تفسير النسفي - ج ٣

عبدالله بن أحمد النسفي

تفسير النسفي - ج ٣

المؤلف:

عبدالله بن أحمد النسفي


المحقق: الشيخ مروان محمّد الشعار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٦

سورة سبأ

مكية وهي أربع وخمسون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) (٢)

١ ـ (الْحَمْدُ) إن أجري على المعهود فهو بما حمد به نفسه محمود ، وإن أجري على الاستغراق فله لكلّ (١) المحامد الاستحقاق (لِلَّهِ) بلام التمليك لأنه خالق ناطق الحمد أصلا ، فكان بملكه مالك الحمد للتحميد أهلا (الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) خلقا وملكا ، وقهرا ، فكان حقيقا بأن يحمد سرّا وجهرا (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) كما هو له في الدنيا إذ النّعم في الدارين من المولى ، غير أنّ الحمد هنا واجب لأنّ الدنيا دار تكليف وثمّ لا ، لعدم التكليف ، وإنما يحمد أهل الجنة سرورا بالنعيم وتلذّذا بما نالوا من الأجر العظيم بقولهم : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) (٢) (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) (٣) (وَهُوَ الْحَكِيمُ) بتدبير ما في السماء والأرض (الْخَبِيرُ) بضمير من يحمده ليوم الجزاء والعرض.

٢ ـ (يَعْلَمُ) مستأنف (ما يَلِجُ) ما يدخل (فِي الْأَرْضِ) من الأموات والدفائن (وَما يَخْرُجُ مِنْها) من النبات وجواهر المعادن (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) من الأمطار

__________________

(١) في (أ) لجل.

(٢) الزمر ، ٣٩ / ٧٤.

(٣) فاطر ، ٣٥ / ٣٤.

٤٦١

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) (٥)

وأنواع البركات (وَما يَعْرُجُ فِيها) يصعد إليها من الملائكة والدعوات (وَهُوَ الرَّحِيمُ) بإنزال ما يحتاجون إليه (الْغَفُورُ) لما يجترئون عليه.

٣ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي منكرو البعث (لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) نفي للبعث وإنكار لمجيء الساعة (قُلْ بَلى) أوجب ما بعد النفي ببلى على معنى أن ليس الأمر إلّا إتيانها (وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) ثم أعيد إيجابهم (١) مؤكدا بما هو الغاية في التوكيد والتشديد ، وهو التوكيد باليمين بالله عزوجل ثم أمدّ التوكيد القسمي بما أتبع المقسم به من الوصف بقوله (عالِمِ الْغَيْبِ) لأنّ عظمة حال المقسم به تؤذن بقوة حال المقسم عليه وبشدة ثباته واستقامته ، لأنه بمنزلة الاستشهاد على الأمر ، وكلما كان المستشهد به أرفع منزلة كانت الشهادة أقوى وآكد والمستشهد عليه أثبت وأرسخ ، ولما كان قيام الساعة من مشاهير الغيوب وأدخلها في الخفية كان الوصف بما يرفع (٢) إلى علم الغيب أولى وأحق. عالم الغيب مدني وشامي ، أي هو عالم الغيب ، علّام الغيب حمزة وعليّ على المبالغة (لا يَعْزُبُ عَنْهُ) وبكسر الزاي عليّ ، يقال عزب ويعزب (٣) إذا غاب وبعد (مِثْقالُ ذَرَّةٍ) مقدار أصغر نملة (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ) من مثقال ذرة (وَلا أَكْبَرُ) من مثقال ذرة (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) إلّا في اللوح المحفوظ ، ولا أصغر ولا أكبر بالرفع عطف على مثقال ذرة ، ويكون إلّا بمعنى لكن ، أو رفعا بالابتداء (٤) والخبر في كتاب.

٤ ـ واللام في (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لما قصروا فيه من مدارج الإيمان (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) لما صبروا عليه من مناهج الإحسان ، متعلق بلنأتينّكم ، تعليلا له.

٥ ـ (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا) جاهدوا في ردّ القرآن (مُعاجِزِينَ) مسابقين ظانّين

__________________

(١) في (ظ) و (ز) إيجابه.

(٢) في (ظ) و (ز) يرجع.

(٣) في (ظ) و (ز) عزب يعزب ويعزب.

(٤) في (ظ) و (ز) رفعا بالابتداء.

٤٦٢

(وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) (٨)

أنهم يفوتوننا. معجزين مكي وأبو عمرو ، أي مثبّطين الناس عن اتباعها وتأملها ، أو ناسبين الله إلى المعجز (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) برفع الميم (١) مكي وحفص ويعقوب صفة لعذاب أي عذاب أليم من سيء العذاب ، قال قتادة : الرجز سوء العذاب ، وغيرهم بالجرّ صفة لرجز.

٦ ـ (وَيَرَى) في موضع الرفع بالاستئناف ، أي ويعلم (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) يعني أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن يطأ أعقابهم من أمته ، أو علماء أهل الكتاب الذين أسلموا كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار (٢) ، والمفعول الأول ليرى (الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) يعني القرآن (هُوَ الْحَقَ) أي الصدق ، وهو فصل ، والحقّ مفعول ثان ، أو في موضع النصب معطوف على ليجزي أي (٣) ليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة أنه الحقّ علما لا يزاد عليه في الإيقان (وَيَهْدِي) الله ، أو الذي أنزل إليك (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) وهو دين الله.

٧ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) قال (٤) قريش بعضهم لبعض (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ) يعنون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما نكّروه مع أنه كان مشهورا علما في قريش ، وكان إنباؤه بالبعث شائعا عندهم تجاهلا به وبأمره ، وباب التجاهل في البلاغة والى سحرها (يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي يحدّثكم بأعجوبة من الأعاجيب أنكم تبعثون وتنشؤون خلقا جديدا بعد أن تكونوا رفاتا وترابا ويمزّق أجسادكم البلى كلّ ممزق أي يفرّقكم كلّ تفريق ، فالممزق مصدر بمعنى التمزيق ، والعامل في إذا ما دلّ عليه إنكم لفي خلق جديد ، أي تبعثون ، والجديد فعيل بمعنى فاعل عند البصريين ، تقول جدّ فهو جديد كقلّ فهو قليل ، ولا يجوز إنكم بالفتح للّام في خبره.

٨ ـ (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أهو مفتر على الله كذبا فيما نسب (٥) إليه من ذلك؟

__________________

(١) في (ز) أليم.

(٢) في (ز) كعبد الله بن سلام وأصحابه.

(٣) في (ظ) و (ز) وليعلم.

(٤) في (ز) وقال.

(٥) في (ظ) و (ز) ينسب.

٤٦٣

(أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩) وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) (١٠)

والهمزة للاستفهام ، وهمزة الوصل حذفت استغناء عنها (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) جنون يوهمه ذلك ويلقيه على لسانه (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) ثم قال سبحانه وتعالى ليس محمد من الافتراء والجنون في شيء وهو مبرّأ منهما ، بل هؤلاء القائلون الكافرون بالبعث واقعون في عذاب النار وفيما يؤديهم إليه من الضلال عن الحق وهم غافلون عن ذلك ، وذلك أجنّ الجنون ، جعل وقوعهم في العذاب رسيلا (١) لوقوعهم في الضلال كأنهما كائنان في وقت واحد ، لأنّ الضلال لما كان العقاب (٢) من لوازمه جعلا كأنهما مقترنان ، ووصف الضلال بالبعيد من الإسناد المجازي ، لأنّ البعيد صفة الضالّ إذا بعد عن الجادة.

٩ ـ (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ) وبالإدغام عليّ للتقارب بين الفاء والباء ، وضعّفه البعض لزيادة صوت الفاء على الباء (الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ) الثلاثة (٣) بالياء كوفي غير عاصم ، لقوله أفترى على الله كذبا (عَلَيْهِمْ كِسَفاً) (٤) كسفا حفص (مِنَ السَّماءِ) أي أعموا فلم ينظروا إلى السماء والأرض ، وأنهما حيثما كانوا وأينما ساروا أمامهم وخلفهم محيطتان بهم لا يقدرون أن ينفذوا من أقطارهما وأن يخرجوا عما هم فيه من ملكوت الله ، ولم يخافوا أن يخسف الله بهم أو يسقط عليهم كسفا لتكذيبهم الآيات وكفرهم بالرسول وبما جاء به كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة (إِنَّ فِي ذلِكَ) النظر إلى السماء والأرض والفكر فيهما وما تدلّان عليه من قدرة الله تعالى (لَآيَةً) لدلالة (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) راجع بقلبه (٥) إلى ربّه مطيع له ، إذ المنيب لا يخلو من النظر في آيات الله على أنه قادر على كلّ شيء من البعث ومن عقاب من يكفر به.

١٠ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ) بدل من فضلا ، أو من آتينا بتقدير

__________________

(١) رسيلا : مجموعات وقطعان (انظر القاموس ٣ / ٣٨٤) وهي هنا بمعنى سببا.

(٢) في (ز) العذاب.

(٣) الثلاثة : أي (يَرَوْا) ، (نَشَأْ) و (نَخْسِفْ).

(٤) في مصحف النسفي : (كِسَفاً) بإسكان السين ، لذلك قال : ...

(٥) ليس في (ز) بقلبه.

٤٦٤

(أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) (١٢)

قولنا يا جبال أو قلنا يا جبال (أَوِّبِي مَعَهُ) من التأويب أي (١) رجّعي معه التسبيح ، ومعنى تسبيح الجبال أنّ الله يخلق فيها تسبيحا فيسمع منها كما يسمع من المسبّح ، معجزة لداود عليه‌السلام (وَالطَّيْرَ) عطف على محلّ الجبال ، والطير زيد (٢) عطف على لفظ الجبال ، وفي هذا النظم من الفخامة التي لا تخفى (٣) حيث جعلت الجبال بمنزلة العقلاء الذين إذا أمرهم بالطاعة أطاعوا ، وإذا دعاهم أجابوا ، إشعارا بأنه ما من حيوان وجماد إلا وهو منقاد لمشيئة الله تعالى ، ولو قال آتينا داود منا فضلا تأويب الجبال معه والطير لم يكن فيه هذه الفخامة (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) وجعلناه له ليّنا كالطين المعجون يصرّفه بيده كيف يشاء من غير نار ولا ضرب بمطرقة ، وقيل لان الحديد في يده لما أوتي من شدة القوة.

١١ ـ (أَنِ اعْمَلْ) أن بمعنى أي أي (٤) أمرناه أن أعمل (سابِغاتٍ) دروعا واسعة تامة من السّبوغ وهو أول من اتخذها ، وكان يبيع الدرع بأربعة آلاف فينفق منها على نفسه وعياله ويتصدق على الفقراء ، وقيل كان يخرج متنكرا فيسأل الناس عن نفسه ويقول لهم : ما تقولون في داود؟ فيثنون عليه فقيض الله له ملكا في صورة آدمي فسأله على عادته ، فقال : نعم الرجل لو لا خصلة فيه وهو أنه يطعم عياله من بيت المال ، فسأل عند ذلك ربّه أن يسبب له ما يستغني به عن بيت المال فعلّمه صنعة الدروع (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) لا تجعل المسامير دقاقا فيقلق ولا غلاظا فيفصم الحلق ، والسّرد : نسج الدروع (وَاعْمَلُوا) الضمير لداود وأهله (صالِحاً) خالصا يصلح للقبول (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فأجازيكم عليه.

١٢ ـ (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) أي وسخّرنا لسليمان الريح ، وهي الصبا ، ورفع الريح أبو بكر وحماد والمفضّل (٥) ، أي ولسليمان الريح مسخرة (غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) جريها بالغداة مسيرة شهر وجريها بالعشي كذلك ، وكان يغدو من دمشق فيقيل

__________________

(١) ليس في (ظ) و (ز) أي.

(٢) ليس في (ظ) و (ز) زيد.

(٣) في (ز) ما لا يخفى.

(٤) ليس في (ظ) أي الثانية : وفي (ز) أو.

(٥) في (ظ) و (ز) الفضل.

٤٦٥

(يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (١٣)

باصطخر فارس (١) وبينهما مسيرة شهر ويروح من اصطخر فيبيت بكابل (٢) وبينهما مسيرة شهر للراكب المسرع ، وقيل كان يتغدى بالري ويتعشى بسمرقند (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) أي معدن النحاس ، فالقطر النحاس ، وهو الصفر ، ولكنه أساله وكان يسيل في الشهر ثلاثة أيام كما يسيل الماء ، وكان قبل سليمان لا يذوب ، وسماه عين القطر باسم ما آل إليه (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ) من في موضع نصب ، أي وسخّرنا من الجنّ من يعمل (بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ) بأمره (٣) (وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ) ومن يعدل (٤) (عَنْ أَمْرِنا) الذي أمرناه (٥) به من طاعة سليمان (نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) عذاب الآخرة ، وقيل كان معه ملك بيده سوط من نار فمن زاغ عن أمر سليمان عليه‌السلام ضربه ضربة أحرقته.

١٣ ـ (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ) أي مساجد أو مساكن (وَتَماثِيلَ) أي صور السباع والطيور ، وروي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيّه ونسرين فوقه فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما ، وإذا قعد أظلّه النسران بأجنحتهما ، وكان التصوير مباحا حينئذ (وَجِفانٍ) جمع جفنة (كَالْجَوابِ) جمع جابية وهي الحياض الكبار ، قيل كان يقعد على الجفنة ألف رجل. كالجوابي في الوصل والوقف مكي ويعقوب وسهل ، وافق أبو عمرو في الوصل ، الباقون بغير ياء اكتفاء بالكسرة (وَقُدُورٍ راسِياتٍ) ثابتات على الأثافي (٦) لا تنزل عنها لعظمها ، وقيل إنها باقية باليمن ، وقلنا لهم (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) أي ارحموا أهل البلاد واسألوا ربّكم العافية عن الفضيل ، وشكرا مفعول له أو حال ، أي شاكرين ، أو اشكروا شكرا ، لأنّ اعملوا فيه معنى اشكروا من حيث أن العمل للمنعم شكر له ، أو مفعول به يعني إنا سخّرنا لكم الجنّ يعملون لكم ما شئتم فاعملوا أنتم شكرا ، وسئل الجنيد عن الشكر فقال : بذل المجهود بين يدي المعبود (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ) بسكون الياء حمزة وغيره بفتحها

__________________

(١) اصطخر فارس : بلدة بفارس وهي من أقدم مدنها وأشهرها فتحت سنة ٢٨ ه‍ وسط إمارة عثمان رضي الله عنه (معجم البلدان ١ / ٢٤٩).

(٢) كابل ولاية كبيرة بين هند وغزته (معجم البلدان ٤ / ٤٨٣).

(٣) في (ظ) و (ز) بأمر ربه.

(٤) زاد في (ز) منهم.

(٥) في (ز) أمرنا.

(٦) الأثافي : جمع أثفية وهي ما يوضع عليه القدر.

٤٦٦

(فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤) لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) (١٥)

(الشَّكُورُ) المتوفر على أداء الشكر ، الباذل وسعه فيه ، قد شغل به قلبه ولسانه وجوارحه اعتقادا واعترافا وكدحا ، وعن ابن عباس رضي الله عنه : من يشكر على أحواله كلّها وقيل من يشكر على الشكر ، وقيل من يرى عجزه عن الشكر ، وعن داود (١) عليه‌السلام أنه جزّأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم تكن تأتي ساعة من الساعات إلّا وإنسان من آل داود قائم يصلي.

١٤ ـ (فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ) أي على سليمان (ما دَلَّهُمْ) أي الجنّ وآل داود (عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ) أي الأرضة ، وهي دويبة يقال لها سرفة ، والأرض فعلها فأضيفت إليه ، يقال أرضت الخشبة أرضا إذا أكلتها الأرضة (تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) والمنسأة العصا (٢) لأنه ينسىء (٣) بها أي يطرد ، ومنساته بغير همز مدني وأبو عمرو (فَلَمَّا خَرَّ) سقط سليمان (تَبَيَّنَتِ الْجِنُ) علمت الجنّ كلّهم علما بينا بعد التباس الأمر على عامتهم وضعفتهم (أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا) بعد موت سليمان (فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) وروي أنّ داود عليه‌السلام أسس بناء بيت المقدس في موضع فسطاط موسى عليه‌السلام ، فمات قبل أن يتمّه ، فوصّى به إلى سليمان ، فأمر الشياطين بإتمامه ، فلما بقي من عمره سنة سأل ربّه أن يعمّي عليهم موته حتى يفرغوا منه ، ولتبطل دعواهم علم الغيب ، وكان عمر سليمان ثلاثا وخمسين سنة ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، فبقي في ملكه أربعين سنة ، وابتدأ بناء بيت المقدس لأربع مضين من ملكه ، وروي أنّ أفريدون جاء ليصعد كرسيّه فلما دنا ضرب الأسدان ساقه فكسراها فلم يجسر أحد بعده أن يدنو منه.

١٥ ـ (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ) بالصرف بتأويل الحي ، وبعدمه أبو عمرو بتأويل القبيلة (فِي مَسْكَنِهِمْ) حمزة وحفص ، مسكنهم عليّ وخلف ، وهو موضع سكناهم ، وهو بلدهم وأرضهم التي كانوا مقيمين فيها باليمن ، أو مسكن كلّ واحد منهم ، غيرهم

__________________

(١) في (ز) وحكي عن داود.

(٢) في (ز) والعصا تسمى منسأة.

(٣) في (ظ) و (ز) ينسأ.

٤٦٧

(فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) (١٦)

مساكنهم (آيَةٌ) اسم كان (جَنَّتانِ) بدل من آية ، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره الآية جنتان ، ومعنى كونهما آية أنّ أهلها لما أعرضوا عن شكر الله سلبهم الله النعمة ليعتبروا ويتعظوا فلا يعودوا إلى ما كانوا عليه من الكفر وغمط النّعم ، أو جعلهما آية أي علامة دالة على قدرة الله وإحسانه ووجوب شكره (عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ) أراد جماعة (١) من البساتين ، جماعة عن يمين بلدهم وأخرى عن شمالها وكلّ واحدة من الجماعتين في تقاربها وتضامّها كأنها جنّة واحدة كما تكون بساتين البلاد العامرة ، أو أراد بستاني كلّ رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ) حكاية لما قال لهم أنبياء الله المبعوثون إليهم ، أو لما قال لهم لسان القال (٢) ، أو هم أحقّاء بأن يقال لهم ذلك ، ولما أمرهم بذلك أتبعه قوله (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) أي هذه البلدة التي فيها رزقكم بلدة طيبة وربّكم الذي رزقكم وطلب شكركم ربّ غفور لمن شكره. قال ابن عباس : كانت سبأ على ثلاث فراسخ من صنعاء وكانت أخصب البلاد تخرج المرأة وعلى رأسها المكتل فتعمل بيدها وتسير بين تلك الشجر فيمتلىء المكتل بما (٣) يتساقط فيه من الثمر وأطيبها ، ليس فيها بعوض ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب ولا حية ، ومن يمر بها من الغرباء يموت قمله لطيب هواها (٤).

١٦ ـ (فَأَعْرَضُوا) عن دعوة أنبيائهم ، وكذبوهم وقالوا ما نعرف لله علينا نعمة (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) أي المطر الشديد ، أو العرم اسم الوادي ، أو هو الجرذ الذي نقب عليهم السّكر ، قالوا (٥) لمّا طغوا سلّط الله عليهم الجرذ (٦) فنقبه من أسفل فغرّقهم (وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ) المذكورتين (جَنَّتَيْنِ) وتسمية البدل جنتين للمشاكلة وازدواج الكلام ، كقوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (٧) (ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ) الأكل الثمر ، يثقّل ويخفّف ، وهو قراءة نافع ومكي ، والخمط شجر الأراك ، أو (٨) كلّ شجر ذي شوك (وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) الأثل شجر يشبه الطرفاء (٩) أعظم منه وأجود

__________________

(١) في (ظ) و (ز) جماعتين.

(٢) في (ظ) و (ز) الحال.

(٣) في (ظ) و (ز) مما.

(٤) في (ظ) و (ز) هوائها.

(٥) ليس في (ز) قالوا.

(٦) في (ظ) سلطه الله عليهم فنقبه.

(٧) الشورى ، ٤٢ / ٤٠.

(٨) في (ظ) و (ز) وقيل.

(٩) الطرفاء : نوع من الشجر وتطلق على الواحد والجمع.

٤٦٨

(ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ) (١٨)

عودا ، ووجه من نوّن الأكل وهو غير أبي عمرو أنّ أصله ذواتي أكل أكل خمط فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، أو وصف الأكل بالخمط كأنه قيل ذواتي أكل بشع ، ووجه أبي عمرو أنّ أكل الخمط في معنى البرير (١) ، فكأنه قيل ذواتي برير ، والأثل والسّدر معطوفان على أكل لا على خمط لأنّ الأثل لا أكل له ، وعن الحسن : قلّل السّدر لأنه أكرم ما بدّلوا ، لأنه يكون في الجنان.

١٧ ـ (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا) أي جزيناهم ذلك بكفرهم فهو مفعول ثان مقدم (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) كوفي غير أبي بكر ، وهل يجازى إلا الكفور غيرهم ، يعني وهل نجازي مثل هذا الجزاء إلا من كفر النعمة ولم يشكرها ، أو كفر بالله ، أو هل نعاقب (٢) لأنّ الجزاء وإن كان عاما يستعمل في معنى المعاقبة وفي معنى الإثابة لكن المراد الخاص ، وهو العقاب ، وعن الضّحّاك كانوا في الفترة التي بين عيسى ومحمد عليهما‌السلام.

١٨ ـ (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ) بين سبإ (وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها) بالتوسعة على أهلها في النّعم وهي قرى الشام (قُرىً ظاهِرَةً) متواصلة يرى بعضها من بعض لتقاربها ، فهي ظاهرة لأعين الناظرين ، وظاهرة للسابلة لم تبعد عن مسالكهم حتى لا تخفى عليهم (٣) ، وهي أربعة آلاف وسبعمائة قرية متصلة من سبإ إلى الشام (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) أي جعلنا هذه القرى على مقدار معلوم ، يقيل المسافر في قرية ويروح في أخرى إلى أن يبلغ الشام (سِيرُوا فِيها) وقلنا لهم سيروا ، ولا قول ثمة ، ولكنهم لما مكّنوا من السير وسوّيت (٤) أسبابه فكأنهم أمروا بذلك (لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ) أي سيروا فيها إن شئتم بالليل وإن شئتم بالنهار فإنّ الأمن فيها لا يختلف باختلاف الأوقات ، أو (٥) سيروا فيها آمنين لا تخافون عدوا ولا جوعا ولا عطشا وإن تطاولت مدة سفركم وامتدت أياما وليالي.

__________________

(١) زاد في (ز) وهو ثمر الأراك إذا كان غضا. وهو ترجمة من الصحاح لمعنى برير كتبت على هامش (أ) وليست في (ظ).

(٢) في (ظ) و (ز) يعاقب.

(٣) في (ظ) و (ز) حتى تخفى عليهم.

(٤) في (ظ) و (ز) وسويت لهم.

(٥) في (ز) أي.

٤٦٩

(فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) (٢٢)

١٩ ـ (فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) قالوا يا ليتها كانت بعيدة فنسير على نجائبنا ونربح في التجارات ونفاخر في الدواب والأسباب ، بطروا النّعمة وملّوا العافية ، فطلبوا الكدّ والتعب ، بعّد مكي وأبو عمرو (وَظَلَمُوا) بما قالوا (أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) يتحدث الناس بهم ويتعجبون من أحوالهم (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) وفرّقناهم تفريقا اتخذه الناس مثلا مضروبا ، يقولون ذهبوا أيدي سبأ ، وتفرقوا أيادي سبأ ، فلحق غسان بالشام ، وأنمار بيثرب ، وجذام بتهامة ، والأزد بعمان (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ) عن المعاصي (شَكُورٍ) للنّعم ، أو لكلّ مؤمن لأن الإيمان نصفان نصفه شكر ونصفه صبر.

٢٠ ـ (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) بتشديد الدال كوفي (١) ، أي حقّق عليهم ظنّه ، أو وجده صادقا ، وبالتخفيف غيرهم أي صدق في ظنه (فَاتَّبَعُوهُ) الضمير في عليهم واتبعوه لأهل سبإ أو لبني آدم ، وقلل المؤمنين بقوله (إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) لقلّتهم بالإضافة إلى الكفار ولا تجد أكثرهم شاكرين.

٢١ ـ (وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ) لإبليس على الذين صار ظنه فيهم صدقا (مِنْ سُلْطانٍ) من تسليط واستيلاء بالوسوسة (إِلَّا لِنَعْلَمَ) موجودا ما علمناه معدوما ، والتغيّر على المعلوم لا على العلم (مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) محافظ عليه ، وفعيل ومفاعل متآخيان.

٢٢ ـ (قُلِ) لمشركي قومك (ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) أي زعمتموهم آلهة من دون الله فالمفعول الأول الضمير الراجع إلى الموصول ، وحذف كما حذف في قوله : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) (٢) استخفافا لطول الموصول بصلته ، والمفعول الثاني آلهة ، وحذف لأنه موصوف صفته من دون الله ، والموصوف يجوز

__________________

(١) في (ظ) و (ز) بالتشديد كوفي.

(٢) الفرقان ، ٢٥ / ٤١.

٤٧٠

(وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢٤)

حذفه وإقامة الصفة مقامه إذا كان مفهوما ، فإذا مفعولا زعم محذوفان بسببين مختلفين ، والمعنى ادعوا الذين عبدتموهم من دون الله من الأصنام والملائكة وسميتموهم باسمه ، والتجئوا إليهم فيما يعروكم كما تلتجئون إليه ، وانتظروا استجابتهم لدعائكم كما تنتظرون استجابته ، ثم أجاب عنهم بقوله (لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) من خير أو شر أو نفع أو ضر (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ) وما لهم في هذين الجنسين من شركة في الخلق ولا في الملك (وَما لَهُ) تعالى (مِنْهُمْ) من آلهتهم (مِنْ ظَهِيرٍ) من عوين يعينه على تدبير خلقه ، يريد أنهم على هذه الصفة من العجز فكيف يصحّ أن يدعوا كما يدعى ويرجوا كما يرجى.

٢٣ ـ (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) الله (١) ، يعني إلا من وقع الإذن للشفيع لأجله ، وهي اللام الثانية في قولك أذن لزيد لعمرو أي لأجله ، وهذا تكذيب لقولهم هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، أذن له كوفي غير عاصم إلا الأعشى (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) أي كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلّم بها ربّ العزة في إطلاق الإذن ، وفزّع شامي أي الله تعالى ، والتفزيع إزالة الفزع ، وحتى غاية لما فهم من أنّ ثمّ انتظارا للإذن ، وتوقفا وفزعا من الراجين للشفاعة والشفعاء ، هل يؤذن لهم أو لا يؤذن لهم ، كأنه قيل يتربصون ويتوقفون مليا فزعين حتى إذا فزع عن قلوبهم (قالُوا) سأل بعضهم بعضا (ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا) قال (الْحَقَ) أي قول الحقّ (٢) ، وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) ذو العلوّ والكبرياء ، ليس لملك ولا نبيّ أن يتكلّم ذلك اليوم إلا بإذنه وأن يشفع إلّا لمن ارتضى.

٢٤ ـ (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ) أمره بأن يقرّرهم بقوله من يرزقكم ، ثم أمره بأن يتولى الإجابة والإقرار عنهم بقوله يرزقكم الله ، وذلك للإشعار بأنهم مقرّون به بقلوبهم ، إلّا أنهم ربما أبوا أن يتكلموا به لأنهم إن تفوّهوا بأنّ الله رازقهم لزمهم أن يقال لهم فما لكم لا تعبدون من يرزقكم وتؤثرون عليه من لا

__________________

(١) في (ظ) و (ز) : أي أذن له الله.

(٢) في (ظ) و (ز) : أي القول الحق.

٤٧١

(قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢٧)

يقدر على الرزق؟ وأمره أن يقول لهم بعد الإلزام والإلجام الذي إن لم يزد على إقرارهم بألسنتهم لم يتقاصر عنه (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ومعناه وإنّ أحد الفريقين من الموحّدين ومن المشركين لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال ، وهذا من كلام (١) المنصف الذي كلّ من سمعه من موال أو مناف قال لمن خوطب به قد أنصفك صاحبك ، وفي درجه بعد تقدمة (٢) ما قدّم من التقرير دلالة غير خفية على من هو من الفريقين على الهدى ومن هو في الضّلال المبين ، ولكن التعريض أوصل بالمجادل إلى الغرض ، ونحوه قولك لكاذب (٣) إنّ أحدنا لكاذب ، وخولف بين حرفي الجرّ الداخلين على الهدى والضلال ، لأنّ صاحب الهدى كأنه مستعل على فرس جواد يركضه حيث شاء ، والضّال كأنه ينغمس في ظلام لا يدري (٤) أين يتوجه.

٢٥ ـ (قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) هذا أدخل في الإنصاف من الأول حيث أسند الإجرام إلى المخاطبين وهو مأمور به مشكور ، والعمل إلى المخاطبين وهو مزجور عنه محظور (٥).

٢٦ ـ (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا) يوم القيامة (ثُمَّ يَفْتَحُ) يحكم (بَيْنَنا بِالْحَقِ) بلا جور ولا ميل (وَهُوَ الْفَتَّاحُ) الحاكم (الْعَلِيمُ) بالحكم.

٢٧ ـ (قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ) أي ألحقتموهم (بِهِ) بالله (شُرَكاءَ) في العبادة معه ، ومعنى قوله أروني وكان يراهم أن يريهم الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء بالله ، وأن يطلعهم على إحالة (٦) الإشراك به (كَلَّا) ردع وتنبيه ، أي ارتدعوا عن هذا القول وتنبّهوا عن ضلالكم (بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ) الغالب فلا يشاركه أحد ، وهو ضمير الشأن (الْحَكِيمُ) في تدبيره.

__________________

(١) في (ز) الكلام.

(٢) في (ز) تقدم.

(٣) في (ز) للكاذب.

(٤) في (ز) لا يرى.

(٥) في (ظ) و (ز) وضع الناسخ مزجور عنه محظور أولا ومأمور به مشكور ثانيا وهذا خلاف منطوق الآية والصواب ما أثبتناه من (أ).

(٦) في (ز) حالة.

٤٧٢

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٨) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) (٣١)

٢٨ ـ (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) إلّا إرسالة عامة لهم محيطة بهم ، لأنها إذا شملتهم فقد كفّتهم أن يخرج منها أحد منهم. وقال الزّجّاج : معنى الكافّة في اللغة الإحاطة ، والمعنى أرسلناك جامعا للناس في الإنذار والإبلاغ ، فجعله حالا من الكاف ، والتاء على هذا للمبالغة كتاء الراوية والعلّامة (بَشِيراً) بالفضل لمن أقرّ (وَنَذِيراً) بالعدل لمن أصرّ (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) فيحملهم جهلهم على مخالفتك.

٢٩ ـ (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) أي القيامة المشار إليها في قوله قل يجمع بيننا ربّنا (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

٣٠ ـ (قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ) الميعاد ظرف الوعد من مكان أو زمان ، وهو هنا الزمان ويدل عليه قراءة من قرأ ميعاد يوم فأبدل منه اليوم ، وأما الإضافة فإضافة تبيين كما تقول بعير سانية (١) (لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) أي لا يمكنكم التأخر عنه بالاستمهال ولا التقدم إليه بالاستعجال ، ووجه انطباق هذا الجواب على سؤالهم أنهم سألوا عن ذلك وهم منكرون له تعنتا لا استرشادا ، فجاء الجواب على طريق التهديد مطابقا للسؤال على الإنكار والتعنت ، وأنهم مرصدون ليوم يفاجئهم فلا يستطيعون تأخرا عنه ولا تقدما عليه.

٣١ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي أبو جهل وذووه (لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي ما نزل قبل القرآن من كتب الله ، أو القيامة والجنة والنار ، يعني (٢) أنهم جحدوا أن يكون القرآن من الله ، وأن يكون لما دل عليه من الإعادة للجزاء حقيقة (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ) محبوسون (عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ) يردّ (بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ) في الجدال ، أخبر عن عاقبة أمرهم ومآلهم في الآخرة

__________________

(١) بعير سانية : وهي الناقة التي يستقى عليها.

(٢) في (ظ) و (ز) حتى.

٤٧٣

(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٣٣)

فقال لرسوله عليه‌السلام (١) ، أو للمخاطب ولو ترى في الآخرة موقفهم وهم يتجاذبون أطراف المحاورة ويتراجعونها بينهم لرأيت العجب ، فحذف الجواب (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) أي الأتباع (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) أي للرؤوس والمقدّمين (لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) لو لا دعاؤكم إيانا إلى الكفر لكنّا مؤمنين بالله ورسوله.

٣٢ ـ (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى) أولي الاسم ، أي نحن ، حرف الإنكار لأنّ المراد إنكار أن يكونوا (٢) هم الصادّين لهم عن الإيمان ، وإثبات أنهم هم الذين صدّوا بأنفسهم عنه ، وأنهم أتوا من قبل اختيارهم (بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ) إنما وقعت إذ مضافا إليها وإن كانت إذ وإذا من الظروف اللازمة للظرفية لأنه قد اتسع في الزمان ما لم يتّسع في غيره ، فأضيف إليها الزمان (بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) كافرين لاختياركم وإيثاركم الضلال على الهدى لا لقولنا (٣) وتسويلنا.

٣٣ ـ (وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) لم يأت بالعاطف في قال الذين استكبروا وأتي به في وقال الذين استضعفوا لأن الذين استضعفوا مرّ أولا كلامهم فجيء بالجواب محذوف العاطف على طريق الاستئناف ، ثم جيء بكلام آخر للمستضعفين ، فعطف على كلامهم الأول (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) بل مكركم بنا في الليل (٤) والنهار ، فاتّسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به وإضافة المكر إليه أو جعل ليلهم ونهارهم ماكرين على الإسناد المجازي أي الليل والنهار مكرا بطول السلامة فيهما حتى ظننا أنكم على الحق (إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً) أشباها ، والمعنى أنّ المستكبرين لما أنكروا بقولهم أنحن صددناكم أن يكونوا هم السبب في كفر المستضعفين ، وأثبتوا بقولهم بل كنتم مجرمين أنّ ذلك بكسبهم واختيارهم ، كرّ عليهم المستضعفون بقولهم بل مكر الليل والنهار ، فأبطلوا إضرابهم بأضرابهم ، كأنهم قالوا ما كان الإجرام من جهتنا بل من جهة مكركم لنا دائبا ليلا

__________________

(١) في (ز) لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٢) في (ز) يكون.

(٣) في (ظ) و (ز) بقولنا.

(٤) في (ظ) و (ز) بالليل.

٤٧٤

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) (٣٧)

ونهارا وحملكم إيانا على الشرك واتخاذ الأنداد (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ) أضمروا أو أظهروا ، وهو من الأضداد ، وهم الظالمون في قوله إذ الظالمون موقوفون يندم المستكبرون على ضلالهم وإضلالهم ، والمستضعفون على ضلالهم واتّباعهم المضلّين (لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) أي (١) الجحيم (وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي في أعناقهم ، فجاء بالصريح للدلالة على ما استحقوا به الأغلال (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) في الدنيا.

٣٤ ـ (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ) نبيّ (إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) متنعّموها ورؤساؤها (إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) هذه تسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما مني به من قومه من التكذيب والكفر بما جاء به ، وأنه لم يرسل قطّ إلى أهل قرية من نذير إلا قالوا له مثل ما قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل مكة وافتخروا بكثرة الأموال والأولاد ، كما قال :

٣٥ ـ (وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) أرادوا أنهم أكرم على الله من أن يعذّبهم نظرا إلى أحوالهم في الدنيا ، وظنّوا أنهم لو لم يكرموا على الله لما رزقهم (٢) ولو لا أنّ المؤمنين هانوا عليه لما حرمهم ، فأبطل الله ظنّهم بأنّ الرزق فضل من الله يقسمه كيف يشاء ، فربما وسّع على العاصي وضيّق على المطيع ، وربما عكس ، وربما وسّع عليهما ، أو ضيّق عليهما ، فلا ينقاس عليهما أمر الثواب بقوله (٣) :

٣٦ ـ (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) قدر الرزق تضييقه ، قال الله تعالى : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) (٤) (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ذلك.

٣٧ ـ (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) أي وما جماعة أموالكم ولا جماعة أولادكم بالتي تقرّبكم ، وذلك أنّ الجمع المكسر عقلاؤه وغير عقلائه سواء

__________________

(١) ليس في (ز) أي.

(٢) زاد في (ظ) و (ز) الله.

(٣) في (ز) وذلك قوله.

(٤) الطلاق ، ٦٥ / ٧.

٤٧٥

(وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) (٤٠)

في حكم التأنيث ، والزلفى والزلفة كالقربى والقربة ومحلّها النصب على المصدر ، أي تقرّبكم قربة كقوله : (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) (١) (إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) الاستثناء من كم في تقربكم ، يعني أنّ الأموال لا تقرّب أحدا إلّا المؤمن الصالح الذي ينفقها في سبيل الله ، والأولاد لا تقرّب أحدا إلّا من علّمهم الخير ووفقهم (٢) في الدين ورشّحهم للصلاح والطاعة ، وعن ابن عيسى (٣) : إلّا بمعنى لكن ومن شرط جوابه (فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ) وهو من إضافة المصدر إلى المفعول ، أصله فأولئك لهم أن يجازوا الضّعف ، ثم جزاء الضعف ، ثم جزاء الضعف ، ومعنى جزاء الضّعف أن تضاعف لهم حسناتهم الواحدة عشرا ، وقرأ يعقوب جزاء الضعف على فأولئك لهم الضعف جزاء (بِما عَمِلُوا) بأعمالهم (وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ) أي غرف منازل الجنة ، الغرفة حمزة (آمِنُونَ) من كلّ هائل وشاغل.

٣٨ ـ (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا) في إبطالها (مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ).

٣٩ ـ (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ) يوسّع (لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ) ما شرطية في موضع النصب (مِنْ شَيْءٍ) بيانه (فَهُوَ يُخْلِفُهُ) يعوّضه لا معوّض سواه ، إما عاجلا بالمال أو آجلا بالثواب ، جواب الشرط (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) المطعمين ، لأنّ كلّ ما رزق غيره من سلطان أو سيد أو غيرهما فهو من رزق الله أجراه على أيدي هؤلاء ، وهو خالق الرزق وخالق الأسباب التي بها ينتفع المرزوق بالرزق ، وعن بعضهم : الحمد لله الذي أوجدني وجعلني ممن يشتهي فكم من مشته لا يجد وواجد لا يشتهي.

٤٠ ـ (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) وبالياء (٤) فيهما حفص ويعقوب ، هذا خطاب للملائكة وتقريع للكفار وارد على المثل السائر :

__________________

(١) نوح ، ٧١ / ١٧.

(٢) في (ظ) و (ز) وفقههم.

(٣) في (ز) ابن عباس : وهو تصحيف.

(٤) في مصحف النسفي : نحشرهم ونقول بالنون. لذلك قال : وبالياء ... وهي قراءة.

٤٧٦

(قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ) (٤٣)

إياك أعني واسمعي يا جارة ؛ ونحوه قوله : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي) (١) الآية.

٤١ ـ (قالُوا) أي الملائكة (سُبْحانَكَ) تنزيها لك أن يعبد معك غيرك (أَنْتَ وَلِيُّنا) الموالاة خلاف المعاداة ، وهي مفاعلة من الولي ، وهو القرب ، والولي يقع على الموالي والموالى جميعا ، والمعنى أنت الذي نواليه (مِنْ دُونِهِمْ) إذ لا موالاة بيننا وبينهم ، فبينوا بإثبات موالاة الله ومعاداة الكفار براءتهم من الرضا بعبادتهم لهم ، لأنّ من كان على هذه الصفة كانت حاله منافية لذلك (بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ) أي الشياطين حيث أطاعوهم في عبادة غير الله ، أو كانوا يدخلون في أجواف الأصنام إذا عبدت ، فيعبدون بعبادتها ، أو صوّرت لهم الشياطين صور قوم من الجنّ وقالوا هذه صور الملائكة فاعبدوها (أَكْثَرُهُمْ) أكثر الإنس أو الكفار (بِهِمْ) بالجنّ (مُؤْمِنُونَ).

٤٢ ـ (فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) لأنّ الأمر في ذلك اليوم لله وحده لا يملك فيه أحد منفعة ولا مضرة لأحد ، لأنّ الدار دار ثواب وعقاب ، والمثيب والمعاقب هو الله ، فكانت حالها خلاف حال الدنيا التي هي دار التكليف والناس فيها مخلّى بينهم يتضارّون ويتنافعون ، والمراد أنه لا ضارّ ولا نافع يومئذ إلا هو ، ثم ذكر عاقبة الظالمين بقوله (وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) بوضع العبادة في غير موضعها ، معطوف على لا يملك (ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) في الدنيا.

٤٣ ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) أي إذا قرىء عليهم القرآن (بَيِّناتٍ) واضحات (قالُوا) أي المشركون ما هذا أي محمد (إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا) أي القرآن (إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي

__________________

(١) المائدة ، ٥ / ١١٦.

٤٧٧

(وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥) قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) (٤٦)

وقالوا ، والعدول عنه دليل على إنكار عظيم وغضب شديد (لِلْحَقِ) للقرآن أو لأمر النبوة كلّه (لَمَّا جاءَهُمْ) وعجزوا عن الإتيان بمثله (إِنْ هذا) أي الحقّ (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) بتّوه على أنه سحر ، ثم بتّوه على أنه بيّن ظاهر ، كلّ عاقل تأمله سمّاه سحرا.

٤٤ ـ (وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها) أي ما أعطينا مشركي مكة كتبا يدرسونها فيها برهان على صحة الشرك (وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) ولا أرسلنا إليهم نذيرا ينذرهم بالعقاب إن لم يشركوا. ثم توعدهم على تكذيبهم بقوله :

٤٥ ـ (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي وكذّب الذين تقدّموهم من الأمم الماضية والقرون الخالية الرسل كما كذّبوا (وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ) أي وما بلغ أهل مكة عشر ما أوتي الأولون من طول الأعمار وقوة الأجرام وكثرة الأموال (١) (فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) للمكذّبين الأولين ، فليحذروا من مثله ، وبالياء (٢) في الوصل والوقف يعقوب ، أي فحين كذبوا رسلهم جاءهم إنكاري بالتدمير والاستئصال ولم يغن عنهم استظهارهم بما هم مستظهرون ، فما بال هؤلاء ، وإنما قال فكذّبوا وهو مستغنى عنه بقوله وكذّب الذين من قبلهم لأنه لمّا كان معنى قوله وكذّب الذين من قبلهم وفعل الذين من قبلهم التكذيب وأقدموا عليه جعل تكذيب الرسل مسببا عنه ، وهو كقول القائل أقدم فلان على الكفر فكفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

٤٦ ـ (قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ) بخصلة واحدة ، فسّرها بقوله (أَنْ تَقُومُوا) على أنه عطف بيان لها ، وقيل هو بدل ، وعلى هذين الوجهين هو في محل الجرّ ، وقيل هو في محلّ الرفع على تقدير هي أن تقوموا ، أو النصب على تقدير أعني ، فأراد بقيامهم القيام عن مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتفرّقهم عن مجتمعهم عنده ، أو قيام القصد إلى الشيء دون النهوض والانتصاب ، والمعنى إنما أعظكم بواحدة إن فعلتموها أصبتم

__________________

(١) زاد في (ظ) و (ز) والأولاد.

(٢) أي (نكيري).

٤٧٨

(قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) (٤٩)

الحقّ وتخلّصتم وهي أن تقوموا (لِلَّهِ) أي لوجه الله خالصا لا لحمية وعصبية (١) بل لطلب الحقّ (مَثْنى) اثنين اثنين (وَفُرادى) فردا فردا (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) في أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما جاء به ، أما الاثنان فيتفكّران ويعرض كلّ واحد منهما محصول فكره على صاحبه وينظران فيه نظر الصدق والإنصاف حتى يؤديهما النظر الصحيح إلى الحقّ ، وكذلك الفرد يتفكّر في نفسه بعدل ونصفة ويعرض فكره على عقله ، ومعنى تفرّقهم مثنى وفرادى أنّ الاجتماع مما يشوش الخواطر ، ويعمي البصائر ، ويمنع من الروية ، ويقلّ الإنصاف به ويكثر الاعتساف ويثور عجاج التعصب ، ولا يسمع إلا نصرة المذهب ، وتتفكروا معطوف على تقوموا (ما بِصاحِبِكُمْ) يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (مِنْ جِنَّةٍ) جنون ، والمعنى ثم تتفكروا فتعلموا ما بصاحبكم من جنّة (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) قدّام عذاب شديد ، وهو عذاب الآخرة ، وهو كقوله عليه‌السلام : (بعثت بين يدي الساعة) (٢). ثم بيّن أنه لا يطلب أجرا على الإنذار بقوله :

٤٧ ـ (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) على إنذاري وتبليغي الرسالة (فَهُوَ لَكُمْ) جزاء الشرط تقديره أيّ شيء سألتكم من أجر ، كقوله : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ) (٣) ومعناه نفي مسألة الأجر رأسا ، نحو ما لي في هذا فهو لك ، أي ليس لي فيه شيء (إِنْ أَجْرِيَ) مدني وشامي وأبو بكر وحفص ، وبسكون الياء غيرهم (إِلَّا عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فيعلم أني لا أطلب الأجر على نصيحتكم ودعائكم إليه إلّا منه.

٤٨ ـ (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِ) بالوحي ، والقذف توجيه السهم ونحوه بدفع واعتماد ، ويستعار لمعنى الإلقاء ، ومنه : (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) (٤) (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ) (٥) ومعنى يقذف بالحقّ يلقيه وينزله إلى أنبيائه ، أو يرمي به الباطل فيدمغه ويزهقه (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) مرفوع على البدل من الضمير في يقذف ، أو على أنه خبر مبتدإ محذوف.

٤٩ ـ (قُلْ جاءَ الْحَقُ) الإسلام أو القرآن (وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) أي زال

__________________

(١) في (ظ) و (ز) ولا عصبية.

(٢) رواه أحمد ، كنز العمال ٤ / ١٠٥٢٨.

(٣) فاطر ، ٣٥ / ٢.

(٤) الأحزاب ، ٣٣ / ٢٦. الحشر ، ٥٩ / ٢.

(٥) طه ، ٢٠ / ٣٩.

٤٧٩

(قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠) وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) (٥١)

الباطل وهلك ، لأنّ الإبداء والإعادة من صفات الحي فعدمهما عبارة عن الهلاك ، والمعنى جاء الحقّ وزهق الباطل ، كقوله : (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) (١) وعن ابن مسعود رضي الله عنه : دخل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة وحول الكعبة أصنام ، فجعل يطعنها بعود نبعة (٢) ويقول : (جاء الحقّ وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقا ، جاء الحقّ وما يبدىء الباطل وما يعيد) (٣) وقيل الباطل الأصنام ، وقيل إبليس لأنه صاحب الباطل أو لأنه هالك ، كما قيل له الشيطان من شاط إذا هلك ، أي لا يخلق الشيطان ولا الصنم أحدا ولا يبعثه ، فالمنشىء والباعث هو الله.

ولما قالوا قد ضللت بترك دين آبائك ، قال الله تعالى :

٥٠ ـ (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ) عن الحقّ (فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي) إن زللت (٤) فمنّي وعليّ (وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) أي فبتسديده بالوحي إليّ ، وكان قياس التقابل أن يقال وإن اهتديت فإنما اهتدي لها ، كقوله : (فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) (٥) ولكن هما متقابلان معنى ، لأنّ النفس كلّ ما عليها وضارّ لها فهو بها وبسببها لأنها الأمارة بالسوء ، وما لها مما ينفعها فبهداية ربّها وتوفيقه ، وهذا حكم عام لكلّ مكلّف وإنما أمر رسوله أن يسنده إلى نفسه لأنّ الرسول إذا دخل تحته مع جلالة محلّه وسداد طريقته كان غيره أولى به (إِنَّهُ سَمِيعٌ) لما أقوله لكم (قَرِيبٌ) مني ومنكم ، يجازيني ويجازيكم.

٥١ ـ (وَلَوْ تَرى) جوابه محذوف أي لرأيت أمرا عظيما وحالا هائلة (إِذْ فَزِعُوا) عند البعث ، أو عند الموت ، أو يوم بدر (فَلا فَوْتَ) فلا مهرب ، أو فلا يفوتون الله ولا يسبقونه (وَأُخِذُوا) عطف على فزعوا ، أي فزعوا أو أخذوا فلا فوت لهم ، أو على لا فوت على معنى إذ فزعوا فلم يفوتوا وأخذوا (مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) من الموقف إلى النار إذا بعثوا ، أو من ظهر الأرض إلى بطنها إذا ماتوا ، أو من صحراء

__________________

(١) الإسراء ، ١٧ / ٨١.

(٢) في (ز) معه ، والنبع : شجر تتخذ من أغصانه السهام. الواحدة نبعة.

(٣) متفق عليه ، وفي البخاري : وحول الكعبة ستون وثلاثمائة نصب.

(٤) في (ظ) و (ز) ضللت.

(٥) الزمر ، ٣٩ / ٤١.

٤٨٠