه. وليس ذلك فى سائر العلل والمعلولات وفى طباع العليّة والمعلوليّة بما هما عليّة ومعلوليّة. فإذن ، ليس يلزم أن يكون الزّمان معلول الحركة الشّخصيّة بما هى شخصيّة وإن لم تنسلخ فى الوجود عن التّشخّص.

فإذن ، طبيعة الحركة الّتي هى محلّ الزّمان جزء علّة الزّمان ، لا طبيعة أيّة حركة كانت، وتشخّصها مشروط بالزّمان مطلقا. أى : تشخّص أيّة حركة كانت ، لا تشخّص الحركة الّتي هى محلّ الزّمان فحسب ، ولا دور.

<١٢> فيصل تحديقيّ

فى أمر الزّمان شتات ظنون متّسعة أحصيناها فى كتاب الصراط المستقيم. ولعلّ ما سقنا إليه روّيتك هو سواء السّبيل. والمحصّلون من الفلاسفة يقولون : إنّ عدم الزّمان قبل وجوده وبعده ، قبليّة وبعديّة تصدّان الشّيء القبل والشّيء البعد عن الاجتماع فى التّقرّر والحصول ، مستحيل بالنّظر إلى ذاته بذاته ؛ وليس يلزم من ذلك أن يكون واجب الوجود بذاته ـ كما توهّم ـ عديم التّحصيل منهم فى بعض

٣١٧

الأدوار الخالية ؛ لأنّ استحالة نحو ما من العدم لذاته لا تستلزم استحالة طبيعة العدم بالذّات، وإمكان عدم ما من العدمات بالذّات يتحقق معه إمكان طبيعة العدم بالذّات. والزمان ليس يأبى ذاته أن يعدم أزلا وأبدا ، فلا يوجد أصلا. وإن أبى أن يقبل الوجود بعد العدم والعدم بعد الوجود فإنّه لا يخرج بذلك من الممكنات التقرّر (١٣٠) الجائزات الوجود.

وقد قرع سمعك من إسماعاتنا إيّاك أنّ الحقّ ليس يسع إلاّ ما هو أخصّ من ذلك ، فالمستحيل بالنّظر إلى ذات الزّمان بطلانه المتقدّم على تقرّره المتقدم الزّمانىّ والمتأخّر عنه ذلك التّأخّر ؛ إذ يلزم إذ ذاك اقتران تقرّر الشّيء ببطلانه ، لا بطلانه قبل تقرّره قبليّة دهريّة غير متقدّرة أو بعده بعديّة كذلك وإن كان البطلان فى وعاء الدّهر بعد التقرّر فيه بعديّة دهريّة غير متقدّرة ، مستحيلا على كلّ شيء ، لا بالنظر إلى ذوات الأشياء الممكنة ، بل بالنّظر إلى طباع وعاء الدّهر. فما حصل فى وعاء الدّهر لا يرتفع عنه وإن انتهى حصوله فى افق الزّمان. وإنّما المتصوّر فى وعاء الدّهر تقرّر الممكن بعد البطلان فيه ، لا بطلانه فيه مرّة اخرى بعد ذلك التّقرّر.

فهذا لا يختصّ بحقيقة الزّمان ، ولا يكون بالنّظر إلى ذوات الحقائق الجوازيّة والطبائع الإمكانيّة. والّذي يختصّ بحقيقة الزّمان امتناع سبق البطلان على تقرّره والتّقرّر على بطلانه بالنّظر إلى ذاته سبقا زمانيّا متقدّرا لا غير.

<١٣> تقويم وتعيين

إنّ محلّ الزّمان الّذي هو أظهر المقادير إنيّة وأكثرها وأوسعها اتّساعا للمادّيّات وإحاطة بالكليّات ؛ وما يستحصل ويستحفظ به يجب أن يكون أسرع الحركات المستديرة وأظهرها فعليّة. وهى الحركة اليوميّة ، أعنى حركة الجرم الأقصى من المشرق إلى المغرب على منطقة معدّل النّهار الّتي يتحرّك بها جميع السّماويّات وبها يتقوّم الأيّام والسّاعات فى بقاع الأرض وبها تطلع الكواكب الثّابتة والسيّارة وتغرب فى أكثر الآفاق ، وبمقدار ما يقول أحد «واحد» يقطع المتحرك بها خمسة

٣١٨

آلاف ومائة وستّة وتسعين ميلا. وهو ألف وسبع مائة واثنان وثلاثون فرسخا من مقعّر الفلك الأقصى. واللّه سبحانه يعلم ما يتحرّك محدّبه حينئذ.

والزّمان يسع جملة الزّمانيّات بالعينيّة. كما المكان يسع جملة المكانيّات كذلك. وكما أنّ كلّ مطروق للمكان يتّصل امتداد مكانىّ منه إلى أقصى عالم الإمكان ، وهو فلك محدّد الجهات ، كذلك مظروف الزّمان يتّصل امتداد زمانىّ منه إلى أقصى العالم الزّمانىّ. وهو افق محتد التغيّر ومحدّد جهة التّقضّى والتّجدّد. فكما المكان يحيط بالمكانيّات جملتها فكذلك الزّمان بالزّمانيّات كافّتها.

فإذن محلّ الزّمان حركة مستديرة تحيط بهذا العالم كلّه ، وما هى إلاّ حركة الجرم المحيط بالكلّ والجرم الأقصى المحيط بكميّة جسميّة تحدّد جهات الأبعاد القارّة ومذاهب الامتدادات الجسمانيّة ، وبكميّة حركته تحدّد جهات التّغيّر وشوارع الأبعاد الغير القارّة لامتدادات التّقضّيات والتّجدّدات. فإذن ، ما خرج عن أقطار الفلك الأقصى وعن مقدارها تدواره ليس بحيث يصحّ أن يتوّهم فيه الامتداد واللاّامتداد ، لا القارّ ولا غير القارّ.

<١٤> شكّ وتحقيق

عساك أن تتوهّم أنّ كلّ حركة متقدّرة لا محالة ، والزّمان مقدار الحركات على العموم، فإذن يكون كلّ حركة تتسع زمانا ويقوم بها زمان ، فيبطل التّخصيص ، وإلاّ فبعض الحركات يبقى بلا مقدار.

فيجب أن نحاول تنبيهك ، فيقال : فرق ما بين تقدّر الحركة بالزّمان وبين قيام الزّمان بالحركة. فليس من شرط ما يقدّر الشّيء أن يكون عارضا له قائما به ، بل ربما قدّر المباين بالانطباق والموازاة. وما تبرهن من أمر الزّمان إنّما هو أنّه متعلّق بالحركة وهيئة لها ، لا أنّه متعلّق بكلّ حركة حركة ؛ ومن أمر الحركة أنّ كلّ حركة فإنّها تتقدّر بالزّمان ، لا أنّ كلّ حركة فهى محلّ الزّمان.

٣١٩

فإذن ، من قوليك : «إنّ الزّمان مقدار لكلّ حركة ، وإنّ حقيقة الزّمان أو إنيّته متعلقة بكلّ حركة» الصّحيح هو الأوّل دون الثانى ومن قوليك : «إنّ ذات الحركة متعلق بها الزّمان على سبيل أن يعرض لها ، وأنّ ذات الزّمان متعلّقة بالحركة على سبيل العروض لها». الصّحيح هو الثّاني دون الأوّل. فهذا جزئ تلك لا غير البتة لا تلك البتة تستتبع هذا. فليس إذا تعلّق ذات شيء بطبيعة شيء وجب أن لا تخلو طبيعة الشّيء عنه.

فإذن ، الحركات الّتي لها ابتداء وانتهاء فى الوجود على أىّ وجه كان عند الفلاسفة المتهوّسين بالقدم لبعض الجائزات وبلا تناهى الامتداد لبعض الكميّات وعلى وجه يستلزم وجود الآن بالفعل لا مطلقا عند الحكماء الرّاسخين المتوخّين برء مزاج الفلسفة عن سقام السّفسطة ، لا يتعلق بها زمان ، وإنّما يتقدّر بالزّمان المتعلّق بحركة الفلك الأقصى. وكذلك جملة الحركات غير تلك الحركة.

وبالجملة ، الحركات الاخرى يقدّرها الزّمان ، لا بأنّه مقدارها الأوّل الحالّ فيها ، بل بأنّه معها كالمقدار الّذي فى الذّراع يقدّر خشبة الذّراع بذاته ويقدّر سائر الأشياء بتوسّطه. ولهذا يجوز أن يكون زمان واحد مقدار الحركات فوق واحدة. وأمّا السّكون فليس هو ممّا يتقدّر بالزّمان وماله الكون فى الزّمان حقيقة. بل إنّما ينسب إليه ذلك على نحو من التّجوّز. والمعنى : أنّ السّاكن لو كان متحرّكا بدل السّكون كان مقدار حركته الزّمان.

فإن وقع فى نفسك أن تقول : لو فرض أنّه لم توجد الحركة الّتي يقال : إنّها بعينها محلّ الزّمان ، لزم أن يفقد الزّمان ، فيكون حينئذ إذا وجدت حركات غيرها كانت بلا تقدّم وتأخّر قبل ذلك ؛ وإن لم يكن حركة مستديرة لجرم مستدير الجهات لم تعرض للمستقيمة جهات. فلم يصحّ أن تقع حركات مستقيمة طبيعيّة ، فلم تكن قسريّة أيضا.

فإذن ، حركة جسم ما وحده ما لم تتحدّد الجهات ولم يحصل مقدار الحركات وبالجملة ، ما لا يتقوّم عالم الأجسام ، مستحيلة وإن لم تكن بيّنة الاستحالة فكثير من

٣٢٠