مصنّفات ميرداماد

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]

مصنّفات ميرداماد

المؤلف:

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]


المحقق: عبدالله نوراني
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: منشورات مطبعة وزارة الإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-528-006-0
الصفحات: ٥٢٧
الجزء ١ الجزء ٢

وفيه زيغ عن الحقّ وحيود عن الصّناعة. فكيف يحكم على ما لا يلحظ بالذّات أو ينحلّ الشّيء إلى ما هو خارج عنه لازم له. والحمليّات شخصيّة وطبيعيّة وحاصرة ومرسلة. والحكم فى الشّخصيّة على الجزئىّ الحقيقىّ وفى الطبيعيّة على الطبيعة من حيث لا يصلح للانطباق على الأفراد. فلذلك لم يسرى الحكم إليها ، وفى الحاصرة على الطبيعة من حيث هى صالحة للانطباق على أفرادها ، كلاّ أو بعضا. ولذلك ما إنّه يسرى الحكم إلى الأفراد ، كليّا أو جزئيّا ؛ وفى المرسلة على نفس الطبيعة لا بشرط شيء. ولذلك ما إن يسرى الحكم إلى موضوع الطبيعة وموضوع الحاصرة.

ثمّ الحكم بأنّ الاتّحاد إن كان بحسب حال الموضوع فى الأعيان ، سواء كان بحسب أصل تقرّر الماهيّة أو بحسب الوجود ، كانت الحمليّة خارجيّة ، وسواء فيه أنّ مبدأ المحمول من الأمور العينيّة أو من الأمور المنتزعة من الموضوع على ما هو عليه فى الأعيان وإن كان بحسب خصوص التّقرّر أو الوجود الذّهنىّ للموضوع كانت ذهنيّة.

وإن كان بحسب مطلق التقرّر أو الوجود للموضوع فى نفس الأمر ، مع عزل النّظر عن خصوصيّات الظروف والأوعية من الأعيان والأذهان وأنحاء ملاحظات ذهن واحد والأزمنة والأوقات أو جملة الزّمان أو الدّهر والسّرمد ، سميّت حقيقيّة.

وكذلك الموضوع فى مطلق الحمليّات هو نفس طبيعة ما يفرضه العقل بالفعل فى نفسه من فرض الشّيء ، لا من فرض الشّيء شيئا ، على أن يلحظ عنوان هذه الطبيعة المفروضة بما هى هى من غير أن تشاب بلحاظة حيثيّة ما من التّقييد واللاّتقييد والتّوقيت واللاّتوقيت أصلا ، حتى لو لحق أن روعى شيء من ذلك أخيرا لم يكن قد خولف فيه ما استدعته طبيعة عقد الوضع بما هى طبيعة عقد الوضع.

ومطلق الرّبط الإيجابيّ فى طباعه بما هو ربط إيجابىّ استيجاب أن يكون

٤١

مسبوقا بتقرّر الموضوع ومستلزما لوجوده ، سواء فى ذلك الإيجاب المحصّل والإيجاب العدولىّ وإيجاب سلب المحمول وبعض الإيجابات يستدعى وجود الموضوع من جهة خصوصيّة المحمول أيضا ، كما استدعاه بما هو ربط إيجابىّ. وذلك فى المفهومات الثّبوتيّة ، وبعضها غير مستدع ذلك من الجهتين ، بل بما هو ربط إيجابىّ فقط. وذلك فى السّلوب المحمولة بعقد الموجبة السّالبة المحمول. ومن المحمولات ما بخصوصه (٢٠) يستدعى التّأخّر عن وجود الموضوع وإن لم يكن يستوجب من جهة الرّبط الإيجابيّ إلاّ الاستلزام ، كعوارض الماهيّة بحسب كلّ من الوجودين.

فإذن قد استبان الفرق بين السّلب إذا كان فى القضيّة الموجبة جزءا من المحمول أو هو المحمول بعينه ، وبين السّلب إذا كان قاطعا للنّسبة الإيجابيّة ؛ فإنّ الأوّل لا يصحّ على المعدوم من حيث هو معدوم ، إذ لا بدّ للإثبات من أن يكون على الشّيء من حيث هو ثابت ، بخلاف الثانى ؛ إذا النفي عن المعدوم قد يكون من حيث هو معدوم ، كما تعرفت من قبل.

فالسّالبة البسيطة أعمّ من الموجبة المعدولة او الموجبة السّالبة المحمول ، وكذلك السّالبة المعدولة من الموجبة المحصّلة إذا تشاركتا فى الأجزاء.

وشيخ أتباع الإشراقيّة يذهب إلى أنّ هذا الفرق إنّما هو فى الشّخصيّات لا فى القضايا المحيطة وجملة الحاصرات. لأنّه يضع اشتمال عقد الوضع فى الحاصرة على عقد حمل هو حمل العنوان على الموضوع ويحكم بتلازم السّالبة والموجبة المعدولة فى الحاصرات ، لاستدعاء السّالبة أيضا وجود الموضوع من جهة الإيجاب المضمّن فى عقد الوضع وإن لم يكن ذلك من جهة عقد الحمل ، فيجعل اقتضاء وجود الموضوع فى الموجبة متكرّرا من جهتى العقدين وفى السّالبة من جهة عقد الوضع فقط. وليس ذلك فى الشّخصيّات ، لعريها عن هذا العقد.

ولعلّ الحقّ لا يتعدّى الحكم بأنّ عقد الوضع لا يصحّ أن يؤخذ تركيبا حمليّا ، إذ يمتنع تحقّق الحكم فى شيء من أطراف القضيّة ما دامت أطرافا لها ، بل إنّما يتعلق

٤٢

الحكم بالنّسبة الاتّحاديّة بين الحاشيتين المتخالطتين على الاتّحاد.

لكن لمّا كان المحكوم عليه فى الحاصرة هو الطبيعة من حيث تنطبق على الأفراد بالاتّحاد بالفعل ، والوصف العنوانىّ غير ملحوظ على أنّه يحمل على ما هو الموضوع ، بل على أنّه موضوع معه كان عقد الوضع يشبه عقد الحمل من حيث إنّ فى تركيبه التّقييدىّ إشارة إلى تركيب جزئىّ.

وكذلك ما إنّه يصير فى الافتراض عقد حمل. وإنّ رؤساء الصّناعة يوجبون اعتبار الموادّ فى القضايا بحسب عقد الوضع أيضا. كما أنّها تعتبر بحسب عقد الحمل لئلاّ تقع بالإغفال من ذلك فسادات فى أبواب العكس والقياسات المختلطة.

وليس يجوز أن يكون موضوع السّالبة أعمّ من موضوع الموجبة بحسب الأفراد وإلاّ لم يتحقق التّناقض. فلذلك كان يلزم وجود موضوع السّالبة الحاصرة من جهة إيجاب لازم قد اشير إليه فى تركيب عقد الوضع ، لا من تلقاء عقد الوضع بنفسه ؛ وكان يصحّ سلب عقد الحمل عنه ، لا من حيث هو ثابت ، بخلاف الإيجاب ، كما تحقق فى المسلف من القول.

وممّا ينبغى أن يتعرّف أنّ موضوع السّالبة وإن كان أعمّ من موضوع الموجبة السّالبة المحمول بحسب الاعتبار من جهة ما حقّقناه ، إلاّ أنّ بينهما ملازمة من جهة أخرى ومساوقة اتّفاقيّة بحسب ما هو الواقع.

أمّا الملازمة ، فلأنّ موضوع السّالبة يجب أن يكون متمثّلا فى وجود أو وهم وإن صحّ السّلب عنه لا بذلك الاعتبار. وحينئذ ، فكما يصحّ الحكم السّلبىّ عليه بسلب المحمول عنه فكذلك يصحّ عليه الحكم الإيجابيّ بإيجاب سلب المحمول وإن كان الثّاني يحوج إلى اعتبار ثبوته دون الأوّل. فلا تنسلخ صحّة سلب المحمول عن صحّة إيجاب سلب المحمول أصلا. والحكم السّلبىّ يقتضي أن يكون المحكوم عليه متمثّلا فى وجود أو وهم بما هو حكم فقط ، لا من جهة خصوص أنّه حكم سلبيّ. والحكم الإيجابيّ اللاّزم له يستدعى ذلك بما هو حكم وبما هو حكم إيجابىّ جميعا.

٤٣

وأمّا المساوقة الاتّفاقيّة ، فلأنّ الطّبائع والمفهومات مرتسمة بأسرها فى الأذهان العالية والقوى المفارقة ، فموضوعات جميع السّوالب ثابتة ريثما ينعقد السّلب ينعقد إيجاب السّلب على العموم.

ثمّ الحكم فى الحمليّة إن كان بالاتّحاد على البتّ سمّيت حمليّة غير بتّيّة وإن كان بالاتّحاد بالفعل على تقدير انطباق طبيعة العنوان على فرد. وإنّما يحصل بتقرّر ماهيّة الموضوع ووجودها سمّيت حمليّة غير بتّيّة ، وهى مساوقة فى الصّدق للشّرطيّة ، لا راجعة إليها ، كما يظنّ (١). أفكيف وقد حكم فيها بالاتّحاد بالفعل على المأخوذ بتقدير ما ، لست أقول على سبيل التّوقيت (٢١) أو التّقييد حتّى يكون قد فرض موضوع وتمّ فرضه فى نفسه ، ثمّ خصّص الحكم عليه بتوقيت أو تقييد له ، أى عاد المحكوم عليه إلى أن يكون هو الطبيعة الموقّتة أو المقيّدة ، بل إنّما على سبيل التّعليق المتمّم لفرض الموضوع فى نفسه ، حيث لم يكن بالفعل طبيعة متقرّرة أصلا. ولعلّ بين الاعتبارين فرقا يذهل عنه المتفلسفون. والبيّنة إنّما تستدعى تقرّر الموضوع ووجوده بالفعل ، وغير البيّنة تقرّره ووجوده على التّقدير لا بالفعل.

ومن هذا السّبيل يدفع الإعضال فى الحمل الإيجابيّ على مفهومات الممتنعات ، كاجتماع النّقيضين ممتنع ، وشريك البارى محال بالذّات ، والخلأ معدوم ، وأمثالها ؛ فإنّ للعقل أن يعتبر مفهومى النّقيضين ويحكم بالتّناقض بينهما : إمّا بمعنى أنّ أحدهما رفع للآخر والآخر مرفوع به ، أو إنّهما لا يجتمعان ولا يرتفعان ، إمّا فى أنفسهما إن كان فى العقدين أو عن موضوع ما إن كان فى المفردين وأن يتصوّر جميع المفهومات حتّى عدم نفسه وعدم العدم والمعدوم المطلق والمعدوم فى الذّهن وقاطبة الممتنعات ، لا على أن يكون ما يتصوّره هو حقيقة الممتنع ، إذ كان كلّ ما يتقرّر فى ذهن يحمل عليه أنّه ممكن ما من الممكنات ، بل على أن يتصوّر المفردات ويضيف بعضها إلى بعض ، فيتمثّل فيه مفهوم اجتماع النّقيضين

__________________

(١). الظّانّ هو صدر المدققين ومن تبعه.

٤٤

أو شريك البارى تعالى عن ذلك ، والمعدوم الذّهنىّ أو المعدوم المطلق على أن يحمل عليه أنّه ذلك العنوان الحمل الأولىّ فقط وإن لم يحمل عليه أنّه اجتماع النّقيضين أو معدوم مطلق.

مثلا ، الحمل الشّائع الصّناعىّ ، حيث لم يكن ذلك عنوانا لشيء من الطبائع المتقرّرة فى عين أو ذهن ، وإنّما يتعمّل العقل أن يقدر على الفرض البحت أنّه عنوان لطبيعة ما باطلة الذّات محجوبة عن التّقرّر مجهولة فى التّصوّر.

ولتمثيل هذا المفهوم وتقدير أنّه عنوان لماهيّة ما ، وإن كانت مجهولة على الإطلاق غير متمثّلة فى ذهن ما من الأذهان أصلا ، يصحّ الحكم عليه بامتناع الحكم عليه ، والإخبار عنه مطلقا على سبيل إيجاب حملىّ غير بتّىّ. فكان مفهوم المعدوم المطلق بحسب ما يتوجّه إليه فى نفسه صحّة الحكم ، وأنّ امتناع الحكم إنّما يتوجّه إليه باعتبار الانطباق على ما يقدّر أنّه بحذائه.

أليس لذلك نظائر متقرّرة ، مثلا ، إذا قلنا : الواجب بشخصه عين ذاته كان الحكم فيه على مفهوم الواجب ، إذ هو المرتسم فى العقل لا غير. لكنّ عينيّة التّشخّص غير متوجّهة إليه ، بل إلى ما تحقّق البرهان أنّه بإزائه ، أعنى ذات الموجود الحقّ القائم بنفس ذاته وإن جلّ أن يتمثّل فى ذهن أصلا.

ومن سبيل آخر : هذا اللحاظ لمّا كان هو اعتبار المعدوم المطلق مجرّدا عن جميع أنحاء الوجود كان هذا المفهوم غير ملحوظ بشيء من الموجودات فى هذا الاعتبار. وهذا هو مناط امتناع الحكم عليه مطلقا. وحيث إنّ هذا الاعتبار هو بعينه نحو من أنحاء وجود هذا المفهوم ؛ فكان هو مخلوطا بالوجود فى هذا اللّحاظ بحسب هذا اللّحاظ. وهذا هو مناط صحّة الحكم عليه بسلب الحكم أو بإيجاب ذلك السّلب. فإذن فيه حيثيّتان تقييديّتان بحسبهما صحّة الحكم وسلبها.

ولعلّ ذلك ما ريم بقول بعض المحدقين بعرش التّحقيق (١) : رفع الثّبوت الشّامل

__________________

(١). هو خاتم الحكماء ، قاله فى نقد المحصّل ، منه مدّ ظلّه.

٤٥

للخارجىّ والذّهنىّ يتصوّر بما ليس بثابت ولا متصوّر أصلا ، فيصحّ الحكم عليه من حيث هو ذلك المتصوّر ولا يصحّ من حيث هو ليس بثابت. ولا يكون تناقضا ، لاختلاف الموضوعين.

ولا مانع من أن يكون شيء قسيما لشيء باعتبار وقسما منه باعتبار. مثلا ، إذا قلنا : الموجود إمّا ثابت فى الذّهن وإمّا غير ثابت فى الذّهن ، فاللّاموجود فى الذّهن قسيم للموجود من حيث إنّه مفهوم أضيف فيه كلمة «لا» إلى الموجود ، ومن حيث إنّه مفهوم قسيم من الثّابت فى الذّهن.

<١٤> ختام

مطابق الخارج فى الخارجيّة هو تقرّر الموضوع ونحو وجوده فى الأعيان ، وإنّه والمحمول فى الخارج (٢٢) شيء واحد بالذّات أو بالعرض ، سواء كان بتطابق الذّهن والخارج فى حاشيتى الاتّصاف ، كما فى الأوصاف العينيّة الّتي هى مبادى المحمولات ، أو بإلحاق مفهومات انتزاعيّة بموضوعات عينيّة تصلح بحسب خصوص الوجود فى الأعيان لذلك الإلحاق ، كما فى النّسب والإضافات المنتزعة من الوجودات العينيّة.

وفى الذّهنيّة تقرّر الموضوع ونحو وجوده فى ذهن ما ؛ وإنّه والمحمول فى نحو ما من الذّهن لا فى اللّحاظ التّحليلىّ شيء واحد بالذّات أو بالعرض وفى الحقيقة قوام ماهيّة الموضوع فى مطلق عالم التّقرّر ؛ وإنّه والمحمول فى مطلق نفس الأمر مع عزل النّظر عن خصوصيّات الظروف شيء واحد بالذّات أو بالعرض ، وإنّما التّكثير فى اللّحاظ التّحليلىّ.

وتكفى المغايرة بين المطابق والمطابق بالاعتبار ، ولا يلزم أن يكون الوجود فى نفس الأمر مغايرا بالذّات للوجود الذّهنىّ. على ما تعرف فى المسلف من القول. فالنّسبة الموجودة فى الذّهن ربما تكون مطابقة لنفسها من حيث هى

٤٦

موجودة فى نفسها وإن كان تحقّقها فى نفسها بوجودها فى الذّهن.

أليست النّسبة مهما وجدت فى الذّهن كان لها وجود ذهنىّ ، سواء كان ذلك باختراع من العقل وتعمّل أوجبه سوء استعداد النّفس والانغماس فى أدناس الطبيعة ، أو بتحقّقها فى نفسها ، لا باختراع. وعلى الأوّل لا يكون وجود إلاّ باعتبار خصوص اللّحاظ التعمّلىّ ، وعلى الثّاني كان تحقّق لا من جهة التعمّل ومع عزل النّظر عن خصوصيّة اللّحاظ ، وهذا هو الوجود فى نفس الأمر والملحوظ مطلق تحقّق الشّيء فى نفسه ، لا فى طرف بخصوصه.

وإن كان مقتض خارج عن هذا النّظر أوجب أن يكون ذلك التّحقّق بالوجود فى الذّهن وفى خصوص هذا اللّحاظ. والوجود الذّهنىّ يصدق عليه الوجود فى نفس الأمر وإن لم يكن مناطه الخصوصيّة. وكذلك القول فى الوجود العينىّ ، والخصوصيّات ملغاة على الإطلاق.

فإذن ، قد تعرّفت ما يقولون : إنّ المعتبر فى صحّة الحكم مطلقا هو المطابقة لما فى نفس الأمر ، لا لما فى الذّهن من حيث إنّه فى الذّهن ، وإلاّ لزم صدق الكواذب. ومن استعمل الخارج فى مطابق النّسبة فلم يرم إلاّ الخارج عن النّحو الفرضىّ من الذّهن وعن خصوصيّة النّحو التّحقيقىّ أيضا من الذّهن وخصوص اللّحاظ الذّهنىّ وإن لم يكن تعمّليّا اختراعيّا. وهذه الدّقيقة يغفل عنها المتفلسفون.

وكأنّك قد استشعرت أيضا أنّ نسب العقود متحققة بأسرها فى القوى المفارقة والأذهان العالية. وشأنها بالنّسبة إلى الكواذب مجرّد الحفظ والارتسام فيها على سبيل الاختزان ، وبالنّسبة إلى الصّوادق الحفظ والتّصديق جميعا. وذلك لبراءتها عن الشّرور والضّلالات الّتي هى من غوايات الوهم وظلامات الهيولى.

فلا جناح عليك عند العقل لو اتّخذت النّسبة العقديّة من حيث ترتسم فى الأنوار المفارقة بالإدراك التّصديقىّ مطابق الحكم للنّسبة العقديّة من حيث هى فى ذهن ما سافل. والواقع الّذي به يقاس الصّدق والكذب. وأيّا ما كان فالصّدق حال النّسبة العقديّة بالقياس إلى الواقع بالمطابقة ، وباعتبار نسبتها إلى الأمر نفسه على أن يكون

٤٧

هى المطابق ـ بالكسر ـ والحقّ حالها بقياس الواقع إليها بالمطابقة ؛ وباعتبار الأمر نفسه إليها على أن تكون هى المطابق ـ بالفتح ـ وللحقّ إطلاقات أخر جرت فى سالف الذّكر وتعاد فى مستأنف القول إن شاء اللّه.

وأمّا النّسب العقديّة فى الأذهان العالية الّتي هى الأنوار المفارقة الشّاهقة المرتفعة عن أفق الزّمان ، فأمرها فى الصّدق أرفع وأعلى من ذلك كلّه ؛ فإنّ علم الأنوار العقليّة والمفارقات النّوريّة أجلّ من أن يوصف بالصّدق.

وإنّما هو قراح الحقّ ، بمعنى أنّه الواقع الّذي به يقاس الصّدق والتّحقّق ، لا المطابق للواقع الّذي (٢٣) هو الصّادق والمتحقق. وعساك أن تتعرّفه إذا كرّرت عليك اصول ضوآنيّة فى فصول برهانيّة.

وممّا يلتحق بهذا المقام : المعضلة الملقّبة ب‍ «الجذر الأصمّ» ، وهى الدّاء العضال الّتي أعيت الأسلاف والأخلاف ، من الّذين هم الآباء الرّوحانيّة والأطبّاء لأدواء الفنون الميزانيّة والعلوم البرهانيّة ؛ وهى : أنّ صدق الحكم أو كذبه لو كان بمطابقة الخارج ونفس الأمر أو عدمها لم يكن يجتمع الصّدق والكذب فى نسبة عقديّة بعينها ؛ لكنّهما قد يجتمعان ، كما فى قول القاتل : «كلّ كلامى فى هذه السّاعة كاذب» ، إذا لم يتكلّم تلك السّاعة بغير هذا الكلام ؛ فإنّه عقد حمليّ وصدقه مستلزم لكذبه ، وبالعكس ؛ لكون نفسه من أفراد موضوعه ، فيسرى إليه الحكم عليه بالكذب ضرورة ، بل ليس له فرد موجود أو موهوم إلاّ نفسه. وليس صدقه إلاّ بسراية الكذب المحكوم به على العنوان إليه ، ولا كذبه إلاّ بانتفاء الكذب المسلوب عن العنوان عنه.

ولهم فى التّعبير عنها وجوه وتقريرات ، وفى سبيل التّفصّى عن إعضالها حيل وتدبيرات. وكيف أصف كم زلّت فيها أقدام أقوام ، من متقدّمة المحققين ومحققة المتقدّمين ومتعسّفة المتفلسفين ومتفلسفة المتأخّرين. وأقربهم إلى مندوجة الصّواب وإصابة الحقّ من اعترف منهم بالعجز.

ولقد حلّلت العقدة ببعض ممّا آتانى ربّى من الحكمة ، ثمّ عصمنى بفضله من

٤٨

العثرة. ألست قد مهّدت لك فى قسطاس الفرديّة : ما إن أخذت الفطانة بيدك لفطّنك أنّ نفس هذا العقد إنّما يكون فردا لموضوعه من حيث إنّه طبيعة الكلام فى هذه السّاعة مع قيد ما يخصّص تلك الطبيعة ، لا من حيث إنّه حمل فيه خصوص هذا المحمول على هذا الموضوع ؛ فإنّ ذلك مناط خصوصيّة الفرديّة ، لا معيار سنخ الفرديّة ، على ما تعرّفت من قبل.

والآن لست أظنّك متشكّكا فى أن ما يجلب سراية الحكم على العنوان إلى ما هو من أفراده إنّما هو سنخ الفرديّة ، لا خصوص هذه الفرديّة ؛ فإنّ خصوص كون الشّيء هذا الفرد بخصوصه اعتبار فيه غير اعتبار كونه فردا ، والاعتباران مفصول أحدهما عن الآخر فى لحاظ التّعيّن والإبهام الّذي هو بعينه ظرف الخلط والتّعرية باعتبارين. وما بحسبه سراية الحكم على العنوان إلى الفرد إنّما هو اعتبار كونه فردا منه ، لا اعتبار أنّه هذا الفرد بخصوصه.

ولعلّ ذلك ممّا لا يتجاوزه من جبل على فطرة غير سقيمة ، فضلا عمّن يكون فى نفسه قوّة طابخة للفلسفة ولعقله أشعّة منضجة للحكمة.

فإذن ، نفس هذا العقد ، مع عزل النّظر عن خصوص هذا المحمول ، يدخل فى سنخ ما هو فرد هذا العنوان. فإنّما يسرى الحكم إليه من تلك الحيثيّة ، وهو معزول بحسب تلك الحيثيّة عن خصوصيّة ذلك المحمول بخصوصه ، إذ خصوص المحمول إنّما هو بحسب اعتبار خصوص الفرديّة وليست السّراية بحسب ذلك الاعتبار. وإنّما استلزام الصّدق للكذب وبالعكس باعتبار خصوص المحمول ، لا بالاعتبار الّذي بحسب السّراية. فإذن قطع دابر القوم الّذين ظلموا أنفسهم بإبارة الحكمة وإثارة الظّلمة ، والحمد للّه ربّ العالمين.

وبمثل ذلك ينحلّ عقد الإعضال فيما استصعب من الشّكوك. وهو أنّا إذا لاحظنا مجموع النّسب بحيث لا يشذّ عنها نسبة ، أعنى معروض الهيئة الاجتماعيّة ، وجدنا نسبة هذا المجموع إلى كلّ من أبعاضه داخلة فيه ، لكونها من النّسب ، فتكون متقدّمة عليه تقدّم الجزء على الكلّ ، مع أنّ النّسبة يجب أن تكون خارجة عن

٤٩

المنتسبين ومتأخّرة عنهما.

والحلّ : أنّ هذه النّسبة من حيث إنّها متعلّقة بالمنتسبتين المخصوصتين متأخّرة عنهما ، ومن حيث إنّها نسبة ما لا بلحاظ خصوص المنتسبين داخلة فى المجموع ، إذ الملحوظ أفراد النّسبة بما هى نسب (٢٤) ، لا من حيث خصوصيّات المنتسبات ، وسنخ الفرديّة لا يكون من جهة خصوص المنتسبين ، والتّأخّر إنّما هو من جهة التّعلّق بهما باعتبار الخصوصيّة ، وهو مناط خصوص الفرديّة. والاعتصام بحبل اللّه ، والفضل كلّه بيد اللّه تعالى وتقدّس.

٥٠

فصل [ثالث]

فى بعض ما بقى من أحكام الوجود وما بالحرىّ أن يذكر من أحوال العدم

< في الفصل الثالث ثلاثة وعشرون عنوانا >

<١> حكومة فيها إحكامات

فرق ما بين المحمولات العقليّة ومباديها الّتي هى الانتزاعيّات الذّهنيّة وبين ثوانى المعقولات. فالطبائع المصدريّة المحضة ولوازم الماهيّات والنّسب والإضافات المنتزعة من المحمولات العقليّة.

وأمّا المعقولات الثّانية أو الثّالثة ، فقد تلى عليك فى سالف القول ما شأنها وكيف أمرها. فالآن نعيد عليك على ضرب آخر ، موزون مستو ، إذ قد شوّشت الظّنون وهوّشت الأوهام (١) :

فمن النّاس : من يضع أنّها المعقولات فى الدّرجة الثّانية ، أى لا فى الدّرجة الأولى ، عارضة لما تعقل قبل ؛ ويثبث بالاستقراء ، وينقض تارة ويمنع التّامّ ، بل لزوم القبليّة رأسا أخرى.

ومن يتوهّم : أنّها العوارض الذّهنيّة للمعقولات من حيث هى معقولات على أن يكون الذّهن ظرفا للعروض ، والوجود الذّهنىّ بخصوصه قيدا يعتبر فى الموضوع ،

__________________

(١). أى : الظنون شوّشت أمر المعقولات الثانية ، والأوهام هويّتها. وما تلى عليك موزون مستو. منه مدّ ظله.

٥١

والقضيّة وصفيّة بحسب عقد الوضع ولا يسرى الوجود وما أشبهه فى أنّ المعروض له هو الماهيّة من حيث هى ، لكن فى الذّهن ، لا مع الوجود الذّهنىّ معقولا ثانيا ؛ ويقول : أيكون ما من أفراده الوجود القائم بذاته الواجب بنفس حقيقته من المعقولات الثانية.

ومن يزعم : أنّها هى ما يعرض للشّيء فى الذّهن على أنّ الذّهن فقط ظرف العروض ، ولخصوص الوجود الذّهنىّ مدخليّة فيه على الشّرطيّة ، لا على الدّخول فى المعروض ، ويخصّ ثوانى المعقولات بالمشتقّات دون المبادى ، ويرتكب أنّ الشّيء قد يكون معقولا ثانيا بحسب حصصه الانتزاعيّة ومتأصّلا بحسب فرده العينىّ ، ويجعل العقود التى محمولاتها الوجود والإمكان ونظائرهما على الإطلاق ذهنيّات.

ومن يتخيّل أنّها المحمولات الّتي لا تكون ذاتيّات لشيء من الحقائق المتأصّلة فى الأعيان أصلا ، وليست مباديها إلاّ العوارض العقليّة الّتي لا يحاذى بها أمر ما فى الخارج ؛ ويظنّ أنّ لوازم الماهيّة غير مفصولة عن المعقولات الثّانية ، وأنّ العقود الّتي يحمل فيها الجزئىّ على الذّوات العينيّة تصدق خارجيّة ، وأنّه لا فرق فى ذلك بين قولنا : زيد جزئىّ فى الخارج وبين قولنا : زيد شيء أو علّة فى الخارج.

وهى بجملتها تهويسات وتهويشات ، لست أجد رخصة من الحقّ فى استصواب شيء منها.

والّذي يستبين لى ويشبه أنّ نضج الحكمة ليس يتجاوزه ولا ما أسّسه الفلاسفة الإسلاميّة حافّين حول عرش العلم من الرّؤساء والمعاضدين ومحققة الأتباع يتعدّاه :

هو أنّ المعقولات الثّانية ، حيث تجعل موضوع الحكمة الميزانيّة الّتي هى مكيال العلوم ليست هى المعقولات الثّانية ريثما تستعمل فى حكمة ما قبل الطبيعة ، كما يقال ، مثلا : الوجود والشّيئيّة من المعقولات الثّانية وأنّ الأولى تؤخذ أخصّ بحسب المفهوم والصّدق من الثّانية.

فالمعقولات الثّانية والثّالثة حيث تؤخذ موضوع حكمة الميزان هى

٥٢

المحمولات والعوارض العقليّة الّتي تكون مطابق الحكم ، والمحكىّ عنه فى حملها على المفهومات وانتزاعها منها هو تقرير المفهومات فى الذّهن ونحو وجودها الذّهنىّ على أنّ القضايا المعقودة بها ذهنيّات. وهى كالحمل والوضع والكليّة والجزئيّة والفرديّة والذّاتيّة والعرضيّة والحصّيّة والجنسيّة والفصليّة والنّوعيّة ، وكذلك المحمولات المأخوذة من هذه المبادى ، كالمحمول والموضوع ، والكلّىّ والجزئىّ ، والمفرد والحصّة ، والذّاتىّ والعرضىّ، والجنس والفصل والنّوع ، والقضيّة والجهة والتّناقض والعكس والطرفين والوسط ، وقانص الحقيقة التّصوّريّة وقانص الحكم التّصديقىّ.

فللشّىء معقولات فى الدّرجات الأول ، كالحيوان والجسم والماشى والضّاحك (٢٥) للإنسان ، وتستند إليها هذه المعقولات الثّانية وتعرض مفهوماتها فى الذّهن ، ولا تقع إلاّ فى العقود الذّهنيّة ؛ لأنّ المحكوم عليهما بالمحموليّة والموضوعيّة أو الكليّة والجزئيّة ، مثلا ، بحسب التّحقّق فى الأعيان ، شيء واحد. وكذلك بحسب الوجود فى الذّهن إلاّ فى اللّحاظ التّحليلىّ الّذي هو ظرف الخلط والعرى.

أفليس من المستبين لقريحتك : أنّ المحكىّ عنه بما يخصّه من المفهومات المحمولة أو العوارض بحسب الأعيان أو بحسب الذّهن إنّما هو حال الشّيء باعتبار نحو وجوده فى ذلك الظرف على أنّه هو متميّزا عن غيره ، والموجود فى الأعيان شيء واحد لا يتميّز بحسب المحمول عن الموضوع ، ولا الطبيعة عن الفرد ولا الذّاتيّ عن ذى الذّاتىّ ولا معروض الكليّة عن الجزئىّ ، إذ ليس بحسب ذلك الوجود إلاّ الخلط الصّرف.

فإذن ، ليس مطابق الحكم بشيء من هذه المفهومات المحمولة أو المبادى العارضة إلاّ نحو وجود المفهوم المحكوم عليه فى ظرف الخلط والعرى من أنحاء اللّحاظات الذّهنيّة.

ثمّ بعض هذه ممّا لا يصحّ أن يتلبّس به المفهوم إلاّ باعتبار وجوده فى الذّهن ، كالكليّة والحصّيّة والحمل والوضع وما شاكلها. وبعضها ممّا ليس المفهوم يأبى أن

٥٣

ينتزع منه بحسب وجوده فى الأعيان لو أمكن أن يكون هناك متميّزا منفرزا ذلك ، لكنّه مخلوط غير متميّز بحسب الأعيان. فلذلك لا ينتزع منه ذلك بحسب الاعيان ، ويجب أن يكون العقد ذهنيّا ، ومطابق الحكم فيه تقرّر الموضوع ، ونحو وجوده فى الذّهن مفروزا غير مخلوط بحسبه. وذلك مثل الجزئيّة والذّاتيّة والعرضيّة والطبيعيّة وما ضاهاها.

وحيث إنّ مسلك الفرق بين القبيلتين غامض يغلط فيه ويعقد زيد جزئىّ فى الخارج مثلا خارجيّة ، ولم يتفطن أنّ الموجود فى الخارج أو فى الذّهن بحسب الخارج شيء واحد يصلح لأن يحلّله العقل فى اللّحاظ التّحليلىّ إلى ما هو جزئىّ وإلى طبيعة تعرضها الكلّية فى لحاظ العقل ، وإنّما الجزئيّة من أحوال الشّيء بما هو متميّز غير مخلوط. فما فى الأعيان لا يصحّ أن يحكى عنه أنّه جزئىّ أو طبيعة ، بل إنّه شيء واحد مخلوط يصحّ أن ينحلّ إلى الأمرين جميعا.

وإنّ من الصّفات ما له وجود فى العين والذّهن ، كالبياض ؛ ومنها ما ليس لها وجود إلاّ فى الذّهن. ووجودها العينىّ هو أنّها فى الذّهن ، كالنّوعيّة المحمولة على الإنسان ، والجزئيّة المحمولة على زيد.

وكما أنّه ليس معنى قولنا «زيد جزئيّ فى الأعيان» أنّ الجزئيّة لها صورة فى الأعيان قائمة بزيد ، فكذلك ليس معناه : أنّ الموجود فى الأعيان بما هو فى الأعيان جزئيّ فى لحاظ العقل. وإنّما الصّحيح أن يعنى به أنّ ما فى الأعيان بما هو فى الأعيان يصحّ أن يفصّله الذّهن إلى ما فى ظرف الخلط والعرى جزئىّ وإلى ما فيه طبيعة.

فقد أوضحنا لك : أنّ المعقولات الثّانية هى ما مطابق الحكم بها هو نحو وجود المعقولات الأولى فى الذّهن ، لا على أن يعتبر قيدا فى المحكوم عليه.

وهذا ما يرومه الرّائم بقوله : المعقولات الثّانية مستندة إلى المعقولات الأولى وثابتة لها بحسب نحو وجودها فى الذّهن. وإنّما يعنى بإثبات نحو وجود الشّيء ريثما يستعمل أنّ أىّ وجود يخصّه. وهى التى تجعل موضوع حكمة

٥٤

الميزان ؛ لكن لا على الإطلاق ، بل من حيث يتوصّل بها من معلوم إلى مجهول أو ينتفع بها فى ذلك الاتّصال.

والنّظر فى إثبات تقرّرها مطلقا وأنّها هل لها وجود فى الأعيان أو فى النّفس ، وأنّ لها صلوحا للإيصال أو النّفع من وظائف علم ما بعد الطّبيعة ، فإنّه يبيّن أنّ الكلّىّ قد يكون نوعا وقد يكون جنسا وقد يكون فصلا ، وقد يكون خاصّة ، وقد يكون عرضا عامّا.

فإذا ثبت فيه الكلىّ الجنسىّ والكليّ النّوعىّ صار الكليّ حينئذ بهذه الشّريطة وتلك الحيثيّة موضوعا لعلم الميزان. ثمّ ما يعرض للكلّي بعد ذلك من لوازمه وأعراضه الذّاتيّة يثبت فى علم الميزان. والجهات أيضا شرائط تصير بها المعقولات الثّانية أو الثّالثة موضوعة لعلم الميزان.

فإذا علم أنّ الكلّىّ (٢٦) قد يكون واجبا وقد يكون ممكنا وقد يكون مطلقا ، جعل بذلك الكلّىّ موضوعا له. وأمّا تحديدها وتحقيق ماهيّاتها فيكون فيه لا فى العلم الأعلى ، كما فى تحديد موضوعات سائر العلوم.

والمعقولات الثّانية ، ريثما تستعمل فى حكمة ما بعد الطبيعة ، حيث يقال : مفهوم كذا من المعقولات الثّانية ، ومفهوم كذا ليس منها ، فإنّما تؤخذ على وجه أعمّ ممّا تلونا عليك. فهى العوارض الانتزاعيّة الّتي لا تحمل على شيء ممّا فى الأعيان على أنّها هو أو من الذّاتيّات له ، كما فى الصّفات العينيّة ولا يحاذى بها خصوص حال فى الوجود العينىّ ، كما فى الإضافات والسّلوب المنتزعة من الشّيء بحسب حاله فى نحو وجوده العينىّ ولا يكون عروضها لمعروضها من جهة اقتضاء من طبيعته لذلك ، كما فى لوازم الماهيّة ، وهى كالوجود والنّسبة والإمكان والوجوب. وكذا الماهيّة والموجود والشّيء والممكن والواجب ومشاكلاتها.

ولا يختلف مفهوم واحد ثانويّة المعقوليّة وأوّليّتها باختلاف ما اضيف إليه من الحقائق العينيّة وما هو معقول ثان لا تكون حقيقته متأصّلة من الأعيان أصلا ، بل تكون الحقيقة إمّا الإنسان والحيوان أو الفلك مثلا ، ثمّ ينتزع منها الوجود أو الشّيئيّة فى

٥٥

لحاظ العقل. والوجود الحقّ القائم بذاته ليس يحمل عليه الوجود المطلق المنتزع على أنّه هو بعينه أو هو من ذاتيّاته. وليس هو يرتسم فى العقل فينتزع منه الوجود المطلق ويعرضه فى لحاظ الذّهن ، فقد تعرّفت أنّ هذه وظيفة الطبائع الإمكانيّة.

بل العقل يحكم بالبرهان : أنّ فى الأعيان حقيقة متقرّرة بنفس الذّات ، والمتقرّر بنفس الذّات هو بنفس حقيقته مصداق حمل الموجود عليه ومطابق انتزاع الموجوديّة منه ، لا باقتضاء حقيقة ذلك ، كما أنّ الحقيقة المتقرّرة من الجاعل بنفس ماهيّتها المتقرّرة من الجاعل مصداق الحمل ومطابق الانتزاع ، لا باستيناف تأثير من الجاعل أو باقتضاء من الماهيّة المجهولة ، وأنّ للعقل سبيلا فى الماهيّات المجعولة إلى لحاظ الحقيقة المتقرّرة وانتزاع الموجوديّة منها.

ولا سبيل له إلى ذلك فى الحقيقة المتقرّرة بنفس الذّات. بل إنّما شرعة العقل أن يلقى سمعه الملكوتىّ ، فيستمع : أنّ البرهان ينطق بلسانه القدسىّ النّورىّ : إنّ لى على وله شدّة الدّهش وشدّة خطر الرّعب سبيلا إلى صقع لحاظ القدّوس الحقّ المتقرّر بنفس حقيقته وانتزاع الموجوديّة من نفس ذاته بذاته. فما يقال : إنّه اللاّحظ والمنتزع بالإضافة إلى ذلك الجناب هو البرهان ، لا العقل.

فإذن ، ليس الوجود الحقّ من أفراد شيء ممّا فى حيازة العقل وحوزة معقولاته المتأصّلة الحقيقيّة. فما ظنّك بجنابه المقدّس بالقياس إلى الوجود الحقّ المطلق الّذي هو من الطّبائع المصدريّة الانتزاعيّة.

ثمّ عساك أن تتعرّف الحقّ بما حقّقت لك ؛ فقد ميّزت بما حكمت لوازم الماهيّة عن المعقولات الثّانية ؛ فإنّ هناك اقتضاء من الماهيّة يقوم مقام التّأصّل. كما أنّ كون الانتزاع بحسب خصوص نحو الوجود العينىّ فى الفوقيّة والعمى يقوم مقام العينيّة. وأوضحت : أنّ المعقولات الثّانية بهذا الوجه العامّ لا يلزمها أن لا يقع إلاّ فى العقود الذّهنيّة ؛ إذ ربما يكون مطابق الحكم والمحكىّ عنه بها نفس الحقيقة المتقرّرة بما هى متقرّرة فى نفسها ، لا بما هى معقولة وموجودة فى الذّهن بخصوصه ، كما فى مطلق الوجود والشّيئيّة والإمكان والوجوب وأشباهها وإن كان

٥٦

ظرف العروض والذّهن ، فتصدق العقود حقيقيّة ، كقولنا : الإنسان موجد أو شيء أو ممكن بالذّات أو واجب بالغير.

ومصداق الحمل فى الموجود والشّيء نفس الماهيّة المتقرّرة من الجاعل ، وفى الممكن بالذّات الماهيّة بما هى ليست بنفسها متقرّرة ولا لا متقرّرة وليست بذاتها ضروريّة الموجوديّة ولا ضروريّة اللاّموجوديّة. وفى الواجب بالغير (٢٧) هى من حيث هى مستندة إلى العلّة. وربما يكون المحكىّ عنه هو الماهيّة المتقرّرة فى الأعيان بما هى متقررة فى الأعيان فى لحاظ العقل ، كما فى الوجود فى الأعيان والشّيئيّة فى الأعيان وإمكان الوجود العينىّ ووجوب الوجود العينىّ وإن لم تكن الماهيّة العينيّة من حيث كونها فى نحو الوجود العينىّ على وضع معيّن أو نسبة خاصّة بالقياس إلى شيء آخر عينىّ كما يكون فى الفوقيّة والعمى. ولذلك لم تكن العقود بها خارجيّة.

فمصداق الحمل فيها لحاظ نفس الحقيقة المتقرّرة فى الأعيان من الجاعل أو الحقيقة المتقرّرة فى الأعيان بما هى بنفسها ليست متقرّرة فى الأعيان ولا لا متقرّرة فى الأعيان ، وليست بذاتها ضروريّة الموجوديّة فى الأعيان ولا لا ضروريّة الموجوديّة فى الأعيان أو الماهيّة المتقرّرة فى الأعيان من حيث اقتضاء الجاعل.

والقضايا المعقودة بها حقيقيّات صادقة بحسب تحقّق مصداقاتها والمعقولات الثّانية بالمعنى الأوّل قسم من المعقولات الثّانية بهذا المعنى ، وقد دريت أنّ القضايا المعقودة بها لا تكون إلاّ ذهنيّات.

فإذن ، قد استبان لك أنّ المعقولات الثّانية فى اصطلاح علم ما قبل الطبيعة تنعقد بها العقود بصنفيها الحقيقيّة والذّهنيّة دون الخارجيّة ، لأنّها إنّما تصدق حيث يكون ظرف الاتّصاف هو الخارج بخصوصه على المعنى المسلف ذكره ، وإنّ قولنا : «الإنسان موجود أو ممكن بالذّات» يصدق حقيقيّة ، لا ذهنيّة ، وكذلك قولنا : «زيد موجود أو شيء فى الأعيان أو ممكن فى وجوده العينىّ» يصدق حقيقيّة ، لا ذهنيّة ، كما ربما يزعم ، ولا خارجيّة ، كما ربما يتخيّل ؛ وكذلك شأن لوازم الماهيّة ؛ إذ ليس لخصوصيّات أنحاء الوجود مدخليّة فى مطابق الحكم

٥٧

بها على الماهيّة وإن كان اقتضاء الماهيّة لها ينوب فيها مناب التّأصّل ، وبذلك تنحاز هى عن المعقولات الثّانية. وكأنّ حقّ القول قد بلغ نصابه من التّأدية وحدّه ، والحمد للّه وحده.

<٢> استضاءة

هل أنت متذكّر ما سقنا فطانتك إليه فى أمر الوجود ما حقيقته وكيف سنّته بالقياس إلى الماهيّة ، وهل هو إلاّ معنى واحد لا يتكثّر إلاّ بتكثّر موضوعاته ، فاحكم أنّه لا يتصوّر فيه اشتداد ولا تضعّف ولا تزيّد ولا تنقّص.

ألست حصّلت أنّ نسبته إلى الماهيّة تشبه نسبة الإنسانيّة إلى الإنسان من جهة أن ليس هناك مبدأ لاشتقاق المحمول سوى نفس ذات الماهيّة ، وإن باينتها من حيث إنّ الماهيّة بما هى هى ، لا باعتبار أن جعلها الجاعل وأفاضها بالجعل البسيط لا تصحّح الاشتقاق والحمل هناك ، بخلاف ماهيّة الإنسان بالقياس إلى الإنسانيّة والإنسان المحمول والحيوانيّة والحيوان المحمول.

ثمّ إنّ هناك سبيلا آخر من النّظر فى مقتضى طبيعة الحركة. أمّا على ما يدركه الخاصّة ـ وهم المحصّلون من رؤساء الفلاسفة اليونانيّة والإسلاميّة والرّاسخون فى العلم من الحكماء [فى الحكمة] اليمانيّة الإيمانيّة ، حافّين حول عرش الحكمة الحقّة النّضيجة ـ فحيث إنّ الحركة القطعيّة موجودة فى زمان شخصىّ هو زمان مجموع تلك الحركة المتصلة الشّخصيّة ، وكذلك الزّمان الممتدّ الشّخصىّ موجود فى وعاء الدّهر ، والمتحرّك يتلبّس فى ذلك الزّمان الشّخصىّ بفرد غير قارّ من المقولة الّتي فيها الحركة منطبق على الحركة الشّخصيّة المتصلة والزّمان الممتدّ الشّخصىّ ، وينتزع منه أفراد زمانيّة وأفراد آنيّة إزاء لانتزاع الأجزاء والآنات من ذلك الزّمان ، وليس له فى نفس الأمر تلبّس بشيء منها بالفعل ، بل إنّما بالقوّة من جهة الصّلوح للتّحليل والانتزاع ، ويجده العقل فى أبعاض زمان وجود الحركة القطعيّة بحكم التّحليل فى آنات متوهّمة فيه بنحو الانتزاع ، أعنى ما دامت الحركة التّوسّطيّة

٥٨

مستمرّة الذّات البسيطة غير مستقرّة النّسبة المختلفة إلى حدود ما فيه الحركة بالموافاة متوسّطا بين الأفراد الآنيّة الممكنة الانتزاع بحيث متى ما انبتّت الحركة تلبّس هو بواحد منها بالفعل.

فليس يمكن أن يتحرّك الشّيء فيما لا يتقوّم هو هو إلاّ وأنّ له ذلك بالفعل ، كالوجود والصّور الجوهريّة (٢٨) ، وإلاّ لم يبق فى أبعاض زمان الحركة وآناته متقوّما ولم يستمرّ هو هو وعادت الحركة فسادا لما يظنّ أنّه المتحرّك.

ولقد كنّا فى سالف القول بسطنا لك «نفي الحركة فى الجوهر». على ما إن تذكّرت لكفاك. وأمّا على ما يظنّه العامّة ـ وهم شرذمة من متقدّمة المتفلسفين وقد حجبهم التّفلسف عن الفلسفة ، وطائفة من متفلسفة المتأخّرين وقد انصرفت هممهم عن حقيقة الحكمة إلى شبح التّفلسف ـ فلا يوجد إلاّ الحركة التّوسّطيّة الغير القابلة للانقسام بوجه أصلا ، والآن السّيّال المنطبق عليها ، ولا يكون للمتحرّك فرد زمانىّ غير قارّ من المقولة فى شخص زمان الحركة ولا شيء من الأفراد الآنيّة فى حدوده ، بل إنّ له ما دام متحرّكا التّوسّط بين تلك الأفراد الآنيّة. وبذلك يفترق ما يفرض متحرّكا فى الكم والكيف والأين والوضع معا ، إذ هو متحرّك فيها عمّا يفارق تلك المقولات والحركة فيها. فأمر نفى الحركة فيما لا يتقوم الشّيء هو هو إلاّ وله ذلك بالفعل أسهل على ما يخرصون. ولكن الحقّ أحقّ بالاتّباع وإن لم يكن أكثرهم إلاّ يجهلون.

<٣> تقرير فيه إشراق وتنوير

ألست إذا دريت : ما معنى الوجود ، رأيت لا يتطرق قبول التّشكيك بالشّدّة والضّعف والزّيادة والنّقصان إلى طبيعة الوجود بما هو وجود ، وإنّما فى طباعه أن يختلف بالتّقديم والتّأخير للعليّة والمعلوليّة والأولويّة واللاّأحقّيّة للاستغناء والحاجة والوجوب والإمكان.

فالوجود موجوديّة الحقيقة ، والحقائق فى أنفسها مختلفة بالتّماميّة والنّقصان والشّرف والخسّة وغاية المجد والعلوّ أن يكون الشّيء فى حدّ حقيقته قيّوما واجبا

٥٩

بالذّات ، أى : متقرّر الحقيقة بنفسه ، واجب الوجود بذاته ، فيكون بما هو هو فعليّة محضة مقدّسة من جميع جهاته عن شوب مقارنة ما بالقوّة أو معنى ما بالقوّة ؛ ومن عداه وما سواه مزدوج الحقيقة بحسب ما يعتريها من حيثيّتى القوّة من جهة فقر الذّات والفعليّة من جنبة جود الغير ، وهو المبدأ القيّوم الواجب بالذّات.

وأعنى بحيثيّة القوّة : معنى ما بالقوّة ومعنى ما بالقوّة جميعا ؛ وكذلك بحيثيّة الفعليّة ما يجمع معنى ما بالفعل ومعنى ما بالفعل جميعا. لكن معنى ما بالفعل لا يصحّ للماهيّة إلاّ بحسب إفاضة الجاعل نفسها.

وأمّا معنى ما بالفعل فقد يكون لها باقتضاء من نفسها لذلك بعد أن تدخل نفسها فى معنى ما بالفعل بأن يبدعها الجاعل ، كما فى لوازم الماهيّة.

ثمّ كلّما كانت الحقيقة فى سنخ نفسها أتمّ وأكمل وأقدس وأجلّ كان قسطها من حيثيّة الفعليّة أسبغ وأبلغ وحظّها فى عالم التّقرّر أكثر وأوفر.

وكلّما كانت أنقص وأوهن وأخفض وأخسّ كانت حيثيّة القوّة فيها أوسع وأقوى وجهة الفعليّة أضيق وأضعف. وهكذا تتفاوت درجات اختلاف الماهيّات تماميّة ونقصانا بحسب سنخ الحقيقة الغير المشتركة إلى حيث تبلغ الخسّة مركزها وتنال المنقصة جبّرها. فلم يقنع نقصان سنخ الحقيقة باقتران حيثيّتى القوّة والفعليّة حولها ، بل يتجاوزه إلى ثوب تضمّن حيثيّة الفعليّة لجهة القوّة ، فيكون الشّيء من حيث له الفعليّة مشوبا بأن تغشاها القوّة ويكتنفها الاستعداد.

فجهة القوّة ومعنى الاستعداد كأنّهما مضمّنتان حول ماهيّة فى حيثيّة الفعليّة الحقيقيّة. وذلك ليس إلاّ حيث يكون الشّيء طباعه أن يكون فى تشخّصه الوجودىّ على وحدة شخصيّة مبهمة. وإنّما هو محصور بحكم البرهان فى شاكلة حقيقة الهيولى فى سنخها ، على ما فزع سمعك فى ما قد سلف.

فليس مركز دائرة النّقص ومحدّد جهة الخسّة إلاّ هى ؛ مع أنّها شبكة بها تصطاد حقائق الأنواع الجسمانيّة بغرائب صورها وطبائعها وبدائع آثارها وصنائعها ، وشركة بها تقتنص النّفوس المفارقة الإنسانيّة بصنوف إدراكاتها وتعقّلاتها وقطوف أفاعيلها

٦٠