مصنّفات ميرداماد

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]

مصنّفات ميرداماد

المؤلف:

مير محمّد باقر بن محمّد حسين الاسترابادي [ ميرداماد ]


المحقق: عبدالله نوراني
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: منشورات مطبعة وزارة الإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-528-006-0
الصفحات: ٥٢٧
الجزء ١ الجزء ٢

بالقياس إليه. ولا يلزم أن يعرض كلّ ممكن بالقياس إلى أىّ ممكن كان بما هما ممكنان إلاّ إذا لوحظا بما هما معلول وعلّة أو معلولا علّة واحدة إن كانا كذلك ، بل بعض الممكنات بالقياس إلى بعض بخصوصهما ، كالكلّ والجزء مثلا.

والامتناع بالقياس إلى الغير يعرض كلّ موجود بما هو موجود ، واجبا كان أو ممكنا ، مقيسا إلى عدم معلوله أو عدم علّته مثلا. وكذلك يعرض تحقّق كلّ معدوم ممتنع الوجود بالذّات أو بالغير مقيسا إلى وجود ما يصادمه تحقّقه.

والإمكان بالقياس إلى الغير لا يعرض القيّوم الواجب بالذّات مقيسا إلى شيء من الموجودات. وربّما يعرض ما سواه من الموجودات مقيسا بعضها إلى بعض ، وقد يعرض لامور ممتنعة بالذّات بالقياس إلى عدمات هى ممكنات بالذّات وملزومات لتلك.

<٢>تفصلة تحصيليّة

< تحقيق معنى الوجوب بالغير والوجوب بالقياس إلى الغير>

الوجوب بالغير هو ضرورة الشّيء ، تقرّرا ووجودا ، بالنّظر إلى الغير على سبيل الاقتضاء والعلّيّة ، فتكون الضّرورة للشّيء من قبل الغير ، وهو وجوب المعلول من العلّة ؛

والوجوب بالقياس إلى الغير ضرورة تحقّق الشّيء بالنّظر إلى الغير على سبيل الاستدعاء ، ويرجع إلى أنّ الغير يأبى إلاّ أن يكون الشّيء ضرورىّ التّحقّق ، سواء كان من قبله اقتضاء وعليّة للشّيء ، أو حاجة ذاتيّة واستدعاء افتقارىّ بحسب ظليّة نوريّة استناريّة بالنّسبة إليه ، أو ارتباط استصحابىّ بحسب صحابة لزوميّة.

وذلك وجوب العلّة بالقياس إلى ذات المعلول ، أى استدعاء المعلول بحسب وجوبه من العلّة أن يكون علّته قد وجب لها تحقّق ، لا من قبل ذلك المعلول (٦٩) ، بل إمّا بنفسها أو من قبل ما فوقها ، ووجوب المعلول بالقياس إلى ذات العلّة ، أى :

١٤١

كون العلّة الواجبة تأبى أن يكون معلولها غير ضروريّ التّحقّق.

وفى هذا اللّحاظ يعزل النّظر عن أنّ المعلول له فى نفسه وجوب وجود وإن لم يكن له بنفسه ذلك. وإنّما قد أعطته علّة وجوده ذلك الوجوب.

وبالجملة ، إنّما يلحظ فى هذا اللّحاظ وجوب وجود المعلول بحسب قياس حاله إلى حال العلّة معه ، لا بحسب ما هو حال ثابت للمعلول فى نفسه ، ولكن من جهة إعطائه العلّة إيّاه.

وإنّما ينظر إلى ذلك فى لحاظ الوجوب بالغير ووجوب أحد المعلولين بعليّة واحدة بالقياس بالآخر ؛ أى كون الآخر من حيث هو أحد المعلولين بعليّة واحدة يأبى أن يكون شقيقه غير ضرورىّ التّحقّق.

فهذا الوجوب هو كون الشّيء ضروريّ التّحقّق بحسب استدعاء الغير ذلك مع عزل النّظر عن أن يكون هو فى نفسه مخلوطا به ، وإن كان هو فى نفسه مخلوطا به. كما أنّ الوجوب بالغير هو كون الشّيء ضرورىّ الوجود ، أى كونه فى نفسه متلبّسا بهذه الضّرورة بحسب اعطاء الغير ذلك. فهو اعتبار فى الشّيء بحسب ما يلائم حال الغير عند ما يلحظ بالقياس إليه ، لا من حيث هو له فى نفسه ، ولكن من قبل إضافة الغير.

فإذن ، المعلول واجب بالعلّة وبالقياس إليها جميعا ، بخلاف العلّة ، فإنّها واجبة بالقياس إلى المعلول لا به ، وكذلك أحد معلولى علّة واحدة بالنّسبة إلى الآخر.

والقيّوم الواجب بالذّات ـ جلّ ذكره ـ واجب بالقياس إلى طباع الكلّ على الإطلاق. كما أنّه واجب بالذّات وواجب بالقياس إلى طباع كلّ موجود معلول.

والامتناع بالغير هو ضرورة عدم الشّيء من قبل اقتضاء الغير ، كالعدم المعلول من عدم العلّة. والامتناع بالقياس إلى الغير ضرورة عدم تقرّر الشّيء ووجوبه بحسب استدعاء حال الغير عند ما يلحظ هو بالنّسبة إليه. وهو يجتمع مع الامتناع بالغير فى وجود المعلول بالنّظر إلى عدم العلّة أو عدم المعلول بالنّسبة إلى وجود العلّة ؛ ويفترق عنه بالتّحقّق فى عدم العلّة بالنّسبة إلى وجود المعلول ، أو وجود العلّة

١٤٢

بالنّظر إلى عدم المعلول ، وفى عدم أحد المعلولين بعلّة واحدة بالنّظر إلى وجود الآخر أو وجوده بالنّظر إلى عدم الآخر.

والإمكان الخاصّ بالقياس إلى الغير هو لا ضرورة طرفى الشّيء بحسب استدعاء حال الغير ذلك حين ما يلحظ مقيسا إليه ، ولا يتحقق إلا فى الامور الّتي ليست بينها علاقة طبيعيّة من جهة علّيّة أحدهما للآخر أو معلوليّتهما لثالث بقياس بعضها إلى بعض.

والإمكان العامّ بالقياس إلى الغير لا ضرورة أحد طرفى الشّيء بحسب استدعاء حال الغير ذلك عند ما يلحظ مقيسا إليه. ويقع إمّا على الواجب بالقياس إلى الغير ، والممكن بالقياس إلى الغير ، وإمّا على الممكن بالقياس إلى الغير ، والممتنع بالقياس إلى الغير ، ويقابل الوجوب والامتناع والإمكان بالذّات بحسب المفهوم ، ولا يصادمها فى التّحقّق. والإمكان بالغير ، وهو الّذي يحقّق الفحص استحالته هو لا ضرورة طرفى الشيء فى نفسه بالنّسبة إلى نفسه باقتضاء الغير ذلك.

<٣> تبيان

أما استبان لديك فيما كرّر عليك : أنّ كلاّ من الوجود والعدم طبيعة وحدانيّة لا تتكثر إلاّ بالإضافة إلى موضوعات متكثّرة ، فلا يتصوّر لشيء واحد بعينه فى وقت بعينه من جهة بعينها وجودان أو عدمان. فاحكم أنّه لا يعقل لشيء واحد بعينه من جميع الجهات التّقييديّة المتكثّرة للذّات المحيّثة ضرورتان لوجود واحد بالقياس إلى ذاته أو ضرورتان لعدم واحد بالنّظر إلى ذاته أو لا ضرورتان لوجود واحد وعدم واحد بالنّسبة إلى ذاته.

فكلّ من الضّرورة واللاّضرورة طبيعية معقولة واحدة (٧٠) لا تتحصّل إلاّ بالإضافة ، ولا تتكثّر إلاّ بتكثّر وجودات أو عدمات متكثّرة بتكثّر ذوات أو حيثيّات تقييديّة مكثّرة لذات واحدة عند تحيّثها بها ، فلكلّ ممكن فى نفسه لا ضرورة واحدة للوجود والعدم بالقياس إلى ذاته.

١٤٣

وأ ليس قد القي إليك : أنّ قسمة الشّيء إلى الواجب والممكن والممتنع بالذّات انفصال حقيقىّ ؛ إذ كلّ مفهوم فهو فى ذاته إمّا ضرورىّ الوجود أولا. وهذا فى التّحقيق منفصلان حقيقيّان يتركّب كلّ منهما من الشّيء ونقيضه على سنّة كلّ قضيّة منفصلة تكون أكثر من جزءين ؛ فإنّها تكون متعدّدة فى الحقيقة. فالثّلاثة لا تجتمع ولا ترتفع ، والاثنان منها لا يجتمعان. وذلك فى أىّ موجود أو مفهوم كان بأيّة حيثيّة فرضت. فإذن ، ما أسهل أن يستبين لك أنّه يستحيل أن يكون غير الشّيء قد أعطاه لا ضرورة الوجود والعدم بالنّظر أي ذاته.

أفليس إذا كان كذلك كان هو فى ذاته مع عزل النّظر عن ذلك الغير لا ضروريّ الوجود والعدم ؛ إذ لو كان ضروريّ أحدهما كان الغير قد ألبس ذاتا ما مقابل ما لها بنفسها وكساها مصادم ما استحقّته بطباعها واستوجبته بجوهرها.

فإذن ، إمّا أن يكون لذات الشّيء لا ضرورتان للوجود وللعدم بالنّظر إليها ، إحداهما لها بنفسها والاخرى لها من قبل إعطاء الغير ، وقد بأن لك فساده ؛ وإمّا أن يتكرّر لها لا ضرورة الوجود والعدم بعينها من تلقاء جوهرها بنفسها ومن قبل إفادة الغير على أن يكون لها لا ضرورة واحدة بعينها لا تتكثّر ، وغيريّته من الحيثيّتين : حيثيّة الذّات وحيثيّة الغير. ومن الفطريّات لطباع العقل الملقح بلقاح العلم أنّه لا يتكرّر طبيعة بعينها من جهة تقييديّة بعينها لشيء بعينه.

وممّا حصّله شركاؤنا الّذين سبقونا بهذه الصّناعة أنّه يمتنع تكرّر اتّصاف شيء بطبيعة نوعيّة واحدة فى وقت بعينه. فإذن ، لا إمكان بالغير على أنّ العقل إذا لخصّ المفهومات يدفعه دفعا لا يحتاج فيه إلى تبيان.

ومن تضاعيف القول انكشف أنّ ما يعنى بالإمكان هو لا ضرورة الطرفين بالنّظر إلى الذّات ، على أن يسلب الطرفان سلبا بسيطا ، أى : لا اقتضاء ضرورة شيء منهما ، لا اقتضاء لا ضرورتهما ولا تساويهما بالنّظر إلى الذّات ، ولا على أن يؤخذ سلبا عدميّا ، أو على سبيل إيجاب سلب المحمول.

١٤٤

<٤> هداية تنبيهيّة

إنّا بما هديناك ـ إلى أنّ الإمكان بالذّات هو سلب ضرورة تقرّر الذّات وسلب ضرورة لا تقرّرها بالنّظر إليها سلبا بسيطا تحصيليّا ، وينطوى فى ذلك سلب ضرورة الوجود والعدم بالنّظر إليها سلبا بسيطا ـ علّمناك أنّك ، كما دريت : أنّ الوجوب ضرورة الوجود بالنّظر إلى الذّات ، على أن يكون الشّيء من حيث هو هو بنفسه متقرّرا ، ونفس ذاته مصداق حمل مفهوم الواجب عليه ، لا على أن يكون ذاته علّة لضرورة لا تجوهره ولضرورة عدمه.

فكذلك يجب أن تعلم : أنّ الإمكان بالذّات سلب ضرورة التّجوهر وسلب ضرورة اللاّتجوهر معا ، وسلب ضرورة الوجود والعدم جميعا بالنّظر إلى الذّات سلبا بسيطا ، على أن تكون الذّات ، بما ليس لها اقتضاء ، مصداق سلب الضّرورة عن طرفيها ، لا أنّها علّة مقتضية لذلك السّلب ، كما هو سنّة الماهيّات بالقياس إلى لوازمها ؛ إذ الذّات لمّا لم تكن بنفسها متجوهرة أو لا متجوهرة ، ولم يكن من قبلها اقتضاء أصلا لضرورة التّجوهر أو ضرورة اللاّتجوهر أو ضرورة الوجود أو ضرورة العدم ، أو التّجوهر أو اللاّتجوهر أو الوجود أو العدم ؛ بل إنّما وجدها العقل بنفس ذاتها فى كورة محوضة القوّة الصّرفة. وعلى الافق الأقصى فى تلك النّاحية (٧١) كان يصدق السّلب البسيط المطلق ولم يكن صدق ذلك السّلب ، بما هو سلب بسيط ورفع بحت ، ممّا يعوز إلى اقتضاء من تلقاء الذّات له ، بل يكفى فيه عدم الاقتضاء على الإطلاق.

فإذن ، الإمكان بالذّات ليس من لوازم الماهيّة على المعنى الشّائع المصطلح ، بل على معنى أنّ نفس الماهيّة تكفى لصدقه ، لا باقتضاء ؛ فإنّ السّلب البسيط لا يفتقر إلى اقتضاء، بل يكفيه عدم اقتضاء الذّات لما هو سلب له. نعم تساوى الطرفين بالنظر إلى نفس الذّات الإمكانيّة المتقرّرة فى لحاظ العقل أو صحّة إيجاب ضرورتهما لماهيّتها المتقرّرة بحسب حكم العقل من لوازم الماهيّة بالنّسبة إليها على المعنى الشّائع ، لكن ليس حقيقة الإمكان ذلك ، بل أرفع منه فى صرافة القوّة.

وهذه دقيقة حكميّة نضيجة ، والجمهور يغفلون عنها. والأقرب منهم درجة

١٤٥

إلى التّحصيل ربما يؤمن بأنّ الإمكان هو السّلب البسيط ، لكنّه قد يفتى المستفتين أنّه ليس على شاكلة الوجوب بالقياس إلى ذات الواجب ، بل إنّه من اللوازم المستندة إلى اقتضاء نفس الماهيّة.

ثمّ إنّهم يحاولون البرهنة ، على أنّ حقيقة الإمكان لا ضرورة الطرفين بالنّظر إلى الذّات ، لا اقتضاء تساوى الطرفين ، بأنّ الممكن لو اقتضى بذاته تساوي الطرفين بالنّظر إليه لامتنع فعليّة أحد الطرفين فى نفس الأمر ، وإلاّ ترجّح أحد المتساويين أو تخلّف مقتضى الذّات عنها.

ويذهلون عن أنّ نفس الأمر أوسع من لحاظة الذّات من حيث هى ، وأنّ انتفاء شيء فى خصوص نحو من أنحاء نفس الأمر بخصوصه لا يستلزم انتفاءه فى نفس الأمر ، فلم لا تكون حقيقة الإمكان اقتضاء ذات الممكن تساوي الطرفين بالنّظر إلى ذاته من حيث هى هى ، لا اقتضاء الذّات تساوى الطرفين فى نفس الأمر ، فيكون الّذي ينافى مقتضى الذّات الممكن ترجّح أحد الطرفين بالنّظر إلى ذاته من حيث هى ، لا ترجّحه بالنّظر إليه فى نفس الأمر من جهة تأثير العلّة.

ومن المستبين : أنّ حال فعليّة أحد طرفى الممكن ليس ذلك الطرف راجحا بالنّظر إلى ذاته من حيث هى ، بل إنّما فى نفس الأمر من تلقاء إفاضة الجاعل.

ونحن قد كنّا أوضحنا الأمر لك فى سالف الأيّام : بأنّ الممكن فى ذاته بالقوّة من حيث هى هى ، وكذا جميع ماله من تلك الجهة ، فلا يكون له فى حدّ ذاته فعليّة أصلا ، ولا اقتضاء لشيء ما لم يقع فى صقع الفعليّة من تلقاء وجود الجاعل ، وإلاّ لكان لما بالقوّة من حيث هو بالقوّة أن يحاول إخراج الشّيء من القوّة إلى الفعل ، وإنّ طباع غريزة العقل ليدفع إلاّ بطلانه.

فإذن ، ليس للممكن أن يقتضي بذاته فى حدّ ذاته اللاّمتجوهرة بنفسها شيئا من الأشياء أصلا ، حتّى اقتضاء هذا السّلب. فإذن ، ليس له من جهة ذاته إلاّ السّلب المطلق المستوعب والقوّة الصّرفة المستغرقة.

وقد لاح لك أنّ الطرفين لا يتساويان بالنّسبة إلى ذاته من جنسية الغير. فإذن ، ليس حقيقة الإمكان إلاّ السّلب الصّرف لضرورة الطرفين والقوّة المحضة.

١٤٦

<٥> ظنّ وحسبان

إنّ من لم يتعلّم ما علّمناك وظنّ أنّ الماهيّة الإمكانيّة تكون علّة لإمكانها الذّاتىّ حسب من براهين إبطال الإمكان بالغير أنّه لو أمكن ذلك لزم انقلاب الواجب بالذّات أو الممتنع بالذّات إلى الممكن بالذّات أو توارد علّتين مستقلّتين ، هما الذّات والغير ، على معلول واحد هو الإمكان الذّاتىّ للذّات.

وقد اورد عليه : أنّه يجوز أن تكون عليّة الذّات أو استقلالها بالعليّة مشروطة بانتفاء الغير. فإذا وجد لم يكن للذّات عليّة أو استقلال ، فلا يلزم توارد العلّتين المستقلّتين ، كما فى اعدام أجزاء المركّب ؛ فإنّ كلاّ منهما علّة مستقلّة لعدمه عند الانفراد ، وإذا اجتمع عدّة منها بطل استقلال الآحاد.

ودفع : بأنّ الإمكان حينئذ يستند مرّة إلى الذّات بشرط انتفاء الغير ومرّة إلى الغير ، فلا يزال للغير مدخل فى إمكان الذّات ، إذ لو لم يكن له مدخليّة ما كانت الذّات علّة تامّة على كلّ وجه. وإذ نيط اقتضاء الذّات بأمر ما غيرها فلا يكون الشّيء ممكنا ذاتيّا. فإمّا إنّه واجب بالذّات أو ممتنع بالذّات ، وإلاّ فسدت القسمة الحقيقيّة.

والحقّ : أنّ علّة عدم المعلول طبيعة عدم أحد علله. وذلك أمر واحد لا تعدّد فيه بحسب نفسه وإن تعدّدت أفراده ؛ فإنّها ليست عللا بخصوصها ، بل العلّة هى (٧٢) القدر المشترك ، والطبيعة المرسلة بما هى طبيعة مرسلة لا تتكرّر ، ولا ينسب إليها التّكثّر إلاّ بالعرض. وإنّما المتكثّرة والمتكرّرة خصوصيّات الآحاد الّتي هى لغات فى العلّيّة ، والطبيعة المرسلة محفوظة بتعاقباتها وواحدة فى تكرّراتها وينحفظ بانحفاظها مقتضاها ولا يلزم تكرّره. بل الفحص التّحصيلىّ يحكم أنّ عدم علّة المعلول الشّخصىّ عدم علّته التّامّة الشّخصيّة.

وربما يقال : لو كان إمكان الشّيء معلولا لغيره لكان هو بحسب ذاته جائزا أن يكون ممكنا وأن يكون واجبا لذاته أو ممتنعا لذاته ، وإمكان كون الشّيء واجبا لذاته أو ممتنعا لذاته مشتمل على التّناقض.

وأيضا ، يكون على تقدير عدم تأثير الغير فيه واجبا أو ممتنعا ، وكلاهما

١٤٧

مستحيلان ، لأنّ سلب تأثير الغير فيه أمر مغاير لذاته ، وكون الشّيء بسبب الغير واجبا بذاته أو ممتنعا بذاته غير معقول. ولا يتأتّى أن يستتمّ لو حوول بتتميمه ما قد تلوناه عليك بعد أن تتعرّف أنّ الإمكان الذّاتىّ هو أنّ الشّيء إذا اعتبر بذاته من غير التفات إلى شيء آخر وراء نفسه كان حقّ التّجوهر واللاّتجوهر بالقياس إلى حقيقته ، وحقّ نسبة الوجود والعدم إلى ذاته سلب الضّرورة لا بعليّة واقتضاء منه لذلك ، بل لعدم اقتضاء منه للضّرورة.

كما أنّ الوجوب بالذّات هو كون الشّيء بحيث إذا أخذ بذاته من غير التفات إلى غيره كان حقّه أنّه ضرورىّ التّجوهر وأنّه يجب له الوجود بذاته ، لا باقتضاء من ذاته لذلك. وكذلك الممتنع فى ذاته ضرورىّ اللاّتجوهر وواجب عدمه بذاته لا باقتضاء منه.

ومن حيث تعرّفت أنّه لا يكون إمكان خاصّىّ بالغير تحصّلت أنّه كذلك الإمكان العامىّ لا يكون بالغير ، بل إنّما بالقياس إلى الغير ، سواء كان الممكن العامىّ بالقياس إلى الغير واجبا بالذّات أو ممكنا بالذّات أو ممتنعا بالذّات.

<٦> شكوك امتحانيّة وحلول برهانيّة

ولعلّك تقول : أليس الماهيّة من حيث هى ليست إلاّ هى ، على أن يصحّ سلب كلّ ما ليس من جوهريّاتها عنها من تلك الحيثيّة وسلب الضّرورة من عوارض الماهيّة لا نفسها ولا من جوهريّاتها.

فكما أنّ الحيوان من حيث هو هو ، أعنى طبيعة الحيوان المرسل بما هو حيوان مثلا ، كما يسلب عنه الكتابة من تلك الحيثيّة كذلك يسلب عنه سلب الكتابة أيضا من تلك الحيثيّة ، لكونهما جميعا من العرضيّات اللاّحقة ، فكذلك كلّ ماهيّة إمكانيّة يصحّ سلب ضرورة الطرفين وسلب سلب ضرورة الطرفين عنها من حيث هى ، وكذلك سلب كلّ ما ليس من جوهريّاتها.

فإذن ، الإنسان من حيث هو إنسان مثلا ، كما أنّه ليس بواجب بالذّات

١٤٨

ولا بممتنع بالذّات ، فكذلك هو من تلك الحيثيّة ليس بممكن بالذّات أيضا. وقد أفتيتنا أنّ كلّ ممكن بالذّات فإنّه فى مرتبة ذاته وفى حدّ حقيقته ممكن بالذّات ومختصّ باستحقاق سلب ضرورة الطرفين عنه من حيث ذاته ، فلم ذلك وهو من تلك الحيثيّة متساوى النّسبة إلى سلب الضّرورة وسلب سلب الضّرورة ، وبالجملة ، إلى أىّ سلب من السّلوب.

وأيضا ليس يتعيّن له بما هو هو وجوب أو إمكان أو امتناع ، وإنّما يتعيّن الإمكان فى المرتبة المتأخرة عن مرتبة الذّات. فإذن لا بدّ من اقتضاء من الذّات للإمكان ، وليس سبيله سبيل الوجوب الّذي هو عين حقيقة الواجب بالذّات.

فيفصح لك تدليس الوهم المسفسط عليك ويكشف تلبيسه فى هذا القول المغلّط ، لأن يغتالك بأن يقال : سينكشف من ذى قبل ـ إن شاء اللّه تعالى ـ أنّ سلب أىّ مفهوم فرض من عوارض الشّيء عنه ، من حيث هو هو ، إنّما ينبغى أن يقدّم على من حيث هو ، حتّى تعود الحيثيّة جزءا من المحمول ويكون السّلب واردا على الثّبوت من تلك الحيثيّة ، لا أن يؤخّر حتّى يصير من حيث ذنابة للموضوع وقيدا له ، فإن فعل ذلك فربما يكذب مطلقا. وذلك إذا كان مدخول السّلب ممّا لا يصحّ أن يكون الموضوع عروا منه فى نفس الأمر بوجه من الوجوه أصلا.

فالصّحيح هو أنّ الإنسان ليس من حيث هو إنسان ليس هو بضرورىّ الطرفين ؛ إذ ليس صدق سلب ضرورة الطرفين عنه من حيثيّة الإنسانيّة ، بل من حيث عدم اقتضائه شيئا من ضروريّة الطرفين ، لا أنّ الإنسان من حيث هو إنسان ليس هو بضرورىّ الطرفين ، إذ الإنسان من حيث هو إنسان شيء ما من الأشياء ، وكلّ شيء من الأشياء فهو إمّا ضروريّ أحد الطرفين أو ليس بضرورىّ الطرفين. وليس يسوّغ العقل خلوّه عن الثّلاثة جميعا ، كما دريت :

وليس الإنسان من حيث هو إنسان واجبا ولا ممتنعا. فهو من حيث هو إنسان ليس بضرورىّ الطرفين ، وإن حكم الفحص أنّ لا ضرورة الطرفين ليست من حيث ما هو هو ، بل من حيث عدم اقتضائه الضّرورة المسلوبة. فإذن ، قد فكّت عقدة خوف العثرة (٧٣) بإزاء خضرة السّفسطة.

١٤٩

وبالجملة ، الماهيّة من حيث هى هى ما دامت تلحظ بذاتها من تلك الحيثيّة ولم يلتفت إلى أمر ما غيرها لم يصدق الحكم عليها إيجابا إلاّ بنفسها وبجوهريّاتها.

فإذا لوحظت ضرورة الطرفين ونسبت إلى ذاتها من حيث ذاتها صدق الحكم بسلبها عنها سلبا بسيطا تحصّليّا على أن تؤخذ الحيثيّة حالا للموضوع ، ومصداق الحكم السّالب عدم اقتضاء الذّات لما نسبت إليها ، لا اقتضائها لإثبات أو سلب. وإنّما كان يعوز الأمر إلى ذلك لو كان الحكم بإيجاب شيء ما لها ، كالزّوجيّة للأربعة.

فإذن ، نسبة الإمكان إلى الماهيّة سبيلها سبيل نسبة الوجوب إلى الواجب بالذّات فى عدم الإعواز إلى اقتضاء من الذّات. وليس ذلك السّبيل فى مصداق الحكم ؛ فإنّ المصداق هناك ذات الواجب بذاته ، وفى الإمكان نفس الماهيّة بما ليس لها اقتضاء الضّرورة أصلا. فإذن ، تعيّن استحقاق الماهيّة للإمكان مع تأخّره عن مرتبة الماهيّة وعدم اقتضاء من الماهيّة واستحالة انسلاخ عنه.

وأمّا التّفصّى بانسلاخ الماهيّة عن الإمكان من حيث هى هى لا يستلزم صحّة انسلاخها عنه فى نفس الأمر ؛ لأنّها أوسع من هذه اللّحاظة على سياق ما يقال فى عامّة العرضيّات الثّبوتيّة المخلوط بها الشّيء فى نفس الأمر ، لا بما هو هو ، فكاد يكون هاهنا قياسا بلا جامع.

ولست أرى أن يستباح به حلّ هذا العقد إلاّ على أنّه من قبيل الامتحانات ، لا على أنّه من الفتاوى ، على ما عرّفناكه ؛ فإنّ ذلك إنّما يستتبّ فيما لا يجب أن يستوعب هو ومقابلاته كافّة المفهومات بقاطبة الحيثيّات.

والقسمة إلى الواجب بالذّات والممتنع بالذّات والممكن بالذّات ، حقيقة عامّة تستغرق أىّ مفهوم كان بأيّة حيثيّة أخذت فيه ، وليس فى طوق العقل أن يخترع اعتبارا تعمّليّا أو انتزاعا حقيقيّا يخرج عن شمولها ، وأنّ كلّ مفهوم موجود أو موهوم ، معقول أو محسوس ، صادق أو كاذب ، فهو فى حدّ ذاته من حزب واحد منها ولو لوحظ بأيّة حيثيّة حيّثت بها محقّقة أو مقرّرة.

ثمّ لعلّك تقول : الوجوب هو ضرورة الوجود بالغير ، ونقيضه سلب ضرورة الوجود بالغير ، وهو ممكن بالنّظر إلى ذات الممكن ، وكذلك نقيض الامتناع

١٥٠

بالغير ، وهو سلب ضرورة العدم بالغير. فإذن ، ثبت الإمكان بالغير وهو مقابل الوجوب بالغير والامتناع بالغير.

فيقال لك : نقيض ضرورة الوجود بالغير سلب ضرورة الوجود بالغير ، على أن يكون «بالغير» قيدا للضّرورة ، لا لسلب الضّرورة ؛ وكذلك نقيض الامتناع فاللّازم سلب الضّرورة الآتية من الغير ، لا سلب الضّرورة الآتى منه. والمستحيل هو إتيان سلب الضّرورة من الغير ، لا سلب إتيان الضّرورة منه.

ثمّ ربما يتوهّم : أنّه إذا اعتبر الواجب من حيث الإضافة إلى ممكن ما ، ككونه مبدأ زيد ، مثلا ، كان بهذا الاعتبار ممكنا ، مع أنّه واجب بذاته. فقد تحقّق الإمكان بالغير فى الواجب بالذّات على منوال تحقّق الوجوب بالغير والامتناع بالغير فى الممكن بالذّات.

فازيح : بأنّ ما يجب للواجب بالذّات هو وجود ذاته. ومع هذا الاعتبار وجود ذاته باق على وجوبه الذّاتىّ ؛ فإنّ الواجب مع هذه الحيثيّة وغيرها من الحيثيّات يجب وجود ذاته بذاته وبالقياس إلى استدعاء كلّ معوّل. فالحيثيّات اللاّحقة كيف تبدّل الذّات ، نعم لا يجب وجود ذاته المقيّدة بهذه الحيثيّة. وهو غير واجب بذاته. فما هو واجب بذاته لم يصر ممكنا بالغير ، بخلاف الممكن إذا صار واجبا أو ممتنعا بغيره ؛ فإنّ الممكن المأخوذ مع وجود العلّة ، مثلا ، يجب وجود ذاته بالعلّة ، فقد صار نفس ما هو ممكن بذاته واجبا بغيره.

ونحن نبسط القول فى الجهات الحقيقيّة والإضافيّة بحسب اختلاف الأسماء للقيّوم الواجب بالذّات ، على ما هو صريح الحقّ ، وعليه الفتوى ، إذ حان حينه إن شاء اللّه تعالى.

<٧> أسّ قانونيّ

وجوب الطبيعة بشرط شيء لذاتها أو لشيء أو بشيء يستلزم وجوب الطبيعة المرسلة لا بشرط شيء ، كذلك ، بل هو عينه ، ولا عكس ؛ وامتناع الطبيعة المرسلة

١٥١

لا بشرط شيء فى نفسها ، أو لشيء أو بشيء يستلزم امتناع الطبيعة بشرط شيء أيضا كذلك ، وليس عينه ، ولا عكس. وما يجب على الطبيعة المرسلة ويمتنع على فرد تلك الطبيعة. وما يمكن على الفرد يمكن على الطبيعة المرسلة ، ولا يتعدّى ذلك فى كلّ واحد إلى الآخر ؛ فإنّ للخواصّ طبائع يجب ويمتنع بها ما لا كذلك فى الطبيعة المرسلة. ويعنى بالفرد والمتخصّص ما يعمّ الحصّة.

<٨> تأسيس تأصيليّ

اعلم أنّ الواجب الوجود يجب له طبيعة الوجود المرسل لا بشرط شيء بالنّظر إلى ذاته ويمتنع عليه طبيعة العدم المرسل بلا شرط شيء بالنّظر إلى ذاته.

فليس يلزم أن يجب له جميع الوجودات ، بل قد يمتنع عليه بذاته بعض أفراد الوجود أو حصصه ، كالوجود بعد العدم ، أو الوجود بالغير ، أو الوجود الزّائد اللاّحق. وذلك بحسب خصوصيّات القيود ، وكونه واجب الوجود بذاته هو الّذي يوجب ذلك ، ويجب أن يمتنع عليه بذاته كلّ نحو من أنحاء العدم وحصصه ، حيث إنّ ساحة جنابه يتقدّس عن شوائب القوّة ويتعالى عن مسالك الإمكان.

وواجب الوجود بالذّات واجب الوجود من جميع جهاته ، وكلّ ما يصحّ له من الكمال فهو له بالفعل من جهة ذاته ، وهو الوجوب الصّرف والحقيقيّة الحقّة والفعليّة المحضة. فليس يجوز أن يمكن له نحو ما من الوجود ، بل كلّ وجود وكلّ كمال وجود يمكن له (٧٤) بالإمكان العامّ ، فهو واجب له بذاته.

والممكن الوجود لا يجب له بذاته طبيعة الوجود المرسل لا بشرط شيء ، ولا يمتنع عليه بذاته طبيعة العدم المرسل لا بشرط شيء. فليس يجوز أن يجب له بذاته شيء ما من أنحاء الوجود وحصصه ، بل ربما يصحّ أن يمتنع على ذاته بعض الوجودات بخصوصه. وكذلك يمكن أن يمتنع على ذاته بذاته بعض أنحاء العدم بخصوصه.

أليس إمكان الطبيعة لا يأبى امتناع الفرد بخصوصه ، فلذلك ما قد امتنع وجود

١٥٢

يكون عين الماهيّة أو من جوهريّاتها بالنّسبة إلى الطبائع الإمكانيّة كافّة.

وكذلك وجود غير مسبوق بالفاعل وبالعدم سبقا بالذّات على مسلك مطلق الحكمة ووجود لا يسبقه العدم. والجاعل القيّوم الواجب بالذّات ـ جلّ ذكره ـ سبقا دهريّا وسرمديّا على محجّة الحكمة الصّريحة الحقّة الّتي اوتيتها ، والوجود فى الموضوع على الماهيّة الجوهريّة ، والوجود لنفسه على طبيعة العرض ، والوجود القارّ على الماهيّة الغير القارّة.

وامتنع العدم السّابق على الوجود والعدم الطارئ بعد الوجود بالنّظر إلى نفس ماهيّة الزّمان بما هى ماهيّة على فلسفتهم اليونانيّة ، والعدم السّابق على الوجود سبقا زمانيّا. وكذا العدم المطلق المتأخّر عن الوجود تأخّرا زمانيّا بالقياس إلى ذاته بذاته ، لا العدم الّذي يتقدّم على الوجود تقدّما دهريّا. والّذي يتأخّر عنه تأخّرا دهريّا على حكمتنا النّضيجة اليمانيّة الإيمانيّة ، وليس فى شيء من ذلك خرق طبائع الإمكان.

<٩> مضيق عقد وفصية حلّ

كأنّك متأهّب للتّشكيك بأن تقول : ألستم قد أفتيتم المقلّدين أنّ الإمكان محوج الممكن فى بقائه أيضا إلى الجاعل ، وقد تكفّلت لنا تبيانه فى مستقبل القول ـ إن شاء اللّه تعالى ـ او أليس إذا امتنع أحد النّقيضين بالقياس إلى ذات بنفسها يكون قد وجب الآخر بالنّسبة إلى تلك الذّات بما هى تلك. فإذن ، إذا امتنع العدم الطارئ مطلقا أو طرءا زمانيّا فقط بالنّظر إلى ذات بنفسها يكون قد وجب الآخر بالنّسبة إلى تلك الذّات بما هى تلك الذات ، وعدم ذلك الزّمان كان نقيضه ـ وهو الوجود الطارئ أو الوجود المستمرّ أو ما شئت فسمّه ـ واجبا له بذاته. فكيف يكون هو فى بقائه فاقرا إلى علّة مبقية.

فاعلم أنّا ندبّر اهبتك لهذا القول المعضل المغلط بأن نقول : كيف يكون ذلك النّحو من الوجود واجبا لذات الزّمان ، وإنّه ليمكن انتفاؤه عنه نظرا إلى ذاته فى

١٥٣

ضمن انتفاء الوجود المطلق عنه بالكلّيّة وإن لم يكن ذلك بعد عروض الوجود بما هو مأخوذ على التّحيّث بهذه الحيثيّة. فالوجوب على تقدير لا يوجب الوجوب بالذّات ، وشيء من أنحاء الوجود لا يقع نقيضا للعدم الطارئ ، بل لشيء من العدمات الخاصّة أصلا. بل إنّ نقيضه رفعه. ولا يتأبّى أن يتحقّق بالوجود أو بعدم لا يكون طاريا. فالمقيّد قد يرتفع برفع ذاته المقيّدة وقد يرتفع برفع قيده.

وما يتبرهن امتناعه هو العدم الطارئ على طريق التّوصيف التّقييدىّ دون الإضافة ، أى : رفع الوجود على التّقييد بالطريان ، أعنى الرّفع المقيّد ، لا الرّفع المضاف على سبيل دفع المقيّد.

فإذن ، ما أسهل لك أن تجترى فى تحقّق نقيضه برفع الطريان ، فيتحقّق برفع غير طارئ ، أى غير مختصّ بزمان بعد زمان الوجود المقطوع الاستمرار ، على ما هو المعنى المحصّل من طريان العدم فى افق الزّمان عند مقنّن الحكمة النّضيجة الحقيقيّة.

<١٠> تنبيه تنويريّ

سبيل القول فى العدم بعد الوجود بعديّة زمانيّة بالنّظر إلى ذات الزّمان سبيل القول فى الوجود بعد العدم ، أيّة بعديّة كانت بالقياس إلى ذات الواجب الوجود تعالى ؛ فإنّه يمتنع هناك مع امتناع جميع أنحاء العدم ، ويتحقّق بالوجود الّذي هو قبل جميع الوجودات. وليس هو من بعد عدم أصلا.

<١١> شكّ وتكشاف

وربما يستكن فى خلدك : أنّ فردا من الطبيعة كيف يكون نقيض فرد آخر منها ـ وأفراد الطبيعة الواحدة متشابهة من جهة ما لها من تلك الطبيعة ـ العدم الطارئ ورفعه فردان لطبيعة العدم.

فيزال : بما قد قرع سمعك ؛ من أنّ طبيعة العدم تختلف باختلاف ما اضيف

١٥٤

إليه ؛ فإن اخذ العدم الطارئ فردا من طبيعة رفع الوجود لم يكن رفعه فردا من تلك الطبيعة ، بل من طبيعة العدم ، بمعنى مطلق الرّفع المساوق للسّلب المستفاد من كلمة النّفى مطلقا. وقد عرّفناك أنّ السّلب يقع بإزاء الماهيّة وبإزاء الوجود جميعا.

فإن لجّ لاجّ من ضعفاء العقول وأقوياء الأوهام على أنّ الرّفع مقصور على الإضافة إلى الثّبوت الانتزاعىّ البتة دون الماهيّة فى نفسها ، فيكون قد حاول إرجاع النّقيضين إلى ثبوت العدم الطارئ ورفعه وإخراجهما عن طبيعة واحدة.

ثمّ إن أعدت النّظر فى رفع رفع شيء ما من الأشياء مقيّدا بالطريان ؛ فإنّه فرد من طبيعة الرّفع المضاف إلى الرّفع ، ونقيضه ـ وهو رفعه أيضا ـ فرد من تلك الطبيعة.

قيل لك : إنّ نقيض الشّيء بمعنى رفعه قد يكون من أفراد ماهيّة ؛ فأحد النّقيضين يكون رفعا بالنّسبة إلى الآخر ولا يكون الآخر رفعا بالنّسبة إليه ، بل مرفوعا به ، فيكون من حيّز الإيجاب الإضافي بالنّسبة إليه وإن كان فى نفسه ماهيّة الرّفع.

فإذن ، التّناقض بهذا المعنى ليس يتكرّر من جانبى النّقضيين ، إذ لا يكون كلّ منهما رفعا لصاحبه ، بل المتكرّر هو المفهوم الأعمّ من كون الشّيء رفعا لمفهوم أو مرفوعا به. ومن هاهنا يتأسس أنّه لا يكون بين أكثر من مفهومين تناقض ، فلا يكون شيئان مفهوم كلّ منهما رفع شيء واحد بعينه. وينبسط القول فيه من ذى قبل إن شاء اللّه تعالى.

<١٢> مسألة امتحانيّة

لو أمكن أن يكون الوجوب أو الامتناع للشىء بوسط مستند إليه لم يكن يستوجب أن يخرج بذلك عن حدّ حقيقة الإمكان (٧٥). لكنّ البرهان الفاصل قد قام على استحالة ذلك. فلو قدّر أنّ ممكنا ما يقتضي امتناع كلّ عدم بخصوصه بالنّظر إلى ذاته لم يكن يلزم امتناع طبيعة العدم المرسل لا بشرط شيء بالنّظر إلى ذاته من حيث هى هى ، بل إنّما من حيث إنّه يقتضي امتناع جميع أنحاء العدم ، والطبيعة المرسلة لا تتحقّق إلاّ بتحقّق شيء من أفرادها ، فذلك الاقتضاء وسط بين الذّات

١٥٥

وبين اقتضائها الطبيعة المرسلة ؛

لكنّ الممكن يستحيل أن يقتضي امتناع كلّ عدم بخصوصه بالنّسبة إلى ذاته ، بل يجب أن لا يأبى بذاته نحوا ما من العدم بخصوصه ، كما أنّه بذاته لا يأبى طبيعة العدم المرسل لا بشرط شيء ، وإلاّ يلزم أن يقتضي امتناع طبيعة العدم المرسل وإن لم يكن بالذّات ، بل من جهة اقتضاء امتناع جميع العدمات الخاصّة ، فيكون يستلزم بذاته تساوق نقيض تلك الطبيعة ، أعنى الوجود. فإذن تكون ذاته كافية فى اقتضاء الوجود ، وهو من الطبائع الإمكانيّة الباطلة فى أنفسها. وهذه المسألة وإن كانت كشرطيّة مقدّمها من الفروض الامتحانيّة ، فربما تجدها من آلات الخبريّة إلى الفتاوى البرهانيّة.

<١٣> إضاءة برهانيّة

فلاسفة الفلسفة العاميّة ، الّتي ليست هى الحكمة بالحقيقة وإنّما هى مسخ الحكمة ، يظنّون أنّ الوجوب بالغير والامتناع بالغير قد ينقلب كلّ منهما إلى الآخر بحسب أفق الزّمان لوجود الحوادث الزّمانيّة بعد العدم وعدمها بعد الوجود.

وأمّا الحكمة الحقّة النّضيجة التى أوتيتها من فضل ربّى ورحمته ويشبه أن تكون هى طبخا للفلسفة اليونانيّة ، فسبيلها أنّ انقلاب أحدهما إلى الآخر إنّما هو فى وعاء الدّهر ، لوجود الحوادث الدهريّة ، وهى جميع الممكنات هناك بعد العدم الدّهرىّ ويتعيّن الامتناع بالغير بالانقلاب إلى الوجوب بالغير دون العكس. وأمّا بحسب أفق الزّمان فلا انقلاب لأحدهما إلى الآخر أصلا. بل إنّما اختصاص لكلّ منهما بشرط من الزّمان إن لم يكن الوجود أو العدم الزّمانىّ دائما دواما زمانيّا مستوعبا لجميع الأزمنة.

<١٤> إحضار

إنّ ثلّة من الأوّلين فى الفلسفة يأخذون الوجوب بمفهومه والإمكان

١٥٦

والوحدة ومضاهياتها على قياس ما قد قرع سمعك فى الوجود امورا زائدة على الأشياء فى الأعيان. وهذه الفرقة تتكلّف بهذا الضابط المحفوف بالفسخ تهويشات مشوّشات لاصول منضبطة على سبيل الاستمرار اللاّزم. وبإزاء هؤلاء ثلّة من الآخرين يعترفون بأنّ تلك امور هى زائدة فى مفهوماتها على الماهيّات ، إلاّ أنّها لا صور لها فى الأعيان يحاذى بها ما فى الأذهان ، فهؤلاء هم المعتبرون من النّظر من الفريقين.

وربما تسمع فئة من محدثة أقوام يقولون : هذه الامور لا تزيد على الماهيّات الّتي تضاف إليها ذهنا ولا عينا. وهؤلاء ليسوا من أهل المخاطبة ، وكلامهم أخسّ من أن يستأهل لأمر هيّن فضلا عن البحث. فأنت تعلم من نفسك أنّه إذا قيل : الفرس ممكن الوجود والإنسان ممكن الوجود ، لا يعنى بإمكان الوجود فى الفرس نفس الفرس ، وفى الإنسان نفس الإنسان ، بل معنى واحد يقع عليهما. ولو عنى بإمكان الوجود الفرسيّة وقيل : الإمكان على الإنسان بالمعنى الّذي قيل على الموصوف بالفرسيّة فقد قيل : الإنسان على الفرسيّة. فمثل الإمكان إذا قيل على مختلفات الحقائق فليس هو تلك أو واحدا منها ، بل أمر آخر يعمّها.

والعجب ـ كما قال بعض حملة عرش العلم والتّميز (١) ـ أنّ هؤلاء موافقون أبناء الحقيقة فى الاحتجاج على وجود الصّانع ـ عزّ شأنه ـ بأنّ العالم ممكن ، وكلّ ممكن فاقر إلى مرجّح ، ثمّ إذا باحثوا فى الإمكان يقولون : هو نفس الشّيء الّذي يضاف إليه ؛ فكأنّهم قالوا : العالم عالم. وكذا حال غير الإمكان.

<١٥> دعامة عقليّة

إنّ الطبائع المستوعبة ، منها ما طباع نوعه إذا كان له صورة متحققة أن يتكرّر متسلسلا مترادفا يتولّد منه فى الوجود سلاسل متولّدة معا إلى لا نهاية ، كالوجود والوجوب والإمكان والوحدة.

__________________

(١). غنى به شيخ أتباع الإشرافيّة صاحب المطارحات ، منه (ره).

١٥٧

فكما أنّه إذا كانت للوجود صورة عينيّة وراء الماهيّة الموجودة كان له وجود عينىّ ولوجود الوجود أيضا إلى لا نهاية ؛ ثمّ لمجموع السّلسلة وجود آخر متسلسل مرة ثانية إلى لا نهاية اخرى وهكذا ؛ ولا يكون الوجود الأصل حصول إلاّ بحصولها جميعا.

فكذلك الوحدة إذا كانت فى الأعيان وراء الماهيّة كان للماهيّة دون الوحدة وحدة ، وللوحدة دونها وحدة أخرى ، وللوجود وحدة ، وللوحدة وجود ، وتعود اللاّنهاية مترادفة متضاعفة. وكذلك فى الإمكان والوجوب ، ويتولّد سلسلة اخرى على التّضاعف بين الإمكان والوجود ، فللإمكان وجود ولوجود الإمكان إمكان ؛ إذ لو وجب لم يكن عارضا ، ووراء تلك سلاسل إلى لا نهاية فى التّضايف بين الإمكان والوجوب بالغير وبين الوجود والوجوب وبين الوحدة والوجوب. فإذن ، كلّ ما هذه شاكلته ، فإنّه لا يكون له صورة فى الأعيان ولا هو بحسب الأعيان شيء وراء الماهيّة.

وبالجملة ، لو زاد الإمكان على الماهيّة فى الأعيان ، فإن كان واجبا فى نفسه لم يكن يوصف به غيره ، وإن وجب بنسبته إلى الماهيّة فهو معلول ممكن بالذّات واجب بالغير ، وكلّ ممكن إمكانه قبل وجوه ، إذ يقال : «أمكن فوجد ، لا وجد فأمكن» وكذلك وجوبه بالغير ، فإنّه يجب فيوجد ؛ فيعاد الكلام إليه ويذهب أعداد إمكاناته ووجوباته مترتبة إلى لا نهاية ، ولا يزال كلّ من وجوده وإمكانه ووجوبه (٧٦) يتكرّر على الآخر. فإذن ، هذه الأمور طبائع انتزاعيّة والاعتبارات الذّهنيّة لا حدّ لها بالوقوف ولا مبلغ لها متعيّن التّخصّص من الحصول فى لحاظ العقل.

وهذا ما رام من قال : «خطرات الأذهان لا يجب فيها النّهاية» ، إذ ليس الإخطار يدوم حتى يدوم تكرّر الخطرات ، وقد يعنى بوجود ما لا نهاية له فى الذّهن تصوّر مفهوم اللانهاية مع الحكم بصدقه على مفهوم ما أو لا صدقه عليه. ولو لم يكن ذلك لما صحّ لنا أن نسلب مفهوم اللاّنهاية عن شيء ما أصلا.

١٥٨

فإذن ، يتمثّل هذا المفهوم فى الذّهن ولا يلزم حصول ما لا نهاية فيه ، كما فى لحاظ مفهوم اجتماع النّقيضين والمعدوم المطلق وما فى حزبه. وقد تلى عليك فيما قد سلف. وهذا المعنى ممّا يفتقر إلى قريحة تامّة وحسن تأمّل غائر.

<١٦> هدم بهتيّ

وممّا تزلزلت به قاعدة الثّلاثة المتكفلة لحاظ الأمر فى المعلول الأوّل ، إذ هو أيضا من الحوادث الذّاتيّة المسبوق وجودها بالإمكان. وقد اعترفت بذلك هذه الفرقة. فلو كان إمكانه أمرا عينيّا وراء ماهيّته دار بين أن يكون واجبا بذاته ، ولا واجب فى الوجود إلاّ واحد ، ثمّ ما يجب بذاته كيف يكون صفة لشيء ؛ وبين أن يستند إلى جاعل المعلول الأوّل المفروض له ، ويكون لا محالة متقدّما عليه فى المجعوليّة ، لتقدّم الإمكان ولاستحالة التكثّر فيما يصدر عن الجاعل أوّلا ، فيكون هو المعلول الأوّل ، لا معروضه ، ويعاد القول إلى إمكان الإمكان ، ويساق لا بنهاية. فيلزم أن لا يكون للجاعل مجعول أوّل ، وهم يناهتون بذلك.

ورئيس مشّائيّة الإسلاميّة كلّما احتال للخروج إلى المنتدح فى تعليق له بعد الشفاء سمّاه بالإنصاف والانتصاف فلم يزدد إلاّ شدّا لإعضاد الوقوع فى المضيق.

<١٧> مخلص قسطاسيّ

فإذن ، هذه الطبائع ، بسائر مضاهياتها ، اعتبارات ذهنيّة انتزاعيّة ليست من الامور العينيّة ولا من العدميّات بمعنى عدمات الأشياء وسلوبها الّتي يؤخذ فيها رفعها.

فالإمكان وإن كان سلب الضّرورة سلبا بسيطا ، لكنّه عدم الماهيّة أو عدم الوجود ، بل هو عدم ضرورة تجوهر الماهيّة المتجوهرة وعدم ضرورة لا تجوهرها ، وعدم ضرورة وجودها وعدمها ، فهو اعتبار عقليّ فى الماهيّة المتقرّرة. ويعتبر فى مفهومه ما يوجب أن يكون لحاظه فى الماهيّة بما هى متقرّرة ، لا بما هى منتفية فى نفسها. ولذلك لا يصدق عليها بما هى ليست فى

١٥٩

نفسها وبما هى ليست فى الوجود ، أى من حيث ليسيّتها ومن جهة انتفائها ، بل إنّما من جهة أنّ هذه الذّات المتقرّرة ليست بنفسها ضروريّة التّقرّر ولا ضروريّة اللاّتقرّر ، وليست ضروريّة الوجود ولا ضروريّة العدم ؛ فصدق الإمكان على الممكن المعدوم ليس من حيث انتفاء ذاته ، بل إنّما حين ما يتقرّر فى العقل ويلحظ من حيث حال ذاته المتقرّرة فى نفسها إمّا فى الأعيان أو فى ذهن ما ، فهو سلب فى تقرير ، لا سلب فى انتفاء.

وبالجملة ، هو يجتمع مع الماهيّة والوجود ، ويصدق على الماهيّة الموجودة فى حال وجودها أنّها ليست ضروريّة الوجود الّذي هى محفوفة به ولا ضروريّة العدم ، فكيف يكون عدميّا ، وأمر العدم بخلاف ذلك ؛ فإنّه ليسيّة الذّات وانتفاؤها. وإنّما يصدق على الذّات بما هى ليست ، لا بما لا تكون ليسيّة ما حال نفسها المتقرّرة وشأنها.

فإذن ، الإمكان بالقوّة أشبه منه بالعدم ، فإنّه قوّة فى الذات المتقرّرة ، ولكن بالقياس إلى نفس الذّات المتقرّرة ، لا بالقياس إلى ما وراءها فقط ممّا يصحّ لها من الكمالات والعوارض ، كما هى شاكلة سائر أقسام القوّة. ولذلك يكون للذّات بحسب هذه القوّة معنى ما بالقوّة بحسب الذّات ، وبحسب سائر الأقسام معنى ما بالقوّة.

وقد كنّا أوضحنا لك الفرق فى سالف الكلام وعلّمناك أنّ ممكنا ما لا يكون عروا من معنى ما بالقوّة ؛ سواء كان من الأنوار العقليّة والمفارقات النّوريّة أو من عالم الظلمات ؛ بخلاف معنى ما بالقوّة ؛ فإنّ عالم الأنوار المفارقة متبرّئ السّاحة عنه ، والامتناع ضرورة عدم الذّات المقدّرة التّقرّر ، كما كنت تعرّفت من قبل.

فإذن ، هذه الأمور اعتبارات عقليّة فى الذّوات المتقرّرة على التّحقيق أو على التّقدير ؛ بخلاف الأعدام ؛ إذ هى اعتبارات انتفاء الذّوات والمفهومات من حيث هى ليست ، والإمكان الذّاتىّ الّذي هو منها ويعمّ قاطبة الحوادث الذّاتيّة غير الإمكان المختصّ بالحوادث الزّمانيّة فقط ، حيث ما يتلى عليك أنّ كلّ حادث

١٦٠