مصنّفات ميرداماد

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]

مصنّفات ميرداماد

المؤلف:

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]


المحقق: عبدالله نوراني
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: منشورات مطبعة وزارة الإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-528-006-0
الصفحات: ٥٢٧
الجزء ١ الجزء ٢

يكون كذلك. فإذن ، مفارق المادّة مفارقة مطلقة ، كما أنّه مفارق للمكان فكذلك هو مفارق للزّمان.

وعلّة الزّمان لا يعقل أن تكون شيئا زمانيّا يوجد فى زمان ، فكيف مبدأ الكلّ وجاعل الجميع أفليس الزّمان مقدار حركة الفلك الأقصى وعددها ، وهو يحدث عنها ، وهى علّة له أو محلّه.

فهى بما هى حركة الجرم الأقصى ، أى بطبيعتها المطلقة ، متقدّمة على الزّمان وإن كانت بحسب شخصيّتها وتقدّرها بالزّمان الحالّ فيها متعلقة به ومنطبقة عليه. فإذن ، الحركة الّتي هى محلّ الزّمان بحسب سنخ طبيعتها متقدّمة الوجود على الزّمان. فليست هى زمانيّة ، بمعنى أن يكون تقرّرها وحصولها عن جاعلها فى زمان وإن كانت زمانيّة ، بمعنى أنّها متقدّرة بحسب امتدادها واتّصالها بالزّمان ومنطبقة عليه.

وأمّا سائر الحركات فإنّها زمانيّة بالمعنيين. وقد أوضح ذلك معلّم الفلسفة المشّائيّة أرسطاليس ومن اقتدى به من رؤساء فلاسفة الإسلام.

فإذا لم يكن وجود تلك الحركة مشمول الزّمان وواقعا فيه (١٣٧) ومن البيّن أنّ ما يحدث عن الشّيء لا يشمله ، فكيف يكون جاعل الزّمان ومبدعه وموجده ومحدثه ، بل جاعل ما يحدث هو عنه ، بل جاعل جميع الحقائق والأثبات زمانيّا. ومن الفطريّات أنّ جاعل الشّيء ومحدثه لا يكون مشمولا له ، فضلا عن مبدأ الكلّ.

فإذن ، سطح نور عالم القدس وحان حين أن نقول : سبحانك اللّهمّ ، بارئ العقول والنّفوس ، تقدّست وتعاليت ، كيف تكون مكانيّا أو زمانيّا؟ وأنت كوّنت الكون والمكان وأبدعت الحركة والزّمان ، أنّى يكون لك كيف أو كم أو أين أو متى؟ وأنت كيّفت الكيف وكمّمت الكم وأيّنت الأين ومتّيت المتى ؛ عزّك فوق أعلى وصف الواصفين ، ومجدك وراء أبلغ ثناء العارفين.

٣٤١

<٦> استبصار

ألست إذن قد تأهّبت للحكم بأنّ الموجود الّذي لا يعتوره المكان والزّمان ، كما أنّه لا يوجد فى المكان وإنّما يوجد معه معيّة منشأة للفيئيّة لا كمعيّة المكانيّات ، بل على معنى أنّه متقرّر موجود فى نفس الأمر ، كما المكان موجود فى نفس الأمر ، فكذلك ليس هو يوجد فى الزّمان ، وإنّما يوجد مع الزّمان معيّة خارجة عن طور اللافيئيّة مرتفعة عن استلزامها ليست هى كمعيّة الزّمانيّات ، بل معناها أنّ ذلك الموجود والزّمان يجمعهما التقرّر والوجود فى نفس الأمر. فهذه المعيّة غير متقدّرة ولا داخلة فى جنس الامتداد والدّفعيّة.

فمن المستبين عندك أنّ الكائن فى شيء يلزمه أن يختصّ بذلك الشّيء على الانطباق عليه ، ولا كذلك الموجود مع شيء. فلست أظنّ أن تكون بعد ما تلى عليك ممّن لا يفرّق بين المعنيين.

فالامر الزّمانىّ هو ما يختصّ وقوعه بالانطباق على جميع الأزمنة أو على زمان ما بأحد من الوجهين اللّذين قد أومأنا إليهما أو على آن من الآنات. وما ليس زمانىّ ، فإنّه لا يكون كذلك ، بل إنّما يوجد مع الزّمان ، لا كمعيّة الزّمانيّات ، والجاعل يحيط بالزّمان كلّه دفعة.

وأمّا الزّمان ، لكونه متغيّرا سيّالا بذاته ، فلا يصحّ أن يقال : إنّه فيه ، ولا أنّه معه معيّة زمانيّة ، إلاّ لما يتغيّر بتغيّره ويسيل بسيلانه ، ويمكن أن يكون له ابتداء وانتهاء.

وأمّا ما هو خارج عن هذه فإنّما يصحّ أن يقال : إنّه يوجد مع الزّمان المعيّة التى هى إضافة عارضة بحسب شمول الوجود لهما. وربما وجب أن يكون له اقتران به طبيعىّ. فيتحقق بينهما تضايف بالفعل ، لا بالعرض. وذلك بأن يكون حاصلا بمحلّه ، كالفلك الأقصى أو جاعلا لذاته وفاعلا لوجوده ، وهو المبدأ الفعّال.

ومن الكلمات المحصّلة فى ذلك قول رئيس فلاسفة الإسلام أبى عليّ بن سينا فى كتبه : «وليس كلّ ما يوجد مع الزّمان فهو فيه ، فإنّا موجودون مع البرّة الواحدة

٣٤٢

ولسنا فيها».

وبالجملة ، إنّما يكون الشّيء فى الزّمان على الاصول الّتي سلفت بأن يكون له معنى المتقدّم والمتأخّر ، وكلّ ما له فى ذاته معنى المتقدّم والمتأخّر فهو إمّا حركة وإمّا ذو حركة. أمّا الحركة فذلك لها من تلقاء جوهرها ، وأمّا المتحرّك فذلك له من تلقاء الحركة.

وأمّا الامور الّتي لا تقدّم فيها ولا تأخّر بوجه ، فإنّها ليست فى زمان وإن كانت مع الزّمان ، كالعالم ؛ فإنّه مع الخردلة وليس فى الخردلة.

وإن كان شيء له من جهة ما تقدّم وتأخّر لا من جهة ما هو ذات وجوهر فهو من جهة ما لا يقبل تقدّما وتأخّرا ليس فى زمان. وهو من الجهة الاخرى فى الزّمان. فإن كان ذلك الشّيء حادثا زمانيّا يتعلّق تقرّره ووجوده بزمان بعينه أو آن بعينه ويتوقّف على انقضاء حركة وزمان ، كالحوادث المرتبطة بالأزمنة والآنات ، كان هو من جهة ذلك التّعلّق والتّوقّف فى زمان أو فى آن ومن حيث ذاته المتقرّرة ، لا بلحاظ تلك الجهة مع الزّمان.

فإذن ، الشّيء الزّمانىّ إمّا الحركة بذاتها أو المتحرّك من حيث له الحركة أو المتوقف على الحركة من حيث هو متوقّف على الحركة ؛ فإنّ تقرّر الحادث الزّمانىّ الثّابت الذّات ، كجسم ما معيّن مثلا ، بحسب الحدوث والبقاء جميعا ممّا يختصّ بالوقوع فى زمان ما بعينه ، وليس هو بحركة ولا بذي حركة. اللّهمّ إلاّ أن يعنى بالحركة وذى الحركة ما هو أعمّ منها وممّا يكون على تلك الشّاكلة من جهة توقّفه على الحركة (١).

فإذن ، الأشياء الغير الزّمانيّة هى ما لا يكون حركة ولا متحرّكا ولا متوقّفا فى شيء من الحدوث والبقاء على الحركة أصلا. وما دون ذلك ينسب إلى الزّمان أو إلى شيء من أطرافها بالانطباق والعينيّة والحركة الّتي ينشأ منها الزّمان وهى محلّه من حيث سنخ طبيعتها وجوهر ذاتها لا توصف بالفيئيّة بالقياس إلى الزّمان ،

__________________

(١). هذا تعريض على الشيخ الرئيس ؛ فإنّه ثنّى الزمانيّات مع أنّها ثلاثة.

٣٤٣

بل بحسب تقدّرها وتشخّصها فقط ، بخلاف سائر الحركات. إنّ هذا لهو القسطاس فى زنة الحكمة وتسوية الفلسفة فى كنه هذه المسألة ، فاتّخذه ليبصّرك ميزانا.

<٧>مصباح ملكوتيّ

فلك الآن أن تتعرّف خواصّ أوعية التقرّر والوجود وتستبين لديك من طريق عالم الملك سبيل عالم الملكوت ، وتتبيّن أنّ وعاء الوجود قد يكون الزّمان وقد يكون الدّهر أو السّرمد. فتقول : إذا انتسب متغيّر بحسب تعيّنه أو بحسب نسبته إلى غيره إلى متغيّر بالتّطابق على أن يصلح المنسوب لأن يتعرّض فيه بنفسه أو باعتبار تجدّدات النّسب اللاّحقة أجزاء بأجزاء ما ينفرض فى المنسوب إليه فينطبق ما انفرض فيه على ما هو بإزائه فى المنسوب إليه ، حصل هناك متّصف بالامتداد ، فإن كان المنسوب إليه من المنطقتين بحيث يكون فى طباعه اللاّانقسام اتّصف ذلك الكون باللاّامتداد ، ويعبّر عن تلك النّسبة فى الصّورتين بالفيئيّة. فطرف هذا الكون هو افق الزّمان والكائنات هذا النّحو من الكون هى الزّمانيّات.

وأمّا النّسبة إلى الزّمان والآن بحسب المعيّة فى الحصول والتّحقّق ، لا على سبيل الانطباق من جهة أنّه لا يعقل من جانب المنسوب إلاّ الثّبات الصّرف للذّات المتجوهرة بذاتها أو بعلّة من غير تغيّر وتجدّد أصلا ، فإنّما يكون بحسبها حصول صرف دهرىّ غير معقول فيه الامتداد ولا مقابله.

وطرف هذا الحصول هو وعاء الدّهر ، ولا يتصوّر هناك امتداد واستمرار أصلا ، ولا اللاّامتداد ، ولا اللاّاستمرار الّذي بإزاء ذلك ، لا فى نفس الكون والنّسبة ولا فى المنسوب ، بل إنّما الامتداد واللاّامتداد فى المنسوب إليه فقط.

والدّهرىّ معنى معقول من لحاظ إثبات الثّابت المحض مع الزّمان كلّه. فلا يختلف بحسبه نسبة الثّابت إلى أجزاء الزّمان المنسوب إليه وحدوده بالتّقضّى والتّجدّد ، بل يكون الكلّ والأجزاء جميعها بالقياس إليه على حدّ واحد من الحصول والمعيّة (١٣٨) وإن كانت تلك الأجزاء والحدود بالقياس إلى أنفسها متقدّمة

٣٤٤

ومتأخّرة ومتقضّية ومتجدّدة فى افق الزّمان.

ثمّ إنّ النّسبة ما هو ثابت الذّات إلى ما هو غير متغيّرات الذّات بإضافة المعيّة فى التحقّق والحصول لا يكون بحسبها إلاّ محض الكون السّرمديّ المتقدّس عن الامتداد ومقابله فى نفس الكون والنّسبة وفى المنتسبين جميعا. وطرق هذا النّوع من الحصول هو عرش السّرمد.

ولمّا كان هو والدّهر متشاركين (١) فى أنّه ليس يعقل امتداد ولا لا امتداد فى الوجود منهما وإن كان بعض الموجود [فى الدّهر ممتدّا فى نفسه ، لا فى الحصول فيه دون الموجود] فى السّرمد ؛ فإنّه لا يكون إلاّ المفارق الخارج عن جنس الامتداد واللاّامتداد ، لم يميّز بينهما فى العبارة. ولذلك ما إنّه يقال : وعاء الدّهر والسّرمد.

والّذي يشبه أن يكون الحقّ فى عقد الاصطلاح عليه هو أن يخصّ السّرمد والوجود السّرمديّ بالقيّوم الواجب الذّات ـ جلّ ذكره ـ إذ ما سواه مسبوق بالبطلان وإن لم يكن مسبوقا بامتداد البطلان أو لا امتداده. وحقّ التقرّر السّرمديّ أن لا يكون مسبوقا بأصل البطلان الخارج عن الامتداد واللاّامتداد ، كما لا يكون مسبوقا بامتداده ولا امتداده. فالجواهر المفارقة المحضة من الذّوات الجوازيّة والحقائق الإمكانيّة إنّما هى فى وعاء الدّهر ، لا على عرش السّرمد المحض بالملك الصّمد ـ تعالى ذكره وتقدّس مجده.

وبالجملة ، الدّهر نوع من أوعية التقرّر والوجود ومحيط بالزّمان كلّه ؛ لأنّ معيّة الثّابت المحض بما هو ثابت وشيء من أبعاض الزّمان وإن كان معنى غير النّسبة إلى الزّمان بالفيئيّة. لكنّها بعينها معيّة ذلك الثّابت وجملة الزّمان ؛ إذ جملة الزّمان وأبعاضه وحدوده لا تختلف انقضاء وحصولا بالقياس إلى الثّابت المحض أصلا.

فإذن ، بعض الزّمان وكلّه يكونان معا بحسب الحصول فى وعاء الدّهر ، وإلاّ لكان فى وعاء الدّهر انقضاءات وتجدّدات ، فيلزم أن يكون فيه امتداد ، فينقلب وعاء الدّهر افق الزّمان ، وذلك خلف محال.

__________________

(١). وهذا معنى قولهم : إنّ الدّهر فى نفسه من السّرمد وبالقياس إلى الزّمان دهر ؛ سمع.

٣٤٥

وأمّا السّرمد ، فهو نوع آخر أرفع وأقدس من الدّهر أيضا ومحيط به ، سواء خصّصناه بالقيّوم الواجب بالذّات ـ عزّ شأنه ـ كما أدّى إليه صراط نضج الحكمة الحقّة الحقيقيّة ، أو سوّغنا أن ينسب إليه جملة المفارقات المحضة من الجائزات المجعولة والممكنات المعلولة ، كما هو سبيل الفلسفة المشّائيّة.

والفلاسفة النّجباء المحصّلون حاولوا التّعبير عن هذه المعانى المحصّلة بألفاظ ملخّصة ، فقالوا : نسبة المتغيّر إلى المتغير زمان ، ونسبة الثّابت إلى المتغيّر دهر ، ونسبة الثّابت إلى الثّابت سرمد ، ويعمّها الدّوام المطلق ، والدّهر وعاء الزّمان.

<٨> وهم وتزييف

أسمعت مثير فتنة التّشكيك يقلّد ضعفاء التعقّل ويقول ردّا على الفلاسفة ؛ إنّ هذا التّهويل خال عن التّحصيل ؛ لأنّ المفهوم من «كان» و «يكون» لو كان أمرا موجودا فى الأعيان لكان إمّا أن يكون قارّ الذّات ، فيلزم أن لا يوجد فى المتغيّرات ، وإمّا أن يكون غير قارّ الذّات ، فيستحيل وجوده فى الثّابت. وهذا التّقسيم لا يندفع بالعبارات.

وليس يسع فطنته أن يتفطن أنّ بعض الحقائق لا يدخل فى جنس قرار الذّات ولا قرار الذّات ، لخروجه عن جنس القسمة واللاّقسمة ، بل إنّما يكون المتقرّر المحض ، لا منقسم حصول التّقرّر أو غير منقسم حصول التّقرّر ، إذ المعدوم المحض لا منقسم وقوع العدم أو غير منقسم حصول التقرّر ؛ وأنّه ممّا لم يرتب فيه ذو قريحة أنّ وقوع الحركة التّوسّطيّة أو القطعيّة مع الزّمان ليس كوقوع الجسم القارّ الذّات الثّابت الوجوب بما هو ثابت الذّات والوجود مع الزّمان ، ولا كوقوع القارّ الذّات الثّابت الوجود مع القارّ الذّات الثّابت الوجود ، كالسّماء مع الأرض ، بما هما قارّان ثابتان. وذلك الفرق معقول محصّل.

فالموجود إذا كان له هويّة اتصاليّة غير قارّة بحسب نفس ذاته ، كالحركة القطعيّة أو بحسب اختلاف نسبته إلى امور غير ذاته بالاقتضاء والحصول ، لا بحسب جوهر

٣٤٦

ذاته ، كالحركة التّوسّطيّة كان لا محالة مشتملا على متقدم ومتأخّر لا يجتمعان ويصحّ أن يتصوّر مرور ممتدّ بهما ، فله بهذا الاعتبار مقدار غير قارّ هو الزّمان وينطبق تلك الهويّة على ذلك المقدار ويكون جزؤها المتقدّم مطابقا لزمان متقدّم وجزؤها المتأخّر مطابقا لزمان متأخّر. ومثل هذا الوجود يسمّى متغيّرا تدريجيّا ، ولا يوجد بدون الانطباق على الزّمان ، والتّغيّرات الدّفعيّة إنّما تحدث فى آن هو طرف الزّمان. فهى أيضا لا توجد بدونه.

وأمّا الامور الثّابتة الّتي لا تغيّر فيها أصلا ، لا تدريجيّا ولا دفعيّا ، فهى وإن كانت مع الزّمان العارض للمتغيّرات ، لا أنّها مستغنية فى حدّ نفسها عن الزّمان والآن بحيث إذا نظر إلى ذواتها أمكن أن تكون موجودا قبلا بلا زمان وآن.

فإذن ، إذا نسب متغيّر إلى متغيّر بالمعيّة أو القبليّة فليس بدّ هناك من زمان أو آن فى كلا الجانبين (١). وإذا نسب ثابت إلى متغيّر فلا بدّ من الزّمان فى أحد جانبيه دون الآخر. وإذا نسب ثابت إلى ثابت بالمعيّة كان الجانبان مستغنيين عن الزّمان والآن وإن كانا مقارنين لهما ، فهذا حدّ سبيل الفلسفة.

وأمّا محطّ رحل الحكمة فهو أنّه إذا نسب ثابت إلى ثابت بالقبليّة كان هناك انفصال دهرىّ غير زمانىّ وكان الجانبان مستغنيين عن الزّمان والآن وليسا بمقارنين لهما أصلا.

وبالجملة ، فهذه المعانى حقائق محصّلة متفاوتة قد عبّر عنها بعبارات مختلفة تنبيها على تفاوتها. وإذا تؤمّل فيها تأمّلا غائرا فى عمق التّحصيل انمحق ما اختلقه أبو البركات البغدادىّ ، من أنّ الزّمان مقدار الوجود وأنّ الباقى لا يتصوّر بقاؤه إلاّ فى زمان ، وما لا يكون حصوله فى الزّمان ويكون باقيا لا بدّ من أن يكون لبقائه مقدار من الزّمان.

ولم يستبن له أنّ الزّمان إنّما هو مقدار لهيئة غير قارّة. وكيف يتهيّأ لذى طباع

__________________

(١). أى : من وقوع الامتداد أو اللاّامتداد فى كلا الجانبين بحسب انطباق أحد المنسوبين على الآخر الّذي هو زمان أو آن أو بحسب انطباق المنسوبين جميعا على الشيء ثالث مغاير لهما هو لزمان أو آن. منه مدّ ظلّه.

٣٤٧

تعقّلي أن يتصوّر أنّ الغير القارّ بالذّات يكون مقدارا لطبيعة ثابتة.

فإذن ، قد انصرح لك أنّ وجود الزّمانيّات فى افق الزّمان ووجود الزّمان ومفارقات المادّة فى وعاء الدّهر ، لا فى الزّمان. والمبدأ القيّوم الواجب بالذّات سرمدىّ الوجود ومحيط بالجميع.

فإذن ، الموجودات : منها ما هو (١٣٩) زمانىّ الوجود ، ومنها ما هو آنيّ الوجود ، ومنها ما هو دهرىّ الوجود ، ومنها من هو سرمدىّ الوجود ، وهو بكلّ شيء محيط.

<٩> بسط وتشييد

إنّى لأعلم أنّ هذه العلوم الشّديدة الارتفاع عن أطوار هذه الأذهان الضّيّقة وإلف صحابة الوهم قد أعشى أبصار هذه القرائح المتغسّقة ، وأوقر آذان هذه العقول المتغيّقة (١). فلا بأس بالتّكوير عليك ، ولكن بشيء من عبارات شركائنا الّذين سبقونا بالصّناعة ليكون سبيلا للاحتجاج عليهم سيتلى عليك لنضج الحكمة.

قال معلّم الفلسفة المشّائيّة أرسطو طاليس فى كتاب أثولوجيا فى الميمر الثّامن (ص ١١٤) : «وينبغى لك أن تنفى عن وهمك كلّ كون بزمان إن كنت إنّما تريد أن تعلم كيف ابدعت الآنيّات الحقيّة الدّائمة الشّريفة من المبدع الأوّل ؛ لأنّها إنّما كوّنت منه بغير زمان ، وإنّما ابدعت إبداعا وفعلت فعلا ، ليس بينهما وبين المبدع متوسّط البتّة. فكيف يكون كونها بزمان ، وهى علّة الزّمان والأكوان الزّمانيّة [ونظامها وشرفها] ، فعلّة الزّمان لا تكون تحت الزّمان ، بل تكون بنوع أعلى وأرفع ، كنحو الظلّ من ذى الظلّ. ولذلك صار ذلك العالم محيطا بجميع الأشياء الّتي فى هذا العالم ، وهذه الصّور فى ذلك العالم من أوّلها إلى آخرها ، إلاّ أنّ هناك بنوع آخر أعلى وأرفع».

وقال فيه أيضا : «القيام هناك دائم بلا زمان ماض ولا آت. وذلك أنّ الآتى هناك

__________________

(١). تغيّق ، أى : تكلّف حكاية صوت الغراب ، أو تعوّد بعدم التّثبّت. من قولهم : غيق فى رأيه ، إذا اختلط ، فلم يثبت على رأيه. منه ، مدّ ظلّه.

٣٤٨

حاضر والماضى موجود ؛ لأنّ الأشياء الّتي هناك دائمة على حال واحدة لا تتغيّر ولا تستحيل ، وإنّما هى الحال الّتي يجب أن تكون علّتها فلا تزول» (ص ١٠١).

وقال فيه : «والشّيء الدّائم هو أبدا على حالة واحدة لا تنتقل. فأمّا أمس ومنذ شهر ومنذ سنة وما أشبه ذلك ؛ فإنّه من حيّز السّلوك ، والحركة هى الّتي تجعل منذ أمس ومنذ شهر ومنذ سنة ، ... وكذلك حركة الفلك والكواكب فإنّما هى واحدة عند أنفسها ، ونحن نقسّمها فنصيّرها كثيرة ونجعله عدد الأيّام ، وذلك أنّ اللّيل يتلو النّهار. فإذا كان كذلك جزّئت الأيّام وكثر عددها. فأمّا العلو فإنّ اليوم فيه واحد ، وليست هناك أيّام ، لأنّ ما هناك نهار كلّه لا يتلوه ليل» (ص ١٠٥).

وقال فيه : «السّالك طريقا ما إذا صار فى موضع آخر من هذا الطريق الأرضىّ فارق أوّله. وأمّا السّالك فى أرض الحياة فإنّه يسلك إلى أقصى تلك الأرض من غير مفارقة منها لأوّلها ، ويكون فى أوّلها وآخرها وفيها بين ذلك فى حالة واحدة» (ص ٩٦).

وقال فى الميمر الخامس : «إنّ العقل ابدع تامّا كاملا بلا زمان ... وأنّ العقول ، أى الأشياء الّتي فى العالم الأعلى ... علة بدئها هى علّة غايتها ؛ لأن بدأها وتمامها معا ليس بينهما فرق ولا زمان. فتكون أذن علّة تمامها مع علّة بدئها سواء» (ص ٧٢).

وفى الميمر الثانى أوضح : «أنّ النّفس ما دامت فى هذا العالم فيما من جهة حيّز الزّمان. فإذا اتصلت بالعالم الأعلى صارت من حيّز الدّهر. وليس فى العالم الأعلى جوهر مستحيل ولا علم مستحيل. وإذا كانت الأشياء هناك ظاهرة بيّنة ثابتة دائمة وعلى حال واحدة ، ولم تكن للنفس حاجة إلى ذكر شيء ، بل ترى الأشياء دائما» (ص ٣٠).

ثمّ قال : «فنقول : إنّ كلّ علم كائن فى العالم الأعلى الواقع تحت الدّهر لا يكون بزمان ، لأنّ الأشياء الّتي فى ذلك العالم كوّنت بغير زمان ، فلذلك صارت النّفس لا تكون بزمان. ولذلك صارت النّفس تعلم الأشياء الّتي كانت تتفكّر فيها هاهنا أيضا بغير زمان ولا تحتاج أن تذكرها ، لأنّها كالشّيء الحاضر عندها : فالأشياء العلويّة

٣٤٩

والسّفليّة حاضرة عند النفس لا تغيب عنها إذا كانت فى العالم الأعلى» (ص ٣٠).

ثمّ قال : «وما الّذي يمنع النّفس إذا كانت فى العالم الأعلى من أن تعلم الشيء المعلوم دفعة واحدة ، واحدا كان المعلوم أو كثيرا لا يمنعها شيء عن ذلك البتة ، لأنّها مبسوطة ذات علم مبسوط ، تعلم الشّيء الواحد مبسوطا كان أو مركّبا ـ دفعة واحدة ، مثل البصر ؛ فإنّه يرى الوجه كلّه دفعة واحدة ، والوجه مركّب من أجزاء كثيرة ، والبصر يدركه وهو واحد غير كثير ـ كذلك النّفس إذا رأت شيئا مركّبا كثير الأجزاء علمته كلّه دفعة واحدة معا ، لا جزءا بعد جزء. وإنّما تعلم الشيء المركّب دفعة واحدة معا ، لأنّها تعلمه بلا زمان ؛ وإنّما تعلم الشيء المركّب دفعة بلا زمان ، لأنّها فوق الزّمان ؛ وإنّما صارت فوق الزّمان لأنّها علّة للزمان» (ص ٣١).

وقال فى آخر الميمر الأوّل : «ليس كلّ فاعل يفعل فعله فى زمان ، ولا كلّ علّة قيل معلولها بزمان. فإن أردت أن تعلم هل هذا المعلول زمانىّ أم لا ـ فانظر إلى الفاعل : فإن كان تحت الزّمان فالمفعول تحت الزّمان لا محالة ؛ وإن كانت العلّة زمانيّة ، كان المعلول زمانيّا أيضا. فالفاعل والعلّة يدلاّن على طبيعة المفعول والمعلول : إن كانت تحت الزّمان وإن لم تكن تحته» (ص ٢٨). نجزت ألفاظه. (أفلوطين ، اثولوجيا. تحقيق عبد الرّحمن بدوى).

وقد بسط هذه الاصول فى كتبه بسطا بالغا كثيرا. ورئيس مشّائيّة الإسلام الشّيخ أبو عليّ بن سينا قال فى طبيعيّات الشفاء : (ص)

«والشيء الموجود مع الزّمان وليس فى الزّمان. فوجوده مع استمرار الزّمان كلّه هو الدّهر. وكلّ استمرار وجود واحد فهو فى الدّهر. وأعنى بالاستمرار وجوده بعينه كما هو مع كلّ وقت على الاتّصال. فكأنّ الدّهر هو قياس ثبات إلى غير ثبات ، ونسبة هذه المعيّة إلى الدّهر كنسبة تلك الفيئيّة إلى الزمان ونسبة الامور الثّابتة بعضها إلى بعض والمعيّة التى لها من هذه الجهة هو معنى فوق الدّهر. ويشبه أنّ أحقّ ما سمّى به السّرمد». (ص)

وقال فى موضع آخر من الشفاء : «معنى قولنا : الجسم فى زمان أنّه فى الحركة ،

٣٥٠

والحركة فى الزّمان. وأمّا غير المتغيّر أعنى ما يكون قارّ الذّات فإنّما ينسب إلى الزّمان بالحصول معه ، لا بالحصول فيه ؛ إذ ليس له جزء يطابق المتقدّم من الزّمان وجزء يطابق المتأخّر منه. وهذا كما أنّ نسبة استمرار غير المتغيّر وثباته إلى استمرار غير المتغيّر ، كالسّماء إلى الأرض يكون بالحصول معه من غير تصوّر الحصول فيه». (ص)

ثمّ قال : «وغير الحركة أو المتحرك إنّما ينسب إلى الزّمان بالحصول معه ، لا فيه. وهذه المعيّة إن كانت بقياس ثابت إلى غير ثابت فهو الدهر ؛ وإن كانت بقياس ثابت إلى ثابت فهو السّرمد. وهذا الكون ، أعنى كون الثّابت مع غير الثّابت ، والثّابت مع الثّابت ، بإزاء كون الزّمانيّات فى الزّمان فتلك المعيّة كأنّها متى الامور الثّابتة (١٤٠). ولا يتوهّم فى الدّهر ولا فى السّرمد امتداد ، وإلاّ لكان مقدارا للحركة. ثمّ الزّمان كمعلول للدّهر والدّهر كمعلول للسّرمد ؛ فإنّه لو لا دوام نسبة علل الأجسام إلى مباديها ما وجدت الأجسام فضلا عن حركاتها. ولو لا دوام نسبة الزّمان إلى مبدأ الزّمان لم يتحقق الزّمان». (ص)

وقال أيضا : «إنّ اعتبار أحوال المغيّرات مع المتغيّرات هو الزّمان ، واعتبار أحوال الأشياء الثّابتة مع المتغيّرة هو الدّهر ، ومع الأشياء الثّابتة هو السّرمد. والدّهر فى ذاته من السّرمد. وهو بالقياس إلى الزّمان دهر. يعنى أنّ الدّهر فى نفسه شيء ثابت ، لا تغيّر ولا امتداد فيه إلاّ أنّه إذا نسب إلى الزّمان الّذي هو واقع فيه ومتغيّر فى ذاته سمّى دهرا.

وقال فى كتاب عيون الحكمة (ص ٢٨) : «وذوات الأشياء الثّابتة وذوات الأشياء الغير الثّابتة من جهة والثّابتة من جهة إذا اخذت من جهة ثباتها لم تكن فى الزّمان ، بل فى الزّمان ونسبة ما مع الزّمان وليس فى الزّمان من جهة ما مع الزّمان هو الدّهر ، ونسبة ما ليس فى الزّمان إلى ما ليس فى الزمان من جهة ما ليس فى الزمان ، الأولى به أن يسمّى السّرمد. والدّهر فى ذاته من السّرمد وبالقياس إلى الزّمان دهر.

وقال فى كتاب التعليقات (ص ١٤١) : «العقل يدرك ثلاثة أكوان : أحدها : الكون

٣٥١

فى الزّمان ، وهو متى الأشياء المتغيرّة الّتي يكون لها مبدأ ومنتهى ، ويكون مبدؤه غير منتهاه ، بل يكون متقضّيا ويكون دائما فى السّيلان وفى تقضّى حال وتجدّد حال. والثّاني : كون مع الزّمان ، ويسمّى الدّهر. وهذا الكون محيط بالزّمان ، وهو كون الفلك مع الزّمان ، والزّمان فى ذلك الكون ، لأنه ينشأ من حركة الفلك ، وهو نسبة الثّابت إلى المتغيّر ، إلاّ أنّ الوهم لا يمكنه إدراكه ؛ لأنّه رأى كلّ شيء فى زمان ورأى كلّ شيء يدخله كان ويكون ، والماضى والحاضر والمستقبل ورأى لكلّ شيء متى إمّا ماضيا أو حاضرا أو مستقبلا. والثّالث كون الثّابت مع الثّابت ويسمّى السّرمد ، وهو محيط بالدّهر».

وقال : «الشّيء الزّمانىّ يكون له أوّل وآخر ويكون أوّله غير آخره».

وقال : «الوهم يثبت لكل شيء متى ، ومحال أن يكون الزّمان نفسه متى ، والفلك لا يتغيّر فى ذاته والحركة حالة طارئة عليه».

وقال : «إنّ ما يكون فى الشيء يكون محاطا بذلك الشّيء ، وهو متغيّر بتغيّر ذلك الشّيء. فالشيء الّذي يكون فى الزّمان يتغيّر بتغيّر الزّمان ويلحقه جميع أعراض الزّمان ويتغيّر عليه أوقاته ، فيكون هذا الوقت الّذي يكون مثلا مبدأ كونه أو مبدأ فعله غير ذلك الوقت الّذي يكون آخره ؛ لأنّ زمانه يفوت ويلحق وما يكون مع الشّيء فلا يتغيّر بتغيّره ولا يتناوله أعراضه».

ثمّ قال : «الدّهر وعاء الزّمان ؛ لأنّه محاط به».

وقال فى طبيعيّات كتاب النّجاة : «ليس كلّ ما وجد مع الزّمان فهو فيه ؛ فإنّا موجودان مع البرّة الواحدة ولسنا فيها ، وعدّ كلّ ما يصحّ أن ينسب إلى الزّمان بالفيئيّة».

ثمّ قال : «فما هو خارج عن هذه الجملة فليس فى زمان ، بل إذا قوبل توهّمه مع الزّمان واعتبر له ثبات مطابق لثبات الزّمان وما فيه ، سمّيت تلك الإضافة وذلك الاعتبار دهرا له ، فيكون الدّهر محيطا بالزّمان».

وقال فى خطبته المسمّاة بالكلمة الإلهيّة : «الزّمان عنه ـ تعالى شأنه ـ فى الافق

٣٥٢

الأقصى وناحية الجوهر الأدنى عند اشتمال الحركة على متقدم ومتأخّر ووجود الجسم فى تبدّل وتغيّر ، والدّهر وعاء زمانه ونسبة مبدعاته إلى اختلاف أحيانه ويفيض عنه وجود جواهر روحانيّة لإمكانيّة ولا زمانيّة».

وقال تلميذه بهمنيار فى تحصيله : «وهذه المعيّة إن كانت بقياس ثبات إلى غير ثبات فهو الدّهر ، وهو محيط بالزّمان وإن كانت نسبة الثّابت إلى الثّابت فأحقّ ما يسمّى التّسرمد ، بل هذا الكون ، أعنى كون الثّابت مع غير الثّابت ، والثّابت مع الثّابت ، بإزاء كون الزّمانيات فى الزّمان. فتلك المعيّة كأنّها متى الامور الثّابتة وكون لامور فى الزّمان متاها ، فليس فى الدّهر ولا فى السّرمد امتداد لا فى الوهم ولا فى الأعيان ، وإلاّ كان مقدارا للحركة».

وقال شيخ أتباع الرّواقيّة فى التلويحات : «الجسم من حيث هو جسم ليس فى الزّمان ، بل لأنّه فى الحركة وهى فى الزّمان والأشياء الغير المتغيرة أصلا ، كالعقليّات والّتي تتغيّر من جهة وتثبت من جهة كالأجسام هى مع الزّمان لا فيه. ونسبة ما مع الزّمان إليه فى الثّبات هو الدّهر ، ونسبة بعضه إلى بعض اصطلح عليه بالسّرمد».

فهذا نبذ من ألفاظهم فى التّعبير عن هذه الأوعية والأكوان. ولهم هناك ضروب من الأقاويل المطوّلة عند محاولة التّوضيح والتّبيان ، وإنّ من لم يؤلّفه ذلك بالهطوع (١) على الحقّ لم ينفعه ما زاد عليه نفعا.

<١٠> ظنون وتوهينات

قد تهوّكت مهوّشة المعرفة ومشوّشة الفلسفة من متقدّمة الفلاسفة فى العصور السّابقة فى أمر الزّمان والدّهر. فمن اكتنفه فساد الغريزة الإنسانيّة منهم قد اختلق أنّ للزمان وجودا مفارقا للمادّة على أنّه جوهر أزليّ مستقلّ بالقيام بنفسه ووجود هو واجب الوجود بذاته ، فيستحيل أن يتعلّق بالحركة ، ويجوز أن يوجد الزّمان وإن لم يوجد الحركة. ويجب ان يستعاذ باللّه ، سبحانه ، من هذه الشّقاوة الثّقيلة. ومن له

__________________

(١). هطع الرجل يهطع هطوعاك إذا أقبل على الشيء ببصره ولا يقطع عنه. ص. التهوّك : التحيّر. شرح.

٣٥٣

بضاعة ما ولكن مزجاة من الطباع التّعقّلىّ ، أدرجته فى الطبائع الجوازيّة. لكن لا على أن يكون ممّا يعتريه التّعلّق بالمادّة ، بل على أن يكون جوهرا مستقلا بنفسه قائما بذاته منفصل الذّات عن الماديّات ، مفارق الوجود للجسمانيّات. وهذا الرّأى معزيّ إلى إمام الفلسفة أفلاطن الإلهيّ وفريق من أشياعه.

وعلى هذا أيضا لا يصلح أن يقع فى تحت ذات الزّمان والمدّة تغيّر أصلا ما لم يعتبر نسبة ذاته إلى المتغيّرات. فالمدّة إن لم يقع فيها شيء من الحركات والتّغيّرات لم يكن فيها إلاّ الدّوام وإن وقع حصلت هناك قبليّات وبعديّات ، لا من جهة التغيّر فى ذات الزّمان والمدّة ، بل إنّهما من حيثيّة تلك المتغيّرات.

ثمّ إن اعتبر نسبته إلى الذّوات الدّائمة الوجود المتنزّهة عن التّغيّر سمّى من تلك الجهة بالسّرمد ، وإن اعتبرت نسبته إلى ما فيه الحركات والتّغيّرات من حيث حصولها فيه فذلك هو الدّهر الدّاهر ، وإن اعتبر من جهة نسبة ذاته إلى المتغيّرات المقارنة له فذلك هو المسمّى بالزّمان. فالسّرمد والدّهر والزّمان عند هؤلاء متحدة بالذّات متغايرة بالاعتبار.

وكما يزعم بحسب المشهور أنّ المكان عند أفلاطن الإلهيّ بعد مقطور مجرّد مكانىّ ، وهو الّذي يقال له الامتداد المكانىّ الّذي (١٤١) هو من الجواهر المفارقة للمادّة ، فكذلك يزعم أنّ الزّمان عنده بعد مقطور مجرّد زمانىّ. وهو الّذي يقال له الامتداد الزّمانىّ. وهو أيضا من الجواهر المفارقة للمادّة. وكما أنّ ذهاب أفلاطن إلى ذلك فى الامتداد المكانىّ غير ثابت فكذلك فى الامتداد الزّمانىّ.

وكيف يظنّ بأفلاطن الأقدم الأفخم أنّه لم يفرّق بين الممتدّ المتغيّر بذاته وبين ما لا يعقل فيه امتداد وتغيّر ، ولم يتحقّق أنّ القبليّات والبعديّات الامتداديّة لا تتصوّر بالذّات إلاّ فيما يكون بذاته مقدار للحركة ، فيمتنع أن يكون جوهرا قائما بذاته.

ومنهم من ظنّ : أنّ الدّهر مدّة السّكون أو زمان غير معدود بحركة. وهذا أيضا سخيف فاسد ؛ فإنّه ليس يعقل زمان ومدّة ليس فى ذاته قبل وبعد قبليّة وبعديّة زمانيّتين. وإذا كان كذلك استحال الخلوّ من الحركة. وأمّا السّكون فقد عرّفناك أنّه لا

٣٥٤

تقدّر له بالزّمان إلاّ بالعرض.

ومن متفلسفة الإسلاميّين من يتخيّل أنّ الدّهر هو مقدار الزّمان بجملته ، أى بماضيّاته ومستقبلاته جميعا على الاتصال. وكون هذا المقدار دائميّا غير منقطع الأوّل والآخر هو السّرمد. وقد أوضحنا ما يفضحه ويفشى فساده. وهناك ظنون سخيفة وأوهام فاسدة لا تستأهل إلاّ للإغماض عنها والإعراض عن ذكرها. وكلّ ما قد أعضل الأمر بمثير فتنة التّشكيك حتّى ألجأه إلى التّشبّث بذيل أفلاطن فيما ينسب إليه ، فقد صار مستبين السّخافة لديك بما أعطيناك وثبتناك عليه.

<١١> تذكير استيفاضيّ

إنّ ما حصّفناه فيما قد تلوناه عليك يضمن لك لو أعلمت الرّوية فيه تثبيت درايتك بالأمر فى افق الزّمان ووعاء الدّهر وعرش السّرمد ، وتشتّت ما لفّقته أوهام المتشككين من معاقد الشّبه والشّكوك.

فما يسوق العقل إلى الحكم بوجود الزّمان الّذي هو مقدار الحركة إنّما هو تحقّق القبليّة والبعديّة والمعيّة الامتداديّة المتقدّرة ، وكذلك إمكان اختلاف الحركات وتساويها أو تشابهها. وكذلك مسبوقيّة بعض المتقرّرات باستمرار البطلان ثمّ التّقرّر على استقرار خاصّ ثمّ انبتات التّقرّر ؛ فإنّ هذه الأحوال لا تتصوّر إلاّ بوجود كم متصل غير ذى وضع يتحقق به القبليّات والبعديّات والمعيّات الزّمانيّة ، وتتقدّر به الحركات ويتّصف التّقرّر والبطلان بحسب المقارنة له من جهة تخصّص بعض المتقرّرات والباطلات بالوقوع فيه بالاستمرار واللاّستمرار وباستمرارات مخصوصة بأقدار متعيّنة.

وما يوجب القول بوعاء الدّهر هو وجود المتقرّرات الثّابتة على الثّبات الصّرف بحيث لا يصلح أن يتوّهم فيه تغيّر وانتقال من حال إلى حال وامتداد أو لا امتداد وإن كان ذلك مسبوقا بالبطلان الصّرف لا باستمراره أولا استمراره.

٣٥٥

وما يهدى إلى الإيمان بعرش السّرمد هو وجوب الوجود الحقّ القيّوم الواجب بالذّات ، المتقدّس عن التّبدّل والانتقال ، المتعالى عن إمكان العدم والقوّة بحسب جميع الشّئون والأحوال ، المحيط بوعاء الدّهر وافق الزّمان وبكلّ شيء فيهما فى الآباد والآزال.

فإذن ، عرش السّرمد لا يعقل فيه الامتداد واللاّامتداد ، ولا وقوع العدم بعد التقرّر بوجه من الوجود ، ولا سبق استمرار اللّيس أو لا استمراره أصلا. وإن صحّ فيه سبق أصل اللّيس الخارج عن جنس الاستمرار واللاّاستمرار ، وافق الزمان يقع فيه التّغيّر والتّبدّل والانتقال من حال إلى حال وانبتات التقرّر بعد الحصول ، وتصحّ فيه مسبوقيّة التقرّر والوجود بالبطلان المستمرّ والعدم الممتدّ.

ثمّ التقرّر والوجود فيه قد يكون ممتدّا وقد يكون دفعيّا غير ممتدّ ، والممتدّ قد يكون منبتّ الامتداد وقد يكون مستمرّ الامتداد فى الآباد.

فهذه خواصّ الأوعية بحسب اختلاف الأحكام التّابعة لاختلاف الحقائق وافق الزّمان لا بدّ أن يكون زائدا على معنى الوجود وعلى نفس النّسبة المعبّر عنها بالكون فى الزّمان ؛ فإنّ المقدار المتقضّي المتجدّد بنفس ذاته ، لا يكون نفس الوجود ولا نفس النّسبة.

وأمّا وعاء الدّهر فليس هو شيئا وراء الوجود الصّرف ونسبة الموجودات إلى الموجودات وإن كان ذلك ربما يكون بعدم العدم الصّرف. وكذلك عرش السّرمد هو نفس الموجوديّة المحضة والنّسبة الّتي هى للموجود المحض ، لا من بعد العدم إلى الموجودات الثّابتة.

فكما يقال : إنّ الخارج ظرف الوجود ، لا على أن يكون هناك شيء غير الوجود العينىّ ، بل على معنى أنّ يعيّن الشّيء حصولا أصلا ، لا فى لحاظ الذّهن فقط ، بل خارج الأذهان أيضا ؛ فكذلك يقال : وعاء الدّهر وعرش السّرمد نوعان من ظروف الوجود وأوعيته ، لا على أن يكون هناك شيء غير الوجود فى الأعيان ، بل على معنى أنّ للشّيء حصولا صرفا أصلا فى الأعيان ، لا فى افق الزّمان ، بل خارجا عن الزّمان

٣٥٦

وعن جنس التقدّر والتبدّل والتنقّص والازدياد والامتداد ، سواء لم يسبقه ليس أصلا ويسبقه أصل اللّيس الصّرف لا على الامتداد أو اللاّامتداد.

فإذا استنارت المسألة لبصيرتك بازغة فى التّغشية على هذه البضاعة امتحق كلّ ما وراء وجه الحقّ عن ذوى الأبصار المستفشية فى زمر المنتسبين إلى هذه الصّناعة.

<١٢> إحصاء

كما أنّ الحركة والمتحرك فى الزّمان فكذلك الأيّام والسّاعات والآفات ، فقد يقال لأنواع الشّيء ولأجزائه ولنهاياته : إنّها فى الشّيء ، ونسبة الآن إلى الزّمان ليست كنسبة الوحدة إلى العدد ؛ لأنّ الوحدة جزء العدد ، بخلاف الآن بالقياس إلى الزّمان ، بل هى كنسبة النّقطة إلى الخطّ المستدير.

وأمّا الآن السّيّال فهو بالقياس إلى الزّمان خارج عن النّسبتين جميعا ؛ لأنّه ليس جزء الزّمان ولا طرفه. وإنّما يشبه نسبته إلى الزّمان نسبة الوحدة إلى العدد بوجه ما ، من حيث إنّه يرسم الزّمان ، كما الوحدة تحصّل العدد ، وإن كان هو خارجا عن الزّمان غير قائم به ، والوحدة داخلة فى العدد ، وهو أيضا ممّا يوجد فى الزّمان.

فإذن ، المنتسبات إلى الزّمان بالفيئيّة ، أى الامور الّتي يكون حصولها فى الزّمان ، هى : أمّا أوّلا ، فأقسامه ، كالماضى والمستقبل والسّاعات (١٤٢) والأيّام والشّهور والسّنين وأطرافه ، وهى الآنات. وأمّا ثانيا ، فالحركات والآن السّيّال. وأمّا ثالثا ، فالمتحرّكات بما لها الحركات ، فهى فى الحركة ، والحركة فى الزّمان. وأمّا رابعا ، فالحوادث بما لها توقّف على الحركات وتخصّص بالأزمنة والآنات.

وكون الآن فى الزّمان ككون النّقطة فى الخطّ المستدير التّامّ وكون الآن السّيّال فيه ، فمن وجه ككون الحركة التّوسّطيّة فيه ، ومن وجه ككون الوحدة فى العدد ؛ وكون السّاعات والأيّام والماضى والمستقبل فيه ككون أنواع العدد ولوازم تلك الأنواع فى العدد.

٣٥٧

وكون الحركة القطعيّة الفلك الأقصى فيه ، ككون العرض المعروض لعدد فى ذلك العدد ، وكون الفلك الأقصى فيه ، ككون الموضوع للعرض المعدود فى العدد ، وكون سائر الحركات والذّوات الماديّة والحوادث الزّمانيّة فيه ككون الأجسام فى الأمكنة وفى الامتدادات المكانيّة.

وأمّا ما هو خارج عن هذه الجملة ، كالامور الّتي لا تقدّم ولا تأخّر فيها من جهة تغيّر الشّئون وتبدّل الأحوال بوجه من الوجوه ؛ فإنّه ليس شيء من ذلك فى الزّمان أصلا وإن كان مع الزّمان فليس كلّ ما وجد مع الشّيء فهو منه. أفليس الإنسان موجودا مع الخردلة وليس هو فيها. وهذه المعيّة الدّهريّة ليست بالانطباق على الزّمان أو على طرفه.

وما يتحقق بينه وبين الزّمان هذه المعيّة الغير الانطباقيّة : إمّا أن يكون له اقتران طبيعىّ بالزّمان ، كأن يكون فاعلا له ، كالمبدإ الفاعل أو حاملا لمحلّه ، كالفلك الأقصى ، فيكون معيّتهما معيّة دهريّة بالطبع على أنّ بينهما تضايفا بالفعل ، لا بمجرّد الفرض والاتّفاق البحت ، بل بحسب تلك العلاقة الطبيعيّة وبحسب فعليّة التقدّر بينهما جميعا ؛ وإمّا أن لا يكون له ذلك ، كالنّفس المجرّدة لفلك الثوابت مثلا ، فيكون معيّتهما دهريّة غير طبيعيّة ، بل بحسب الاتّفاق البحت من جهة فعليّة الوجود لهما فقط.

والمعيّة الزّمانيّة إمّا نفس المعيّة ملحوظا بلحاظ آخر ، أى باعتبار أنّها المقارنة فى الأعيان بحسب حصول الوجود للمعين جميعا ، كمعيّة الحركة والزّمان فى الوجود أو راجعة إليها كمعيّة الحركتين أو المتحرك والزّمان ، أو المتحرّكين أو الذّاتين الحادثتين فى زمان بعينه أو آن بعينه بحسب التعلّق بشرط تعيّنه من الحركة الّتي هى محلّ الزّمان أو بحدّ بعينه من حدودها ، فتكون لا محالة منتهية إلى معيّة الزّمان والحركة هى محلّه.

فإذن ، المعيّة الزّمانيّة إنّما هى معيّة على سبيل التّضايف الطبيعىّ من حيث الحامليّة والمحموليّة والحالّيّة والمحلّيّة إمّا ابتداء أو على سبيل الانتهاء إليها ، لا على

٣٥٨

الاتّفاق البحت من جهة حصول الوجود لمعين ، لا من جهة إضافة طبيعيّة. وهذا الموضوع قد كانت فيه زلاقة زلّ فيها بعض تلامذة الرّؤساء ، وإحصافه على هذا النّمط التحصيل (١) لم يتيسّر لمن سبقنا بهذه الصّناعة من الشّركاء النّجباء.

<١٣> صطباح مرآتي

عساك أن تكون بما تكشّف تلك أهل أن تستكشف فتتعرف أنّ نسبة الموجود إلى الموجودات إمّا نسبة متقدّرة زمانيّة أو نسبة غير متقدّرة دهريّة وسرمديّة. والنّسبة المتقدّرة ما يختلف بحسبها حال المنسوب بالقياس إلى أبعاض المنسوب إليه وبالقياس إلى الكلّ بالمعيّة واللاّمعيّة فى الوجود. أعنى بذلك أن يخالف حال المنسوب بالقياس إلى بعض المنسوب إليه حاله بالقياس إلى بعض آخر منه ، وحاله بالقياس إلى المجموع ، فتكون حين ما للمنسوب إليه معيّة فى التقرّر بالإضافة إلى بعض المنسوب إليه لا تكون له تلك المعيّة بعينها بالقياس إلى البعض الآخر وبالقياس إلى الكلّ ، وحين ما له لبعض المنسوب إليه تخلّف فى الوجود عن المنسوب لا يكون للبعض الآخر وللمجموع ذلك المتخلّف بعينه عنه.

فعلى هذا التّقدير يلزم تقدّر وامتداد فى نسبة الموجود المنسوب إلى الموجودات المنسوب إليها بتّة. والنّسبة الغير المتقدّرة ، ويعبّر عنها الفلاسفة بنسبة الأبديّات هى ما بخلافها ، أى : ما لا يختلف بحسبها حال المنسوب بالقياس إلى أبعاض المنسوب إليه بالمقارنة والمفارقة ، أعنى أنّه لا يخالف حال المنسوب بالقياس إلى بعض المنسوب إليه حاله بالقياس إلى البعض الآخر ، وحاله بالقياس إلى المجموع ، فيكون إذا كانت للمنسوب معيّة فى الوجود بالإضافة إلى بعض المنسوب إليه كانت له فى ذلك الحال تلك المعيّة بعينها بالإضافة إلى سائر أبعاض المنسوب إليه وبالقياس إلى المجموع أيضا.

__________________

(١). يعنى به تلميذ الشيخ الرّئيس أبى عليّ بن سينا ، بهمنيار ؛ فإنّه قد زلّ فى هذا الموضع فى كتاب التحصيل. منه مدّ ظلّه.

٣٥٩

وإذا كان لبعض المنسوب إليه تخلّف فى الوجود عن المنسوب كان لسائر الأبعاض وللمجموع أيضا عند ذلك التّخلّف بعينه فى تلك الحال بعينها.

فعلى هذا التّقدير ، لا يقع تقدّر وامتداد فى النّسبة ؛ إذ من المنصرح بالضّرورة الفطريّة : أنّه لو كان الشّيء المنسوب فى الأعيان على المعيّة فى الوجود بالقياس إلى شيء ما ولم يكن إذ هو معه هو على وصف المعيّة بالإضافة إلى شيء آخر ثالث ثمّ إنّه قد تلحقه المعيّة بالقياس إلى الشّيء الثالث أيضا ، لزم لا محالة تقدّر وامتداد فى نسبته بالمقيّد بالإضافة أو ذينك الشيئين ، فيلزم إذن أن تكون النّسبة السّرمديّة زمانيّة ، وذلك خرق الفرض وفسخ الضّبط.

فإذن ، قد انصرح أنّ النّسبة السّرمديّة مباينة الحقيقة للنّسبة المتقدّرة ، وبالجملة ، يجب أن تكون النّسبة السّرمديّة الغير المتقدّرة إضافة المنسوب بحسبها إلى جميع أجزاء المنسوب إليه وإلى المجموع بما هو المجموع متشابهة غير مختلفة بالمقارنة والمفارقة أصلا.

ثمّ من المتّضح فيه أنّ الموجود الخارج عن افق الزّمان حيث إنّه ليس يعقل أن يكون زمانيّا يستحيل أن يكون له إلى الموجودات نسبة متقدرة ، بل يجب أن تكون نسبته إلى جملة الموجودات نسبة سرمديّة متقدّسة عن جنس التقدّر واللاّتقدّر وعن جنس الامتداد واللاّامتداد. كما أنّ نسبته إلى المكانيّات تكون خارجة عن جنس التقدّر واللاّتقدّر المكانيّين.

وهذه المسألة أمّ مسائل هذه «المساقة» من علم ما فوق الطبيعة فى الفلسفة اليونانيّة وفى الحكمة الخالصة (١٤٣) الحقّة اليمانيّة. وهى من متأصّلات الاصول المقشوّة السّطوعيّة اللاّهوتيّة كمرآة عقليّة مجلوّة لحقائق المسائل الملكوتيّة. وهى من المبادى اليقينيّة لإثبات الحدوث الدّهرىّ لقاطبة الذّوات الجوازيّة والحقائق الإمكانيّة ومن الأوضاع الحقّة فى إفحام خصماء الحقّ من الفلاسفة الإسلاميّة واليونانيّة بأحكام الضّوابط الحكميّة الفحصيّة البرهانيّة ، فلتكن كوديعة منّا عند فريحتك تستحفظها بالذّكر إلى أن نتولى إعمالها فى مؤتنف القول فى بعض الفصول المستأنفة إن شاء اللّه تعالى.

٣٦٠