مصنّفات ميرداماد

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]

مصنّفات ميرداماد

المؤلف:

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]


المحقق: عبدالله نوراني
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: منشورات مطبعة وزارة الإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-528-006-0
الصفحات: ٥٢٧
الجزء ١ الجزء ٢

بالنّسبة إلى كلّ ما فى عالم الإمكان على الإحاطة.

قيل لك : لو علمت ما علّمناك من قبل علما متقنا لاستشعرت أنّ تحليل كلّ طبيعة إمكانيّة إلى ماهيّة ووجود هو بعينه مناط سراية التّكثّر إلى كلّ من ماهيّة تلك الطّبيعة ووجودها على الانفراد أيضا. أمّا الماهيّة ، فلأنّها غير متقرّرة بنفسها ، بل إنّما هى أثر الجاعل ، وقوامها وفعليّتها بجعله ، كما تبرهن فيما سلف. فلا بدّ فى اعتبار تقرّر جوهرها من لحاظ أنّها صادرة من الجاعل.

وما لم يلحظ ذلك لم يحكم أنّ هناك ماهيّة ليست هى فى حيّز جوهرها التّقرّريّة وفى حدّ حقيقتها التّصوّريّة مربوطة بالجاعل ، فيكون فى لحاظ قوام نفسها وتقرّر أصل ذاتها كثرة ما البتّة ؛ إذ يكون هذا اللّحاظ بعينه لحاظ شيء من تلقاء شيء ، فيدخل فيه مبدأ وذو مبدأ. فهناك كثرة من تلك الجهة. وأيضا هى فى نفسها غير الوجود ، ولا هى من حيث هى هى مصداق حمل الموجود. وهى من حيث هى من الجاعل مستتبع الوجود ومصداق حمل الموجود ؛ إذ الوجود يتبع التّقرّر ، وهو بالصّدور من الجاعل.

فإذن ، قد لزم التكثّر فى مرتبة تجوهرها وتقرّر ذاتها من حيث لزوم صفة تابعة غير متخلّفة ؛ إذ يصدق أنّها فى حيّز نفسها المتقرّرة شيء مستتبع لشيء آخر ، وهو صفة ؛ فيلزم الكثرة من هذه الجهة أيضا.

وأمّا الوجود ، فلأنّ حقيقته فى عالم الإمكان كون الماهيّة وصيرورتها فى الأعيان أو فى الذّهن ، فهو كون شيء ، فهو كون شيء وصيرورته ، لا كون نفسه ، فيكون فى لحاظ العقل إيّاه تكثّر لا محالة.

فإذن ، لا تقرّر بالوحدة الحقّة ولا تقدّس عن شوائب التكثّر إلاّ حيث تكون الحقيقة متقرّرة بنفسها. فلا يلحظ الغير ، وهو ما من تلقائه الحقيقة والوجود ، وهو كون نفسه ، لا كون شيء ، فلا يتصوّر الغير ، وهو ما يعرضه الوجود. فيكون الحقيقة هناك وجودا بحتا قائما بذاته ، وهو كون نفسه ، لا كون شيء ، فلا يعقل فى لحاظه تكثّر بوجه من الوجوه أصلا. فهو الفرد وما سواه زوج تركبيّ.

٢٠١

ومن سبيل آخر : ألست قد تحصّلت أنّ كلّ طبيعة إمكانيّة فإنّها من حيث ذاتها بالقوّة وهى من تلقاء علّتها بالفعل ؛ إذ لها يحكم الماهيّة اللّيسيّة السّاذجة ، وبقياس السّبب الأيسيّة الفائضة. فهى تحت معنى ما بالقوّة ومعنى ما بالفعل من الجنبتين. وكلّ ممكن فهو حاصل الهويّة منهما جميعا فى الوجود ، ولا شيء غير القيّوم الواجب بالذّات يعرى عن ملابسة معنى ما بالقوّة باعتبار نفسه ، ثمّ بعض الممكنات مع ذلك ربما يعتريه أيضا أن يكون له معنى ما بالقوّة ومعنى ما بالفعل.

وأيضا كلّ من الطّبائع الإمكانيّة لها الإمكان الذّاتىّ من جوهر ذاتها ، والوجوب أو الامتناع بالغير من جنبة العلّة. والقوّة تشبه المادّة. وكذلك الإمكان الّذي هو حيّز القوّة. وكذلك سنخ جوهر الماهيّة الّتي هى مثوى الإمكان ، والفعليّة تشبه الصّورة ، وكذا الوجوب الّذي هو مغناطيس الفعليّة ، وكذلك الإنيّة الّتي هى كرياس دار الوجوب.

فإذن ، فى كلّ ممكن كثرة ايتلافيّة من شيء يشبه المادّة وآخر يشبه الصّورة ؛ فإذن ، لا بساطة فى عالم الإمكان ، لا فى اصول جواهر الماهيّات ، ولا فى فروع صفاتها ، والمفهومات المحمولة عليها ومباديها المنتزعة منها إلاّ بالإضافة فقط ، فبعض الماهيّات أبسط من بعض ، وبعض المفهومات من بعض.

وأمّا البساطة الحقّة فهى وراء ما اصطادتها الطّبائع الإمكانيّة ، وهى ممتنعة بالقياس إليها. وامتناعها هناك مقتضى لطبيعة الإمكان ، وكون الوجود زائدا على الماهيّة. فهذا حال الأحديّة بالنّسبة إليها.

وأمّا الوتريّة ، فإنّها أيضا خارجة عن إقليم الإمكان ؛ لأنّ كلّ ممكن : فإمّا ، أنّه تحت طبيعة مرسلة ، فيمكن بالنّظر إلى نفس تلك الطّبيعة المرسلة بما هى هى أن تكون هناك عدّة ممكنات ، تساهم ذلك الممكن فى الوقوع تحت تلك الطبيعة وإن امتنع ذلك بحسب نفس الأمر لأسباب خارجة عن نفس جوهر الطبيعة بما هى هى.

وأمّا أنّه هو بعينه طبيعة مرسلة ، فلا يأبى بما هى هى أن تكون لها تحصّلات متكثّرة وأن تقع تحتها أفراد متعدّدة هى حقائق محصّلة وإن فرض أنّها قد اقتضت

٢٠٢

الانحصار بحسب نفس الأمر فى فرد بعينه.

فإذن ، قد استبان أنّه لا وحدة وتريّة لممكن ما على الحقيقة أصلا ، بل إنّما بالإضافة فقط ، إذ الطبيعة المحصورة فى شخصيّة بعينها أوحد وأوتر من الّتي هى ذات بشخصيّات جمّة ، كما أنّه لا بساطة وواحديّة له على الحقيقة ، بل إنّما بالإضافة فقط.

فإذن ، ليس فى عالم الإمكان إلاّ التّأحّد والاتّحاد دون الأحديّة والوحدة ؛ فإنّ مبدع الحقائق وجاعل الماهيّات وفاعل الطّبائع وخالق الإنيّات قد استأثر بالبساطة والأحديّة والوحدة والوتريّة ، ثمّ أفاض من ظلّ أحديّته البسيطة التأحّد والبساطة بالإضافة على كلّ من طبائع الأجناس العالية وفصولها وعلى كلّ من حصص طبيعة الوجود العارضة لها.

ثمّ أنواع المفارقات العقليّة دونها فى التّأحّد ؛ فإنّها بسيطة بالقياس إلى المركّبات الخارجة وإن كانت مؤلّفة بالقياس إلى طبائع الأجناس العالية والفصول وطبيعة الوجود. كما أنّ طبيعة الجنس العالى بسيطة (٩١) بالإضافة إلى ما تحتها ، وهو النّوع المفارق العقلىّ ؛ ومؤلّفة بالقياس إلى ما فوقها ، وهو ينبوع الحقائق ومبدعها وفاعل الماهيّات وجاعلها. وكذلك طبيعة الفصل فى الوضعين.

وطبيعة الوجود المنتزع من الماهيّة أيضا بسيطة بالإضافة إلى حقيقة نوع العقل ، وبالإضافة إلى حصّة منه منتزعة من ذلك النّوع منتسبة فى اللّحاظ التّحليلىّ إلى كلّ من جنسه وفصله ؛ ومؤلّفة بالقياس إلى الوجود الحقّ القائم بذاته المتعالى عن الماهيّة المعروضة الّذي هو ربّ الوجودات وقيّوم الموجودات ، وأفاض من ظلّ وحدته الوتريّة الاتّحاد والتفرّد بالإضافة على الأشخاص المحتبس نوع كلّ منها فيه. ثمّ دون ذلك الشّخص فى الواحديّة كلّ من الهويّات الشّخصيّة من نوع ما متكثّر الأشخاص.

ثمّ الطّبيعة النّوعيّة الواحدة دون الهويّة الشّخصيّة فى الوحدة. ثمّ الطبيعة الجنسيّة الواحدة دون الطبيعة النّوعيّة الواحدة. وأبعد الهويّات الشّخصيّة من الوحدة

٢٠٣

الحقّة ما هى ذات وحدة شخصيّة مبهمة. وهى الهيولى الشّخصيّة. فهذا الأصل قد يتضمّن مسألة كريمة من الرّبوبيّات هى أمّ مثوى المسائل (١).

<٣> اعتكاس

كما أنّ الإمكان أسّ التّركيب فكذلك التّركيب أساس الإمكان. أليس المركّب بما هو مركّب مع عزل النّظر عن خصوصيّات الأجزاء ليس فى طباعه ضرورة فعليّة أو ضرورة بطلان. بل إنّما يتبع ذلك فعليّة الأجزاء أو بطلان جزء ما. وكيف يكون تركيب ولا إمكان ، والتّركيب مثار الافتقار إلى الأجزاء وجودا وعدما.

وأمّا معروض التّركيب من واجبين مفروضين أو ممتنعين مفروضين أو نقيضين أو ضدّين مفروضى الاجتماع فإنّما هو مفهوم ليس هو عنوانا لحقيقة ما متجوهرة أصلا. وليس يحمل على نفسه الحمل الشّائع الصّناعىّ. لكن ليس ضرورة بطلان الذّات أو ضرورة التّجوهر له من جهة ما هو مفهوم مركّب ، بل إنّما وجب أن لا يكون لشيء من هذه المركّبات ذات متجوهرة من جهة خصوصيّات الأجزاء.

وكذلك مجموع الواجبين لو كان لهما وجود ـ تعالى القيّوم الواجب بالذّات عن أن يكون له شريك أو ندّ ـ كان ضرورة التقرّر له من جهة خصوصيّتى الجزءين ، لا بما هو أمر مركّب من جزء وجزء. فأنت تعلم بقوّة قسطاس الفرديّة أنّ خصوصيّة الجزء ليست معيار طباع التركيب ، بل هى أساس خصوصيّة المركّب ، ومناط استلزام الإمكان طباع سنخ التّركيب ، لا لحاظ جهة الخصوصيّة. وبالجملة ، يرجع الأمر إلى إمكان المجموع المتكثّر من حيث هو معروض الكثرة ، لا بما هو هذه الذّات بخصوصها وتلك الذّات بعينها.

فأربعة أشياء بما هى معروض الأربعة أمر مؤلّف من الآحاد المعروضة للوحدات مع عزل النّظر عن خصوصيّات المفروضات ولا ضرورة الفعليّة والبطلان

__________________

(١). أبو مثوى الرّجل : صاحب منزله. وأمّ مثواه : صاحبة منزله. ذكره الجوهرىّ وغيره. منه ، ره.

٢٠٤

من هذه الحيثيّة. وإن كان هناك ضرورة لأحد الطرفين بالنّظر إلى الخصوصيّات فليس ذلك ممّا يبطل الإمكان بالذّات.

ومن ارتكب امتناع المركّب من الممتنعين أو النّقيضين بما هو مركّب امتناعا ذاتيّا فقد ركب شططا بعيدا. وفرقه بين المركّب من ممتنعين والمركّب من واجبين مفروضين بتسليم الإمكان فى الثّاني دون الأوّل أبعد من ذلك بعادا شديدا.

ثمّ ما يقال : «إنّ جهة الامتناع فى المركّب من النّقيضين أو الضّدّين هو الاجتماع ، لا ذاتا الجزءين بخصوصهما ؛ إذ الاجتماع نسبة ومطلق النّسبة إنّما يفتقر إلى الطرفين بحسب الوجود ، لا بحسب العدم ؛ إذ قد يتحقق شيئان ، ولا نسبة بينهما. وكذلك الاجتماع بخصوصه ؛ إذ يمكن عدمه مع تحقّق الطرفين على سبيل التّعاقب. وكذلك أمكن أن يكون اجتماع النّقيضين ضرورىّ طرف العدم بذاته وإن كان ممكن طرف الوجود لذاته».

فإنّه وهم سخيف كاد يكون من السّخافة فى خسّة تستكبر عن نسجها عناكب الأوهام الإنسانيّة. ألم يكن من البيّن عند من تفوّه به أنّ ضرورة أحد الطّرفين بالنّظر إلى ذات شيء ما مساوق امتناع الطرف المقابل بالنّظر إلى ذاته.

<٤> وهم ودفاع

إن اختلج فى صدرك : «أنّه لو كان المركّب من الممتنعين ممكنا بالذّات كان علّة عدمه عدم علّة وجوده. فتلك شاكلة الإمكان فى المعلوليّة ، وعلّة الوجود للكلّ هى علّة وجود الجزء ، ولا يتصوّر أن يعلّل وجود شيء من أجزائه لعدم الإمكان. وأيضا ، الممكن ليس له بدّ من أن يكون علّة مستقلّة بالتّأثير خارجة عن نفسه لوجوده وعدمه. ومجموع الممتنعين لا يكون له علّة خارجة عن نفسه ، ولا يكون عدم كلّ من جزئيه علّة مستقلّة لعدمه ، وإلاّ يلزم التّوارد ، ولا عدم أحد الجزءين بخصوصه ، لئلاّ يلزم التّرجيح لا لمرجّح».

٢٠٥

قيل لك : علّة عدم المركّب بما هو مركّب عدم الجزء ، لا علّة عدم الجزء ؛ بل إنّما يلزم ذلك إذا كان للجزء علّة ؛ فكان عدم الجزء مستندا إلى عدمها ، فلم ينعدم إلاّ بعدمها. فمن تلك الجهة يستند عدم المركّب إلى عدم تلك العلّة لا بالذّات من جهة ما هو مركّب.

فإذا كان الجزء ضرورىّ العدم بذاته انعدم المركّب بذاته من غير افتقار إلى عدم أمر ما خارج (٩٢). كما أنّ علّة وجود المركّب بالذّات هى وجود الأجزاء. وإنّما يحتاج تحقق المركّب إلى وجود علّة الجزء لو كانت للجزء علّة من تلك الجهة لا بالذّات من جهة ما هو مركّب. ولذلك لو كان أمكن أن يكون الجزء آن واجبى الوجود لم يتصوّر الافتقار إلى أمر خارج.

ثمّ عدم المركّب هناك يستند إلى طبيعة عدم أحد الجزءين لا بخصوصه. والخصوصيّات مطلقا من لغو الاعتبار فى ذلك الاستناد ، على قياس ما سلف. وهذه الطبيعة متحققة فى صورة عدم الجزءين معا وليس يتكرّر العلّة ولا يتعدّد بذلك.

<٥> أصل افتحاصيّ

ألم يبلغك ما يقال : «ربّ ممكن بالذّات يستلزم ممتنعا بالذّات». وإنّما يعنى به أنّه ليس بممتنع ذلك بالنّظر إليهما بما هما ممكن وممتنع.

فالممتنع بالذّات قد يعقل أنّه لو تحقّق لكان علّة موجبة لتحقّق أمر ما ممكن بالذّات ، فيحكم باستلزام ما هو معلول له. أليس التّوقّف على الممتنع بالذّات إنّما يستوجب الامتناع فى نفس الأمر من جهة امتناع الموقوف عليه ، لا الامتناع بالذّات بالنّظر إلى نفس حقيقة الموقوف بما هى حقيقة.

وفريق جمّ من أبناء الحقيقة يحيلون ذلك ويحكمون أنّ كلّ ما يستلزم تحقّقه فى نفس الأمر محالا ذاتيّا ، فهو محال بالذّات وكاد يكون خرط القتاد وحتّ الجبل دون إثبات هذا الحكم.

٢٠٦

فإن ظننت أنّ إمكان الملزوم بدون إمكان اللاّزم يستلزم إمكان وجود الملزوم مع عدم اللاّزم ، وهو ينفى الملازمة بينهما.

قيل لك : إنّ إمكان الملزوم إنّما هو بالقياس إلى ذاته ، وهو يستلزم إمكان اللاّزم بالقياس إليه ، أعنى ذات الملزوم ؛ لا إمكانه بالقياس إلى ذاته.

فمقتضى طباع اللّزوم ليس يوجب إلاّ أن لا يكون نقيض اللاّزم ضروريّا بالقياس إلى ذات الملزوم ، ضرورة كون اللاّزم ضروريّا بالقياس إلى ذاته ، سواء كان اللاّزم فى حدّ ذاته ضرورىّ التّحقّق ، أو ضرورىّ الارتفاع ، أو لا ضرورىّ الطّرفين بالنّظر إلى ذاته من حيث هى هى.

ولا تتوهّمن أنّ ذلك قول بالإمكان بالغير المستحيل. فقد دريت أنّ ذلك هو أن يجعله الغير بحيث يستوى الطرفان بالنّظر إلى ذاته ، أو بحيث لا يكون أحد الطرفين بخصوصه ضروريّا بالنّسبة إلى ذاته.

وهذا إمكان بالقياس إلى الغير. ولا يأبى بحسب مفهومه أن يجامع الامتناع بالذّات أو الإمكان بالذّات أو الوجوب بالذّات. وإن كان القيّوم الواجب بالذّات يمتنع أن يتّصف به بالقياس إلى وجود موجود ما أصلا ، لأنّه واجب بالقياس إلى أىّ موجود فرض. كما أنّه واجب بالقياس إلى ذاته من حيث كونه مبدءا لما عدا ذاته مطلقا ، لا من جهة تصادم بين الإمكان بالقياس إلى الغير وبين وجوب التقرّر والوجود بالذّات بنفس مفهوميهما. وشتّان ما بين بالغير وبالقياس إلى الغير.

ويشبه أنّ الفحص الغائر يوجب الفرق بين لازم الماهيّة ولازم التّحقّق. فإمكان الماهيّة بالذّات يستلزم إمكان لوازم نفس الماهيّة بالذّات دون اللّوازم فى التّحقّق. وذلك لأنّ امتناع الافتراق المعتبر فى اللّزوم يستند هناك إلى نفس ذات الملزوم. وأمّا فى اللّزوم بحسب الوجود فى الواقع فإنّه قد يستند إلى ذات اللاّزم أو إلى ثالث ، فهو أعمّ من أن يكون ذات الملزوم مقتضية له أو غيرها ، ومن أن يكون ذلك ممتنعا ذاتيّا أو ممتنعا وقوعيّا. فإذا كان كذلك فإمكان الملزوم لذاته مع امتناع اللاّزم لذات اللاّزم ليس يقتضي إمكان تحقق الملزوم بدون اللاّزم إلاّ بالنّظر إلى

٢٠٧

ذات الملزوم إمكانا ذاتيّا. وليس يصادم ذلك امتناع تحقّقه لا معه بالنّظر إلى ذات اللاّزم وبحسب الواقع. فلعلّ اللّزوم هاهنا مقتضى ذات اللاّزم أو ثالث ؛ ولعلّه لزوم وقوعىّ ، لا ذاتىّ.

<٦> استيناف

ربما حكم بأنّ فى الممكنات المعقولة ما هو مستلزم لمحال بالذّات.

وحوول تبيانه : بأنّه يصدق قولنا : «كلّما كان واجب التّقرّر والوجود مستمرّ الوجود كان المعلول الأوّل مستمرّ الوجود ، ومتى صدق صدق عكس نقيضه». وهو قولنا : «كلّما لم يكن المعلول الأوّل مستمرّ الوجود لم يكن واجب التّقرّر والوجود مستمرّ الوجود». فهناك استلزام الممكن المحال بالذّات ؛ لأنّ عدم المعلول الأوّل ممكن فى ذاته ، وعدم واجب التقرّر والوجود محال بالذّات.

وبأنّ استلزام المحال الممكن كلّيّا وجزئيّا جائز ، بل واقع فى حكم العقل. وإذا كان كذلك جاز بل وقع استلزام الممكن المحال جزئيّا بحكم العكس.

والثّاني قول مغلّط يفضحه : أنّ الاستلزام الجزئىّ ليس باستلزام بالحقيقة ؛ لأنّ المقدّم وحده لو كان هو المستلزم للتّالى. فأينما وجد وفرض المقدّم وجد التّالى ، فيكون كليّا وقد فرض جزئيّا ، فهو خلف ؛ وإن كان هو مع شيء آخر يستلزم التّالى ، فإذن ، لا يكون هو وحده مقدّما وقد فرض وحده مقدّما ، فهو أيضا خلف.

وبعض من يحمل عرش التّحصيل والتّحقيق يضع أنّ الأوّل أيضا يفضح : بأنّ استلزام عدم المعلول الأوّل (٩٣) عدم واجب التّقرّر والوجود لذاته ليس يستوجب استلزام الممكن المحال بالذّات ؛ فإنّه إنّما استلزم عدم عليّة العلّة الأولى فقط ، لا عدم ذات العلّة الأولى.

فإنّ ذات المبدأ الأوّل لا تتعلّق بالمعلول الأوّل لو لا الاتّصاف بالعليّة ، لكون المبدأ الأوّل واجبا لذاته ممتنعا على ذاته العدم ، سواء كان لذاته معلول أو لم يكن.

فإذن ، لم يستلزم الممكن محالا إلاّ بالعرض أو بالاتفاق. وهو عدم كون العلّة

٢٠٨

بما هى متّصفة بالعلّيّة واجبة فى ذاتها ؛ فإنّه إنّما صار محالا من جهة كون العلّة فى الواقع واجبة فى ذاتها. وإنّما ذلك من حيث ذاتها لا بما هى متّصفة بالعليّة. وهذا بخلاف عكسه ـ أعنى فرض عدم العلّة الأولى ـ ؛ فإنّه يستلزم عدم المعلول الأوّل مطلقا ؛ لأنّ ذاته إنّما أفاضتها العلّة الأولى ، لا غير.

ونحن نقول : إنّه افتحاص قد اغدودب ظاهره ، حيث أوهم أنّه على أسلوب الأنظار الفحصيّة. وسيتّضح فى الشّطر الرّبوبىّ ـ إن شاء اللّه تعالى ـ أنّ طباع الإمكان بما هو إمكان علّة محوجة إلى علّة واجبة فى ذاتها. وخصوصيّة ذات المعلول الأوّل بالبراءة عمّا يوجب البعد عن المبدأ الأوّل تستدعى أن تكون الذّات الواجبة التّقرّر والوجود بنفسها هى الّتي أفاضتها بلا مدخليّة لشيء ما غيرها أصلا.

فإذن ، عدم المعلول الأوّل بخصوصيّة ذاته ، كما يستلزم عدم العلّة الأولى بما هى علّة، فكذلك يستلزم عدمها بما هى واجبة فى ذاتها.

فعليّة العلّة الأولى ووجوبها بالذّات سبيلهما واحد بحسب ما استدعته ذات المعلول الأوّل بخصوصيّتها ، فلا يكون الممكن يستلزم المحال بالعرض أو بالاتّفاق ، بل إنّما المحال بالذّات.

وأيضا عليّة العلّة الأولى إنّما موجبها نفس ذات العلّة الأولى وكونها هى الجواد المفيض التّامّ الفاعليّة والإفاضة. وذلك عين ما هو الواجب بالذّات.

فإذا كانت عليّة العلّة الأولى أمرا ممكنا بالذّات وكان سببها الواجب بالذّات ، فيكون عدمها الممكن يستلزم عدم الواجب بالذّات الّذي هو سببه. فقد لزم الوقوع فيما عنه الفرار. فإذن ، هذا الوضع أحرى بالافتضاح ممّا ظنّ مفتضحا به.

وكذلك ما قد وضع (١) لتفضيح الواجبين معا. وهو أنّ الممكن الّذي يستلزم محالا استلزاما جزئيّا لا يستلزمه من حيث إنّه محال ، بل إنّما يستلزمه من حيث هو معقول يجب أن يحضر فى العقل تابعا لملزومه. وكونه محالا هو أمر ما له فى ذاته غير متعلّق بملزومه.

__________________

(١). الواضع هنا أيضا الحكيم الطوسىّ ، وإنّما كان هذا أيضا من أجوبته للأسئلة.

٢٠٩

ويشبه أنّ ما ليس مساقه إلى تشويش الفلسفة هو أنّ المعلول الأوّل بطباع جوهره وبخصوص ذاته وهويّته يستدعى أن يستند وجوده إلى العلّة الأولى الواجبة الوجود فى ذاتها وعدمه إلى عدمها بما هى واجبة فى ذاتها. والمحال بالذّات لا يكون من لوازم الماهيّة بالنّسبة إلى ممكن ، لكنّه قد يكون من لوازم تحقّقه فى الواقع. فكلّ عدم هو ممكن بالذّات فإنّما يقع ويصير وقوعه ضروريّا بالاستناد إلى عدم هو محال بالذات إمّا ابتداء أو على سبيل الانتهاء إليه أخيرا. وإنّما يكون ممتنعا بالغير ؛ لامتناع ذلك بالذّات بتّة. فإذا كان هو متعيّنا بالعليّة ، لعدم ما ممكن ، كان لازما لتحقّقه لا محالة.

وأمّا ما يقال (١) : «إنّ المعلول الأوّل إن اعتبر فى نفسه فعدمه ممكن بهذا الاعتبار وليس يستلزم عدم الواجب بهذه الحيثيّة ؛ وإن اعتبر من حيث إنّ وجوده واجب بالعلّة ، فعدمه ممتنع بهذا الاعتبار ومستلزم لعدمها. لكن عدمه ليس ممكنا بالذّات من هذه الحيثيّة حتى يلزم إمكان لازمه».

فإن كان يعنى بأوّل شقّيه : أنّ العقل إذا جرّد النّظر إلى ذاته ولم يعتبر معه غيره لم يجد فيه علاقة اللّزوم ، فذلك لا يصادم استلزام عدمه عدم الواجب بحسب نفس الأمر ، بل هو محفوظ بحاله ؛ لأنّ الاستلزام بحسب الوقوع هو امتناع الانفكاك فى التحقّق. ومن المستبين أنّ المعلول ممتنع التّخلّف عن العلّة الموجبة. فإمكان الملزوم وامتناع اللاّزم بحسب نفس الأمر ليس يندفع بذلك.

وإن كان يعنى : أنّه على ذلك التّقدير لا يكون مستلزما له بحسب نفس الأمر ، فهو غير خفىّ البطلان ؛ فإنّه معلوله بحسب نفس الأمر. فكيف لا يكون مستلزما لعلّته.

وإن كان يعنى : أنّ جهة الاستلزام ومناطه حيثيّة العليّة ، لا حيثيّة جوهر الذّات ولا حيثيّة الإمكان بالذّات ، فالّذى يقول : الممكن قد يستلزم المحال ليس هو دائما

__________________

(١). عنى به صاحب المحاكمات.

٢١٠

يقول : إنّ حيثيّة الإمكان هى حيثيّة الاستلزام ، بل إنّما إنّ ما له حيثيّة الإمكان بالذّات له حيثيّة استلزام المحال الذّاتىّ بحسب التّحقّق.

وكذلك إن كان يعنى بأخير الشّقّين : أنّ العدم الممتنع بالعلّة ليس ممكنا بالذّات ؛ فهو مستبين الفساد ؛ فإنّ الامتناع بالغير ليس يصادم الإمكان بالذّات وليس بشقيه ، وإلاّ كان يحوج الممكن الذاتىّ إلى أن ينقلب ممتنعا ذاتيّا ، بل إنّ معروضه لا يكون إلاّ الممكن بالذّات.

وإن كان يعنى : أنّ عروض الامتناع بالغير لا يكون من حيثيّة الإمكان بالذّات ـ كما أنّ عروض الحركة ليس ينفى السّواد وليست الحركة تعرض من حيثيّة السّواد ـ فليس ذلك بضائر فيما رامه الرّائم.

فإن صار من يدّعى أنّ الممكن لا يستلزم المحال إلى أن يريد ما هو الممكن بحسب الذّات وبحسب الغير وعدم المعلول الأوّل ، وإن كان ممكنا لذاته فهو ممتنع بغيره لوجود علّته.

قيل له : لم يكن ذلك قطّ ولا يكون عوض. فما من ممكن إلاّ وهو واجب لغيره ، (٩٤) أى بحسب وجود علّته وبحسب فرض وجوده ، أو ممتنع ، بغيره ، أى بحسب عدم علّته وبحسب وجود ما ينافيه أو يضادّه معه وبحسب فرض عدمه.

ثمّ إنّه بما استبان قد استتبّ أن يتشكّك فى كلّ تبيان بقياس خلفىّ يثبت به استحالة شيء ، لاستلزام وقوعه محالا بالذّات.

فيقال : لمّا جاز أن يستلزم الممكن لذاته محالا لذاته ، فلا يتمّ الاستدلال ، لجواز أن يكون الخلأ ، مثلا ، ممكنا ، مع أنّه يلزم من وقوعه محال لذاته.

ويزاح : بأنّ الامتناع الذّاتىّ قد يعنى به ضرورة العدم بحسب نفس ذات الموصوف ، أعنى الذّات المقدّرة له ، كما فى شريك البارى ـ جلّ عن ذلك ـ واجتماع النّقيضين. وقد يراد به ضرورة بطلان الذّات فى نفس الأمر ، سواء كان مصداق ذلك نفس الذّات المقدّرة ، أو كانت هناك علّة مقتضية لضرورة العدم فى نفس الأمر وراء الذّات المفروضة.

٢١١

كما أنّ الضّرورة الذّاتيّة قد يراد بها استلزام الذّات للوجود مطلقا ، سواء كان ضرورة الوجود بحسب نفس الذّات أو هناك منشأ للاستلزام وراء الذّات ؛ وقد يراد بها الضّرورة الّتي هى بحسب نفس الذّات. والمعنى الثّاني أخصّ من الدّوام الذّاتىّ والأوّل مساوقه.

وإذا تبيّن ذلك ، فأمثال الأقيسة المذكورة إنّما يثبت بها الامتناع الذّاتىّ بالمعنى الأعمّ المساوق لدوام الانسلاب بحسب الذّات ، لا الأخصّ ؛ فإنّه إنّما يثبت لو ثبت أنّ ضرورة الانسلاب إنّما هى بحسب نفس الذّات. فما يوجب للعدم ضرورة مطلقة غير مقيّدة بوصف ما أو وقت ما ليس يوجب ضرورته بحسب نفس الماهيّة ، بل إنّما يحصل ذلك بنظر آخر أخصّ وأدقّ.

فإذن ، إنّما يستبين بالضّرورة الفطريّة أنّ ما يلزم من فرض وقوعه محال ذاتىّ لا يعترى عن ملابسة الامتناع الذّاتىّ إمّا بأن يكون هو نفسه المحال بالذّات أو بأن يستند إلى محال بالذّات على أن يكون هو سببه التّامّ. وأمّا ما نفس ماهيّته من حيث هى مبدأ أن يستلزم محالا ذاتيّا ، فإنّما هو المحال بنفسه ذاته. والممكن بالذّات لا يكون عروا عن ملابسة الوجوب بالغير أو الامتناع بالغير.

<٧> أوهام وإزاحات

لفّق بعض المتشككين : أنّ المحكوم عليه بالإمكان إمّا أن يكون موجودا أو معدوما. وهو حال الوجود لا يستطيع أن يقبل العدم ، وإلاّ اجتمع الوجود والعدم ، وإذا امتنع حصول العدم امتنع حصول إمكان الوجود والعدم ؛ ولا حال العدم أن يقبل الوجود ، فلا يحصل إمكان العدم والوجود. فكلّ منهما يصادم الإمكان ، وليس يمكن خلوّ ممكن ما عنهما. فإذن ، لا محكوم عليه بالإمكان. ومن وجه آخر : الممكن إمّا أن يكون قد حضر معه سبب وجوده أو لم يحضر ، وبالأوّل يجب وبالثانى يمتنع. ويستحيل أن يكون خلوا منهما فكيف يمكن.

وازيح : بأنّ قولك : «المحكوم عليه بالإمكان إمّا هو موجود أو معدوم» ليس

٢١٢

بحاصر ؛ لأنّك قد عنيت أنّه إمّا يكون مع الوجود أو مع العدم على التّحيّث. ويعوزه قسم آخر ، وهو أن لا يكون مع أحدهما. فالطبيعة المرسلة بما هى طبيعة مرسلة من المحكوم عليه بالإمكان.

وأمّا أنّه حال الوجود ، أى بحسب التّحيّث به ، ليس يقبل العدم ، فليس فيه استيجاب أن لا يقبله بحسب حالة أخرى غيرها ، وكذلك عدم قبول الوجود فى حال العدم لا يوجب عدم قبوله بحسب غير تلك الحالة ، فإنّ حال الماهيّة ليس إمّا الوجود والعدم ، وإنّما هما حالاها عند لحاظها مع الغير ، وأمّا عند اعتبار جوهر الذّات لا مع الغير فلعلّها تقبل أحدهما لا بعينه. وإنّما يمتنع ذلك امتناعا لاحقا بشرط المحمول.

وكذلك إنّ الممكن إمّا أن يحضر معه سبب وجوده أو لم يحضره. أيضا فيه خلل ، لأن لم يحضر يحتمل أن يحضره معه لم يحضر سبب وجوده أو لم يحضر لا سبب وجوده ولا لم يحضر سبب وجوده الّذي هو سبب عدمه. فقد لاح : أنّ الخلل فى هذا القول كان من جهة أنّ القسمة لم تكن مستوفاة.

وربّما عبّر عنه : بأنّه لا يلزم من صدق قولنا : «الماهيّة بشرط كونها موجودة غير قابلة للعدم» ، صدق قولنا : «الماهيّة الّتي هى أحد أجزاء ذلك المجموع لا يقبل العدم».

فتوهّم عليه : أنّ شرط كون الشّيء قابلا لشيء هو أن يكون القابل خلوا عمّا ينافى المقبول ؛ فإذا نافى الوجود والعدم الإمكان والماهيّة مستحيلة الخلو عنهما كان يمتنع اتصافها بالإمكان.

وهو وهم من بعد ما قد أزاحه وأوضح سخافته ؛ فإنّ الماهية إنّما لا تخلو عن الوجود أو العدم بحسب الخارج. أمّا فى لحاظ العقل فقد تخلو عن اعتبارهما وإن كان هذا اللّحاظ نفسه نحوا من أنحاء وجودها والإمكان صفة لها بما هى مأخوذة فى هذا اللّحاظ مقيسة إلى الوجود أو العدم.

ثمّ من يعزل النّظر من هذا الفحص لا يستصحّ أن يقول : الشّيء حال وجوده ممكن الوجود أو حال عدمه ممكن العدم ، بل إنّه حال وجوده يمكن أن يصير

٢١٣

معدوما فى الزّمان الثّاني.

وقد يتشكّك عليه فيقال : القول بالإمكان الاستقبالىّ فاسد ؛ لأنّا إذا حكمنا على الموجود فى الحال بأنّه يمكن أن يعدم فى الاستقبال ، فإمّا أنّ إمكان العدم الاستقبالىّ حاصل فى الحال أو أنّه لا يحصل إلاّ فى الاستقبال.

والأوّل محال ؛ لأنّ العدم فى الاستقبال من حيث إنّه فى الاستقبال موقوف على حصول الاستقبال (٩٥) وحصول الاستقبال فى الحال محال ، والموقوف على ما هو محال ، فحصول العدم الاستقبالىّ بما هو عدم استقبالىّ وبما هو متوقف على حضور شرط محال ممتنع الحضور فى الحال. فإذن ، إنّما يمكن حصوله فى الاستقبال ، لا فى المحال.

فإن دوفع : بأنّ هذا الإمكان يؤخذ بالنّسبة إلى الاستقبال. وإنّما امتناع حصوله بهذا الشّرط فى الحال لا بحسب الاستقبال ، دفع : بأنّ النّسبة لا توجد إلاّ بعد وجود المنتسبين ، فالإمكان بالنّسبة إلى الاستقبال ليس يمكن حصوله فى الحال ، بل إنّما عند الاستقبال فقط.

وأمّا الثّاني ، فإنّه يعيد الإمكان الاستقبالىّ إلى الحالىّ ، لأنّ إمكان العدم الاستقبالىّ إذا كان لا يحصل إلاّ عند حصول الاستقبال ، كأن يكون حكما بالإمكان على الشيء بالنّسبة إلى زمانه الحاضر ، فالاستقبال عند حضوره يعود حالا.

ويزاح : بأنّ تصوّر الاستقبال فى الحال معقول. والماهيّة ، لا من حيث هى موجودة أو غير موجودة ، مستندة إلى الوجود الخارجىّ فى الاستقبال ، أو إلى عدمه ، ليست بمتعذّرة التعقّل. والإمكان الاستقبالىّ هو الّذي يلحق ذلك المتصوّر عند ذلك الإسناد.

والنّظر فى أنّ إمكان الوجود أو العدم يحصل فى الحال أو فى الاستقبال ليس نظرا فى الإمكان من حيث هو إمكان ، بل فيه من حيث إنّه صورة فى العقل ، وهو حاصل حين التّعقل من حيث هو صورة عقليّة ومتعلق بالاستقبال بما هو إمكان. وليس يستلزم ذلك محالا. وأمّا أنّ الإمكان نسبة إضافيّة لا تتحقق إلاّ عند المنتسبين

٢١٤

فكذلك. فقد ظهر أنّ المنتسبين حاصلان فى التّصوّر ومتعلّقان بالاستقبال. فأمّا أنّ إمكان العدم الاستقبالىّ لا يحصل إلاّ عند حصول الاستقبال فظنّ باطل ؛ فإنّ ذلك ليس يتوقّف على حصول الاستقبال ، بل إنّما على تصوّر الاستقبال.

<٨>إخاذة

هل بلغك حديث الأولويّة الذّاتيّة الغير بالغة حدّ الوجوب. وما يلفّق لإبطالها فقد يفسّر باقتضاء ذات الممكن رجحان أحد الطرفين بالقياس إليها على سبيل أولوية ما لائقة غير ضروريّة ، لا يخرج به الشّيء عن قضيّة الإمكان. وقد يقال : هى كون أحد الطرفين أليق بالنّسبة إلى الذّات لياقة غير واصلة إلى الضّرورة ، لا من جهة علّة خارجة ولا بعليّة من جنبة الذّات على قياس الأمر فى الواجب بالذّات. ثمّ يحاول إبطال المفسّر بإحالته فى نفسه تارة وسلب إغناء الطرف اللاّئق عن الافتقار إلى أن يكون له علّة موفّقة غير الذّات مرّة أخرى وقلّما اتّفق للمحاولين تبيان شديد أعظم من الدّعوى الفطريّة لما حوول إبطاله(١).

<٩> إضاءة تلويحيّة

عسيت بما استبان لك ، من أمر الجعل فى «المسافة الماضية» ومن حقيقة الإمكان فى هذه «المسافة» ، أن تجم بتهبّط هذا الفرض عن افق التّصوّر وتسقّطه عن مدرجة الاحتمال. أليس احتياج الماهيّة إلى الجاعل إنّما هو فى نفس حقيقتها التّصوريّة ، وإذ لا جعل ، لا ماهيّة.

وحمل الوجود عليها فى درجة ، فإنّه مفتقر إلى جعل الجاعل جوهر الماهيّة ، والوجود بنفسه مفتقر إلى نفس الماهيّة افتقار العارض اللاّحق إلى المعروض الملحوق به. والماهيّة ما لم يجعلها الجاعل أو يلحظ عدم جعله إيّاها ، لا متجوهرة ولا لا متجوهرة ، ومع عدم الجعل لا شيء يعبّر عنه بالماهيّة ، بل إنّما يقدر شيء

__________________

(١). أى : لبطلان ما حوول إبطاله. منه ، ره.

٢١٥

ويقال : إنّه ليس من الحقائق ، لعدم الجعل.

والإمكان لا ضرورة تجوهر الماهيّة ولا تجوهرها ، وإنّما يتّصف به ما دخل فى حيّز الجعل. وأمّا ما لم يجعل فى ظرف ما من ظروف الوجود ؛ فإنّه ليس شيء فى ذلك الظرف حتّى يصلح لإسناد مفهوم ما إليه إلاّ على التّقدير البحت. فقد كنّا أسمعناك أنّ الإمكان من اعتبارات الماهيّة والماهيّة فى أىّ ظرف هى ما جعلت. فما لم يجعل بعد ليست إلاّ ماهيّة تقديريّة. ومعنى إمكانها أنّها لو جعلت كان الإمكان من اعتبارات ذاتها المجعولة المتجوهرة.

فاحدس من ذلك : أنّ الفرق بين المعدوم الممكن والمعدوم الممتنع هو أنّ الفحص يقضى أنّ المعدوم الممكن لو انقلب فى حكم العقل من الماهيّة التّقديريّة إلى ماهيّة حقيقيّة كان الإمكان من اعتبارات تلك الماهيّة ، بخلاف الماهيّة التّقديريّة الممتنعة ؛ فإنّها وإن صارت ماهيّة حقيقيّة بحسب الفرض المستحيل ولو ألف ألف مرّة ، لم ينسلخ طباعها عن الامتناع ولم يعرض جوهرها اعتبار الإمكان بالنّسبة إلى التّقرّر واللاّتقرّر والوجود والعدم، لا أنّ المعدوم بما هو معدوم ممكن بالفعل ، أو المعدوم بما هو معدوم بالفعل موصوف بالامتناع.

فإذن ، من أىّ ماهيّة قبل الجعل حتى توضع أولويّة مفهوم ما بالقياس إليها : فإمّا أن يجوّز كون نفس الشّيء جاعل سنخ ذاته وفاعل جوهر ماهيّته ؛ ولست أحسب من فى حيّز الطباع الإنسانىّ متجشّما للإتيان به ؛ (٩٦) وإمّا أن يعدّ الحكم غنيّا عن التّبيان بعد التّشبّث على هذا الأصل. وهو أسلوب سنن الإنسانيّة. فهذا أمم القول عند من سنّ تقنين الحكمة اليمانيّة الإيمانيّة.

ولبعض من حمل عرش تقويم الفلسفة اليونانيّة من رؤساء الفلاسفة الإسلاميّة (١) قول، ليس على البعد من سبيل التحصيل ، وهو لو حصل سلسلة الوجود بلا وجوب لزم : إمّا إيجاد الشّيء نفسه ، وذلك فاحش ، وإمّا صحّة عدمه بنفسه ، وهو أفحش ؛ فبيانه أنّ الرّجحان المنبعث عن الذّات ؛ إمّا أنّه علّة مقتضية للوقوع ، فيكون الشّيء

__________________

(١). المعلم الثانى الشيخ أبو نصر محمّد بن محمّد بن طرخان الفارابي ، منه ، سلّمه اللّه.

٢١٦

موحد نفسه ، وإمّا أنّ سبيله أن يقع الوجود الرّاجح لا بمقتض غير الذّات ولا باقتضاء من الذّات. والشّيء ذو رجحان الوجود صحيح العدم ؛ إذ هو فى حيّز الإمكان. وليس يصلح لعليّة العدم إلاّ عدم ما هو علّة للوجود ، ولا علّة هناك للوجود. فإذن ، يكون الشّيء بنفسه صحيح العدم.

وأيضا على تقدير وجود الشّيء بالرّجحان يكون متصفا بالوجود وليس هو عينه ، لكونه ماهيّة إمكانيّة ، والذّات مبدأ رجحان الاتّصاف به ، فيكون الذّات لا محالة علّة. أليس العلّة لا يعنى بها إلاّ ما يترجّح المعلول به. فإذن يكون الشّيء علّة لاتّصاف نفسه بالوجود ؛ إذ هو غير واصل إلى حدّ الوجوب ، فيجوز عدمه مع بقاء رجحان الوجود ، وإلاّ لزم بلوغ الرّجحان حدّ الوجوب. فإذن ، قد صار العدم جائز الوقوع لا بسبب ، بل مع فرض بقاء سبب الوجود ، ولا يسع ذلك إلاّ أمّ دماغ السّفسطة ومخّ عظام الفساد.

وبالجملة (١) لمّا لم يكن الوجود ولا رجحان الوجود نفس الماهيّة ولا من جوحريّاتها الدّاخلة فى قوام ذاتها ، وكلّ ما هو خارج عن الماهيّة وعن جوهريّاتها المقوّمة لها ؛ فإنّ لحوقه بالماهيّة وعروضه لها أو اتّصافها به أو كونها هو وحمله عليها أو ما شئت فسمّه. وبالجملة ، أى : ما فرض من وجوه الارتباط بينهما ؛ فإنّه يمتنع أن يكون لا بعلّة مقتضية. فتلك العلّة إمّا نفس الماهيّة أو شيء آخر غيرها. وطباع الفطرة السّالمة عن سقم جوهر الغريزة يأبى إلاّ أن يشهد أنّ الماهيّة الباطلة الذّات باللّيسيّة الذّاتيّة لا تقتضى شيئا أصلا ، لا لنفسها الباطلة ولا لغيرها. والمعدوم لا ذات له ولا فى العدم ماهيّة متقرّرة. فإذن ، لا مستقرّ لتصوّر الأولويّة الذّاتيّة.

وحيث إنّ هذا النّظر إنّما الحاجة إليه قبل إثبات الواجب بالذّات وقبل ثبوت نفس الأمر مطلقا ، فليس لأحد أن يقول : لعلّ ممكنا ما فى وجوده العلمىّ ، أى وجوده فى علم اللّه تعالى وارتسامه فى القوى العالية ، يقتضي رجحان وجوده الخارجىّ على أنّ الوجود الذّهنىّ كالوجود الخارجىّ فى الاحتياج إلى العلّة. وأيضا

__________________

(١). قوله : «وبالجملة لما لم يكن الوجود ، الخ» هذا ما يختصّ بالمصنّف ـ أبقاه اللّه تعالى ـ ولما أخذ فيه بعض ما أخذ المحقق الطوسىّ عنوان البيان بقوله : «وبالجملة ، الخ ، شرح».

٢١٧

العدم الخارجىّ هو بطلان الذّات فى الخارج ، كما العدم الذّهنىّ بطلان الذّات فى الذّهن والعدم المطلق بطلان الذّات مطلقا.

فالذّات الباطلة فى الخارج كيف تقتضى ارتباط شيء بها بحسب الخارج؟ وهل يصحّ أن يقال : الذّات فى الخارج تقتضى أن تكون ذاتا فى الخارج راجحة الوجود.

ثمّ من يعزل النّظر عن أصل استحالة الأولويّة يقول ؛ لو كفت فى وقوع الوجود كانت الذّات مستفيدة الوجود من نفسها ؛ إذ لا معنى لمفيد الوجود إلاّ ما هو المبدأ لرجحان الوجود ، فيلزم أن يتقدّم على وجودها بالوجود وعلى رجحان وجودها برجحان الوجود.

<١٠> هتك وتزئيف

إنّ ما هديناك إليه بفضل اللّه ورحمته هو سواء السّبيل (١). وأمّا ملفّقات الأقوام فأكثرها مزيّفات النّظام. وأحقّ ما قد لفّق (٢) بأن يذكر هو أنّه لا يعقل احتمال تلك الأولويّة ؛ لأنّ ما يقتضي رجحان طرف فهو بعينه يقتضي مرجوحيّة الطرف المقابل ؛ لأنّ رجحان أحد الطرفين يستلزم مرجوحيّة الطرف الآخر ، للتّضايف بين الرّاجحيّة والمرجوحيّة. ومعيّة المتضائفين إنّما هى معيّة بالذّات ومرجوحيّة تستلزم امتناعه.

فلعلّ امتناع ترجيح المرجوح عند متوقّد الذّهن ليس ما دونه فى الظهور من أوائل الفطريّات ، وامتناعه يستلزم وجوب الطرف الرّاجح.

فإذن ، رجحان الوجود نظرا إلى الذّات يستلزم امتناع العدم بالنّظر إليها ، وهو يستلزم وجوب الوجود. فما فرض غير منته إلى حدّ الوجوب فهو منته إليه على ذلك التّقدير. فإذن قد ظهر الخلف.

ويزيّفه أنّه إذا كان اقتضاء رجحان طرف بعينه على سبيل الرّجحان يكون

__________________

(١). وأصله مذكور فى شرح مثير فتنة التشكيك لكتاب عيون الحكمة للشّيخ الرّئيس. لكن بعض من قد يسير مع حملة عرش التحقيق قد انتحله.

(٢). صاحب هذا التحقيق بعض من قد يسير مع من يحمل عرش التحقيق ، ونسبه إلى نفسه. منه ، ره.

٢١٨

لا محالة اقتضاء مرجوحيّة الطرف المقابل أيضا على سبيل الرّجحان لمكان التّضايف. والمرجوحيّة المستلزمة للامتناع إنّما هى المرجوحيّة على سبيل اللّزوم البتّىّ ، لا المرجوحيّة على سبيل الرّجحان. كيف والمرجوحيّة لكونها على سبيل الرّجحان ليس يجب ثبوتها بالنّظر إلى الذّات ، بل يرجّح فقط. وليس أيضا ثبوتها بطرد الطرف الآخر بتّة ، بل بنحو الأليقيّة والأولويّة.

وبالجملة ، فكما الوجود يرجّح على سبيل الأولويّة فكذلك أولويّة الوجود على سبيل أولويّة الأولويّة ، وأولويّة أولويّة الوجود على سبيل أولويّة أولويّة ، الأولويّة (٩٧) وهكذا إلى أن يثبت لحاظ العقل. فالمرجوحيّة الرّاجحيّة اللاّزمة كيف تقتضى الامتناع.

فإذن ، اقتضاء رجحان الطرف الرّاجح الرّاجحيّة كيف يقتضي امتناع الطرف المرجوح الرّاجح المرجوحيّة. أليس إمكان وقوع الطرف المرجوح إمكانا ضعيفا ووقوعا مرجوحا يجده العقل ، وهو مضمّن فى اقتضاء وقوع الطرف الرّاجح اقتضاء حريّا لا بتيّا ووقوعا راجحا لا لازما.

ثمّ لو ما شاك أحد بالتّسليم ، فمن المتّضح أنّ مرجوحيّة الطرف المرجوح إنّما يقتضي امتناعه بالنظر إلى الذّات امتناعا بالقيد من حيث مرجوحيّة هذا الطرف بالنظر إليها ، أعنى بحسب أخذ المقيس إليه الذّات المحيّثة بهذه الحيثيّة ، لا الذّات من حيث هى ، أو بحسب أخذ المقيس الطرف المرجوح المحيّث بالمرجوحيّة ، لا أصل مفهوم ذلك الطرف ، وهذا امتناع بشرط الوصف الّذي هو غير الذّات ، وهو امتناع بالغير لا بالذّات ، فإنّما ما يلزم هو وجوب الطرف الرّاجح بالغير لا بالذّات ، وليس فيه خرق الفرض.

أليس وجوب ذلك الطرف بإزاء امتناع الطرف المرجوح (١) وإنّما امتناعه بحسب الوصف. فإذا كان الوصف بنفسه ممكن الانسلاب عن الذّات ، فما ظنّك بالامتناع

__________________

(١). وذلك على تقدير أن يكون الأوليّة على سبيل الأولية دون اللزوم. وحينئذ فهذا بحث راجع على ذلك التقدير. وأما إذا كان الأوليّة على سبيل اللزوم فلا يتوجه هذا البحث ، سمع.

٢١٩

المستند إليه ، وهذا التزييف يستوعب جملة ما اتفق لهم تلفيقه ، وقلّ ما فى الأقوال الملفّقة يسلم منه.

<١١> ظلامات وإزاحات

من النّاس من استحلّ أن يقال : قد يكون الوجود أولى من العدم بالنّظر إلى ذوات فرقة الممكنات ، وليس يوجب ذلك خروجا عن حيّز الافتقار إلى العلّة ، لكونها مع ذلك فى حدود بقعة الإمكان ، إذ ليست تلك الأولويّة مبلغها البلوغ حدّ الوجود ، بل إنّما يستوجب الممكن بذلك أن يكون أكثرىّ الوقوع ، ولكن بإيجاب العلّة وإفاضة الفاعل أو أشدّ وجودا عند الوقوع أو أقلّ شرطا للوقوع. وفى الخليقة من يظنّ هذا الظّنّ فى طرف العدم بالنّسبة إلى طائفة من الحقائق بخصوصها وآخر بالنّسبة إلى قاطبة الممكنات ، لكون العدم أسهل وقوعا.

وربما كان فى الفئة الغير المحصّلة من الفلاسفة من يتقوّل هذه الأقاويل فى تشويش الفلسفة وعند غير أبناء الحقيقة من الفئة الاخرى المتسمّية بالمتكلمين الواقع من الطرفين أولى.

وقد يتشبّث : بأنّ الموجودات السيّالة ، كالأصوات والأزمنة والحركات ، لا شكّ أنّ العدم بها أولى ، وإلاّ لصحّ بقاؤها ويصحّ الوجود أيضا عليها ، وإلاّ لما وجدت أصلا. فإذن قد وجدت أمور يصحّ عليها الوجود والعدم ، ومع ذلك يكون العدم بها أولى ، ثمّ إذا جاز ذلك فى جانب العدم فليكن جوازه فى جانب الوجود أولى.

وبأنّ العلّة قد توجد ثمّ يتوقف إيجابها معلولها على تحقق شرط أو انتفاء مانع. ولا يرتاب فى أنّ تلك العلّة الأولى بها اقتضاء المعلول ، وإلاّ لم تتميّز العلّة عن غير العلّة. فإذن تلك العلّة يصحّ عليها الإيجاب وعدم الإيجاب معا ، مع أنّ الإيجاب أولى بها من عدمه. فليكن الوجود أيضا بالنّسبة إلى الماهيّة على ذلك السّبيل ، فيكون ذلك الوجود أكثريّا ، لا دائما ، كما فى الإيجاب.

فمن العلل ما اقتضاؤها لمعلولاتها أكثرىّ ، لا دائم ، كطبيعة الأرض ؛ فإنّ

٢٢٠