مصنّفات ميرداماد

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]

مصنّفات ميرداماد

المؤلف:

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]


المحقق: عبدالله نوراني
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: منشورات مطبعة وزارة الإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-528-006-0
الصفحات: ٥٢٧
الجزء ١ الجزء ٢

زمانىّ ، فإنّه يتقدّم وجوده إمكان سابق عليه وموضوع يحلّه ذلك الإمكان.

وثمّ يليق بك أن لا تنسى ما قد تعلّمت من قبل : أنّ الصّفات على ضربين ؛ صفات لها وجود فى العين وفى الذّهن ، كالبياض والسّواد ، وتستلزم اعتبارات عقليّة غير عينيّة ، كالأبيضيّة والأسوديّة ؛ وصفات توصف بها الماهيّات ، وليس لها وجود إلاّ فى الذّهن ، ووجودها العينىّ هو أنّها فى الذّهن كالنّوعيّة المحمولة على الإنسان والجزئيّة المحمولة على زيد ؛ فإنّ قولنا : «زيد جزئيّ فى الأعيان» ، لا نعنى به أنّ الجزئيّة لها صورة فى الأعيان قائمة بزيد. وكذلك الشّيئيّة عند الكثيرين المسلّمين أنّها من المعقولات الثوانىّ والامتناع والإمكان والوجوب وأمثالها.

فليس شيء منها حقيقة متأصّلة ، بل الحقيقة إمّا فى نفسها إنسان أو فلك أو غير ذلك ، ثمّ يلزمها فى العقل : إمّا الواجبيّة أو الممكنيّة أو الممتنعيّة. ويصحّ أن يقال : مثلا : شيء فى الأعيان أو ممتنع فى الأعيان أو ممكن فى الأعيان ؛ ولا يكون للشّيئيّة أو الامتناع أو الإمكان صورة فى الأعيان زائدة على ذات ج.

فهى محمولات عقليّة تثبت لما فى الذّهن تارة ولما فى العين اخرى ، ولا تكون (٧٧) أجزاء للماهيّة العينيّة ، وليس يصحّ إلحاق شيء منها بأيّة ماهيّة اتّفقت ، بل إنّما يلحظ صلوحها لذلك المحمول العقلىّ من الماهيّات المخصوصة. فللماهيّات خصوص لا يصدق عليه كلّ اعتبار الحق به. وليس من شرط أن يكون الشّيء أمرا ذهنيّا أن يكون متساوي النّسبة إلى جميع الماهيّات. أليست الجزئيّة والجنسيّة والنّوعيّة من الامور الذّهنيّة ، ولا يصحّ إلحاق كلّ منها إلاّ بماهيّة دون ماهيّة. والمطابقة واللاّمطابقة فى القضايا المعقودة بها إنّما تعتبر بالقياس إلى صلوح الماهيّة ولا صلوحها لذلك.

فإذن ، ليس إذا لم يكن للإمكان ، مثلا ، صورة فى الأعيان قائمة بالماهيّة يلزم أن يكون الحكم ، بأنّ «ج» ، مثلا ، ممكن فى الأعيان ، جهلا ؛ إذ ليس بإزائه فى الأعيان مطابق. أليس صلوح ماهيّة «ج» لذلك فى لحاظ العقل هو مطابق الحكم ومعيار الصّدق.

١٦١

وإنّما الفئة المهملة لهذه المعايير العلميّة يعتريه الخبط ويتشوّش عليهم الأمر بعدم تحصيل الجهات العقليّة وعدم التّمييز بينها وبين الصّفات العينيّة.

<١٨> شكوك وتنبيهات

ربّما شكّك : بأنّ الواجب لذاته يساوى سائر الموجودات فى أصل الوجود ويخالفها فى الوجود ، وما به المساواة غير ما به المفاوتة ، فالوجود غير الوجوب. وأيضا ، ليس قولنا : «موجود واجب» كقولنا : «موجود موجود». ولو كان الوجود هو الوجوب كان هو هو ؛ وإذا كانا متغايرين فيقال : ليس يصحّ أن يكون الوجود مستلزما للوجوب ، وإلاّ لكان كلّ موجود واجبا.

وأزيح : بأنّ الوجود المشترك لو كان يدلّ على الموجودات بالتّواطؤ للزم من كونه مستلزما للوجوب فى موضع أن يكون كلّ وجود مستلزما له ، لكنّه يدلّ عليها بالتّشكيك. والمعانى المشتركة على سبيل التّشكيك لا يقتضي استلزام بعضها لشيء استلزام غير ذلكالبعض لذلك الشّيء. مثلا ، نور الشّمس يستلزم زوال العشى (١) وسائر الأنوار لا يقتضيه ؛ لاشتراك طباع النّور بين نورها وسائر الأنوار بالتّشكيك. ونحن كنّا قد أومأنا إلى الحقّ القراح فيما سلف ونكر فنبسط القول فيه من ذى قبل إن شاء اللّه تعالى.

و [ربما شكّك] بأنّ الوجود لو كان ملزوما للوجوب لزم كون الوجوب معلولا له ، وكلّ معلول ممكن لذاته ، وكلّ ممكن لذاته واجب بعلّته. فقبل هذا الوجوب وجوب آخر لا إلى نهاية.

وأزاحه بعض من يحمل عرش العلم والتّمييز(٢) بأنّه لا يلزم من كون الوجوب لازما كونه معلولا ؛ فإنّ الحقّ : أنّ الوجوب والإمكان والامتناع امور معقولة

__________________

(١). العشى ، بفتح العين مقصورا ، مصدر الأعشى ، وهو الذي لا يبصر بالليل ويبصر بالنهار. والمرأة عشواء ، والمرأتان عشوا آن. منه ره.

(٢). عنى به خاتم المحققين ، نصير الملة والدين ، محمّد بن الحسن الطوسىّ ، نوّر سرّه القدوسىّ. منه ، ره.

١٦٢

تحصل فى العقل ، من إسناد بعض المتصوّرات إلى الموجود الخارجىّ ، وهى فى أنفسها معلولات للعقل بشرط الاستناد المذكور ، وليست بموجودات فى الخارج حتّى تكون علة للامور الّتي تستند إليها أو معلولا لها ؛ كما أنّ تصوّر زيد وإن كان معلولا لمن يتصوّره لا يكون علّة لزيد ولا معلولا له. وكون الشّيء واجبا فى الخارج هو كونه بحيث إذا عقله عاقل مستندا إلى الوجود الخارجىّ لزم فى عقله معقول هو الوجوب.

و [ربما شكّك] : بأن نقيض الوجوب ـ وهو اللاّوجوب ـ عدميّ ، فيكون هو ثبوتيّا. وأيضا ، هو تأكّد الوجود ، فكيف يكون عدميّا.

وازيح : بأنّه ليس عدميّا بمعنى المعدوم المطلق أو بمعنى ما يؤخذ فى مفهومه سلب شيء ، بل بمعنى المعدوم العينىّ الموجود فى الذّهن. والنّقيضان وإن اقتسما جملة المفهومات، فليس يلزم صدقهما كلّيّا على الموجودات العينيّة.

أليس الممتنع والممكن العامّ نقيضين ، والممتنع معدوم ، وليس يلزم أن يكون كلّ ممكن بالإمكان العامّ موجودا عينيّا ، بل ربما كان الممكن العامّ لا يوجد إلاّ فى الذّهن.

ثمّ قد يشكّك فيقال : قد سلف : إنّ ثبوت شيء لشيء لا يستدعى ثبوت الثّابت فى ظرف الاتّصاف ، بل إنّما المثبت له. فإذا كان بعض الأمور الذّهنيّة ، كالعمى ، مثلا ، ثابتا فى الخارج لشيء ، ومن الذّائعات المسلّمة أنّ وجود الصّفة فى نفسها هو وجودها للموصوف بعينه. فإذن يكون لمثل هذا الأمر الذّهنىّ وجود عينىّ ، فيكون من قبيل الأعراض الموجودة فى الأعيان ، وللعقل انقباض عن عدّة موجودا عينيّا فضلا عن جعله من تلك الأعراض.

ونحن قد عرّفناك ، من قبل ، أنّ قولنا : وجود «ج» ، مثلا ، فى نفسه بحسب ظرف ما هو بعينه وجوده ل‍ «ب» بحسب ذلك الظّرف ليس كقولنا : وجود «ج» فى نفسه بحسب ظرف ما هو إنّه موجود ل‍ «ب» ، بحسب ذلك الظرف ، وأنّ الأوّل لا يصحّ إلاّ أن يكون «ج» فى نفسه من الامور الموجودة فى ذلك الظّرف ، ولكن على

١٦٣

أن يكون وجوده فى نفسه هو ل‍ «ب» ، لا لذاته ، لكون ذاته من الامور القائمة ب‍ «ب» ، لا ممّا يقوم فى وجوده بذاته ، بخلاف الثّاني ؛ فإنّ مفاده أنّ نفس «ج» ليست موجودة فى ذلك الظرف ، بل إنّما نعنى بوجود «ج» فى ذلك الظرف أن يوجد «ب» هناك ، على وصف «ج». ومن يتعلّم الأمر هوّش على نفسه ، بل ربّما سلّم الفساد اللاّزم وارتكب.

وأنت من حيث تعرّفت تحقّقت أنّه قد يكون الشّيء ممتنع الوجود فى نفسه فى الأعيان ممكن الوجود الرّابطىّ هناك بالقياس إلى شيء.

وبعض الفئة المتكلّفة ظنّ أنّه قد ضيّق المحيص على الثّلّة المعتبرة المحصّلة : بأنّه إذا لم يكن للإمكان صورة فى الأعيان لم يكن الممكن ممكنا فى الأعيان ، بل إنّما فى اعتبار العقل فقط ، فيلزم أن يكون فى الأعيان إمّا واجبا أو ممتنعا ، إذ لا يخرج شيء ما عن الانفصال الحقيقىّ. وكأنّه ـ بعد ما حصّلنا لك ـ كاد يستحقّ بذلك أن لا يعدّ من أبناء الحقيقة وأولياء الفحص التّحصيلىّ.

ألست قد تحصّلت أنّه لا يلزم من صدق الحكم على الشّيء بأنّه ممكن فى الأعيان أن يكون إمكانه واقعا فى الأعيان ، بل هو محكوم عليه من قبل العقل أنّه فى حدّ نفسه (٧٨) ما هو فى الأعيان ممكن ، ومحكوم عليه أيضا أنّه ما هو فى الذّهن ممكن ، وما فى أىّ ظرف ووعاء وقع فهو ممكن.

فالإمكان صفة ذهنيّة يضيفها العقل تارة إلى ما فى العين وتارة إلى ما فى الذّهن وتارة يحكم حكما مطلقا متساوى النّسبة إلى الذّهن والعين. وأيضا يبطل مثل هذا النّمط من الاحتجاج فى الامتناع ، فليس لامتناع الممتنع صورة فى الأعيان.

ولا يتأتى لأحد أن يزعم أنّ الممتنع إذا لم يكن له امتناع فى الأعيان يكون واجبا أو ممتنعا ، وإذا صحّ ذلك فى الامتناع صحّ على العموم.

وممّا استكشف فى تضاعيف القول انكشف ضعف التّمسّك : بأنّ الفرق بين نفى الإمكان والإمكان المنفىّ ـ وهما مفاد لا إمكان له وإمكانه لا يعطى ـ أنّ الإمكان ثبوتيّ ، إذ كلّ عدم فإنّه يتحدد ويتحقّق بالوجود. فما يكون له رفع يكون

١٦٤

له ثبوت ، وما له ثبوت فهو ثابت.

وقد تكلّفه رئيس أتباع المشّائيّة فى منطق الشفاء ؛ فإن عنى إعطاء أنّ الإمكان من الموجودات العينيّة فالكذب فيه ظاهر ، وإن عنى إنّه ليس من الأعدام ، بل من المحمولات العقليّة على الموجودات العينيّة والذّهنيّة ، فذاك هو ما رامته الثلّة المحصّلة.

ومعنى إمكانه لا سلب الوجود العينىّ عن إمكان الشّيء ، أى : إنّ وصف الإمكان فى نفسه لا يكون إلاّ فى الذّهن. ومعنى «لا إمكان له» سلب الإمكان عن الشّيء ؛ أى إنّه لا يصدق عليه ذلك الوصف ، كما فى الامتناع والقدم والحدوث وسائر الطبائع الذّهنيّة ، وما لا يحمل عليه الوجود فى الأعيان قد يكون محمولا على الأشياء العينيّة وصادقا عليها. وذلك أحد معنى الوجود الرّابطىّ. وأمّا التّحدّد بالوجود فإنّما يلزم فى العدم ، لكونه سلب الوجود ، لا فى مطلق السّلب ؛ فإنّ من السّلب سلب جوهر الماهيّة ، وهو فوق سلب وجود الماهيّة. وإنّما يلحظ فى إزاء مرتبة التّجوهر الّتي هى فوق مرتبة الوجود.

فقد كان ممّا استبان لك أنّه قد يكون السّلب لطبيعة السّلب فضلا عن طبيعة اخرى عينيّة أو ذهنيّة. نعم لا يكون المسلوب بسلب سلبا لسلبه ، فيكون ثبوتا إضافيّا بالقياس إليه. وهذا الثّبوت الإضافىّ ، سواء كان فى نفسه سلبا أو ثبوتيّا حقيقيّا هو المعتبر فى تحديد السّلب بهذه الطبيعة الإطلاقيّة.

وإنّما ينبغى أن يعنى بذلك ، على ما أقرّ به فى الشّفاء أنّ الثّبوت ـ وأعنى به الإضافىّ المطلق أعمّ من أن يكون حقيقيّا فى نفسه أو بالإضافة فقط ـ يقع جزءا من بيان السّلب ، لا أنّه موجود فى السّلب ، كما ذهب إليه بعض أتباع أرسطاطاليس ، من المفسّرين لكلماته ، فالمسلوب يستحيل أن يوجد مع سلبه.

ومن قال : «البصر جزء من العمى» ليس يقصد منه أنّ البصر موجود مع العمى ، بل يقصد أنّ العمى لا يمكن أن يحدّ إلاّ بأن يضاف السّلب فى حدّه إلى البصر ، فيكون البصر أحد جزئى البيان وإن كان ليس جزءا من نفس العمى.

١٦٥

<١٩ > شكّ وتحقيق

ربما يتشكّك فيقال : جعل الإمكان وشقيقه ومضاهياتهما من الاعتبارات العقليّة إنّما يبتّ تولّد السّلاسل المتولّدة إلى لا نهاية فى الأعيان وليس يحسم لزوم ذلك فى اعتبار العقل باللّحاظ التّفصيلىّ ؛ فإنّ اتّصاف الشّيء بالإمكان يجب أن يكون على سبيل الوجوب فى لحاظ العقل وإلاّ لزم جواز الانقلاب ، فيكون لإمكانه وجوب فى العقل. واتّصافه بذلك الوجوب أيضا على جهة الوجوب ، وهكذا إلى لا نهاية ، على أنّ كونه ممكنا لو كان بالإمكان لأوجب اللاّنهاية أيضا. ولعلّ تسويغ اللاّنهاية فى خطرات الذّهن على اللّحاظات التّفصيليّة أكبر إثما فى التّزوير من تسليم ذلك فى حضرات الأعيان.

ويزاح : بأنّ لزوم التّسلسل اختلاف من غير انسياق الأمر إليه ؛ فإنّ الإمكان ، مثلا ، أمر عقليّ ملحوظ على أنّه حال للماهيّة. فمهما اعتبر العقل للإمكان ماهيّة ووجودا حصل فيه إمكان وانبتّ عند انبتات الاعتبار ، وأنّ هناك نكتة يجب أن تحقّق ولا تنسى ؛ فإنّ كون الشّيء معقولا ـ ينظر فيه العقل ويعتبر تجوهره ولا تجوهره ، ووجوده ولا وجودة ـ غير كونه آلة للعاقل ، ولا ينظر فيه من حيث ينظر فيما هو آلة لتعقّله ، بل إنّما ينظر به. مثلا ، ريثما العاقل يعقل السّماء بصورة فى عقله ويكون معقول السّماء لا ينظر حينئذ فى الصّورة الّتي بها يعقل السّماء ولا يحكم عليها بحكم ، بل يعقل أنّ المعقول بتلك الصّورة هو السّماء ، وهو جوهر.

ثمّ إذا نظر فى تلك الصّورة ، أى جعلها معقولا منظورا إليها ، لا آلة فى النّظر إلى غيرها ؛ وجدها عرضا موجودا فى محلّ هو عقله ممكن الوجود. وهكذا الإمكان هو كآلة للعاقل بها يتعرّف حال الممكن فى أنّ ماهيّته كيف تقرّرت ، ووجوده كيف يعرض لماهيّته ؛ ولا ينظر فى كون الإمكان ماهيّة متجوهرة ، أو ليس هو من الماهيّات المتجوهرة وكونه موجودا أو غير موجود ، وكون الماهيّة المتجوهرة جوهرا أو عرضا أو واجبا أو ممكنا أو شيئا ما من الأشياء.

١٦٦

ثمّ إن انعطف إلى الالتفات إليه ونظر فى تجوهره ووجوده أو إمكانه ووجوبه أو جوهريّته أو عرضيّته لم يكن بذلك الاعتبار امكانا لشيء ، بل كان عرضا فى محلّ هو العقل وممكنا فى ذاته ووجوده ، إلى غير ذلك ، من اعتبارات غير محصورة.

فإذن ، الإمكان بما هو إمكان لا يوصف بكونه ماهيّة ما متجوهرة ، أو أنّه ليس بمتجوهر الماهيّة وبكونه موجودا أو غير موجود أو ممكنا أو غير ممكن. وإذا وصف بشيء من ذلك فإنّه لا يكون حينئذ إمكانا ، بل يكون مفهوما ما له إمكان آخر غير نفسه.

وبالجملة ، الإمكان من حيث هو قائم بالذّهن ليس بإمكان ، ومن حيث هو متعلق بمتصوّر لا يعتبر حصوله فى الذّهن ، أو لا حصوله فيه ولا حصوله بشيء أو لا حصوله له ؛ بل إنّما يلحظ بحصول شيء على سبيل الإمكان.

وإذا تحققت الأمر على هذا النّمط انكشفت لك جليّة ما اشتبه على من ليس هو من أبناء الحقيقة (٧٩) وأولياء التّحقيق وزالت الحيرة الباهتة لغير اولى التّحصيل من الأقوام.

وهذا الأسلوب مطّرد فى جملة الطبائع الاعتباريّة المتكرّرة ، كالوجوب والوحدة واللّزوم ومضاهياتها ؛ فإن أعيد إيهام أعضال العقدة : بأنّ العقل يجد أنّ شيئا من اللّزومات الصّحيحة الانتزاع إلى لا وقوف لو لم يكن محكوما عليه ، بامتناع الانفكاك عن الملزوم الأصل ؛ لانفسخ ضابط اسّ اللّزوم.

فإذن ، يجب أن يصدق الحكم الإيجابيّ باللّزوم على كلّ لزوم إلى لا نهاية ، وطباع الرّبط الايجابىّ يستدعى بحسب الصّدق وجود الموضوع ، فيلزم تحقّق تلك اللزومات من حيث كونها موضوعات لإيجابات صادقة.

قيل : ألم يستبن أنّ اللّزوم إنّما يكون لزوما إذا اعتبر بما هو نسبة رابطة بين الملزوم واللاّزم ، لا بما هو مفهوم ملحوظ فى نفسه. فإذن ، هو بما هو لزوم ليس يسع أن يثبت له شيء أو يسلب عنه شيء أو ينظر فى لزومه أو لا لزومه لشيء ؛ بل إنّما يسع ذلك ويصلح له لو لوحظ بما هو مفهوم ما فى نفسه. وإنّما يستتبّ لحاظه

١٦٧

فى نفسه إذا التفت إليه وعزل القصد عن الحاشيتين وينبتّ بانبتاته.

فإذن ، ليس يلزم أن يتّصف بامتناع الانفكاك عن الملزوم إلاّ اللّزوم المنظور إليه بالذّات ، لا بما هو لزوم ، وهو ضرورىّ الانبتات بالانتهاء إلى نهاية ليس يجب أن يقف عليها التّناهى. فهذا ما عليه الفتوى فى فكّ هذه العقدة.

وأمّا من تجشّم أنّ تلك اللّزومات موجودة فى نفس الأمر بوجود ما ينتزع هى منه وليست موجودة فيها بصور متغايرة ، والوجود الّذي هو مقتضى صدق القضيّة الموجبة أعمّ من الثانى والأوّل ، فإنّ الموجبة إن كانت خارجيّة اقتضى صدقها وجود موضوعها فى الخارج أعمّ من أن يكون بصورة تخصّه ، كوجود الجسم ، أو لا ، كوجود جزء المتّصل الواحد بوجود كلّه ؛ فإنّ بعض المتصل الواحد قد يقع موضوع الإيجاب الصّادق ، كما إذا كان أحد قسمى المتّصل حارّا والآخر باردا ، فيصدق الإيجاب الخارجىّ عليه.

فمن البين أنّ أجزاء المتصلة ليست معدومة صرفة ، بل لها نحو من الوجود ، إلاّ أنّها ليست منفرزة عن الكلّ فى الوجود ، بل هى موجودة بوجوده ؛ وإن كانت الموجبة ذهنيّة اقتضى صدقها وجود الموضوع فى الذّهن على أحد الأنحاء.

فخصوص بعض العقود الخارجيّة قد يقتضي نحوا من الوجود بخصوصه ، كصدق إيجاب التّميّز. بالذّات ، فإنّه يقتضي الوجود المستقلّ ؛ وصدق الحكم على الجوهر بخواصّه ، فإنّه يقتضي النّحو الخاصّ من الوجود. والحكم على العرض بخواصّه ، فإنّه يقتضي نحو الوجود النّاعتيّ بخصوصه ؛ وكذلك خصوصيّات القضايا الذّهنيّة قد يقتضي خصوصيّات أنحاء اللّحاظات والتّمثّلات فى أذهان بخصوصياتها ؛ وخصوصيّات العقود الحقيقيّة قد يقتضي وجود الموضوعات فى نفس الأمر على أنحاء متخصّصة. وهذا كما أنّ المطلقة تقتضى وجود الموضوع بالفعل ، والممكنة بالإمكان ، والدّائمة بالدّوام.

وأيضا لزوم شيء لآخر قد يكون بحسب الوجود بالفعل عن طرفى الملزوم واللازم جميعا ، بأن يمتنع انفكاك الملزوم فى وجوده بالفعل عن وجود اللاّزم

١٦٨

بالفعل ؛ وقد يكون بحسب الوجود بالفعل من أحد الطرفين بخصوصه دون الآخر ، كلزوم انقطاع الامتداد للجسم ؛ فإنّ معناه أنّه يمتنع وجود الجسم بدون كونه بحيث يصحّ أن ينتزع منه انقطاع الامتداد. فانقطاع الامتداد بحسب كونه صحيح الانتزاع منه لازم لوجوده بالفعل؛ وقد يكون من كلا الطرفين بحسب حيثيّة صحّة الانتزاع. ومن هذا القبيل لزوم اللّزوم ؛ فإنّ مرجعه أنّ اللّزوم لا يمكن صحّة انتزاعه من شيء إلاّ وهو بحيث يصحّ منه انتزاع اللّزوم، وهكذا.

فيكفى فى صدق الحكم عليه بصحّة انتزاع اللّزوم منه هذا النّحو من الوجود ، أى : صحّة انتزاعه عن موجود بالفعل. كما أنّ القضيّة الممكنة يكفى فى صدقها إمكان وجود الموضوع ؛ فإنّه وإن لم يركب شططا فاضحا ، إلاّ أنّه قد عنّى نفسه ، ولم يستحصل أنّ اللّزوم بما هو صحيح الانتزاع عن شيء ليس يصحّ أن يقع موضوعا لإيجاب أو سلب ؛ فإنّه بذلك الاعتبار معنى رابط غير مستقلّ باللّحاظ هو لزوم بين شيئين ؛ وبما هو موضوع لحكم إيجابىّ أو سلبىّ ليس هو لزوم شيء لشيء ، على أنّه معنى رابطىّ بينهما ، بل هو بذلك الاعتبار مفهوم منظور إليه بالقصد له وجود فى نفسه بالفعل فى لحاظ العقل. فإذن ، ما تجشّم فيه فوق تعنية النّفس شائبة زيغ عن حقيقة التّحصيل وخلوّ عن فضيلة الإجداء.

وربما يقال : إنّما ينفسخ ضابط اسّ اللّزوم لو كان شيء من اللزومات المتحقّقة محكوما عليه بامكان الانفكاك ؛ لا ما إذا لم نصدّق إيجاب امتناع الانفكاك لشيء منها ، لانتفاء المحكوم عليه فى نفسه ، ويشبه أن يكون من الامتحانات المحمودة ما تلى عليك من الفتاوى الحقيقيّة.

<٢٠> تقسيم تحصيليّ

إنّ الأمور الّتي تدخل فى التّجوهر والوجود يحتمل فى اعتبار العقل الانقسام إلى قسمين : فيكون منها : ما إذا اعتبر بذاته لم يجب تجوهره ووجوده ، وظاهر أنّه لا يمتنع أيضا ذلك حتّى يجب لا تجوهره وعدمه ، وإلاّ لم يكن يدخل فى عالم

١٦٩

التّقرّر ، وهذا الشّيء هو فى حيّز الإمكان. ومنها : ما إذا اعتبر بذاته يجب تقرّره ووجوده على أنّه بنفسه متقرّر وبذاته مصداق حمل الموجود عليه ، لا باستناده إلى شيء ولا بقيام شيء ما به ، أو انتزاع شيء ما عنه. وبالجملة ، لا بلحاظة ذاته بالإضافة إلى شيء ما غير ذاته ولا باقتضاء من ذاته لذلك ، بل بنفس ذاته ، لا بعلّيّة ما من غير ذاته أو من ذاته ، فيكون لا محالة ماهيّته إنيّته ولا ماهيّة له وراء إنيّته. وهذا هو القيّوم الواجب بالذّات. فأمّا ما يقتضي ذاته وجوده فهو مفهوم لا يخرج عن بقعة الإمكان فى ظاهر التّصوّر.

ثمّ النّظر البالغ والفحص الفاصل يحيلانه (٨٠) بحكم قاضى البرهان ، ويقضيان بأنّ الشّيء لا يكون مقتضيا لوجوده ، فإنّه إن كان متجوهر الحقيقة بنفسه كان يحمل الموجود على حقيقته بما هى حقيقته من غير لحاظة حيثيّة ما أصلا ، لا تقييديّة ولا تعليليّة ؛ وإن كان تجوهر حقيقته بإفاضة جاعل كان حمل الموجود على نفس تلك الحقيقة المتقرّرة بلحاظة حيثيّة تعليليّة هى صدورها عن جود الجاعل واستنادها إلى حضرته.

فالحقيقة المتقرّرة بنفسها وجود هو موجود بنفسه ، لا بوجود عارض له ، وهو الواجبيّة. فإذن ، ماهيّة الحقّ هو الواجبيّة ، والأوّل ـ تعالى ـ وجود محض غير عارض لماهيّة أصلا.

وكلّ ما له ماهيّة وراء الإنيّة فهو معلول ، وسائر الأشياء غير الواجب فلها ماهيّات، تلك هى الّتي بأنفسها ممكنة التّجوهر والوجود ، وإنّما تتجوهر بجاعل ، ويعرض لها وجود من خارج.

فإذن ، الأوّل لا ماهيّة له ؛ وذوات الماهيّات ـ وهى جملة البواقى ـ منه تفيض ماهيّاتها ووجوداتها. ونسبة جملة الحقائق والوجودات إليه كنسبة الأضواء إلى ضوء الشّمس ؛ فهى بسببه ، وهو مستغن عن ضوء آخر ، لو كان لضوء الشّمس قيام بذاته ، لكن ضوء الشّمس متعلّق بموضوع.

والوجود الأوّل لا موضوع له ، وهو ضوء حسّيّ ، متناهى مرآت الإضاءة

١٧٠

ومتناهى شدّتها ، والوجود الحقّ نور حقيقيّ هو وراء ما لا يتناهى بما لا يتناهى شدّة وعدّة ، وأنوار عالم العقل فى شدّة نوريّته داهشة مبهورة. فإذن ، الموجود أعمّ ممّا يكون متّصفا بالوجود وممّا هو عين الوجود المحض المتمجّد عن الماهيّة.

فإن استصغرنا أمر اللّغة فى معرض الحقيقة ـ بعد وضوح المقصود المحصّل ـ قلنا : قولنا : «واجب الوجود موجود» لفظ مجاز ، معناه : أنّه يجب وجوده ، لا أنّه شيء موضوع فيه الوجود.

وإن عبأنا بما استمرّت عليه الإطلاقات اللّغويّة والعرفيّة ، صونا لأبناء المدارك العاميّة عن التّهويش ؛ قلنا : معنى الموجود : ما قام به الوجود ، أعمّ من أن يكون قياما حقيقيّا على طريقة قيام الوصف بموصوفه ، انضماميّا كان أو انتزاعيّا ؛ أو يكون على سبيل قيام الشّيء بذاته الّذي مرجعه عدم القيام بالغير ، وكون إطلاق القيام على هذا المعنى مجازا لا يستلزم أن يكون وقوع الموجود على هذا القسم على المجاز ، لا على سبيل الحقيقة. فالوجود القائم بذاته هو وجود نفسه ، كما أنّ الوجود القائم بالشّيء هو وجود ذلك الشّيء.

أفليس إذا قامت الحرارة بذات ما كانت حرارة تلك الذّات. فإذا فرض أنّها قامت بذاتها تكون حرارة نفسها. فيكون لا محالة حرارة وحارّا. والضّوء إذا قام بشيء كان ضوء ذلك الشّيء ، فإذا قام بنفسه صار ضوء نفسه ، فصار ضوءا ومضيئا بنفسه ، لا بضوء يعرضه. وهذا ما نعنيه بقولنا : «واجب الوجود ماهيّته إنيّته».

ولسنا نعنى بذلك : أنّ الواجب له وجودان : خاصّ وهذا المطلق الفطريّ ؛ ولا أنّه فرد من أفراد هذا الوجود المطلق الانتزاعىّ الفطرىّ الكنه. وكيف يذهب إليه ذو تحصيل من أبناء الحقيقة وأولياء الحكمة. أيتصوّر أن يكون ذات الذّوات وأصل الحقائق وينبوع الإنيّات امورا اعتباريّا.

بل إنّما نعنى : أنّ هذا المعنى الانتزاعىّ المطلق الفطرىّ المشترك فيه بالقياس إلى قاطبة الموجودات ، أى الماهيّات المتقرّرة ، ليس عين شيء من الحقائق ؛ بل عينيّته لحقيقة الواجب بالذّات ، معناها أنّ مصداق حمله عليه هو ذاته بذاته ،

١٧١

وزيادته على الحقائق المتجوهرة بالجاعل ، وهى ما سوى القيّوم الواجب بالذّات ، معناه : أنّ مصداق حمله ، على أىّ شيء كان غير ذلك الوجود الحقّ ، نفس ذاته من حيث هى مجعولة الغير. فما ينتزع منه الموجوديّة فى الممكن هو نفس ذاته من حيث هى من الجاعل ، وفى الواجب نفس ذاته من حيث هو بنفسه ، لا من جاعل ـ عزّ من ذلك.

أما كنت قد تحقّقت من قبل أنّ الوجود المطلق إنّما كان يصحّ أن يسلب عن الممكن فى مرتبة ذاته ؛ لأنّه لم تكن له ذات متقرّرة إلاّ بجعل جاعل ؛ وليس مطابق الحكم بالموجوديّة إلاّ نفس الذّات المتقرّرة. فالحيثيّة الّتي هى مصداق حمل الوجود هناك تعليليّة راجعة إلى كون الذّات صادرة عن الجاعل.

فأمّا من هو متقرّر فى ذاته بنفس ذاته وفالق لظلمة السّلب المستوعب بإخراج الماهيّات بأنفسها من اللّيس المطلق المستغرق المبتلع لذوات الطبائع الإمكانيّة وهويّاتها على الإطلاق إلى الفعليّة والأيس اللاّحق ؛ فإنّه لا محالة هو المحكيّ عنه بالوجود بنفس ذاته ومطابق الحكم ومصداق الحمل بصرف حقيقته ، لا بقيام وجوديه واقتضاء منه لصدق الموجود عليه. فلعلّك إذا استيقنت ذلك كنت من المهتدين.

<٢١> استيناف تفصيليّ

بلغنى عن فئة (١) متغلّطة متسفسطة محدثة متسمّية بالمتكلمين ، مستحلّة لأن يكون القيّوم الواجب بالذّات ـ تعالى شأنه ـ بحيث يصحّ أن يحلّله العقل إلى ماهيّة وإنيّة ، تعالى اللّه عمّا يقولون فيلحدون فى القول علوّا كبيرا ؛ إنّهم يسوّغون كون الشّيء علّة مقتضية لوجوده ، ويظنّون أنّ الواجب بالذّات من هو مفيض لوجوده.

فبعض أبناء البشر (٢) فصّل : بأنّ مراتب الموجودات فى الموجوديّة بحسب

__________________

(١). عنى بهذه الفئة الأشعريّة. منه ، ره.

(٢). صاحب الشجرة ، تبعه صاحب الثمرة.

١٧٢

تقسيم العقل فى أوّل اللّحظ قبل تحكيم الفحص ثلاث لا مزيد عليها.

< مراتب الموجودات ثلاثة >

(١) أدناها : الموجود بالغير ، أى الّذي يوجده غيره. فهذا الموجود له ذات ووجود يغاير ذاته وموجد يغايرهما. فإذا نظر إلى ذاته وعزل النّظر عن موجده أمكن فى نفس الأمر انفكاك ذاته عن الوجود وانسلاخ عالم الوجود عنه ، ولم يرتب فى ذلك أحد ، ولا يستراب فى أنّه يمكن أيضا تصوّر ذلك الانفكاك ، فالتّصوّر والمتصوّر كلاهما فى بقعة الإمكان. وهذه حال الماهيّات الممكنة ، كما هو من الذّائعات المسلّمة عند الأقوام.

(٢) وأوسطها : الموجود بالذّات بوجود هو غيره ، أى الّذي يقتضي ذاته وجوده اقتضاء تامّا يستحيل معه أن لا يكون موجودا. فهذا الموجود له ذات ووجود يغاير ذاته ويمتنع انسلاخه عن الوجود بالنّظر إلى ذاته لكن يمكن تصوّر هذا الانسلاخ. فالمتصوّر محال والتصوّر ممكن. وهذه حال الواجب الوجود تعالى على مذهب جمهور المتكلّمين.

(٣) وأعلاها : الموجود بالذّات بوجود هو عين ذاته. فهذا الموجود ليس له وجود يغاير ذاته (٨١). فلا يمكن هناك تصوّر الانسلاخ عن الوجود ، بل الانفكاك وتصوّره كلاهما محالان.

ولا يشتبه على ذى مسكة : أنّ هذه المرتبة فى الموجوديّة أقوى ما يتصوّر من المراتب، ولا يمكن تصوّر مرتبة هى فوق هذه المرتبة الثّالثة الّتي هى حال الواجب ـ تعالى ـ عند ثلّة هم فئة الحقّ وفريق التّحقيق من ذوى بصائر ثاقبة وأنظار صائبة.

وضرب لذلك مثلا. وهو أنّ مراتب المضىء فى كونه مضيئا ثلاث أيضا. الأولى : المضىء بالغير الّذي استفاد الضّوء من غيره ، كوجه الأرض ، وقد استضاء من الشّمس بالمقابلة. فمنها مضىء وضوء يغايره وشيء ثالث يفيده الضّوء. الثّانية : المضىء بالذّات بضوء هو غير ذاته ، أى الّذي يقتضي ذاته ضوءا ، اقتضاء

١٧٣

تامّا ، يمتنع بحسبه تخلّفه عنه ، كجرم الشّمس من جهة اقتضاء الضّوء عنه. فهذا المضىء له ذات وضوء يغاير ذاته. والثّالثة : المضىء بالذّات بضوء هو عين ذاته ، لا بضوء زائد على ذاته ، كضوء الشّمس إذا فرض قائما بذاته ، لا بالشّمس ولا بشيء ما غيرها. فهذا أعلى وأقوى ما يتصوّر فى كون الشّيء مضيئا.

ونحن نقول : تثليث القسمة إنّما يتصوّر فى ظاهر اللّحظ لو بني الأمر على أنّ المعلول إنّما طباعه أن يفيض وجوده من الغير.

وأمّا لو استشعر أنّ المعلول يستند إلى الجاعل فى تقرّر سنخ ذاته وتجوهر أصل حقيقته ، لا فى وجوده فقط. فلا يسع التّصوّر إلاّ تثنية القسم ؛ فإنّ الموجود حينئذ إمّا متقرّر الحقيقة بذاته أو بجاعل. ويستحيل أن يتصوّر كون الحقيقة علّة مقتضية لتقرّرها فى نفسها ، أعنى المرتبة المتقدّمة على الوجود ؛ فإنّ ذلك فى قوّة أن يقال : هى جاعلة نفسها ومفيضة ذاتها ، وهو قول يشهد بفساد نفسه ، بل إنّما يتصوّر أن يكون حقيقة متقرّرة بذاتها ، لا بجاعل.

وبالجملة ، إذا وضع أنّ أثر الفاعل يكون أمرا وراء الذّات يعبر عنه بالوجود ربما سوّغ فى بادى اللّحظ أن يكون مفيض ذلك الأمر على الذّات ، ومقتضيه لها هو نفس الذّات ، لا فاعلا آخر غيرها ، إلى أن يرفع الأمر إلى تحكيم البرهان الفاصل والفحص البالغ.

وأمّا إذا تعرّفت أنّ طباع المعلوليّة يقتضي أن يكون أثر الفاعل أوّلا وبالذّات هو نفس الذّات وسنخ الحقيقة ؛ فلعلّ طباع الفطرة الإنسانيّة لا يسع أن يسوّغ ولو فى اللّحظ الظّاهرىّ أنّ الماهيّة هى جاعل نفسها ومفيض جوهرها وفاعل سنخ ذاتها ، بل إنّما يجد أنّ بعض الموجودات يكون متقرّر الحقيقة بنفس ذاته ، لا بعلّة ، فيكون موجودا بنفسه ، لا بعلّة غير ذاته ولا بعليّة من ذاته ؛ لأنّ ما ينتزع منه الوجود إنّما هو الحقيقة المتقرّرة. فإذا كانت الحقيقة متقرّرة بنفسها ، لا بأن يكون هى جاعل ذاتها كان لها الوجود بنفسها ، لا بأن يكون ذاتها تقتضى وجودها. وبعض الموجودات متقرّر الحقيقة بالجاعل ، فيكون موجودا أيضا بالجاعل. فحاجة الوجود واستغناؤه

١٧٤

بحسب حاجة الحقيقة المتقرّرة واستغنائها.

فإذن ، يمتنع احتمال القسم الأوسط بعد تعرّف طباع المعلوليّة بحسب حكم الفطرة لا بوسط آخر يؤدّى إليه ؛ فإنّ كون الموجود إمّا هو معلول وإمّا ليس هو بمعلول انفصال حقيقىّ فطرىّ.

وهذا التعرّف وإن كان محفوفا بأن يكون هو ما يعنى بالفحص البالغ ، لكنّ أكابر القوم وأفاضل العشيرة ليسوا يعنون به ذلك ؛ بل إنّما البرهان القاضى بأنّ الشيء لا يمكن أن يكون علّة مقتضية لوجوده الّذي هو وراء ذاته ، وأنّ وجود الشّيء يمتنع أن يكون من لوازم ماهيّته. والبرهان الّذي يقضى بذلك وإن كان قويّا فى حكمه تامّا فى قضائه إلاّ أنّ تثنية القسم وإخراج أوسط الأقسام عن حيّز الاحتمال ممّا ليس يحوج إلى تحكيمه ورفع القضيّة إليه ؛ بل يتبيّن بتعرّف طباع المعلوليّة وفاقريّة المعلول إلى أن يكون جوهر ذاته من الجاعل ، فضلا عن الوجود الّذي هو وراء ذاته ومن اللّواحق المتأخّرة ؛ وأنّ الّذي يتعالى عن طباع المعلوليّة ؛ فإنّ حقيقة ذاته المتقرّرة بنفس ذاته ، لا باقتضاء ذاته ، [فيكون هو الوجود بنفس ذاته ، لا باقتضاء ذاته].

وإنّما غرضنا الّذي رمناه هو التّنبيه على هذه الدّقيقة الّتي عنها الجمهور فى ذهول عريض وفى غفلة واسعة ، لا أنّ بطلان ذلك المحتمل من الفطريّات الغنيّة عن الفحص والبرهان.

<٢٢> تكملة

ما كنت تسمع من الوجوب الّذي هو كيفيّة تجوهر ذات الموضوع وكيفيّة وجوده فى نفسه ، أو كيفيّة نسبة المحمول إلى الموضوع غير ما نحن ملقوه الآن على سمعك ، من الوجوب الّذي هو واجبيّة القيّوم الواجب بالذّات ـ جلّ مجده ـ وهو نور قائم بذاته متقرّر بنفسه لنفسه هو وجود وموجود ووجوب وواجب ، وعلم وعليم وقدرة وقدير.

١٧٥

فإن أزعجك الوهم أنّ وجوب الوجود وصف للوجود والوصف منفصل عن الموصوف ؛ فمن جعل وجوب الشّيء نفسه فقد تجاهل.

قيل لك : ألست تعتبر من الوجوب بالغير ، وهو الوجوب القائم بالشّيء. فالشّيء إذا أخذ بشرط وجوده يصير ممتنع العدم ، وما كان مانعا للعدم كان مانعا لإمكان العدم والوجود. فإذن ، الوجود بما هو وجود ممتنع الإمكان ، وما كان مانعا عن الإمكان لزمه الاستغناء عن المفيض.

فاعتبر من ذلك : أنّ الوجود بشرط التّجرّد عن الماهيّة أولى بالمنع عن الإمكان ؛ لأنّ الشّيء الّذي له اعتبار الإمكان إذا اخذ مع الوجود يدخل فى الوجوب ، فالذى لا اعتبار له إلاّ الوجود ، فهو بالوجوب أولى.

وأيضا ، الحقيقة المتقرّرة بالجاعل إذا اخذت من حيث هى متقرّرة بالجاعل كانت تحتفّ بالوجوب. فالّذى لا اعتبار له إلاّ أنّه الحقيقة الحقّة المتقرّرة بنفسه إذا نظر إليه بنفسه فهو بالوجوب أولى.

والصّحيح بالحقيقة أنّه هو الوجوب ، والوجوبات غيره أظلال الوجوب ؛ وهو الوجود ؛ والوجودات كلّها أظلال الوجود ؛ وهو العلم ، والعلوم كلّها أظلال العلم ؛ بل هو الحقيقة ، لا حقيقة سواه ، والحقائق كلّها أظلال الحقيقة.

ولا تقع لفظة الحقيقة على غيرها من الحقائق إلاّ بالمجاز الصّناعىّ بحسب لغة الحكمة الحقّة النّضيجة ، بل بحسب لغة الفلسفة المصحّحة المحصّلة أيضا على الحقيقة ؛ فإنّ إطلاقها على الحقيقة فى لغة الحكمة إنّما يكون على جاعل الحقائق وينبوع الإنيّات ـ جلّ شأنه ـ وإن صحّ أن يطلق فى لغة أهل اللّسان على طبيعة متحققة (٨٢) جاعلة أو مجعولة.

١٧٦

فصل [ثالث]

تذكر فيه خواصّ القيّوم الواجب بالذّات ـ جلّ ذكره ـ بحسب

ما يليق بطباع مفهوم الوجوب بالذّات فى إدراك العقل.

< في الفصل الثالث خمسة عشر عنوانا >

وهذا الفصل القدسىّ وإن كان نزر من حقّه أن يلظّ بذكره لسان الرّوع ، ويبذل فى سبيله مجهود العقل ويفدى ما يرام فيه بمهجة القريحة ، إلاّ أنّ للقول فيه معادا فى الشّطر الرّبوبىّ ـ إن شاء اللّه تعالى ـ فالآن نقتصر على أقلّ الذّكر.

<١>نياطة

لعلّ حقّ التّعبير عن جاعل الماهيّات وفاعل الإنيّات وصانع الحقائق ومفيض الوجودات وهو الأوّل الحقّ المتقرّر بنفسه أن يقال : الضّرورىّ المتقرّر بنفسه والواجب الوجود بذاته أو الضّرورىّ بالحقيقة والواجب الوجود بالذّات. ولا ينبغى أن يقتصر على الواجب الوجود بالذّات وإن كان التّقرّر والوجود هناك واحدا لا يزيد أحدهما على الآخر ، كما فى الطبائع الإمكانيّة ؛ إذ الوجود هناك عين الحقيقة ، والموجوديّة نفس التّقرّر ؛ لأنّ المفهومين بحسب ما هما قبلنا مختلفان ، فينبغى تقديس المبدأ عمّا يعترى كلاّ منهما بحسب الوقوع فى عالم الإمكان. ويشبه أنّ أحقّ ما يعبّر به عن ضرورة تقرّر الحقيقة بنفس الذّات فى الأسماء الحسنى هو القيّوم.

١٧٧

فإذا اعتبر ذلك ولوحظ أنّه مقرّر الحقائق وجاعلها جعلا بسيطا كانت المبالغة المعتبرة فى جوهر الصّيغة تستبين من سبيلين : كون قوام حقيقة القيّوم وتقرّر ذاته بنفس ذاته، وكون قوام جميع الماهيّات وتقرّرها فى سنخها منه.

ثمّ إذا وصفناه بالواجب بالذّات أفاد ضرورة تقرّر الحقيقة ووجوب الوجود جميعا بنفس الذّات ، فلذلك ما أن ترانا نصطلح فى هذا الكتاب على التّعبير عن مبدأ الكلّ بالقيّوم الواجب بالذّات ، فلنرسخ من الآن فى الاستقرار على هذا الاصطلاح. فإذن ، القيّوم هو الّذي له قوام الحقيقة وتقرّر الذّات بنفسه ، ومنه قوام جملة الماهيّات وتقرّرها. والواجب هو الّذي له ضرورة قوام الحقيقة ووجوب الوجود بنفس ذاته ، ومنه وجوب جميع الوجودات.

<٢> تنبيه

القيّوم الواجب الوجود بذاته تعالى عن أن يتصوّر أن له علّة. ولعلّك تجد ذلك من الفطريّات. فإن أحببت شدّة التّوضيح ، قلت : إن كانت له علّة فى تقرّره ووجوده ، كان تقرّره ووجوده بها. وكلّ ما تجوهره ووجوده بشيء فإذا اعتبر بذاته دون غيره لم يجب له تجوهر ووجود ، وكلّ ما إذا اعتبر بذاته لم يجب له تجوهر ووجود فليس قيّوما واجب الوجود بالذّات ، فإذن ، القيّوم الواجب الوجود بالذّات لا علّة له. فقد ظهر أنّه لا يتصوّر أن يكون شيء واجب التّقرّر والوجود بذاته وبغيره.

أفليس لو جاز ذلك لم يكن يجوز أن يتقرّر ويوجد دون غيره ، فيستحيل أن يتقرّر ويوجد واجبا بذاته ؛ إذ لو وجب لحصل ، ولا تأثير لإيجاب الغير فى تقرّره ووجوده ، فقد تحصّلت من قبل أنّه ليس يتصوّر لذات بعينها ولوجود ذات معيّنة بعينه ضرورتان حتّى يمكن أن يكون إحداهما بنفس الذّات والاخرى بإيجاب الغير. وأمّا لزوم توارد العلّتين المستقلّتين على معلول بعينه ، فربما يتشبّث به من آثر سخافة القول اتّباعا للفئة المتزوّرة المتسفسطة.

١٧٨

<٣> إيقاظ

القيّوم الواجب بالذّات لا يجوز أن يكون مكافئ الذّات لقيّوم واجب وجود آخر لو فرض أنّه يكون ـ تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا ـ حتّى يكون هناك علاقة عقليّة يلزم بحسبها أن يكون هذا متقرّرا مع ذلك وذاك مع هذا. وليس أحدهما علّة للآخر ، بل هما متكافئان فى أمر لزوم التّقرّر والوجود.

أليس إذا كان واجبا بذاته وكان له وجوب أيضا باعتباره مع الثّاني كان ذلك الوجوب إمّا بالثّانى ـ والقيّوم الواجب بالذّات لا يمكن أن يعرضه الوجوب بالغير ـ أو بالقياس إلى الثّاني ، والوجوب بالقياس إلى الغير ليس يكون للشّيء إلاّ بالقياس إلى ما هو علّة أو معلول له ، أو ما هو معه فى معلوليّة علّة واحدة قد جمعتهما بعليّة واحدة.

فقد استبان لك ، من قبل ، أنّه لا وجوب بالقياس إلى الغير ريثما ليس يتحقق علاقة عليّة إيجابيّة أو معلوليّة وجوبيّة بوجه. فإذن يلزم أن يكون أحدهما معلولا أو هما معا معلولين وقد كانا فرضا قيّومين واجبى الوجود ، تعالى القيّوم الواجب بالذّات عن ذلك.

فإذن ، يجب أن لا يتبع تقرّره ووجوده تقرّر الآخر ولا يلزمه ، بل لا يكون له فى تقرّره ووجوده علاقة بالآخر بالتّكافؤ ، وكان كلّ منهما لا يأبى ذاته أن يتقرّر ويوجد وليس يتقرّر ويوجد بالنّظر إلى ذاته وإن كان كلّ يجب أن يتقرّر ويوجد بالنّظر إلى ذاته ، ويمتنع بذاته أن لا يتقرّر ولا يوجد. فالوجود بالذّات بما هو وجوب بالذّات لا يأبى طباع مفهومه أن يكون الواجب بالذّات ، له الإمكان بالقياس إلى الغير وإنّما يمتنع ذلك ويلزم الوجوب بالقياس إلى الغير بلحاظة علاقة اللّزوم من حيث لحاظ العليّة ومطلق حيثيّة الوجوب بالقياس إلى الغير بحسب علاقة العليّة بالإيجاب أو المعلوليّة بالوجوب أو التّعلّق بعلّة واحدة فى عليّة واحدة إيجابيّة.

<٤> تحصيل قدسيّ

إنّ القيّوم الواجب بالذّات ليس يمكن أن يأتلف ذاته من كثرة عينيّة أو ذهنيّة ، فعليّة أو تحليليّة. ويعبّر عن ذلك بسبب منه ، كما يعبّر عن الجاعل والموجب

١٧٩

بسبب به. فكما أنّه ليس لتقرّره ووجوده سبب به ـ وقد استوضحته ـ فكذلك ليس يصحّ أن يكون لذاته سبب منه ، ولا أن يكون له سبب عنه أو سبب فيه أو سبب له ، بل لا سبب له أصلا ، وهو مسبّب الأسباب على الإطلاق من غير سبب.

أليس إذا نظرت إلى ما يأتلف جوهر الذّات منه ومن غيره وجدت الذّات فى جوهرها فاقرة إليه ، لا على أنّها أثره الصّادر منه ، بل على أنّها ذات سنخها هو مجموع ذلك الشّيء وذلك الغير.

فجوهر الذّات بعينه هو جوهر ذينك الشّيئين. فبالضّرورة الفطريّة يتقدّم كلّ منهما فى التّجوهر على المتجوهر الّذي هو مجموع المتجوهرين تقدّما بالماهيّة أو بالطبع (٨٣).

فإذا كانا من الأجزاء العينيّة ، كالمادّة والصّورة الخارجتين ، كان قوام جوهر الذّات بهما بحسب خصوص الوجود فى الأعيان ؛ وإن كانا من الأجزاء العقليّة ، أى المادّة والصّورة العقليّتين ، كان قوام الحقيقة بهما بحسب خصوص ما يتمثّل فى لحاظ العقل فقط. وكلّ من القبيلتين يتقدّم على الكلّ تقدّما بالطبع ، لا بحسب سنخ حقيقة الكلّ وجوهر ماهيّته ، بل إنّما بحسب خصوص وقوع تلك الحقيقة فى الأعيان أو فى الذّهن ، وإن كانا من الأجزاء المحمولة ، أعنى أجزاء الحدّ ، لا أجزاء الماهيّة على الحقيقة وكان منهما تجوهر سنخ الحقيقة ، وكان كلّ منهما يتقدّم على سنخ جوهر الحقيقة تقدّما بالماهيّة.

فإذا كان يفرض أنّ لحقيقة القيّوم الواجب بالذّات مبادى قد ائتلف منها جوهر الحقيقة إمّا فى الوجود أو بحسب اللّحاظ التّحليلىّ كان تقرّر الحقيقة لتلك أقدم من تقرّر الحقيقة له ، وكانت حقيقته المتأخّرة فاقرة إلى حقائق متقرّرة قبلها ، وإن كانت القبليّة الواقعة فى نفس الأمر متحققة فى لحاظ العقل ، فلم يكن ما فرض متقرّرا واجب التّقرّر بنفسه متقرّرا بنفسه ، بل متقرّرا بتقرّرات أشياء متقرّرة تلحق تقرّراتها ذلك المفروض.

ثمّ كلّ من تلك الأشياء : (١) إمّا أن يكون متقرّر الحقيقة بذاته ، فيكون هناك متقرّرات واجبات التّقرّر بذواتها. فهى لا محالة قيّومات واجبات بالذّات. فإذن لم

١٨٠