مصنّفات ميرداماد

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]

مصنّفات ميرداماد

المؤلف:

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]


المحقق: عبدالله نوراني
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: منشورات مطبعة وزارة الإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-528-006-0
الصفحات: ٥٢٧
الجزء ١ الجزء ٢

ثمّ ليس يمكن تشافع هذه العوارض ، لاستحالة تشافع الآنات والحدود المسافيّة ، والحصول فى الوسط مستمرّ بشخصه ويعرضه كلّ عارضين من تلك العوارض على ظرف زمان البتة.

فإذن سقط التّشكّك : بأنّ الحصول فى الوسط أمر كلّىّ ، فلا يكون واحدا بالشّخصيّة ؛ فإنّ ذلك التّوسّط إنّما يكون فيه كثرة عدديّة إذا كانت فى المسافة كثرة عدديّة ، حتى يصحّ أن يقال : إنّ الّذي وجد فى هذا الحدّ من المسافة غير الّذي وجد فى الحدّ الآخر. لكنّ المسافة أمر متصل واحد ، والقطع والحدود ليست واجبة الحصول فيه ، فما لم يحصل لم يكن هناك إلاّ مسافة واحدة ، فلا يكون التّوسّط بين طرفيها للمتحرك الواحد فى الزّمان الواحد إلاّ أمرا واحدا بالعدد.

أليس الشّخصيّ ما نفس مفهومه يأبى الشّركة فيه ، ونفس مفهوم التّوسّط الموصوف مع وحدّه الموضوع والزّمان وما فيه وما إليه بأىّ وقوع الشّركة ، فهو إذن أمر شخصيّ. وإمكان فرض الأجزاء فيه لا يجعله كلّيّة ، أى طبيعة مرسلة ، إذ إمكان فرض الأجزاء فى الشّيء لا يخرجه عن الشّخصيّة إلى أن يكون طبيعة مرسلة. فالخطّ الواحد بالشّخص يمكن أن يفرض فيه أجزاء كثيرة ، بل المصير فى كون الشّيء مرسلا ، وكلّيّا إمكان فرض الجزئيّات.

فإذن ، قد تبيّن أمر وحدة الحركة بالعدد بالمعنيين. فكلّ واحدة من الحركات المستديرة الفلكيّة ليس علما يكثّرها إلاّ بالعرض ، كالدّورات المتكثّرة بحسب فرض بعينها مبدءا للدّور. فكما لا يتكثّر الحركة التوسّطيّة إلاّ بتكثّر الموضوع أو المسافة أو الزّمان ، فكذلك الآن السّيّال أمر شخصىّ بسيط قائم بموضوع الحركة التى هى محلّ الزّمان ، وهو الجرم الأقصى. ولا يتكثّر الشّخص إلاّ بتكثّر المسافات والأزمنة.

فإذا انقسم الزّمان بحسب الانفصال فى الذّهن أو تكثّرت مسافات الحركات فى الأعيان أو بحسب الانفصال الذّهنىّ تكثّر الآن السّيّال بالشّخص تكثّرا ذهنيّا بحسب الانطباق على الحركات التّوسّطيّة المتكثّرة. وما دامت الحركة التّوسّطيّة

٤٠١

واحدة بالعدد ، فالآن السّيّال واحد بالعدد.

وكما أنّ اختلاف سائر الحركات المتّصلة غير الّتي هى محلّ الزّمان فى الأعيان واختلاف مسافاتها أو تكثّرها بحسب الانفصال لا يوجب تكثّر الزّمان المتصل فى نفسه ؛ إذ ليس ذلك يقطع اتصاله فى ذاته ، بل إنّما يوجب تكثّرا وهميّا فى الزّمان بحسب فصل فيه مقيسا إلى غيره ، لا فى سنخ ذاته بحسب ذاته ، لا بالقياس ؛ فكذلك سائر الحركات التوسّطيّة غير حركة الجرم الأقصى فى الأعيان واختلافات مسافاتها ، إذ تكثّر شيء من تلك المسافات بحسب الانقسام إنّما يوجب تكثّرا شخصيّا فى الآن السّيّال مقيسا إلى تلك الحركات بالتّطابق ، لا بحسب نفسه ، لا بالقياس.

فطرفا ما فيه الحركات الفلكيّة كما هى للمبدإ ، وهو الوضع الّذي هو مبدأ الحركة والغاية المتوجّهة إليها بالحركة ، أى الوضع الّذي هو المنتهى ، إنّما يتعيّنان بالفرض والانتزاع ، سواء ذهبت إلى فلسفتهم اليونانيّة أو اتّبعت حكمتنا الإيمانيّة اليمانيّة : أمّا فى المنتهى فعلى سبيل واحد ، وأمّا فى المبدأ فعلى طريقة الفلسفة ، للتّمادى إلى لا نهاية بالفعل وعلى محجّة الحكمة الحقيقيّة ؛ لأنّ عدم التّمادى هناك إلى لا نهاية بالفعل بحيث يستلزم وجود الآن. وكذلك الحدوث الدّهرىّ ليس بحيث يحق ذلك ، على ما سيأتيك إن شاء اللّه ، والجرم الأقصى قد خلق متحرّكا ، لا أنّه خلق ثمّ تحرّك. فلعلّ ذلك هو سبيل الحقّ القويم ، واللّه يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم.

<٢٣> فرية وبيان

بعض من لم يستطع إلى الحق سبيله نظر إلى ظاهر ما يوجد فى كتب المشّائين ، كالشفاء وغيره ، ولم يدرك الغور بتأمل دقيق وتفكّر غائر ، فظنّ أنّ رئيسهم فى عصر الإسلام ومعلّمهم فى الدّورة السّالفة ومن فى طبقتهما يستنكرون الوجود فى الأعيان للحركة الّتي هى القطع. ثمّ استمرّ تلك الفرية إليهم فى هذه السّنين المتأخّرة ، فيحقّ علينا أن نكشف الحال فيه. فلنبيّن قول شيخهم ورئيسهم أبى عليّ بن سينا ؛ فإنّه ناسج على منوال أقوال السّالفين ، قال :

٤٠٢

إنّ الحركة اسم لمعنيين : (١) الأوّل الأمر المستقلّ المقبول المتحرك ما بين المبدأ أو المنتهى. (١٥٥) وذلك ما لا يحصل بالفعل قائما فى الأعيان ؛ لأنّ المتحرك ما دام لم يصل إلى المنتهى ، فالحركة لم توجد بتمامها ، بل إنّما يظنّ أنّ ذلك قد حصل نحوا من الحصول إذا كان المتحرك عند المنتهى ، وهناك يكون هذا المتصل المفعول قد انقطع وبطل.

فإذن ، كيف يكون له حصول حقيقىّ فى الوجود. وهذا الأمر بالحقيقة ممّا لا ذات له قائمة فى الأعيان ، بل إنّما يرتسم ذلك فى الذّهن ، لأنّ صورته قائمة فى الذّهن بسبب نسبة المتحرك إلى مكانين : مكان تركه ومكان أدركه ؛ أو يرتسم فى الخيال ؛ لأنّ صورة المتحرّك وله حصول فى مكان وقرب وبعد من الأجسام قد يكون قد انطبعت فيه ، ثمّ يلحق من جهة الحسن صورة أخرى بحصول له فى مكان آخر وبعد وقرب آخرين. فإذا ارتسمت صورة كونه فى المكان الأوّل فى الخيال ثمّ قبل زوالها عن الخيال ارتسمت صور كونه فى المكان الثّاني فقد اجتمعت الصّورتان فى الخيال.

فحينئذ يشعر الذّهن بالصّورتين معا على أنّهما شيء واحد ، إمّا لأنّ إحدى الصّورتين فقد اتّصلت بالاخرى ، فحصل أمر ممتدّ منهما شبه اتّصال الماء بالماء وصيرورتهما أمرا ممتدا واحدا ؛ وإمّا لأنّ حصولهما معا يصير معدّا للذّهن ، لحصول أمر ممتدّ فيه.

فالحركة بهذا المعنى لا يكون لها فى الوجود العينىّ حصول قائم ، كما فى الذّهن ؛ إذ الطرفان لا يحصل فيهما المتحرّك فى الوجود معا ، ولا الحالة الّتي لها بينهما لها وجود قائم.

(٢) والثّاني المعنى الموجود فى الخارج الّذي بالحرى أن يكون الاسم واقعا عليه وأن يكون الحركة الّتي توجد فى المتحرّك. فهى حالته المتوسّطة حين يكون ليس فى الطرف الأوّل من المسافة ، ولم يحصل عند الغاية ، بل هو فى حدّ متوسّط. فهذا هو صورة الحركة الموجودة فى المتحرّك ، أى : التّوسّط بين المبدأ المفروض

٤٠٣

والنّهاية بحيث أىّ حدّ يفرض فيه لا يكون يوجد قبله ولا بعده فيه ، كحدّى الطرفين. فهذه حالة موجودة مستمرّة ما دام الشّيء يكون متحركا. وليس فى هذه الحالة تغيّر أصلا. نعم ، قد تتغيّر حدود المسافة بالفرض. لكن ليس كون المتحرّك متحرّكا ؛ لأنّه فى حدّ معيّن من الوسط وإلاّ لم يكن متحرّكا عند خروجه منه ، بل لأنّه متوسّط على حدّ الصّفة المذكورة، وتلك الحالة ثابتة فى جميع ذلك الوسط وهذه الصّورة توجد فى المتحرك ، وهو فى آن ؛ لأنّه يصحّ أن يقال له فى كلّ آن إنّه فى حدّ متوسّط لا يكون قبله ولا بعده وفيه. وهذا بالحقيقة هو الكمال الأوّل. وأمّا إذا قطع فذلك الحصول هو الكمال الثّاني.

والّذي يقال : من أنّ كلّ حركة ففى الزّمان ، فإمّا أن يعنى بالحركة الأمر المتصل فهو فى الزّمان ، ووجوده فيه على سبيل وجود الامور فى الماضى ، لكن يباينها بوجه آخر ؛ فإنّ الامور الموجودة فى الماضى قد كان لها وجود فى آن من الماضى كان حاضرا وكانت تلك حاضرة فيه ، ولا كذلك هذا ، وهو الحركة الّتي يعنى بها القطع ؛ وإمّا أن يعنى بهذا المعنى الثّاني ، وهو الكمال الأوّل الّذي ذكرناه ، فيكون كونه فى زمان ، لا على معنى أنّه يلزمه مطابقة الزّمان ، بل على معنى ؛ لأنّه لا يخلو لأنّه من حصول قطع ذلك القطع مطابقا لا زمان فلا يخلو من حدوث زمان ولأنّه ثابت فى كلّ آن ذلك الزمان مستمرّا فيه ، فيكون ثابتا فى هذا الزّمان بواسطة». فهذا كلامه (١) ، على مضاهاة قول من سبقه.

فاعلم أنّ ما راموه بذلك إنّما هو نفي وجود الحركة المتصلة على سبيل قرار الذّات على أن تجمع أجزاؤها بحسب الوجود فى آن واحد. فذلك لا يصحّ باعتبار الوجود فى الأعيان أصلا ، بل إنّما يكون بحسب الارتسام فى الذّهن من حيث البقاء دون الحدوث ، على ما قد انكشف لك ، لا نفي وجودها العينىّ مطلقا ولو فى مجموع الزّمان على سبيل الانطباق عليه. ولذلك قالوا : لا يجوز أن يحصل بالفعل قائما : فقيّدوا الحصول بالقيام. وهو قرار الذات. ثمّ قالوا : ولا يكون لها فى الوجود

__________________

(١). ابن سينا ، الشفاء ، الطبيعىّ ، ص ٨٣. نقله بعبارات من عنده على ما هو ديدنه.

٤٠٤

حصول قائم ، كما فى الذّهن ، إذ الطرفان. إلى آخر ما ذكر. فنصّوا على أنّ المنفىّ هو الوجود من حيث يجتمع الطرفان ، كما فى الذهن.

ثم أعلنوا ما بخواتيم القول ؛ فصرّحوا بأنّ الحالة الممتدّة وجودها فى زمان على سبيل وجود الامور فى الماضى. فلو لا أنّهم عنوا ما قلناه كانت كلماتهم فى هذا القول مناقضة.

ومن توهّم الجمع والتّوفيق بأنّ المقصود بهذا الأخير أنّ وجودها فى الخيال على نحو وجود الأشياء فى الماضى ؛ فقد تجشّم ما لا يكاد يستقيم. ألم تسع فطنته أن يتفطن أنّ الوجود فى الزّمان لا على قرار الذّات إنّما يتمّ لو كان الوجود غير قارّ والأجزاء غير محقّقة فى الحدوث والبقاء جميعا. ثمّ كيف يعقل ذلك وصريح ألفاظهم أنّ وجود الحركة المتصلة فى الأعيان كما يكون فى الذّهن على سبيل اجتماع الطرفين والحالة الممتدّة بينهما فى آن واحد ، بل إنّما هو فى الزّمان على سبيل وجود الامور فى الماضى ، فهل يفقه ذو ذهن إنسانىّ من هذا القول أنّه ريم بالوجود فى الزّمان على سبيل وجود الأمر فى الماضى الوجود الذّهنيّ.

وهل سمعت قطّ أن يكون ما أضرب عنه بالنّفى وما صيّر إليه بالإثبات واحدا. وليس متجشّم هذا التّوهّم يسمع قول الشّيخ فى النجاة. فالحركة وجودها فى زمان بين القوّة المحضة والفعل المحض ، وليست من الامور الّتي تحصل بالفعل حصولا قارّا مستكملا وقول تلميذه فى التحصيل ، عند سلب الوجود العينىّ عن الحركة الممتدّة وبأنّ أنّها ليست من الامور الّتي تحصل بالفعل حصولا قارّا مستكملا.

ثمّ أليس شيخهم ومعلّمهم وجمهور رؤسائهم السّالفين لا يشكّ فيهم أنّهم مجمعون على وجود الزّمان الممتدّ الّذي هو مقدار الحركة المتصلة وجودا عينيّا ، ولم يوجد فى كتب المشّائيّة والرّواقيّة ضدّ ذلك ، بل لم يحك عن أحد من الأسلاف والأخلاف إلاّ اتفاق الفلاسفة الرؤساء والنّجباء المحصّلين عليه. فكيف تكون الحركة المتصلة الّتي هى لمحلّ الزّمان الموجود فى الأعيان وعلّته ، والحركات الممتدّة المتقدرة به المنطبقة عليه غير موجودة فى الأعيان.

٤٠٥

فإذن ، قد بزع الحقّ وبطل ما قد نبغ من الظنون الفاسدة وعرف مقصود التلميذ فى التحصيل بقوله : «إنّ الوهم يتلبّس الحركات المتقضّية باناس يجتاز الواحد منهم إثر الواحد ، فيجتمعون فى مكان واحد ، وليس الحال فى الحركات كذلك. فليس له ساغ إلاّ نفى الاجتماع فى الوجود والبقاء».

<٢٤> حكاية تشييديّة

إنّ رئيسهم أبا عليّ بن سينا ذكر فى طبيعىّ الشفاء جملة الشكوك المقولة فى أمر الزّمان ، فقال : «فمن جملة هذه الشّكوك وجوب أن يكون للزمان وجود ، اضطرّ كثير من النّاس إلى أن جعل للزّمان نحوا من الوجود آخر. وهو الوجود الّذي يكون فى التّوهّم». وقال بعد ذلك : والاولى بها أن ندلّ أوّلا على نحو وجود الزّمان وعلى ماهيّته ، بأن نجعل الطريق إلى وجوده من ماهيته. ثمّ نكر على هذه الشّبهة فنحلّها».

ثمّ قال فى آخر الفصل : «وإذ قد أشرنا إلى المذاهب الباطلة فى ماهيّة الزّمان ، فحقيق بنا أن نشير إلى ماهيّة الزمان ، فيضح لنا من هناك وجوده ، ويتّضح حلّ الشّبه المذكورة فى وجوده» (١٦٦).

ثمّ عقد فصلا فى تلك الشّكوك ، فقال بهذه الألفاظ :

«وأمّا الزّمان فإنّ جميع ما قيل فى أمر عدمه وأنّه لا وجود له ، فهو مبنيّ على أن لا وجود له فى الآن. وفرق بين أن يقال : لا وجود له مطلقا وبين أن يقال : لا وجود له فى الآن حاصلا. ونحن نسلّم ونصحّح أنّ الوجود المحصّل على هذا النّحو لا يكون للزّمان إلاّ فى النّفس والتّوهّم.

وأمّا الوجود المطلق المقابل للعدم المطلق فذلك صحيح له ؛ فإنّه إن لم يكن ذلك صحيحا له ، صدق سلبه ، فصدق أن نقول : إنّه ليس بين طرفى المسافة مقدار إمكان لحركة على حدّ من السّرعة (١٥٦) يقطعها ، وإن كان هذا السّلب كاذبا ، بل كان للحركة على ذلك الحدّ للحركة على ذلك الحدّ من السّرعة مقدار فيه يمكن قطع هذه المسافة ، ويمكن قطع غيرها بأبطإ وأسرع ، على ما قد بيّنا قبل.

٤٠٦

فالإثبات الّذي يقابله صادق ، وهو أنّ هناك مقدار هذا الإمكان. والإثبات دلالة على وجود الأمر مطلقا ، وإن لم يكن دالاّ على نحو وجوده محصّلا فى آن أو على جهة ما. وليس هذا الوجه له بسبب التّوهّم ؛ فإنّه وإن لم يتوهّم كان هذا النّحو من الوجود وهذا النّحو من الصّدق حاصلا.

ومع هذا ، فيجب أن يعلم الموجودات منها ما هى متحققة الوجود محصّلته. ومنها ما هى أضعف فى الوجود. والزّمان يشبه أن يكون أضعف وجودا من الحركة ومجانسا لوجود امور بالقياس إلى امور ، وإن لم يكن الزّمان من حيث هو زمان مضافا ، بل قد تلزمه الإضافة.

ولمّا كانت المسافة موجودة ، وحدود المسافة موجودة ، صار الأمر الّذي من شأنه أن يكون عليها ومطابقا لها أو قطعا لها أو مقدار قطع لها نحو الوجود حتى إن قيل : إنّه ليس له البتة وجود كذب. فإن اريد أن يجعل للزّمان وجود لا على هذا السّبيل ، بل على سبيل التحصيل ، لم يكن إلاّ فى التّوهّم.

فإذن ، المقدّمة المستعملة ـ فى أنّ الزّمان لا وجود له ثابتا ، معناه : لا وجود له فى آن واحد ـ مسلّمة. ونحن لا نمنع أن يكون له وجود. وليس فى آن ، بل وجوده على سبيل التكوّن بأن يكون أيّ آنين فرضتهما كان بينهما الشّيء الّذي هو الزّمان ، وليس فى آن واحد البتة.

وبالجملة ، طلبهم أنّ الزّمان إن كان موجودا فهو موجود فى آن أو فى زمان ، أو طلبهم متى هو موجود ؛ ليس يجب آن نشتغل به ، فإنّ الزّمان موجود ، لا فى آن ولا فى زمان ولا له متى ، بل هو موجود مطلقا ، وهو نفس الزّمان ، فكيف يكون له وجود فى زمان.

فليس إذن قولهم : إنّ الزّمان إمّا أن لا يكون موجودا أو يكون وجوده فى آن أو يكون وجوده باقيا فى زمان ؛ قولا صحيحا ، بل ليس مقابل قولنا : إنّه ليس بموجود ، هو أنّه موجود فى آن ، أو موجود باقيا فى زمان ، بل الزّمان موجود ولا واحد من الوجودين ؛ فإنّه لا فى آن ولا باقيا فى زمان. وما هذا إلاّ كمن يقول : إمّا أن يكون

٤٠٧

المكان غير موجود أو يكون موجودا فى مكان أو فى حدّ من مكان. وذلك لأنّه ليس يجب إمّا أن يكون موجودا فى مكان أو فى جزء مكان ، وإمّا غير موجود ، بل من الأشياء ما ليس موجودا البتة فى مكان ، ومن الأشياء ما ليس البتة موجودا فى الزّمان. والمكان من جملة القسم الأوّل ، والزّمان من جملة القسم الثانى. وستعلم هذا بعد». (١)

فههنا قد نجزت عبارته. وإنّما تكلّفنا حكايتها بعينها تبرئة لاولئك الأقدمين الأسبقين عن إفكة هؤلاء المقلّدين المحدثين وتزجية لبضاعة هؤلاء اللاّحقين من صناعة أولئك السّابقين ليتبصّر من يتوفّى الحكم بالأمر ويختبر من يتحرّى الصّناعة مبلغ كلّ فريق من العلم، فلا يقتفى المقلّدون أثر هؤلاء المتشكّكين المتهوكين ولا يبق المتعلّمون بما زاغ ... مغريا إلى السّلف عند هذه الأفّاكين المتهتكين ، فهؤلاء حثالة من ينتهى إلى هذا العلم وسفالة من ينسب إلى هذه الصّناعة. فما أقلّ خبرهم بعلوم الأسلاف وما أكثر إصرهم فى غباوة الأخلاف.

<٢٥> تتمة

لا امتراء لك فى أنّ وجود الامور الماضية فى الزّمان الماضى بحسب وعاء الدّهر وبالقياس إلى المبدأ القيّوم الواجب بالذّات ـ جلّ ذكره ـ مع عدمها فى الحال ، وفى الزّمان المستقبل بحسب افق الزّمان وبالقياس إلى الزّمانيّات هو الحكم الحقّ العقلىّ والفحص البالغ الحكمىّ وإخراج الوجود فى الماضى عمّا يقع بحسب الوجود فى الواقع ، شنشنة الأوهام الضّعيفة العاميّة الّتي ليس لها إلى مندوحة الحكمة من سبيل.

وبالجملة ، نفي وجود الحركة مطلقا كان من الهوسات الّتي أحدثها فريق من مهوّشة اليونانيين. ثمّ استحصف بما أحصفه معلّم المشّائيّة ، وإنكار وجود الحركة القطعيّة والزّمان الممتدّ المنطبق عليها فى الأعيان مع إثبات وجودهما فى الذّهن من

__________________

(١). ابن سينا ، الشفاء ، الطبيعيات ، ص ١٦٦ ـ ١٦٧.

٤٠٨

أحداث الفلاسفة الإسلاميّة فى تشويش الفلسفة قبل الاستواء ، قد انمحى بعد استواء أمر الفلسفة فى زمن الرّؤساء.

وأمّا استنكار وجودهما فى الأعيان مطلقا ، مع الاعتراف بالوجود العينىّ للحركة التّوسّطيّة والآن السّيّال واقتضاء ذلك حدوث ارتسام الحركة المتصلة والزّمان الممتدّ فى الذّهن تدريجا واجتماع أجزائهما بحسب البقاء هناك فى آن واحد على أن يستحيل الحصول لا على قرار الذّات لهما فى الأعيان ، فهو قول قد حدث وصار من أحداث المتفلسفة المتأخّرة فى هذه السّنين الأخيرة ، ثمّ انمحق وانمحى فى زمننا بمحاولتنا طبخ الفلسفة ونضج الحكمة الحقّة الخالصة ، والحمد للّه ربّ العالمين.

<٢٦> ردع تنبيهيّ

أما أنت من الموقنين ، بعد ما قرّر عليك ، أنّ الحقيقة المتغيّرة المتجددة بذاتها إنّما هو حقيقة الزّمان ، فليس شيء غير الزّمان هو غير قارّ الذّات بذاته ، ولا يتصف شيء بالمضىّ والاستقبال بالذّات إلاّ الزّمان. فإذا عرض له انقسام ، والفرض فيه أن اتّصف أحد القسمين بالمضىّ بذاته بالقياس إلى ذلك الآن والآخر بالاستقبال بذاته بالقياس إليه ، والمجموع بلا قرار الذّات فى الوجود. وأمّا الحركة فإنّما هى غير قارّ الذّات بحسب الوقوع فى الزّمان الماضى ولا يتّصف شيء منها بالمضىّ إلاّ بالاعتبار بالوقوع فى الزّمان الماضى ولا بالاستقبال إلاّ من جهة الحصول فى الزّمان المستقبل. فالماضى إمّا بذاته وهو الزّمان وإمّا بالزّمان وهو الحركة وما فيها وما معها.

فإذن حقيق بك أن ترتدع عمّا يظنّ أتباع الرّواقيّة ، تارة : أنّ ما يجب فيه التّقضّى والتّجدّد بحسب سنخ ماهيّته من حيث هى هى الحركة إنّما هو الحركة ؛ وتارة : أنّ التّجدّد لماهية الحركة بنفس ذاتها والتّقضّى لها بالزّمان ؛ وتارة : أنّ الزّمان والحركة متّحدان بالذّات متغايران بالاعتبار ، فقد اضطرب نظره أشدّ الاضطراب.

٤٠٩

<٢٧> استيفاء

إنّ بعض رؤساء الفلسفة الإسلاميّة يذهب إلى أنّ كلّ ما حصل من الزّمان الممتدّ والحركة المتصلة فى الأعيان تدريجا فقد تمّ وجوده فى الماضى وهو شيء واحد متصل فى نفسه، وهو من حيث ذاته بحيث لو انفصل إلى الأجزاء كانت تلك الأجزاء غير قارّة الوجود حدوثا وبقاء.

فإذا عرضت قسمة وتعيّن بحسبها آن حصل قسمان : أحدهما ماض بذاته بالقياس إلى الآن والآخر مستقبل بذاته بالقياس إليه. وكلاهما من المتصل الوحدانىّ الّذي قد فرض وجوده فى الماضى. فهذا ما يعنى باتصال الماضى والمستقبل وليس فيه اتصال الموجود بالمعدوم أصلا.

أليس كلّ منهما جزءا من الّذي قد تمّ حصوله ولكن لا حصولا قارّا. وأمّا المستقبل الّذي هو فى كتم العدم الصّرف بعد ، فليس هو المستقبل الّذي يقال إنّه جزء من الزّمان المتصل الموجود. وكيف يكون ما لم يدخل إلى الوجود بوجه جزءا من الّذي قد تمّ حصول الوجود له بوجه. فإذن ، الزّمان الممتدّ الموجود إنّما هو ماض ووجوده ليس إلاّ فى الماضى.

ثمّ هذا الموجود فى الماضى إذا انفرض فيه آن انفصل إلى ماض ومستقبل بالقياس إلى ذلك الآن وجميع أجزائه متضايفة بحسب الحضور عند المبدأ. وهو من هو أدقّ تأمّلا وأوسع تعقّلا من هذا البعض منهم يرى أن مبدع الكلّ قد أوجد الزّمان المتصل من أزله إلى أبده.

وكذلك الحركة بل جملة مقارناتها دفعة واحدة فى وعاء الدّهر الّتي يلفمها لفما الوهم، وهى الدّفعة الواحدة الزّمانيّة الّتي إنّما تكون بحسب الاجتماع فى آن واحد ، بل الّتي هى وراء الأوقات (١٥٧) والأوهام. وإنّما هى بحسب أصل الحصول فى وعاء الدّهر وبحسب إحاطة المبدع الجاعل بالكلّ على نسبة واحدة غير متعدّدة ، وإيجاده للجميع بالإخراج من كتم اللّيس الصّرف فى الواقع على الاعتزال

٤١٠

من التّمادى واللاّتمادى إلى صقع الأيس الدّهرىّ لا فى زمان ولا فى آن. ثمّ المضىّ أو الاستقبال إنّما يكون للبعض بالقياس إلى البعض بعد فرض انفصال ذلك المتصل ، لا بحسب الوقوع فى وعاء الدّهر ولا بحسب الإضافة إلى الجاعل ، وهو بكلّ شيء محيط.

وعلى هذا المسلك أيضا ليس يلزم أن يتصل المعدوم بالموجود بحسب الواقع مطلقا ؛ لأنّ المستقبل غير موجود فى افق الزّمان مقيسا إلى الماضى وإلى الحال ، لا أنّه بحسب الوجود الاستقبالىّ معدوم فى وعاء الدّهر ولا أنّه يتخلّف عن الماضى من جهة الوقوع فى وعاء الدّهر ومن حيث الحضور عند الوجود الحقّ.

فإذن ، ليس الزّمان الممتدّ الموجود فى وعاء الدّهر هو الماضى بالنّسبة إلى الحال فقط ، بل هو المتصل المنحلّ إليه وإلى المستقبل أيضا بالقياس إلى الحال وإن لم يكن المستقبل موجودا فى افق الزّمان بعد. فليس يجب أن يكون المعدوم فى افق الزّمان بعد معدوما فى وعاء الدّهر أيضا بعد. بل إنّ ذلك متخيّل بالنّظر إلى طباع وعاء الدهر. فليس هناك ماض واستقبال. فهذا هو المذهب الوثيق ، ومعلّم المشّائيّة تامّ التّوغّل فى الانسباق إليه.

وأمّا شيخ فلاسفة الإسلام أبو عليّ بن سينا وكذا بعض من يعدّ من أترابه ، فمرّة يجنج إلى الأوّل ، وذلك فى العلوم الطبيعيّة ، ومرّة يلتزق بهذا المذهب الأخير الّذي هو سواء السّبيل. وذلك فى العلوم الإلهيّة. قال فى طبيعىّ الشفاء ، حيث عقد فصلا فى حلّ الشّكوك الموردة على كون الحركة واحدة :

«أمّا قول اولئك : «أن لا حركة إلاّ وهى منقسمة إلى ماض ومستقبل» ، فهو غير صحيح. فإنّك تعلم أنّ الحركة الّتي هى الكمال الأوّل ليست ممّا ينقسم إلى ماض ومستقبل ، بل هى دائما بين ماض ومستقبل. وأمّا الحركة الّتي هى بمعنى القطع فلا تحصل حركة وقطعا إلاّ فى زمان ماض ، ومع ذلك : فإن كانت الحركة تنقسم إلى ماض ومستقبل فإنّها تنقسم بالقوّة ؛ فإنّه إذا فرض فى الزّمان الّذي يطابقها آن عرض لها أن تنقسم، لا أنّ يكون حاصلا بالفعل. وبالجملة ، فإنّها إذا انقسمت فإنّما

٤١١

تنقسم بالفرض ، ولأجل انقسام الزّمان أو انقسام المسافة. وإنّما الشّرط فى وحدة الحركة هو أن لا يكون زمانها ومسافتها منقسمين بالفعل لا أن يكونا بحيث لا ينقسم لا بالفعل ولا بالقوّة ، بل ولا هذا شرط فى وحدة الكميّات وكثير من الأشياء.» (ص ٢٧٢).

وفى إلهىّ الشفاء وسائر كتبه الإلهيّة يبسط القول فى المسلك الآخر الّذي هو سبيل التّحصيل على الوجه الأوفى والنّظر الأصفى.

وبالجملة ، المضىّ والاستقبال وكذلك الحاليّة إنّما يصحّ للمتغيّرات بحسب الوقوع فى افق التّغيّر ، لا بحسب النّسبة إلى ما يتصوّر فيه التّغيّر بوجه من الوجوه أصلا. وليس للعقل ما دامت صحابة بينه وبين الوهم أن يكتنه ذلك. وأمّا نحو حضور جملة الزّمان مع جميع ما فى افق التّغيّر عند المبدأ الموجود الحقّ ـ جلّ ذكره ـ دائما على سبيل واحد ونسبة فليس للعقول الإمكانيّة المستأنسة بالزّمانيّات أن تعقل شانه كنها وتحيط بأمره خبرا ، وإنّما لها أن تتعرف بالبرهان أنّ ذلك ليس حضورا زمانيّا ، بل هو وراء ما يفقهه الجمهور من الحضور.

<٢٨> استيناف استنتاجيّ

ألست إذا تقرّر لديك أنّ الزّمان بهويّته الامتداديّة من الأزل إلى الأبد على قوانين الفلسفة ومن أزله إلى أبده على حصول الحكمة الحقيقيّة واحد شخصىّ موجود فى وعاء الدّهر هو لا تكثّر فيه إلاّ بحسب ما يعرض له من الانفصال فى الأوهام لأسباب مؤدّية إلى انقسامات وهميّة. وليس يستضرّ بذلك وحدانيّته وشخصيّته فى نفسه بحسب الأعيان. وكذلك الحركة.

ثمّ إذا عرضت قسمة وفرضت منهما أجزاء كانت تلك الأجزاء متعاقبة الحدوث والبقاء بحسب الوقوع فى افق التغيّر وبقياس البعض إلى البعض وباعتبار النّسبة إلى الآن. وهذا شأنها بحسب الوجود الّذي هو حصول الشّيء المتغيّر فى نفسه عند حدّ بعينه من حدود التّقضّى والتّجدّد. وما بحسب الثّبوت الرّابطىّ ، أعنى

٤١٢

وجودها لبارئها وحضورها عنده وبالنّسبة إلى المرتفع عن كدرة المادّة ، كضرب من ملائكة اللّه المقرّبين ، بل بحسب الوجود الّذي هو حصول الشّيء باعتبار الوقوع فيه فى وعاء الدّهر، فليس بينها تعاقب أصلا ولا بين الزّمانيّات مطلقا ، بل إنّها قاطبة سواسية الأقدام فى ذلك الحضور ومتضاهية الأحكام بحسب ذلك الحصول.

فقد تفقّهت أنّ الموجود الغير القارّ إنّما يكون لذاته ووجوده وصفا للاّقرار حدوثا وبقاء إذا لوحظ بحسب الوقوع فى افق التقضّى والتّجدّد بما هو متقضّ متجدّد. وأمّا إذا اعتبر بحسب الوقوع فى وعاء الدّهر والحضور عند مبدع الكلّ وبالنّسبة إلى المراتب المرتفعة عن الوقوع فى افق الزّمان ، فهو قارّ الذّات على أنّ لذاته ووجوده وصف اجتماع الأجزاء المفروضة فى الحضور والتّحقّق ، لا اجتماعا فى زمان أو آن ، بل فى أصل الوجود الّذي لا يعقل فيه امتداد فى زمان أو اختصاص بآن واحد. فقرار الذّات على هذا الوجه ليس مقابلا للاّقرار الذّات على ذلك الوجه ؛ فإنّ قرار الذّات قد اعتبر فيهما بمعنيين مختلفين ، فأوجب أحد المعنيين وسلب المعنى الآخر.

فإذن ، الموجود يغاير الغير القارّ فى نفسه على معنى أنّ أجزاءه المفروضة غير واقعة فى حدّ بعينه من حدود التّقضّى والتّجدّد قارّ فى وعاء الدّهر وعند الموجود الحقّ على معنى أنّ تلك الأجزاء متحققة حاضرة معا لا فى زمان ولا فى حدّ ، بل معيّنة خارجة عن الشّيء بحسب الاقتران فى حدّ ، والموجود الحقّ يعلم أنّ القارّ عنده وفى وعاء الدّهر على المعنى الخارج إدراكه عن طور طاقة الوهم غير قارّ فى افق التقضّى والتّجدّد على المعنى الّذي يتعرفه الجمهور.

وكذلك حال المرتسم فى المشاعر الذّهنيّة والخياليّة من الحقيقة الغير القارّة أو حدوث ارتسامه على التّدريج السّابق إلى ما فى نظر افق الزّمان وبحسب ذلك يوصف بعدم قرار الذّات من جهة الحدوث فقط دون البقاء.

وأمّا بالنّسبة إلى الحضرة القدسيّة والجنّة الفردوسيّة وبحسب الوقوع فى وعاء الدّهر فليس إلاّ قارّ الوجود ، حاضر الأجزاء بالمعنى الأدقّ من متصوّرات الجمهور.

فإذن ، قولهم : إنّ ما يتجدّد من الزّمان فإنّما يوجد على سبيل وجود الامور فى

٤١٣

الماضى ، يعنى به أنّه يتمّ وجوده التّدريجىّ فى نظر افق الزّمان ويبقى وجوده القارّ فى وعاء الدّهر ، فقط ، بمعنى أنّه لا يرتفع عن الواقع ، لا بمعنى البقاء الّذي يكون بحسب استمرار الوجود فى الزّمان وغير الزّمان إذا وصف بالمضىّ فإنّما يقصد أنّه متعيّن الوجود بأنّه فى شطر مخصوص أو حدّ معيّن من الزّمان معنى. والماضى بذاته إنّما هو زمان. وأمّا الحركة وسائر الأشياء فإنّما تتصف بالمضىّ بحسب مقارنة الزّمان ، لا بالزّمان.

<٢٩> استيناس تنظيريّ

أما أسمعناك : أنّهم يقولون : أنّ للمنتسب إلى الزّمان اسوة فى الأحكام بالمنتسب إلى أحكام المكان من سبب مضاهاتهما اللّذين هما المنسوب إليهما. فإذن التاث عليك وحدّثك فى الحكم بأنّ الزّمان قارّ الذّات والوجود باعتبار الحصول فى وعاء الدّهر (١٥٨) غير قارّ الذات والوجود باعتبار قطر امتداده الّذي يوافق وجود الزّمانيّات ، فاعتبر الأمرين أنّ الجسم المتصل بعد قارّ الذّات من حيث تجتمع أجزائه بحسب الوجود فى افق الزّمان ، فيحصل معا فى آن واحد وفى زمان واحد وإن لم يكن هى حاضرة باعتبار نسبة وجودها إلى وعاء المكان بحيث يصحّ أن يجتمع فى حدّ من حدوده.

فأجزاء الجسم المتمكن إذا كانت شاعرة بأنفسها مدركة لأمكنتها كانت طامة أنّ أمكنتها غير قارّة الذّات ، لكونها غير مقترنة بحسب الحصول فى أقطار الامتداد المكان الّذي هو وعاء جملة المكانيّات من حيث إنّ أجزاء المكان غير جائزة التّحقق فى حدّ واحد ، وإن كانت قارّة الذّات والحصول بحسب الوقوع فى قطر امتداد الزّمان الّذي هو افق وجود جملة الزّمان ولا شطط.

فقد اختلف الشأن بحسب اختلاف الموقعين ولا قرار الذّات من جهة سلب الماهيّة المكانيّة وقرار الذّات من جهة إثبات المعيّة الزّمانيّة ، فكذلك غير قارّ الوجود وفى قطر افق الزّمان قارّ الحصول فى وعاء الدهر. ولا شطط

٤١٤

فقد اختلف الطور بحسب اختلاف المشرعين ولا قرار الذّات فى الوجود من جهة سلب المعيّة المتعدّدة الزّمانيّة وقرار الذّات فى الوجود من جهة إثبات المعيّة الغير المتعددة الدّهريّة.

فإذن ، الزّمان سبيله بحسب الزّمان سبيله بحسب وجود فى نفسه فى وعاء الدهر ، لا فى زمان ولا فى آن سبيل المكان بحسب وجود فى نفسه لا فى مكان ولا فى حدّ. والحركة القطعيّة بما فيها وما معها من الأشياء الزّمانيّة بحسب وجودها فى مجموع زمان ما ، لا فى شيء من أجزائه أو حدوده ، كالمتمكن بحسب الوجود فى مجموع مكان ما ، لا فى جزء من أجزائه أو حدّ من حدوده ، والآنات بما يتخصص بها من الآنيّات ، كحدود المكان بما ينطبق عليها من حدود المتمكن.

<٣٠> استنارة عقليّة

أما كان قد صار عندك من المستبين أنّ المعلول بحسب نفسه ليس إلاّ فى بقعة الجواز المحض. ولا فعليّة ولا وجود لذاته إلاّ بجعل الجاعل ، وإنّه قد يكون بحيث لا يتعلّق وجوده بزمان أو آن ، وقد يتعيّن بأن يكون وجوده فى آن أو فى زمان أو فى جميع الأزمنة. والّذي لا يتعلق وجوده بزمان أو آن يجعله الجاعل فى وعاء الدّهر لا فى زمان ولا فى آن. ويمتنع ارتفاعه بعد الوجود فى وعاء الدّهر ، لا بالذات ، بل بسبب إيجاب الجاعل. فله بقاء دهرىّ غير زمانىّ لا يعقل فيه استمرار ولا لا استمرار ، بل إنّما معناه عدم بطلان الوجود الواقع فى وعاء الدّهر.

وإنّما وقوعه فى وعاء الدّهر بجعل الجاعل البتة ، فيكون بقاؤه الدّهرىّ الغير المتعدّد لا محالة بالجعل ، ويستحيل انبتات الجعل فى وعاء الدّهر ، وإلاّ لزم امتداد فى وعاء الدهر ، وهو محال.

فإذن ، يكون للمعلولات الدّهريّة بقاء دهرىّ غير زمانىّ لا ينبتّ فى وعاء الدّهر. وذلك مستفاد من تلقاء الجاعل حيث يجعلها جعلا غير منبتّ فى وعاء الدّهر بتّة.

٤١٥

وأمّا ما يتعلق وجوده بالزّمان : فإن تعيّن بالوقوع فى آن فلا يكون له بقاء زمانىّ وإن تعيّن بأنّ حصوله فى زمان أو فى جميع الأزمنة ، فيكون لا محالة له بقاء زمانىّ مستمرّ فى جميع الأزمنة ، وهو الأبدىّ أبديّة زمانيّة ، أو متخصّص بزمان ما منقطع فيما بعده من الأزمنة ، وهو الحادث المنبتّ الوجود.

ثمّ أما أنت قد تحصّلت أنّ طباع الجواز وهو المحوج إلى الجاعل لا ينسلخ عنه المعلول فى حال ما من الأحوال أصلا ، فالبقاء الزّمانىّ إنّما يتصوّر باستمرار الجعل على معنى أنّ الجاعل يجعل ذات المعلول فى جملة زمان البقاء الّذي هو متصل واحد شخصىّ. فإذا انحلّ ذلك الزّمان إلى أجزاء وانفرضت فيه حدود حكم العقل بوجوب استناد المعلول الباقى فى كلّ من تلك الأجزاء والحدود إلى ذلك الجعل بعينه ، فيكون ذلك الجعل فى جميع تلك الأجزاء والحدود واحدا بعينه بحسب الذّات متكثّرا بحسب النّسبة إلى تلك الأزمنة والآنات.

فإذن ، يجب أن يتصل إفاضة الجاعل آنا فآنا حتّى يتصوّر استمرار بقاء المعلول. فإذا انقطع اتصال الإفاضة من تلقاء الجاعل بطل بقاء ذات المعلول ، لا بمعنى أنّ فعليّته الحاصلة فى زمان البقاء قد ارتفعت وبطلت ، بل بمعنى أن الجاعل لم يفعله فيما بعد زمان البقاء ، فلم يحدث له تقرّر بعد ذلك الزّمان. فرجع إلى بطلانه الأزلىّ. فالجاعل مهما نزع ذات المعلول الزّمانىّ من كتم اللّيس الأزلىّ فى زمان ما. فقد بطل بطلانه وحدث تقرّره فى ذلك الزّمان.

فإذا ودّعه على البطلان الأزلىّ والليس الطبيعىّ فيما بعد ذلك الزّمان انبتّ بقاؤه وانقطع استمراره ولم يتجدّد له تقرّر بعد زمان البقاء. فإذن ، ينقطع تجدّد التّقرّر ، لا أنّه يرتفع التقرّر المتجدّد الّذي قد تمّ تجدّده وحصوله. فعند انتهاء زمان البقاء ينتهى الاقتضاء الموجب تجدّد تقرّر المعلول ، فيصير المعلول باطل الذّات ؛ لأن تقرّره فى الزّمان الثّاني لم يتجدّد ، لعدم تحقّق ما يجب معه اقتضاء الجاعل.

فإذن ، يكون العدم بعد زمان البقاء كالعدم الأزلىّ الّذي كان للمعلول أوّلا قبل زمان الحدوث ، وسبيله سبيله ، حيث يسنده العقل إلى عدم آخر هو عدم ما يوجب

٤١٦

اقتضاء الوجود. وهكذا إلى حيث يتمادى لحاظ العقل. وليس يلزم من ذلك أن يتمادى الأمر إلى لا نهاية بالفعل ، ولا أن يكون فى العدم بما هو عدم كثرة متحققة أصلا ، على ما حقّقناه لك فيما سلف.

وأيضا قد كنت استوضحت من قبل ، فاتّضح لك أنّ الضّرورة بحسب المحمول لا يمكن أن تبطل بعد الحصول أبدا وإن كانت هى وجوبا بالغير. وإنّما سبيل بطلانها أن لا تتحقق أزلا وأبدا أصلا ؛ فإنّها إن تحققت وقتا ما من الأوقات فلا ترتفع بعد ذلك الوقت على معنى أن يتجدد ارتفاعه فى ذلك الوقت.

أليس الوجود الحاصل فى وقت بعينه دون سائر الأوقات إن ارتفع بعد الحصول على أن يتجدّد ارتفاعه. فإمّا أن يرتفع فى ذلك الوقت بعينه وإمّا أن يرتفع فى وقت آخر بعد ذلك الوقت. والأوّل محال ، لأنّه يستلزم أن يجتمع الوجود والعدم فى ذلك الوقت بعينه ، فيكون فيه اقتران المتناقضين. والثّاني غير معقول فى نفسه ؛ لأنّه لم يكن فى وقت آخر غير ذلك الوقت حاصلا أصلا حتى يتصوّر أن يتجدّد ارتفاعه فيه.

فإذن ، قد انصرح لديك من سبيلين أنّه كما ليس يتصوّر عدم طار فى وعاء الدّهر فكذلك لا يصحّ عدم طار فى افق الزّمان. ولكنّ الجهة فى ذلك مختلفة ؛ فإنّ العدم الطارئ إنّما لا يعقل فى وعاء الدّهر ، لعدم انقطاع الوجود الحاصل فيه بتّة. وإنّما لا يصحّ فى افق الزّمان ؛ لأنّ العدم الطّارئ فيما يعرضه انقطاع الوجود فى افق الزّمان ، مرجعه إلى عدم تحقّق الوجود فى زمان ذلك العدم. وهو عدم أزليّ مستند إلى عدم علّة الوجود فى ذلك الجزء من الزّمان ، لا إذا رفع الوجود فى زمان الوجود ، فيشتمل على التّناقض.

فإذن ، الوجود المتحقق فى افق الزّمان لا يرتفع فى وعاء الدّهر ولا يحدث ارتفاعه فى افق الزّمان ، بل إنّما لا يحدث فيضان التقرّر والوجود عن الجاعل فيما بعد ذلك من الأزمنة، وبينهما فرقان مبين.

٤١٧

<٣١> تذييل فيه إعضال وتحصيل

كأنّك الآن تأهّبت أن تستيقن أنّه لمّا كان الوجود من حيث هو وجود ليس يتصف بالامتداد واللاّامتداد (١٥٩) بل إنّما من حيث مقارنة الزّمان وطرفه. وكذلك العدم ، فلا يمكن ارتفاع الموجود الزّمانىّ المنقطع الوجود عن وعاء الدّهر ؛ لأنّه إنّما ينقطع من حيث مقارنته لزمان معيّن دون غيره ، فلا يكون ممتدّا مستمرّا فى غير ذلك الزّمان.

فهو ، إذن ، إنّما يرتفع من حيث الاستمرار ، فلا يستمرّ فى الأزمنة الّتي هى بعد زمان وجوده. فليس هو يرتفع عن الواقع من حيث هو وجود فى الواقع ، بل إنّما يرتفع من حيث هو مستمرّ. وإنّما كان يرتفع عن الواقع رأسا لو كان يرتفع عن زمان الوجود أيضا ، وهو محال ؛ وإلاّ لزم التّناقض. فإذن ، انقطاع الوجود لا يتصوّر إلاّ للحوادث الزّمانيّة وبحسب افق الزّمان.

وأمّا العدم ، فهو يرتفع عن وعاء الدّهر. وذلك لأنّ الجائزات الغير الزّمانيّة كانت باطلة معدومة فى الواقع عدما هو ليس صرف غير ممتدّ وغير غير ممتدّ ؛ ففعلها جود الجاعل وأبدعها صنعه. فارتفع ذلك البطلان والعدم عن الواقع بالمرّة إذا لم يكن ذلك العدم زمانيّا حتّى يصحّ أن يقال : إنّه لم يرتفع عن زمانه ، بل إنّما هو مرتفع فى زمان آخر بعد ذلك الزّمان. وذلك ليس ارتفاعها ذلك عن الواقع ولا هو انقطاع فى وعاء الدّهر وإن كان ارتفاعا عن بعض الأزمنة وانقطاعا فى افق الزّمان ، على قياس ما تلى عليك فى وجود الزّمانىّ ، بل كان عدما صريحا وبطلانا ساذجا غير متعلق بالزّمان أصلا ، بل هو عدم الزّمان والزّمانيّات وجملة الجائزات جميعا وغير متصوّر فيه الامتداد واللاّامتداد بوجه من الوجوه.

فلا يعقل حصول التقرّر والوجود الّذي لا يتصوّر فيه أن يتعلق بزمان أو آن أو بجملة الأزمنة ولا أن يكون مستمرّا استمرارا زمانيّا أو دفعيّا دفعيّة آنيّة فى الواقع وفى وعاء الدّهر للمعلولات الدّهريّة الغير الزّمانيّة إلاّ بأن يرتفع ذلك البطلان

٤١٨

والعدم عن الواقع بالمرّة ، أى : عن نفس الأمر رأسا. وإلاّ لزم أن يكون الشّيء الغير الزّمانىّ باطلا ومتقرّرا معدوما موجودا فى وعاء الدّهر معا معيّة دهريّة ، وهو مستحيل وفطرىّ الاستحالة. وكذلك سبيل القول فى غير الحوادث الزّمانيّة من الزّمانيّات الموجودة.

وأمّا الحوادث الزّمانيّة فإنّ فيها إشكالا عسرا صعبا قد عضّل الأمر تعضيلا عظيما وعقّد البحث تعقيدا عويصا. وهو : أنّه يلزم من ذلك التّبيان أن يكون حدوثها بارتفاع عدمها عن الواقع رأسا ، وهو معنى ارتفاع العدم عن وعاء الدّهر ، مع أنّ الدّليل القائم على أنّ الوجود الزّمانىّ المنقطع فى افق الزّمان لا يرتفع عن الواقع رأسا ، لعدم ارتفاعه عن زمانه ، بل إنّما عن الزّمان الّذي هو بعد ذلك الزّمان. فقد ناهض بعينه هناك ؛ فإنّ الحادث الزّمانىّ إن ارتفع عدم عن الزّمان الّذي هو قبل زمان حدوثه لزم وجوده فى ذلك الزّمان الّذي هو زمان العدم ، فيلزم التّناقض فى القول واجتماع المتناقضين فى ذلك الزّمان وإن لم يرتفع عدمه عن ذلك الزّمان ، بل إنّما عن زمان الوجود فقط ، فلم يكن مرتفعا عن الواقع وفى وعاء الدّهر ، بل إنّما ينقطع استمراره فى افق الزّمان ، كما الوجود من غير فرق بينهما.

فحقيق بنا أن نبسط أيدي عقولنا ، سائلين من ربّنا العليم الحكيم فكاك الأمر من هذه العقدة القرّاعة ، مبتهلين إليه فى المسألة ، ملحّين فى الضّراعة. فنقول وباللّه الاعتصام :

ألم يقرع سمعك أنّ تحقّق الطبيعة يكون بتحقّق فرد ما من أفراد تلك الطبيعة ، وارتفاعها لا يكون إلاّ بارتفاع جميع الأفراد ، وأنّ العدم هو رفع تحقّق طبيعة الوجود ولا تحقّق طبيعة ذلك الرّفع ؛ فاستشعر أنّه إذا حصل الوجود للحادث فى زمان ما بحسب الواقع تحقّق مطلق الوجود له فى الواقع.

فبطل ، إذن ، صدق عدمه فى الواقع ، وهو رفع طبيعة وجوده فى وعاء الدّهر وإن صدق عدمه فى زمان ما ، وهو طبيعة الوجود عنه فى ذلك الزّمان ، وهو زمان قبل الحدوث.

٤١٩

فقد دريت أنّ طبيعة الوجود فى وعاء الدّهر أعمّ تناولا من الوجود فى الواقع باعتبار الوقوع فى ذلك الزّمان بعينه أو الوجود فى الواقع بحسب الوقوع فى زمان آخر والوجود فى الواقع بحسب الحصول لا فى زمان وفى آن. ويكفى لتحقّق الطبيعة تحقّق فرد ما.

فإذن ، العدم فى زمان ما بخصوصه فقط ليس عدما دهريّا ولا هو مستلزم له ، لجواز تحقّق الوجود فى وعاء الدّهر بحسب الوقوع فى زمان آخر. فهو أعمّ منه بحسب التّحقّق. بل إنّ العدم فى جميع الأزمنة أيضا غير مستلزم للعدم فى وعاء الدّهر ، لجواز أن يكون الشّيء غير زمانىّ ، فيوجد فى وعاء الدّهر ولا يوجد فى شيء من الأزمنة ، بخصوصه ولا لا بخصوصه ولا فى جميع الأزمنة. والمقابل للوجود فى وعاء الدّهر هو العدم فى وعاء الدّهر ، لا العدم فى زمان ما بخصوصه أو لا بخصوصه أو فى جميع الأزمنة.

فإذا حقّقت ذلك ، فاعلم أنّ كلّ حادث زمانىّ فهو حادث دهرىّ أيضا ، وأنّ له أنحاء الحدوث الثّلاثة جميعا : الحدوث الذّاتىّ والحدوث الدّهرىّ والحدوث الزّمانىّ ؛ وله بحسب الحدوث الدّهرىّ المسبوقيّة بالعدم فى وعاء الدّهر ، وبحسب الحدوث الزّمانىّ المسبوقيّة بالعدم الزّمانىّ ؛ فإنّ لعدمه الّذي هو قبل زمان الحدوث اعتبارين : اعتبار أنّه عدم ذلك الحادث فى الواقع بما هو عدمه من غير أن يلحظ له امتداد أولا امتداد ، وهو بهذا الاعتبار عدم فى وعاء الدّهر ؛ واعتبار أنّه مقارن لزمان قبل زمان الحدوث ؛ لأنّ ذلك الحادث زمانىّ متخصص الوجود بزمان ما ، فيكون لا محالة غير متحقق الوجود قبل زمان الحدوث ، فيكون عدمه أيضا بحسب ذلك زمانيّا واقعا فى الزّمان القبل. وهو بهذا الاعتبار عدم فى افق الزّمان. وكذلك وجوده الحادث يجرى فيه الاعتباران بحسب اللّحاظين : لحاظ سنخ طبيعة الوجود بما هو وجود فى الواقع ولحاظ أنّه عرض له أن يتخصص بزمان ويمتدّ بامتداده.

فإذن ، وجود الحادث الزّمانىّ فى زمان وجوده يستلزم بطلان عدمه فى وعاء الدّهر من حيث حصوله فيه ، إذ تقرّر أحد المتقابلين يستلزم بطلان الآخر

٤٢٠