تفسير النسفي - ج ٣

عبدالله بن أحمد النسفي

تفسير النسفي - ج ٣

المؤلف:

عبدالله بن أحمد النسفي


المحقق: الشيخ مروان محمّد الشعار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٦

(قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (٨٨) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً) (٩٠)

فيها الحمأة ، حامية شامي وكوفي غير حفص بمعنى حارّة ، وعن أبي ذر : كنت رديف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على جمل ، فرأى الشمس حين غابت ، فقال : (أتدري يا أبا ذر أين تغرب هذه؟) قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : (فإنها تغرب في عين حامية) (١) ، وكان ابن عباس رضي الله عنهما عند معاوية فقرأ معاوية حامية ، فقال ابن عباس : حمئة ، فقال معاوية لعبد الله بن عمرو : كيف تقرؤها؟ فقال : كما يقرأ أمير المؤمنين ، ثم وجه إلى كعب الأحبار : كيف تجد الشمس تغرب؟ قال في ماء وطين كذلك نجده في التوراة ، فوافق قول ابن عباس رضي الله عنهما ولا تنافي ، فجاز أن تكون العين جامعة للوصفين جميعا (وَوَجَدَ عِنْدَها) عند تلك العين (قَوْماً) عراة من الثياب ، لباسهم جلود الصيد ، وطعامهم ما لفظ اليحر ، وكانوا كفارا (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) إن كان نبيا فقد أوحى الله إليه بهذا ، وإلا فقد أوحى إلى نبيّ فأمره النبيّ به ، أو كان إلهاما ، خيّر بين أن يعذّبهم بالقتل إن أصروا على أمرهم وبين أن يتخذ فيهم حسنا بإكرامهم وتعليم الشرائع إن آمنوا ، أو التعذيب القتل واتخاذ الحسن الأسر لأنه بالنظر إلى القتل إحسان.

٨٧ ـ (قالَ) ذو القرنين (أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ) بالقتل (ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً) في القيامة ، يعني أما من دعوته إلى الإسلام فأبى إلا البقاء على الظلم العظيم وهو الشرك ، فذاك هو المعذّب في الدارين.

٨٨ ـ (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) أي عمل ما يقتضيه الإيمان (فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى) (٢) فله جزاء الفعلة الحسنى التي هي كلمة الشهادة. جزاء الحسنى كوفي غير أبي بكر ، أي فله الفعلة الحسنى جزاء (وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً) أي ذا يسر أي لا نأمره بالصعب الشاقّ ولكن بالسهل المتيسّر من الزكاة والخراج وغير ذلك.

٨٩ ـ ٩٠ ـ (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً. حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ) هم

__________________

(١) هو في الصحيحين دون قوله : تغرب في عين حامية ، ورواه أبو داود والحاكم وابن أبي شيبة والبزار وأبو يعلى ، وفي كتب الحديث على حمار وليس على جمل.

(٢) في مصحف النسفي (جَزاءً الْحُسْنى) بالنصب من غير تنوين وهي قراءة.

٤١

(كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) (٩٤)

الزنج (١) (لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها) من دون الشمس (سِتْراً) أي أبنية ، عن كعب : أرضهم لا تمسك الأبنية وبها سردات (٢) ، فإذا طلعت الشمس دخلوها ، فإذا ارتفع النهار خرجوا إلى معايشهم ، أو الستر اللباس ، عن مجاهد : من لا يلبس الثياب من السودان عند مطلع الشمس أكثر من جميع أهل الأرض.

٩١ ـ (كَذلِكَ) أي أمر ذي القرنين كذلك ، أي كما وصفناه تعظيما لأمره (وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ) من الجنود والآلات وأسباب الملك (خُبْراً) نصب على المصدر لأن في أحطنا معنى خبرنا ، أو بلغ مطلع الشمس مثل ذلك ، أي كما بلغ مغربها ، أو تطلع على قوم مثل ذلك القبيل الذي تغرب عليهم ، يعني أنهم كفرة مثلهم وحكمهم مثل حكمهم في تعذيبه لمن بقي منهم على الكفر وإحسانه إلى من آمن منهم.

٩٢ ـ ٩٣ ـ (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً. حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) بين الجبلين وهما جبلان سدّ ذو القرنين ما بينهما. السّدين وسدا مكي وأبو عمرو وحفص ، السّدين وسدا حمزة وعليّ ، وبضمّهما غيرهم ، قيل ما كان مسدودا خلقة فهو مضموم وما كان من عمل العباد فهو مفتوح ، وانتصب على أنه مفعول به مبلوغ (٣) ، كما أنجر بالإضافة في (هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) وكما ارتفع في (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) (٤) لأنه من الظروف التي تستعمل أسماء وظروفا ، وهذا المكان في منقطع أرض الترك مما يلي المشرق (وَجَدَ مِنْ دُونِهِما) من ورائهما (قَوْماً) هم الترك لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً) أي لا يكادون يفهمونه إلا بجهد ومشقة من إشارة ونحوها. يفقهون حمزة وعليّ ، أي (٥) لا يفهمون السامع كلامهم ولا يبيّنونه ، لأن لغتهم غريبة مجهولة.

٩٤ ـ (قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) هما اسمان أعجميان بدليل منع الصرف وهمزهما عاصم فقط ، وهما من ولد يافث ، أو يأجوج من الترك ومأجوج من

__________________

(١) الزنج : هم السودان من سلالة حام (الأنساب ٣ / ١٧٠) وقيل الزنج من قرى نيسابور (معجم البلدان ٣ / ١٧٢) والأول حسب السياق أوفق.

(٢) في (ظ) و (ز) أسراب ، والسّرد الثقب.

(٣) في (ز) لبلغ.

(٤) الأنعام ، ٦ / ٩٤.

(٥) في (ز) أن.

٤٢

(قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) (٩٦)

الجيل (١) والدّيلم (مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) قيل كانوا يأكلون الناس ، وقيل كانوا يخرجون أيام الربيع فلا يتركون شيئا أخضر إلا أكلوه ، ولا يابسا إلّا احتملوه ، ولا يموت أحدهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه كلّهم قد حمل السلاح ، وقيل هم على صنفين طوال مفرطو الطول وقصار مفرطو القصر (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً) خراجا حمزة وعليّ ، أي جعلا نخرجه من أموالنا ، ونظيرهما النّول والنّوال (عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا).

٩٥ ـ (قالَ ما مَكَّنِّي) بالإدغام وبفكّه مكي (فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) أي ما جعلني فيه مكينا من كثرة المال واليسار خير مما تبذلون من الخراج فلا حاجة بي (٢) إليه (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) بفعلة وصنّاع يحسنون البناء والعمل وبالآلات (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) جدارا أو حاجزا حصينا موثقا ، والردم أكبر من السدّ.

٩٦ ـ (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) قطع الحديد والزّبرة القطعة الكبيرة ، قيل حفر الأساس حتى بلغ الماء ، وجعل الأساس من الصخر والنّحاس المذاب ، والبنيان من زبر الحديد بينها الحطب والفحم حتى سدّ ما بين الجبلين إلى أعلاهما ، ثم وضع المنافيخ حتى إذا صارت كالنار صبّ النحاس المذاب على الحديد المحمّى ، فاختلط والتصق بعضه ببعض وصار جبلا (٣) صلدا ، وقيل بعد ما بين السدّين مائة فرسخ (حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) بفتحتين جانبي الجبلين لأنها يتصادفان أي يتقابلان : الصّدفين مكي وبصري وشامي ، الصّدفين أبو بكر (قالَ انْفُخُوا) أي قال ذو القرنين للعملة انفخوا في الحديد (حَتَّى إِذا جَعَلَهُ) أي المنفوخ فيه وهو الحديد (ناراً) كالنار (قالَ آتُونِي) أعطوني (أُفْرِغْ) أصبّ (عَلَيْهِ قِطْراً) نحاسا مذابا لأنه يقطر ، وهو منصوب بأفرغ وتقديره وآتوني قطرا (٤) فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ، قال ائتوني بوصل

__________________

(١) الجيل : هم أهل بلاد متفرقة وراء طبرستان ويقال لها كيل وكيلان فعرّب والمنتسبون إليها كثير (الأنساب ٢ / ١٤٥) وقيل هم من أبناء فارس انتقلوا من نواحي اصطخر فنزلوا بطرف من البحرين فغرسوا وزرعوا وحفروا وأقاموا هناك (معجم البلدان ٢ / ٢٣٤).

(٢) في (ظ) و (ز) لي.

(٣) في (ز) جلدا أو.

(٤) زاد في (ظ) و (ز) أفرغ عليه قطرا.

٤٣

(فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨) وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) (١٠١)

الألف حمزة ، وإذا ابتدأ كسر الألف أي جيئوني.

٩٧ ـ (فَمَا اسْطاعُوا) بحذف التاء للخفة لأنّ التاء قريبة المخرج من الطاء (أَنْ يَظْهَرُوهُ) أن يعلوا السدّ (وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً) أي لا حيلة لهم فيه من صعود لارتفاعه ولا نقب لصلابته.

٩٨ ـ (قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) أي هذا السدّ نعمة من الله ورحمة على عباده ، أو هذا الإقدار والتمكين من تسويته (فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي) فإذا دنى مجيء يوم القيامة وشارف أن يأتي (جَعَلَهُ) أي السدّ (دَكَّاءَ) أي مدكوكا مبسوطا مسوّى بالأرض ، وكلّ ما انبسط بعد ارتفاع فقد اندكّ. دكاء كوفي أي أرضا مستوية (وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) آخر قول ذي القرنين.

٩٩ ـ (وَتَرَكْنا) وجعلنا (بَعْضَهُمْ) بعض الخلق (يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ) يختلط (فِي بَعْضٍ) أي يضطربون (١) ويختلطون إنسهم وجنّهم حيارى ، ويجوز أن يكون الضمير ليأجوج ومأجوج وأنهم يموجون حين يخرجون مما وراء السدّ مزدحمين في البلاد ، وروي أنهم يأتون البحر فيشربون ماءه ويأكلون دوابه ، ثم يأكلون الشجر ومن ظفروا به من الناس ، ولا يقدرون أن يأتوا مكة والمدينة وبيت المقدس ، ثم يبعث الله نغفا (٢) في أقفائهم فيدخل في آذانهم ، فيموتون (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) لقيام الساعة (فَجَمَعْناهُمْ) أي جميع (٣) الخلائق للثواب والعقاب (جَمْعاً) تأكيد.

١٠٠ ـ (وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً) وأظهرناها لهم فرأوها وشاهدوها.

١٠١ ـ (الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي) عن آياتي التي ينظر إليها أو عن القرآن فأذكر (٤) بالتعظيم ، أو عن القرآن وتأمل معانيه (وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) أي

__________________

(١) في (ز) يطربون.

(٢) النغف : دود ، الواحدة نغفة (القاموس ٣ / ٢٠١).

(٣) في (ز) جمع.

(٤) في (ز) فأذكره.

٤٤

(أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (١٠٢) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١٠٤) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (١٠٥) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (١٠٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (١٠٧) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً) (١٠٨)

وكانوا صمّا عنه إلا أنه أبلغ إذ الأصمّ قد يستطيع السمع إذا صيح به ، وهؤلاء كأنهم أصمّت (١) أسماعهم فلا استطاعة بهم للسمع.

١٠٢ ـ (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ) أي أفظنّ الكفار اتخاذهم عبادي يعني الملائكة وعيسى عليهم‌السلام أولياء نافعهم ، بئس ما ظنوا ، وقيل أن بصلتها سدّ مسدّ مفعولي أفحسب ، وعبادي أولياء مفعولا أن يتخذوا ، وهذا أوجه ، يعني أنهم لا يكونون لهم أولياء (إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً) هو ما يقام للنزيل وهو الضيف ونحوه فبشّرهم بعذاب أليم.

١٠٣ ـ (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) أعمالا تمييز ، وإنما جمع والقياس أن يكون مفردا لتنوّع الأهواء ، وهم أهل الكتاب أو الرهبان.

١٠٤ ـ (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ) ضاع وبطل ، وهو في محلّ الرفع أي هم الذين (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً).

١٠٥ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) فلا يكون لهم عندنا وزن ومقدار.

١٠٦ ـ (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ) هي عطف بيان لجزاؤهم (بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً) أي جزاؤهم جهنم بكفرهم واستهزائهم بآيات الله ورسله.

١٠٧ ـ ١٠٨ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً. خالِدِينَ فِيها) حال (لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً) تحوّلا إلى غيرها ، رضا بما أعطوا ، يقال حال من مكانه حولا أي لا مزيد عليها حتى تنازعهم أنفسهم إلى أجمع لأغراضهم وأمانيهم ، وهذه غاية الوصف لأنّ الإنسان في الدنيا في أي نعيم كان فهو طامح مائل الطرف إلى أرفع منه ، أو المراد نفي التحوّل وتأكيد الخلود.

__________________

(١) في (ز) أصميت.

٤٥

(قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (١١٠)

١٠٩ ـ (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ) أي ماء البحر (مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي) قال أبو عبيدة : المداد ما يكتب به ، أي لو كتبت كلمات علم الله وحكمته وكان البحر مدادا لها ، والمراد بالبحر الجنس (لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ) بمثل البحر (مَدَداً) لنفد أيضا ، والكلمات غير نافدة ، ومددا تمييز نحو لي مثله رجلا ، والمدد مثل المداد وهو ما يمدّ به. ينفد حمزة وعليّ ، وقيل قال حييّ بن أخطب : في كتابكم ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ثم تقرؤون وما أوتيتم من العلم إلا قليلا فنزلت ، يعني أنّ ذلك خير كثير ولكنه قطرة من بحر كلمات الله.

١١٠ ـ (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ) فمن كان يأمل حسن لقاء ربّه وأن يلقاه لقاء رضا وقبول ، أو فمن كان يخاف سوء لقاء ربّه ، والمراد باللقاء القدوم عليه ، وقيل رؤيته كما هو حقيقة اللفظ والرجاء على هذا مجرى على حقيقته (فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) خالصا لا يريد به إلا وجه ربّه ولا يخلط به غيره ، وعن يحيى بن معاذ (١) هو ما لا يستحى منه (وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) هو نهي عن الشرك أو عن الرياء ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (اتقوا الشرك الأصغر) قالوا : وما الشرك الأصغر؟ قال : (الرياء) (٢). قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (من قرأ سورة الكهف فهو معصوم ثمانية أيام من كلّ فتنة تكون فإن يخرج الدجال في تلك الثمانية عصمه الله من فتنة الدجال ، ومن قرأ قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ آخرها عند مضجعه كان له نور يتلألأ من مضجعه إلى مكة حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يقوم من مضجعه وإن كان مضجعه بمكة فتلاها كان له نور يتلألأ من مضجعه إلى البيت المعمور حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه ويستغفرون له حتى يستيقظ) (٣). والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب (٤).

__________________

(١) يحيى بن معاذ بن جعفر الرازي ، أبو زكريا ، واعظ ، زاهد ، لم يكن له نظير في وقته توفي عام ٢٥٨ ه‍ في نيسابور (الأعلام ٨ / ١٧٢).

(٢) أخرجه ابن مردويه والثعلبي عن أبي هريرة.

(٣) كنز العمال ١ / ٢٦٠٤.

(٤) في (ظ) والله تعالى أعلم وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه. تم الجزء الأول من المدارك بحمد الله وتوفيقه. وفي (ز) ينتهي الكلام بانتهاء الحديث.

٤٦

سورة مريم عليها‌السلام

مكية ، وهي ثمان أو تسع وتسعون آية مدني وشامي

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) (٤)

١ ـ (كهيعص) قال السدّيّ هو اسم الله الأعظم ، وقيل هو اسم للسورة ، قرأ عليّ ويحيى بكسر الهاء والياء ، ونافع بين الفتح والكسر وإلى الفتح أقرب ، وأبو عمرو بكسر الهاء وفتح الياء ، وحمزة بعكسه ، وغيرهم بفتحهما.

٢ ـ (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ) خبر مبتدأ أي هذا ذكر (عَبْدَهُ) مفعول الرحمة (زَكَرِيَّا) بالقصر حمزة وعليّ وحفص ، وهو بدل من عبده.

٣ ـ (إِذْ) ظرف للرحمة (نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) دعاه دعاء سرا كما هو المأمور به ، وهو أبعد من (١) الرياء وأقرب إلى الصفاء ، أو أخفاه لئلّا يلام على طلب الولد في أوان الكبر ، لأنه كان ابن خمس وسبعين أو ثمانين سنة.

٤ ـ (قالَ رَبِ) هذا تفسير الدعاء ، وأصله يا ربي ، فحذف حرف النداء والمضاف إليه اختصارا (إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) ضعف ، وخص العظم لأنه عمود البدن وبه قوامه ، فإذا وهن تداعى وتساقطت قوته ، ولأنه أشدّ ما فيه وأصلبه ، فإذا وهن كان ما وراءه أوهن ، ووحّده لأنّ الواحد هو الدال على معنى الجنسية ، والمراد أنّ هذا

__________________

(١) في (ظ) و (ز) عن.

٤٧

(وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) (٥)

الجنس الذي هو العمود والقوام وأشدّ ما تركب منه الجسد قد أصابه الوهن (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) تمييز ، أي فشا في رأسي الشيب ، واشتعال (١) النار إذا تفرقت في التهابها وصارت شعلا فشبّه الشيب بشواظ النار في بياضه وانتشاره في الشعر وأخذه منه كلّ مأخذ باشتعال النار ، ولا ترى كلاما أفصح من هذا ، ألا ترى أنّ أصل الكلام يا ربّ قد شخت إذ الشيخوخة تشتمل على ضعف البدن وشيب الرأس المتعرض (٢) لهما ، وأقوى منه ضعف بدني وشاب رأسي ففيه مزيد التقرير للتفصيل ، وأقوى منه وهنت عظام بدني ففيه عدول عن التصريح إلى الكناية فهي أبلغ منه ، وأقوى منه أنا وهنت عظام بدني ، وأقوى منه إني وهنت عظام بدني ، وأقوى منه إني وهنت العظام من بدني ففيه سلوك طريقي الإجمال والتفصيل ، وأقوى منه إني وهنت العظام مني ففيه ترك توسيط البدن ، وأقوى منه إني وهن العظم مني لشمول الوهن العظام فردا فردا باعتبار ترك جمع العظم إلى الإفراد لصحة حصول وهن المجموع بالبعض دون كلّ فرد فرد ، ولهذا تركت الحقيقة في شاب رأسي إلى أبلغ وهي الاستعارة ، فحصل اشتعل شيب رأسي ، وأبلغ منه اشتعل رأسي شيبا لإسناد الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته ، وهو الرأس لإفادة شمول الاشتعال الرأس إذ وزان اشتعل شيب رأسي واشتعل رأسي شيبا وزان اشتعل النار في بيتي واشتعل بيتي نارا ، والفرق نيّر ولأنّ فيه الإجمال والتفصيل كما عرف في طريق التمييز ، وأبلغ منه واشتعل الرأس مني شيبا لما مر ، وأبلغ منه واشتعل الرأس شيبا ففيه اكتفاء بعلم المخاطب إنه رأس زكريا لقرينة (٣) العطف على وهن العظم مني (٤) (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ) مصدر مضاف إلى المفعول أي بدعائي إياك (رَبِّ شَقِيًّا) أي كنت مستجاب الدعوة قبل اليوم سعيدا به غير شقي فيه ، يقال سعد فلان بحاجته إذا ظفر بها وشقي إذا خاب ولم ينلها ، وعن بعضهم أنّ محتاجا سأله وقال : أنا الذي أحسنت إليّ وقت كذا ، فقال مرحبا بمن توسّل بنا إلينا (٥) وقضى حاجته.

٥ ـ (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ) هم عصبته إخوته وبنو عمه ، وكانوا شرار بني إسرائيل فخافهم أن يغيروا الدين وأن لا يحسنوا الخلافة على أمته ، فطلب عقبا صالحا

__________________

(١) في (ظ) واشتعل ، وفي (ز) واشتعلت.

(٢) في (ظ) المعترض.

(٣) في (ظ) و (ز) بقرينة.

(٤) ليست في (ز).

(٥) زاد في (ظ) و (ز) وقت حاجته.

٤٨

(يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦) يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) (٨)

من صلبه يقتدي به في إحياء الدين (مِنْ وَرائِي) بعد موتي ، وبالقصر وفتح الياء كهداي مكي ، وهذا الظرف لا يتعلق بخفت لأنّ وجود خوفه بعد موته لا يتصوّر ، ولكن بمحذوف أو بمعنى الولاية في الموالي أي خفت فعل الموالي وهو تبديلهم وسوء خلافتهم من ورائي ، أو خفت الذين يلون الأمر من ورائي (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) عقيما لا تلد (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ) اختراعا منك بلا سبب لأني وامرأتي لا نصلح للولادة (١) (وَلِيًّا) ابنا يلي أمرك بعدي.

٦ ـ (يَرِثُنِي وَيَرِثُ) برفعهما صفة لوليا ، أي هب لي ولدا وارثا مني العلم ، ومن آل يعقوب النبوة ، ومعنى وراثة النبوة أنه يصلح لأن يوحى إليه ، ولم يرد أنّ نفس النبوة تورث ، وبجزمهما أبو عمرو وعلي أنه جواب للدعاء ، يقال ورثته وورثت منه (مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) ابن إسحاق (٢) (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) مرضيا ترضاه ، أو راضيا عنك وبحكمك. فأجاب الله تعالى دعاءه وقال :

٧ ـ (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى) تولى الله تسميته تشريفا له. نبشرك بالتخفيف حمزة (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) لم يسمّ أحد بيحيى قبله وهذا دليل على أن الاسم الغريب جدير بالأثرة ، وقيل مثلا وشبيها ولم يكن له مثل في أنه لم يعص ولم يهم بمعصية قط ، وأنه ولد بين شيخ وعجوز ، وأنه كان حصورا (٣) ، فلما بشرته الملائكة به :

٨ ـ (قالَ رَبِّ أَنَّى) كيف (يَكُونُ لِي غُلامٌ) وليس هذا باستبعاد بل هو استكشاف أنه بأي طريق يكون؟ أي (٤) يوهب له وهو وامرأته بتلك الحال أم يحوّلان شابين؟ (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) أي بلغت عتيا ، وهو اليبس والجساوة (٥) في المفاصل والعظام كالعود اليابس من أجل الكبر والطعن في

__________________

(١) في (ز) لأن امرأتي لا تصلح للولادة.

(٢) في (ظ) و (ز) يعقوب بن إسحاق.

(٣) حصورا : من لا يأتي النساء ولا يقربهن ولا يشتهيهن (القاموس ٢ / ١٠).

(٤) في (ظ) و (ز) أيوهب.

(٥) الجساوة أي الصلابة (القاموس ٤ / ٣١٢).

٤٩

(قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١) يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا) (١٣)

السن العالية ، عتيا ، وصليا ، وجثيا وبكيا (١) ، بكسر الأوائل حمزة وعليّ ، وحفص إلا في بكيا.

٩ ـ (قالَ كَذلِكَ) الكاف رفع أي الأمر كذلك تصديق له ، ثم ابتدأ (قالَ رَبُّكَ) أو نصب بقال ، وذلك إشارة إلى مبهم يفسره (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) أي خلق يحيى من كبيرين سهل (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ) أوجدتك من قبل يحيى. خلقناك حمزة وعليّ (وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) لأنّ المعدوم ليس بشيء.

١٠ ـ (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) علامة أعرف بها حبل امرأتي (قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) حال من ضمير تكلّم أي حال كونك سويّ الأعضاء واللسان ، يعني علامتك أن تمنع الكلام فلا تطيقه وأنت سليم الجوارح ما بك خرس ولا بكم ، ودل ذكر الليالي هنا والأيام في آل عمران على أنّ المنع من الكلام استمرّ به ثلاثة أيام ولياليهن إذ ذكر الأيام يتناول ما بإزائها من الليالي وكذا ذكر الليالي يتناول ما بإزائها من الأيام عرفا.

١١ ـ (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ) من موضع صلاته وكانوا ينتظرونه ولم يقدر أن يتكلّم (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ) أشار بإصبعه (أَنْ سَبِّحُوا) صلّوا ، وأن هي المفسّرة (بُكْرَةً وَعَشِيًّا) صلاة الفجر والعصر.

١٢ ـ (يا يَحْيى) أي وهبنا له يحيى ، وقلنا له بعد ولادته وأوان الخطاب يا يحيى (خُذِ الْكِتابَ) التوراة (بِقُوَّةٍ) حال ، أي بجد واستظهار بالتوفيق والتأييد (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ) الحكمة ، وهو فهم التوراة والفقه في الدين (صَبِيًّا) حال ، قيل دعاه الصبيان إلى اللعب وهو صبيّ فقال : ما للعب خلقنا.

١٣ ـ (وَحَناناً) شفقة ورحمة لأبويه وغيرهما ، عطفا على الحكم (مِنْ لَدُنَّا)

__________________

(١) عتيا (الآية ٦٩) صليا (الآية ٧٠) وجثيا (الآية ٦٨ و ٧٢) وبكيا (الآية ٥٨) وكان حق النسفي ذكرها حسب ترتيبها.

٥٠

(وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) (١٨)

من عندنا (وَزَكاةً) أي طهارة وصلاحا فلم يعمل (١) بذنب (وَكانَ تَقِيًّا) مسلما مطيعا.

١٤ ـ (وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ) وبارا بهما لا يعصيهما (وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً) متكبّرا (عَصِيًّا) عاصيا لربه.

١٥ ـ (وَسَلامٌ عَلَيْهِ) أمان من الله له (يَوْمَ وُلِدَ) من أن يناله الشيطان (وَيَوْمَ يَمُوتُ) من فتاني القبر (وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) من الفزع الأكبر ، قال ابن عيينة : إنها أوحش المواطن.

١٦ ـ (وَاذْكُرْ) يا محمد (فِي الْكِتابِ) القرآن (مَرْيَمَ) أي اقرأ عليهم في القرآن قصة مريم ليقفوا عليها ويعلموا ما جرى عليها (إِذِ) بدل من مريم بدل اشتمال إذ الأحيان مشتملة على ما فيها ، وفيه أنّ المقصود بذكر مريم ذكر وقتها هذا لوقوع هذه القصة العجيبة فيه (انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها) أي اعتزلت (مَكاناً) ظرف (شَرْقِيًّا) أي تخلت للعبادة في مكان مما يلي شرقي بيت المقدس ، أو من دارها معتزلة عن الناس ، وقيل قعدت في مشرقة (٢) للاغتسال من الحيض.

١٧ ـ (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً) جعلت بينها وبين أهلها حجابا يسترها لتغتسل وراءه (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) جبريل عليه‌السلام ، والإضافة للتشريف ، وإنما سمّي روحا لأنّ الدين يحيا به وبوحيه (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً) أي فتمثّل لها جبريل في صورة آدمي شاب أمرد وضيء الوجه جعد الشعر (سَوِيًّا) مستوي الخلق ، وإنما مثّل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه ، ولو بدا لها في الصورة الملكية (٣) لنفرت ولم تقدر على استماع كلامه.

١٨ ـ (قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) أي إن كايرجى منك أن

__________________

(١) في (ظ) و (ز) يعمد.

(٢) المشرقة : موضع القعود في الشمس بفتح الراء وضمها وكسرها (القاموس ٣ / ٢٤٩).

(٣) في (ظ) و (ز) في صورة الملائكة.

٥١

(قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا) (٢٢)

تتقي الله فإني عائذة به منك.

١٩ ـ (قالَ) جبريل عليه‌السلام (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) أمّنها مما خافت ، وأخبر أنه ليس بآدمي بل هو رسول من استعاذت به (لِأَهَبَ لَكِ) بإذن الله تعالى ، أو لأكون سببا في هبة الغلام بالنفخ في الدرع. ليهب لك أي الله أبو عمرو ونافع (غُلاماً زَكِيًّا) طاهرا من الذنوب ، أو ناميا على الخير والبركة.

٢٠ ـ (قالَتْ أَنَّى) كيف (يَكُونُ لِي غُلامٌ) ابن (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) زوج بالنكاح (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) فاجرة تبغي الرجال ، أي تطلب الشهوة من أي رجل كان ، ولا يكون الولد عادة إلا من أحد هذين ، والبغي فعول عند المبرد بغويّ فقلبت الواو ياء وأدغمت وكسرت العين إتباعا ولذا لم تلحق تاء التأنيث كما لم تلحق في امرأة صبور وشكور ، وعند غيره هي فعيل ولم تلحقها الهاء لأنها بمعنى مفعولة وإن كانت بمعنى فاعلة فهو قد يشبّه مثل (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ) (١).

٢١ ـ (قالَ) جبريل (كَذلِكِ) أي الأمر كما قلت لم يمسسك رجل نكاحا أو سفاحا (قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) أي إعطاء الولد بلا أب عليّ سهل (وَلِنَجْعَلَهُ) تعليل معلّله محذوف ، أي ولنجعله (آيَةً لِلنَّاسِ) فعلنا ذلك (٢) ، أو هو معطوف على تعليل مضمر أي لنبين به قدرتنا ولنجعله آية (٣) ، أي عبرة وبرهانا على قدرتنا (وَرَحْمَةً مِنَّا) لمن آمن به (وَكانَ) خلق عيسى (أَمْراً مَقْضِيًّا) مقدرا مسطورا ، في اللوح ، فلما اطمأنت إلى قوله دنا منها فنفخ في جيب درعها فوصلت النفخة إلى بطنها.

٢٢ ـ (فَحَمَلَتْهُ) أي الموهوب ، وكانت سنها ثلاث عشرة سنة ، أو عشرا ، أو عشرين (فَانْتَبَذَتْ بِهِ) اعتزلت وهو في بطنها ، والجار والمجرور في موضع الحال ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : كانت مدة الحمل ساعة واحدة كما حملته

__________________

(١) الأعراف ، ٧ / ٥٦.

(٢) اعدنا ترتيب الآية كما في (أ).

(٣) في (ظ) و (ز) آية للناس.

٥٢

(فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) (٢٤)

نبذته ، وقيل ستة أشهر ، وقيل سبعة ، وقيل ثمانية ولم يعش مولود وضع لثمانية إلا عيسى ، وقيل حملته في ساعة ووضعته في ساعة (مَكاناً قَصِيًّا) بعيدا من أهلها وراء الجبل ، وذلك لأنها لما أحست بالحمل هربت من قومها مخافة اللائمة.

٢٣ ـ (فَأَجاءَهَا) جاء بها ، وقيل ألجأها وهو منقول من جاء إلّا أنّ استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء ، ألا تراك لا تقول جئت المكان وأجاءنيه زيد (الْمَخاضُ) وجع الولادة (إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ) أصلها ، وكانت يابسة وكان الوقت شتاء ، وتعريفها مشعر بأنها كانت نخلة معروفة ، وجاز أن يكون التعريف للجنس أي جذع هذه الشجرة كأنه تعالى أرشدها إلى النخلة ليطعمها منها الرّطب لأنه خرسة النّفساء أي طعامها ، ثم (قالَتْ) جزعا مما أصابها (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا) اليوم مدني وكوفي غير أبي بكر ، وغيرهم بالضم ، يقال مات يموت ومات يمات (وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) شيئا متروكا لا يعرف ولا يذكر. بفتح النون حمزة وحفص ، بالكسر غيرهما ، ومعناهما واحد وهو الشيء الذي حقّه أن يطرح وينسى لحقارته.

٢٤ ـ (فَناداها مِنْ تَحْتِها) (١) أي الذي تحتها فمن فاعل وهو جبريل عليه‌السلام لأنه كان بمكان منخفض عنها ، أو عيسى عليه‌السلام لأنه خاطبها من تحت ذيلها ، من تحتها مدني وكوفي سوى أبي بكر ، والفاعل مضمر وهو عيسى عليه‌السلام أو جبريل ، والهاء في تحتها للنخلة ، ولشدة ما لقيت سلّيت بقوله (أَلَّا تَحْزَنِي) لا تهتمي بالوحدة وعدم الطعام والشراب وقالة (٢) الناس ، وأن بمعنى أي (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ) بقربك أو تحت أمرك ، إن أمرته أن يجري جرى وإن أمرته أن يقف وقف (سَرِيًّا) نهرا صغيرا عند الجمهور ، وسئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن السّريّ فقال : «هو الجدول» (٣) وعن الحسن : سيدا كريما يعني عيسى عليه‌السلام ، وروي أنّ خالد بن صفوان (٤) قال له : إنّ العرب تسمي الجدول سريا ، فقال الحسن : صدقت ورجع إلى قوله. وقال ابن عباس رضي

__________________

(١) في مصحف النسفي من ، لذلك قال أي الذي.

(٢) في (ز) ومقالة.

(٣) الطبري عن البراء موقوفا قال : الجدول ، وعن عمرو بن ميمون : هو الجدول.

(٤) خالد بن صفوان بن عبد الله بن عمرو بن الأهتم التميمي من فصحاء العرب المشهورين ، ولد ونشأ بالبصرة توفي عام ١٣٣ ه‍ (الأعلام ٢ / ٢٩٧).

٥٣

(وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) (٢٦)

الله عنهما : ضرب عيسى أو جبريل عليهما‌السلام بعقبه الأرض فظهرت عين ماء عذب ، فجرى النهر اليابس ، فاخضرت النخلة وأثمرت وأينعت ثمرتها ، فقيل لها :

٢٥ ـ (وَهُزِّي) حركي (إِلَيْكِ) إلى نفسك (بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) قال أبو علي (١) : الباء زائدة أي هزي جذع النخلة (تُساقِطْ عَلَيْكِ) (٢) بإدغام التاء الأولى في الثانية مكي ومدني وشامي وأبو عمرو وعليّ وأبو بكر ، وتتساقط (٣) بإظهار التاءين وتساقط بفتح التاء والقاف وطرح التاء الثانية وتخفيف السين حمزة ، ويسّاقط بفتح الياء والقاف وتشديد السين يعقوب وسهل وحماد (٤) ونصير (٥) ، وتسّاقط حفص من المفاعلة ، وتسقط ويسقط وتسقط ويسقط التاء للنخلة والياء للجذع ، فهذه تسع قراءات (رُطَباً) تمييز أو مفعول به على حسب القراءة (جَنِيًّا) طريا ، وقالوا : التمر للنّفساء عادة من ذلك الوقت ، وقيل ما للنّفساء خير من الرطب ولا للمريض من العسل.

٢٦ ـ (فَكُلِي) من الجني (وَاشْرَبِي) من السّريّ (وَقَرِّي عَيْناً) بالولد الرضي ، وعينا تمييز أي طيبي نفسا بعيسى وارفضي عنك ما أحزنك (فَإِمَّا) أصله إن ما فضمت إن الشرطية إلى ما وأدغمت فيها (تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) أي فإن رأيت آدميا يسألك عن حالك فقولي إني نذرت للرحمن صمتا وإمساكا عن الكلام ، وكانوا يصومون عن الكلام كما يصومون عن الأكل والشرب ، وقيل صياما حقيقة ، وكان صومهم (٦) فيه الصمت ، فكان التزامه التزامه ، وقد نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن صوم الصمت (٧) فصار ذلك منسوخا فينا ، وإنما أمرت أن تنذر السكوت لأن عيسى عليه‌السلام يكفيها الكلام بما يبرئ به ساحتها ، ولئلا تجادل

__________________

(١) أبو علي : النهاوندي إسماعيل بن شعيب ـ سبق ترجمته في ٢ / ٩.

(٢) في مصحف النسفي تسّاقط لذلك قال بإدغام التاء الأولى.

(٣) في (ظ) و (ز) والأصل تتساقط.

(٤) حماد : هو حماد بن أحمد بن حماد ، أبو الحسن الكوفي الضرير (غاية النهاية ١ / ٢٥٧).

(٥) نصير : هو نصير بن يوسف بن أبي النصر الرازي ، أبو المنذر البغدادي النحوي مات في حدود ٢٤٠ ه‍ (غاية النهاية ٢ / ٣٤٠).

(٦) في (ز) صيامهم.

(٧) اخرج عبد الرزاق من حديث جابر : (لا صمت يوم إلى ليل) وأبو داود من حديث علي مثله.

٥٤

(فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) (٣٠)

السفهاء ، وفيه دليل على أنّ السكوت عن السفيه واجب ، وما قدع (١) سفيه بمثل الإعراض ولا أطلق عنانه بمثل العراض (٢) ، وإنّما أخبرتهم بأنها نذرت الصوم بالإشارة ، وقد تسمى الإشارة كلاما وقولا ، ألا ترى إلى قول الشاعر في وصف القبور : وتكلّمت عن أوجه تبلى (٣). وقيل كان وجوب الصمت بعد هذا الكلام ، أو سوّغ لها هذا القدر بالنطق (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) آدميا.

٢٧ ـ (فَأَتَتْ بِهِ) بعيسى (قَوْمَها) بعد ما طهرت من نفاسها (تَحْمِلُهُ) حال منها ، أي أقبلت نحوهم حاملة إياه فلما رأوه معها (قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) بديعا عجيبا ، والفري القطع ، كأنه يقطع العادة.

٢٨ ـ (يا أُخْتَ هارُونَ) وكان أخاها من أبيها ومن أفضل بني إسرائيل ، أو هو أخو موسى عليه‌السلام وكانت من أعقابه وبينهما ألف سنة ، وهذا كما يقال يا أخا همدان أي يا واحدا منهم ، أو رجل صالح أو طالح في زمانها شبّهوها به في الصلاح أو شتموها به (ما كانَ أَبُوكِ) عمران (امْرَأَ سَوْءٍ) زانيا (وَما كانَتْ أُمُّكِ) حنّة (بَغِيًّا) زانية.

٢٩ ـ (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ) إلى عيسى أن يجيبهم ، وذلك أنّ عيسى عليه‌السلام قال لها : لا تحزني وأحيلي بالجواب عليّ ، وقيل أمرها جبريل بذلك ، ولمّا أشارت إليه غضبوا وتعجّبوا و (قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ) حدث ووجد (فِي الْمَهْدِ) المعهود (صَبِيًّا) حال.

٣٠ ـ (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ) ولمّا أسكتت بأمر الله لسانها الناطق أنطق الله لها اللسان الساكت حتى اعترف بالعبودية وهو ابن أربعين ليلة أو ابن يوم ، روي أنه أشار بسبابته وقال بصوت رفيع : إني عبد الله ، وفيه ردّ لقول النصارى (آتانِيَ الْكِتابَ)

__________________

(١) قدع السفيه : كفّه (القاموس ٣ / ٦٥).

(٢) العراض : الكلام الكثير ، معظم الحديث (القاموس ٢ / ٣٣٥).

(٣) لم أصل إلى أصله.

٥٥

(وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) (٣٤)

الإنجيل (وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) عن الحسن (١) أنه كان في المهد نبيا وكلامه معجزته ، وقيل معناه أنّ ذلك سبق في قضائه أو جعل الآتي لا محالة كأنه وجد.

٣١ ـ (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) نفّاعا حيث كنت ، أو معلما للخير (وَأَوْصانِي) وأمرني (بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) إن ملكت مالا ، وقيل صدقة الفطر ، أو تطهير البدن ، ويحتمل وأوصاني بأن آمركم بالصلاة والزكاة (ما دُمْتُ حَيًّا) نصب على الظرف ، أي مدة حياتي.

٣٢ ـ (وَبَرًّا بِوالِدَتِي) عطفا على مباركا ، أي بارا بها أكرمها وأعظّمها (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً) متكبرا (شَقِيًّا) عاقا.

٣٣ ـ (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ) يوم ظرف والعامل فيه الخبر وهو عليّ (وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) أي ذلك السلام الموجه إلى يحيى في المواطن الثلاثة موجه إليّ إن كان حرف التعريف للعهد ، وإن كان للجنس فالمعنى وجنس السلام عليّ ، وفيه تعريض باللعنة على أعداء مريم وابنها ، لأنه إذا قال وجنس السلام عليّ فقد عرّض بأنّ ضدّه عليكم إذ المقام مقام مناكرة وعناد فكان مئنّة (٢) لمثل هذا التعريض.

٤٣ ـ (ذلِكَ) مبتدأ (عِيسَى) خبره (ابْنُ مَرْيَمَ) نعته ، أو خبر ثان أي ذلك الذي قال إني كذا وكذا عيسى بن مريم لا كما قالت النصارى إنه إله أو ابن الله (قَوْلَ الْحَقِ) كلمة الله ، فالقول الكلمة والحقّ الله ، وقيل له كلمة الله لأنه ولد بقوله كن بلا واسطة أب ، وارتفاعه على أنه خبر بعد خبر ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أو بدل من عيسى ، ونصبه شامي وعاصم على المدح (٣) (الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) يشكون ، من المرية الشكّ ، أو يختلفون من المراء ، فقالت اليهود : ساحر كذاب ، وقالت النصارى : ابن الله وثالث ثلاثة.

__________________

(١) في (ظ) و (ز) روي عن الحسن.

(٢) مئنّة : علامة.

(٣) زاد في (ظ) و (ز) أو على المصدر أي أقول قول الحق هو ابن مريم وليس بإنه كما يدعونه.

٥٦

(ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٣٨)

٣٥ ـ (ما كانَ لِلَّهِ) ما ينبغي له (أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) جيء بمن لتأكيد النفي (سُبْحانَهُ) نزّه ذاته عن اتخاذ الولد (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) بالنصب شامي ، أي كما قال لعيسى كن فكان من غير أب ومن كان متصفا بهذا كان منزّها أن يشبّه الحيوان الوالد.

٣٦ ـ (وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) بالكسر شامي وكوفي على الابتداء ، وهو من كلام عيسى ، يعني كما أنا عبده فأنتم عبيده ، وعليّ وعليكم أن نعبده ، ومن فتح عطف على بالصلاة أي وأوصاني بالصلاة وبالزكاة وبأنّ الله ربّي وربّكم ، أو علّقه بما بعده أي ولأنّ الله ربّي وربّكم فاعبدوه (هذا) الذي (١) ذكرت (صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا.

٣٧ ـ (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ) الحزب الفرقة المنفردة برأيها عن غيرها ، وهم ثلاث فرق نسطورية ويعقوبية وملكانية (مِنْ بَيْنِهِمْ) من بين أصحاب عيسى (٢) أو من بين قومه ، أو من بين الناس ، وذلك أنّ النصارى اختلفوا في عيسى حين رفع ، ثم اتفقوا على أن يرجعوا إلى قول ثلاثة كانوا عندهم أعلم أهل زمانهم ، وهم يعقوب ونسطور وملكاء (٣) ، فقال يعقوب : هو الله هبط إلى الأرض ثم صعد إلى السماء ، وقال نسطور : كان ابن الله أظهره ما شاء ثم رفعه إليه ، وقال الثالث : كذبوا كان عبدا مخلوقا نبيا فتبع كلّ واحد منهم قوم (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) من الأحزاب إذ الواحد منهم على الحقّ (مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) هو يوم القيامة ، أي (٤) من شهودهم هول الحساب والجزاء في يوم القيامة ، أو من شهادة ذلك اليوم عليهم ، وأن تشهد عليهم الملائكة والأنبياء وجوارحهم بالكفر ، أو من مكان الشهادة ، أو وقتها ، أو المراد يوم اجتماعهم للتشاور فيه وجعله عظيما لفظاعة ما شهدوا به في عيسى.

٣٨ ـ (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا) الجمهور على أنّ لفظه أمر ومعناه التعجب ، والله تعالى لا يوصف بالتعجب ولكن المراد أنّ إسماعهم وإبصارهم جدير بأن يتعجّب

__________________

(١) سقطت من (ز).

(٢) في (ظ) و (ز) من بين أصحابه.

(٣) في (ز) ملكان.

(٤) في (ظ) و (ز) أو.

٥٧

(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٤٠) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) (٤١)

منهما بعد ما كانوا عميا في الدنيا ، قال قتادة : إن عموا وصمّوا عن الحقّ في الدنيا فما أسمعهم وما أبصرهم بالهدى يوم لا ينفعهم ، وبهم مرفوع المحلّ على الفاعلية كأكرم بزيد ، فمعناه كرم زيد جدا (لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ) أقيم الظاهر مقام المضمر ، أي لكنهم اليوم في الدنيا بظلمهم أنفسهم حيث تركوا الاستماع والنظر حين يجدي عليهم ، ووضعوا العبادة في غير موضعها (فِي ضَلالٍ) عن الحقّ (مُبِينٍ) ظاهر ، وهو اعتقادهم عيسى إلها معبودا مع ظهور آثار الحدث فيه إشعارا بأن لا ظلم أشدّ من ظلمهم.

٣٩ ـ (وَأَنْذِرْهُمْ) خوّفهم (يَوْمَ الْحَسْرَةِ) يوم القيامة لأنه يقع فيه الندم على ما فات ، وفي الحديث : (إذا رأوا منازلهم في الجنة أن لو آمنوا) (١) (إِذْ) بدل من يوم الحسرة ، أو ظرف للحسرة وهو مصدر (قُضِيَ الْأَمْرُ) فرغ من الحساب وتصادر الفريقان إلى الجنة والنار (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) هنا عن الاهتمام لذلك المقام (وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) لا يصدّقون به ، وهم وهم حالان ، أي وأنذرهم على هذا الحال غافلين غير مؤمنين.

٤٠ ـ (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها) أي نتفرد بالملك والبقاء عند تعميم الهلك والفناء ، وذكر من لتغليب العقلاء (وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) بضم الياء وفتح الجيم ، وفتح الياء يعقوب ، أي يردّون فيجازون جزاء وفاقا.

٤١ ـ (وَاذْكُرْ) لقومك (فِي الْكِتابِ) القرآن (إِبْراهِيمَ) قصته مع أبيه (إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) بغير همز ، وهمزه نافع ، قيل الصادق المستقيم في الأفعال ، والصدّيق المستقيم في الأحوال ، فالصّدّيق من أبنية المبالغة ونظيره الضّحّيك ، والمراد فرط صدقه وكثرة ما صدّق به من غيوب الله وآياته وكتبه ورسله ، أي كان مصدّقا لجميع الأنبياء وكتبهم ، وكان نبيا في نفسه ، وهذه الجملة وقعت اعتراضا بين إبراهيم وبين ما هو بدل منه وهو :

__________________

(١) لم أجده هكذا والذي في الطبري عن عبد الله في قصة ذكرها قال : ما من نفس إلا وهي تنظر إلى بيت في الجنة وبيت في النار وهو يوم الحسرة ، فيرى أهل النار البيت الذي كان قد أعد الله لهم لو آمنوا فيقال لهم : لو آمنتم وعملتم صالحا كان لكم هذا الذي ترونه في الجنة. فتأخذهم الحسرة ، ويرى أهل الجنة البيت الذي في النار فيقال : لو لا أن منّ الله عليكم.

٥٨

(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) (٤٥)

٤٢ ـ (إِذْ قالَ) وجاز أن يتعلق إذ كان أو بصدّيقا نبيا ، أي كان جامعا لخصائص الصدّيقين والأنبياء حين خاطب أباه بتلك المخاطبات ، والمراد بذكر الرسول إياه وقصته في الكتاب أن يتلو ذلك على الناس ويبلّغه إياهم ، كقوله : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ) (١) وإلّا فالله عزّ وعلا هو ذاكره ومورده في تنزيله : (لِأَبِيهِ يا أَبَتِ) بكسر التاء وفتحها ابن عامر ، والتاء عوض من ياء الإضافة ، ولا يقال يا أبتي لئلا يجمع بين العوض والمعوّض منه (لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ) المفعول فيهما منسيّ غير منويّ ، ويجوز أن يقدّر أي لا يسمع شيئا ولا يبصر شيئا (وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) يحتمل أن يكون شيئا في موضع المصدر أي شيئا من الغنى (٢) ، وأن يكون مفعولا به من قولك أغن عني وجهك أي بعّد.

٤٣ ـ (يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ) الوحي أو معرفة الربّ (ما لَمْ يَأْتِكَ) ما في ما لا يسمع وما لم يأتك يجوز أن تكون موصولة أو موصوفة (فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ) أرشدك (صِراطاً سَوِيًّا) مستقيما.

٤٤ ـ (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) لا تطعه فيما سوّل من عبادة الصنم (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) عاصيا.

٤٥ ـ (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ) قيل أعلم (أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) قرينا في النار تليه ويليك ، فانظر في نصيحته كيف راعى المجاملة والرفق والخلق الحسن كما أمر ، ففي الحديث : (أوحى إلى إبراهيم : إنك خليلي حسّن خلقك ولو مع الكفار تدخل مداخل الأبرار) (٣) فطلب منه أولا العلة في خطابه (٤) طلب منبّه على تماديه موقظ ، لإفراطه وتناهيه ، لأن من يعبد أشرف الخلق منزلة وهم

__________________

(١) الشعراء ، ٢٦ / ٦٩.

(٢) في (ظ) و (ز) الأغناء.

(٣) الطبراني في الأوسط وابن عدي ، والحكيم الترمذي في النوادر من حديث أبي هريرة وفيه مؤمل بن عبد الرحمن الثقفي عن أبي أمية بن يعلى الثقفي وهما ضعيفان.

(٤) في (ز) خطئه.

٥٩

(قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) (٤٧)

الأنبياء كان محكوما عليه بالغيّ المبين ، فكيف بمن يعبد حجرا ، أو شجرا لا يسمع ذكر عابده ، ولا يرى هيئات عبادته ، ولا يدفع عنه بلاء ، ولا يقضي له حاجة ، ثم ثنى بدعوته إلى الحقّ مترفقا به متلطفا ، فلم يسمّ أباه بالجهل المفرط ولا نفسه بالعلم الفائق ، ولكنه قال : إنّ معي شيئا من العلم ليس معك ، وذا علم الدلالة على الطريق السويّ ، فهب أني وإياك في مسير وعندي معرفة بالهداية دونك فاتّبعني أنجّك من أن تضلّ وتتيه ، ثم ثلّث بنهيه عما كان عليه بأنّ الشيطان الذي عصي الرحمن الذي جميع النّعم منه أوقعك في عبادة الصنم وزينها لك ، فأنت عابده في الحقيقة ، ثم ربّع بتخويفه سوء العاقبة وما يجرّه ما هو فيه (١) مع مراعاة الأدب حيث لم يصرّح بأن العقاب لا حق به ، وأنّ العذاب لاصق به ، بل قال : أخاف أن يمسّك عذاب بالتنكير المشعر بالتقليل ، كأنه قال : إني أخاف أن يصيبك نفيان (٢) من عذاب الرحمن ، وجعل ولاية الشيطان ودخوله في جملة أشياعه وأوليائه أكبر من العذاب ، كما أنّ رضوان الله أكبر من الثواب في نفسه ، وصدّر كلّ نصيحة بقوله يا أبت توسلا إليه ، واستعطافا وإشعارا بوجوب احترام الأب وإن كان كافرا ، فثم :

٤٦ ـ (قالَ) آزر توبيخا (أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ) أي أترغب عن عبادتها ، فناداه باسمه ولم يقابل يا أبت بيا بنيّ ، وقدم الخبر على المبتدأ لأنه كان أهمّ عنده (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ) عن شتم الأصنام (لَأَرْجُمَنَّكَ) بالرجمان ، لأقتلنّك بالحجارة (٣) أو لأضربنّك بها حتى تتباعد ، أو لأشتمنّك (وَاهْجُرْنِي) عطف على محذوف يدلّ عليه لأرجمنّك تقديره فاحذرني واهجرني (مَلِيًّا) ظرف أي زمانا طويلا ، من الملاوة.

٤٧ ـ (قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ) سلام توديع ومتاركة ، أو تقريب وملاطفة ولذا وعده بالاستغفار بقوله (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) سأسأل الله أن يجعلك من أهل المغفرة بأن يهديك للإسلام (إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) ملطفا بعموم النّعم ، أو رحيما ، أو مكرما ، والحفاوة الرأفة والكرامة (٤).

__________________

(١) زاد في (ظ) و (ز) من التبعة والوبال.

(٢) نفيان : ما يحمله الريح (القاموس ٤ / ٣٩٦).

(٣) في (ظ) بالرجام أو لأضربنك بها ، وفي (ز) لأقتلنك بالرجام أو لأضربنك بها ، والرجمان والرجام الحجارة الضخام.

(٤) في (ظ) الرحمة والرأفة والكرامة ، وفي (ز) الرأفة والرحمة والكرامة.

٦٠