تفسير النسفي - ج ٣

عبدالله بن أحمد النسفي

تفسير النسفي - ج ٣

المؤلف:

عبدالله بن أحمد النسفي


المحقق: الشيخ مروان محمّد الشعار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٦

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٥٦)

٥٤ ـ (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) من النّطف كقوله : (مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) (١) (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) يعني حال الشباب وبلوغ الأشدّ (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) يعني حال الشيخوخة والهرم (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) من ضعف وقوة وشباب وشيبة (وَهُوَ الْعَلِيمُ) بأحوالهم (الْقَدِيرُ) على تغييرهم ، وهذا الترديد في الأحوال أبين دليل على الصانع العليم القدير. فتح الضاد في الكلّ عاصم وحمزة ، وضم غيرهما ، وهو اختيار حفص ، وهما لغتان ، والضم أقوى في القراءة لما روي عن ابن عمر قال : قرأتها على رسول الله من ضعف فأقرأني من ضعف (٢) :

٥٥ ـ (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) أي القيامة ، سمّيت بذلك لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا ، أو لأنها تقع بغتة ، كما تقول في ساعة لمن تستعجله ، وجرت علما لها كالنجم للثريا (يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ) يحلف الكافرون ، ولا وقف عليه لأن (ما لَبِثُوا) في القبور أو في الدنيا (غَيْرَ ساعَةٍ) جواب القسم ، استقلوا مدة لبثهم في القبور ، أو في الدنيا لهول يوم القيامة وطول مقامهم في شدائدها ، أو ينسون ، أو يكذبون (كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) أي مثل ذلك الصرف كانوا يصرفون عن الصدق إلى الكذب في الدنيا ويقولون ما هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين.

٥٦ ـ (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ) هم الملائكة والأنبياء والمؤمنون (٣) (لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ) في علم الله المثبت في اللوح ، أو في حكم الله وقضائه (إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) ردّوا ما قالوه وحلفوا عليه ، وأطلعوهم على الحقيقة ، ثم وصلوا ذلك بتقريعهم على إنكار البعث بقولهم (فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ) في الدنيا (لا تَعْلَمُونَ) أنه حقّ لتفريطكم في طلب الحقّ واتباعه ، الفاء لجواب شرط يدلّ عليه الكلام ، تقديره إن كنتم منكرين البعث فهذا يوم البعث الذي أنكرتموه.

__________________

(١) المرسلات ، ٧٧ / ٢٠.

(٢) أبو داود والترمذي وإسحاق والبزار من حديث عطية عن ابن عمر.

(٣) في (ز) الأنبياء والملائكة والمؤمنون.

٤٠١

(فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) (٦٠)

٥٧ ـ (فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ) (١) بالياء كوفي (الَّذِينَ ظَلَمُوا) كفروا (مَعْذِرَتُهُمْ) عذرهم (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي لا يقال لهم أرضوا ربّكم بتوبة ، من قولك استعتبني فلان فأعتبته ، أي استرضاني فأرضيته.

٥٨ ـ (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ) أي ولقد وصفنا لهم كلّ صفة كأنها مثل في غرابتها ، وقصصنا عليهم كلّ قصة عجيبة الشأن كصفة المبعوثين يوم القيامة وقصتهم ، وما يقولون وما يقال لهم ، وما لا ينفع من اعتذارهم ولا يسمع من استعتابهم ، ولكنهم لقسوة قلوبهم إذا جئتهم بآية من آيات القرآن قالوا جئتنا بزور وباطل.

٥٩ ـ (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي مثل ذلك الطبع ، وهو الختم ، يطبع الله على قلوب الجهلة الذين علم الله منهم اختيار الضلال حتى يسمّوا المحقين مبطلين ، وهم أعرف (٢) خلق الله في تلك الصفة.

٦٠ ـ (فَاصْبِرْ) على أذاهم أو عداوتهم (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بنصرتك على أعدائك وإظهار دين الإسلام على كلّ دين (حَقٌ) لا بدّ من إنجازه والوفاء به (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) أي لا يحملنّك هؤلاء الذين لا يوقنون بالآخرة على الخفّة والعجلة في الدعاء عليهم بالعذاب ، أو لا يحملنّك على الخفة والقلق جزعا مما يقولون ويفعلون ، فإنهم ضلّال شاكون لا يستبدع منهم ذلك ، ولا يستخفّنك بسكون النون عن يعقوب (٣).

__________________

(١) في مصحف النسفي : لا تنفع بالتاء لذلك قال : ...

(٢) في (ظ) و (ز) أعرق.

(٣) زاد في (ز) والله الموفق للصواب.

٤٠٢

سورة لقمان

مكية وهي ثلاث أو أربع وثلاثون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) (٤)

٢ ـ ١ ـ (الم. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) ذي الحكمة ، أو وصف بصفة الله عزوجل على الإسناد المجازي.

٣ ـ (هُدىً وَرَحْمَةً) حالان من الآيات ، والعامل معنى الإشارة في تلك ، حمزة بالرفع على أنّ تلك مبتدأ وآيات الكتاب خبره وهدى خبر بعد خبر ، أو خبر مبتدأ محذوف أي هو أو هي هدى ورحمة (لِلْمُحْسِنِينَ) للذين يعملون الحسنات المذكورة في قوله :

٤ ـ (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) ونظيره قول أوس (١) :

الألمعيّ الذي يظنّ بك الظّ

نّ كأن قد رأى وقد سمعا

__________________

(١) أوس : هو أوس بن حجر بن مالك التميمي ، أبو شريح ، شاعر تميم في الجاهلية ، أو من كبار شعرائها ولد عام ٩٨ ق. ه وتوفي عام ٢ ق. ه (الأعلام ٢ / ٣١) والبيت من قصيدة مشهورة قالها في فضالة بن كلدة يمدحه فيها في حياته ويرثيه بعد مماته.

٤٠٣

(أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (٦)

أو للذين يعملون جميع ما يحسن ، ثم خصّ منهم القائمين بهذه الثلاث (١) لفضلها.

٥ ـ (أُولئِكَ عَلى هُدىً) مبتدأ وخبر (مِنْ رَبِّهِمْ) صفة لهدى (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) عطف عليه.

٦ ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) نزلت في النضر بن الحرث وكان يشتري أخبار الأكاسرة من فارس ويقول : إن محمدا يقصّ طرفا من قصة عاد وثمود ، فأنا أحدثكم بأحاديث الأكاسرة فيميلون إلى حديثه ويتركون استماع القرآن. واللهو كلّ باطل ألهى عن الخير وعما يعني. ولهو الحديث نحو السمر بالأساطير التي لا أصل لها والغناء ، وكان ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما يحلفان أنه الغناء ، وقيل الغناء مفسدة للقلب منفدة للمال مسخطة للربّ ، وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (ما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله عليه شيطانين أحدهما على هذا المنكب والآخر على هذا المنكب ، فلا يزالان يضربانه بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت) (٢) والاشتراء من الشراء ، كما روي عن النضر أو من قوله اشتروا الكفر بالإيمان ، أي استبدلوه منه واختاروه عليه ، أي يختارون حديث الباطل على حديث الحقّ ، وإضافة اللهو إلى الحديث للتبيين بمعنى من ، لأنّ اللهو يكون من الحديث ومن غيره فبيّن بالحديث ، والمراد بالحديث الحديث المنكر ، كما جاء في الحديث : (الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش) (٣) أو للتبعيض كأنه قيل ومن الناس من يشتري بعض الحديث الذي هو اللهو منه (لِيُضِلَ) أي ليصدّ الناس عن الدخول في الإسلام واستماع القرآن ، ليضلّ مكي وأبو عمرو أي ليثبت على ضلاله الذي كان عليه ويزيد فيه (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) عن دين الإسلام أو القرآن (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي جهلا منه بما عليه من الوزر به (وَيَتَّخِذَها) أي السبيل بالنصب كوفي غير أبي بكر عطفا على ليضلّ ، ومن رفع عطفه على يشتري (هُزُواً) بسكون الزاي والهمزة حمزة ، وبضم الزاي بلا

__________________

(١) في (ظ) و (ز) الثلاثة.

(٢) أبو يعلى وإسحاق والحارث من طريق أبي أمامة.

(٣) الطبراني وابن مردويه وابن النجار عن الحسن بن علي (الدر المنثور).

٤٠٤

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (١١)

همز حفص ، وغيرهم بضمّ الزاي والهمزة (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي يهينهم ، ومن لإبهامه يقع على الواحد والجمع ، أي للنضر وأمثاله.

٧ ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً) أعرض عن تدبّرها متكبرا رافعا نفسه عن الإصغاء إلى القرآن (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) يشبّه حاله في ذلك حال من لم يسمعها ، وهو حال من مستكبرا ، والأصل كأنه ، والضمير ضمير الشأن (كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) ثقلا وهو حال من لم يسمعها ، أذنيه نافع (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ).

٨ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ) ولا وقف عليه لأن :

٩ ـ (خالِدِينَ فِيها) حال من الضمير في لهم (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) مصدران مؤكدان ، الأول مؤكد لنفسه والثاني مؤكد لغيره إذ لهم جنات النعيم في معنى وعدهم الله جنات النعيم فأكد معنى الوعد بالوعد ، وحقا يدلّ على معنى الثبات فأكّد به معنى الوعد ومؤكّدهما لهم جنات النعيم (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي لا يغلبه شيء فيهين أعداءه بالعذاب الأليم (١) (الْحَكِيمُ) فيما (٢) يفعل فيثبت أولياءه بالنعيم المقيم.

١٠ ـ (خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ) جمع عماد (تَرَوْنَها) الضمير للسماوات ، وهو استشهاد برؤيتهم لها غير معمودة على قوله بغير عمد ، كما تقول لصاحبك أنا بلا سيف ولا رمح تراني ، ولا محل لها من الإعراب لأنها مستأنفة ، أو في محل الجرّ صفة لعمد ، أي بغير عمد مرئية ، يعني أنه عمدها بعمد لا ترى وهي إمساكها بقدرته (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) جبالا ثوابت (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) لئلا تضطرب بكم (وَبَثَ) ونشر (فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) صنف (كَرِيمٍ) حسن.

١١ ـ (هذا) إشارة إلى ما ذكر من مخلوقاته (خَلْقُ اللهِ) أي مخلوقه

__________________

(١) في (ز) المهين.

(٢) في (ز) بما.

٤٠٥

(وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (١٣)

(فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) يعني آلهتهم ، بكّتهم بأنّ هذه الأشياء العظيمة مما خلقه الله فأروني ما خلقته آلهتكم حتى استوجبوا عندكم العبادة (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أضرب عن تبكيتهم إلى التسجيل عليهم بالتورّط في ضلال ليس بعده ضلال.

١٢ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) وهو لقمان ابن باعوراء ابن أخت أيوب أو ابن خالته ، وقيل كان من أولاد آزر وعاش ألف سنة ، وأدرك داود عليه‌السلام وأخذ منه العلم ، وكان يفتي قبل مبعث داود عليه‌السلام ، فلما بعث قطع الفتوى ، فقيل له ، فقال : ألا أكتفي إذا كفيت ، وقيل كان خياطا ، وقيل نجارا ، وقيل راعيا ، وقيل كان قاضيا في بني إسرائيل ، وقال عكرمة والشعبي : كان نبيا ، والجمهور على أنه كان حكيما ولم يكن نبيا ، وقيل خيّر بين النبوّة والحكمة فاختار الحكمة وهي الإصابة في القول والعمل ، وقيل تتلمذ لألف وتتلمذ له ألف نبي ، وأن في (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) مفسرة ، والمعنى أي اشكر لله لأنّ إيتاء الحكمة في معنى القول ، وقد نبه الله تعالى على أنّ الحكمة الأصلية والعلم الحقيقيّ هو العمل بهما ، وعبادة الله والشكر له ، حيث فسّر إيتاء الحكمة بالحثّ على الشكر ، وقيل لا يكون الرجل حكيما حتى يكون حكيما في قوله وفعله ومعاشرته وصحبته ، وقال السري (١) : الشكر أن لا تعصي الله بنعمه ، وقال الجنيد : أن لا ترى معه شريكا في نعمه. وقيل هو الإقرار بالعجز عن الشكر ، والحاصل أنّ شكر القلب المعرفة ، وشكر اللسان الحمد ، وشكر الأركان الطاعة ، ورؤية العجز في الكلّ دليل قبول الكلّ (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) لأنّ منفعته تعود إليه ، فهو يريد المزيد (وَمَنْ كَفَرَ) النّعمة (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌ) غير محتاج إلى الشكر (حَمِيدٌ) حقيق بأن يحمد وإن لم يحمده أحد.

١٣ ـ (وَإِذْ) أي واذكر إذ (قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ) أنعم ، أو أشكم (وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَ) بالإسكان مكي يا بنيّ حفص بفتحه في كلّ القرآن (لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَ

__________________

(١) في (ز) السري السقطي ، والسري هو : سري بن المغلس السقطي ، أبو الحسن ، من كبار المتصوفة وهو خال الجنيد ولد في بغداد ، وتوفي عام ٢٤٦ ه‍ (الأعلام ٣ / ٨٢).

٤٠٦

وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٥)

(الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) لأنه تسوية بين من لا نعمة إلّا وهي منه ومن لا نعمة له أصلا.

١٤ ـ (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ) أي حملته تهن وهنا على وهن أي تضعف ضعفا فوق ضعف ، أي يتزايد ضعفها ويتضاعف لأنّ الحمل كلما ازداد أو عظم ازدادت ثقلا وضعفا (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) أي فطامه عن الرّضاع لتمام عامين (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) هو تفسير لوصّينا أي وصيناه بشكرنا وبشكر والديه ، وقوله حملته أمّه وهنا على وهن وفصاله في عامين اعتراض بيّن المفسّر والمفسّر لأنه لما وصّى بالوالدين ذكر ما تكابده الأم وتعانيه من المشاق في حمله وفصاله هذه المدة الطويلة ، تذكيرا بحقها العظيم مفردا ، وعن ابن عيينة (١) : من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله ، ومن دعا للوالدين في أدبار الصلوات الخمس فقد شكرهما (إِلَيَّ الْمَصِيرُ) أي مصيرك إليّ وحسابك عليّ.

١٥ ـ (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أراد بنفي العلم به نفيه ، أي لا تشرك بي ما ليس بشيء ، يريد الأصنام (فَلا تُطِعْهُما) في الشرك (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) صفة مصدر محذوف ، أي صحابا معروفا حسنا ، بخلق جميل وحلم واحتمال وبرّ وصلة (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ) أي سبيل المؤمنين في دينك ولا تتبع سبيلهما فيه وإن كنت مأمورا بحسن مصاحبتهما في الدنيا ، وقال ابن عطاء : صاحب من ترى عليه أنوار خدمتي (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) أي مرجعك ومرجعهما (فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فأجازيك على إيمانك وأجازيهما على كفرهما ، وقد اعترض بهاتين الآيتين على سبيل الاستطراد تأكيدا لما في وصية لقمان من النهي عن الشرك ، يعني إنّا وصيناه بوالديه وأمرناه أن لا يطيعهما في الشرك وإن جهدا كلّ الجهد لقبحه.

__________________

(١) ابن عيينة : سبق ترجمته في ٣ / ١٣٦.

٤٠٧

(يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) (١٨)

١٦ ـ (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) بالرفع مدني ، والضمير للقصة وأنث المثقال لإضافته إلى الحبة كما قال (١) :

كما شرقت صدر القناة من الدم.

وكان تامة ، والباقون بالنصب ، والضمير للهنة من الإساءة والإحسان أي إن كانت مثلا في الصّغر كحبة خردل (فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ) أي فكانت مع صغرها في أخفى موضع وأحرزه كجوف الصخرة ، أو حيث كانت في العالم العلوي أو السفلي ، والأكثر على أنها الصخرة (٢) التي عليها الأرض ، وهي السّجّين يكتب فيها أعمال الفجار وليست من الأرض (يَأْتِ بِهَا اللهُ) يوم القيامة فيحاسب بها عاملها (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ) يتوصّل علمه إلى كلّ خفي (خَبِيرٌ) عالم بكنهه ، أو لطيف باستخراجها خبير بمستقرّها.

١٧ ـ (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) في ذات الله تعالى إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر ، أو على ما أصابك من المحن فإنها تورث المنح (إِنَّ ذلِكَ) الذي أوصيك (٣) به (مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي مما عزمه الله من الأمور أي قطعه قطع إيجاب وإلزام ، أي أمرهم (٤) به أمرا حتما ، وهو من تسمية المفعول بالمصدر ، وأصله من معزومات الأمور أي مقطوعاتها ومفروضاتها ، وهذا دليل على أنّ هذه الطاعات كانت مأمورا بها في سائر الأمم.

١٨ ـ (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) ولا تعرض (٥) عنهم تكبّرا ، تصاعر أبو عمرو ونافع وحمزة وعليّ وهو بمعنى تصعّر ، والصعر داء يصيب البعير يلوي منه عنقه ، والمعنى أقبل على الناس بوجهك تواضعا ، ولا تولّهم شقّ وجهك وصفحته كما يفعله

__________________

(١) لم أصل إلى أصله.

(٢) ليس في (ز) الصخرة.

(٣) في (ظ) و (ز) وصيتك.

(٤) في (ز) أمر به.

(٥) في (ظ) و (ز) أي ولا تعرض.

٤٠٨

(وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩) أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) (٢٠)

المتكبرون (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) أي تمرح مرحا ، أو أوقع المصدر موقع الحال أي مرحا ، أو ولا تمش لأجل المرح والأشر (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ) متكبر (فَخُورٍ) من يعدّد مناقبه تطاولا.

١٩ ـ (وَاقْصِدْ) القصد التوسط بين العلوّ والتقصير (فِي مَشْيِكَ) أي اعدل فيه حتى يكون مشيا بين مشيين لا تدبّ دبيب المتماوتين ، ولا تثب وثب (١) الشّطّار ، قال عليه‌السلام : (سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن) (٢) وأما قول عائشة في عمر رضي الله عنه : كان إذا مشى أسرع (٣) ، فإنما أرادت السرعة المرتفعة عن دبيب المتماوت ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه : كانوا ينهون عن خبب اليهود ودبيب النصارى ، ولكن مشيا بين ذلك ، وقيل معناه وانظر موضع قدميك متواضعا (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) وانقص منه أي اخفض صوتك (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ) أوحشها (٤) (لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) لأنّ أوله زفير وآخره شهيق كصوت أهل النار ، وعن الثوري صياح كلّ شيء تسبيح إلا الحمار ، فإنه يصيح لرؤية الشيطان ، ولذلك سمّاه الله منكرا ، وفي تشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير وتمثيل أصواتهم بالنّهاق تنبيه على أنّ رفع الصوت في غاية الكراهة يؤيده ما روي أنه عليه‌السلام كان يعجبه أن يكون الرجل خفيض الصوت ويكره أن يكون جهور الصوت ، وإنما وحّد صوت الحمير ولم يجمع لأنه لم يرد أن يذكر صوت كلّ واحد من آحاد هذا الجنس حتى يجمع ، بل المراد أنّ كلّ جنس من الحيوان له صوت ، وأنكر أصوات هذه الأجناس صوت هذا الجنس فوجب توحيده.

٢٠ ـ (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ) يعني الشمس والقمر والنجوم والسحاب وغير ذلك (وَما فِي الْأَرْضِ) يعني البحار والأنهار والمعادن والدواب وغير

__________________

(١) في (ظ) و (ز) وثوب.

(٢) أخرجه ابن عدي وأبو نعيم في الحلية من حديث أبي هريرة وأبي سعيد وابن عمر. وهو ضعيف ، في إسناده عمار بن مطرد وهو متروك ، وتابعه الوليد بن سلمة وهو أو هى منه. قاله ابن حجر.

(٣) ذكره ابن الأثير في النهاية وابن سعد في الطبقات.

(٤) في (ظ) و (ز) أي أوحشها.

٤٠٩

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٢٣)

ذلك (وَأَسْبَغَ) وأتمّ (عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ) مدني وأبو عمرو وسهل وحفص. نعمة غيرهم ، والنعمة كلّ نفع قصد به الإحسان (ظاهِرَةً) بالمشاهدة (وَباطِنَةً) ما لا يعلم إلا بدليل ثم قيل الظاهرة البصر والسمع واللسان وسائر الجوارح الظاهرة ، والباطنة القلب والعقل والفهم وما أشبه ذلك ، ويروى في دعاء موسى عليه‌السلام : إلهي دلني على أخفى نعمتك على عبادك ، فقال أخفى نعمتي عليهم النفس. وقيل تخفيف الشرائع وتضعيف الذرائع ، والخلق والخلق ، ونيل العطايا وصرف البلايا ، وقبول الخلق ورضا الربّ ، وقال ابن عباس : الظاهرة ما سوّى من خلقك والباطنة ما ستر من عيوبك. (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) نزلت في النضر بن الحارث ، وقد مر في الحج.

٢١ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) معناه يتّبعونهم (١) ولو كان الشيطان يدعوهم ، أي في حال دعاء الشيطان إياهم إلى العذاب.

٢٢ ـ (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ) عدّي هنا بإلى ، وفي : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) (٢) باللام فمعناه مع اللام أنه جعل وجهه وهو ذاته ونفسه سالما لله أي خالصا له ، ومعناه مع إلى أنه سلّم إليه نفسه كما يسلّم المتاع إلى الرجل إذا دفع إليه ، والمراد التوكل عليه والتفويض إليه (وَهُوَ مُحْسِنٌ) فيما يعمل (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ) تمسّك وتعلّق (بِالْعُرْوَةِ) هي ما يعلّق به الشيء (الْوُثْقى) تأنيث الأوثق ، مثّل حال المتوكل بحال من أراد أن يتدلّى من شاهق فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه (وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) أي هي صائرة إليه فيجازي عليها.

٢٣ ـ (وَمَنْ كَفَرَ) ولم يسلّم وجهه لله (فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ) من حزن ، يحزنك نافع من أحزن أي لا يهمنّك كفر من كفر (إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا)

__________________

(١) في (ظ) و (ز) أيتبعونهم.

(٢) البقرة ، ٢ / ١١٢.

٤١٠

(نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (٢٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦) وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٢٧)

فنعاقبهم على أعمالهم (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) إنّ الله يعلم ما في صدور عباده فيفعل بهم على حسبه.

٢٤ ـ (نُمَتِّعُهُمْ) زمانا (قَلِيلاً) بدنياهم (ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ) نلجئهم (إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) شديد ، شبّه إلزامهم التعذيب وإلحاقهم (١) إياه باضطرار المضطرّ إلى الشيء ، والغلظ مستعار من الأجرام الغليظة ، والمراد الشدة بالثقل (٢) على المعذّب.

٢٥ ـ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) إلزام لهم على إقرارهم بأنّ الذي خلق السماوات والأرض هو الله وحده ، وأنه يجب أن يكون له الحمد والشكر ، وأن لا يعبد معه غيره ، ثم قال (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أنّ ذلك يلزمهم ، وإذا نبّهوا عليه لم يتنبّهوا.

٢٦ ـ (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ) عن حمد الحامدين (الْحَمِيدُ) المستحقّ للحمد وإن لم يحمدوه.

قال المشركون : إنّ هذا أي الوحي كلام سينفد ، فأعلم الله أنّ كلامه لا ينفد بقوله :

٢٧ ـ (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) والبحر (٣) أبو عمرو ويعقوب عطفا على اسم أنّ وهو ما ، والرفع على محلّ أنّ ومعمولها أي ولو ثبت كون الأشجار أقلاما وثبت البحر ممدودا بسبعة أبحر ، أو على الابتداء والواو للحال على معنى ولو أنّ الأشجار أقلام في حال كون البحر ممدودا ، وقرىء يمدّه ، وكان مقتضى الكلام أن يقال ولو أنّ الشجر أقلام والبحر مداد لكن أغنى عن ذكر المداد قوله يمدّه لأنه من قولك مدّ الدواة وأمدّها جعل البحر الأعظم بمنزلة الدواة ، وجعل الأبحر السبعة مملوءة مدادا فهي تصبّ فيه مدادها

__________________

(١) في (ظ) و (ز) إرهاقهم.

(٢) في (ظ) و (ز) والثقل.

(٣) زاد في (ز) بالنصب.

٤١١

(ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (٣٠)

أبدا صبّا لا ينقطع ، والمعنى ولو أنّ أشجار الأرض أقلام والبحر ممدود بسبعة أبحر وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله لما نفدت كلماته ونفدت الأقلام والمداد ، كقوله : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) (١) فإن قلت : زعمت أنّ قوله والبحر يمدّه حال في أحد وجهي الرفع وليس فيه ضمير راجع إلى ذي الحال ، قلت : هو كقولك جئت والجيش مصطفّ وما أشبه ذلك من الأحوال التي حكمها حكم الظروف ، وإنما ذكر شجرة على التوحيد لأنه أريد تفصيل الشجر وتقصّيها شجرة شجرة حتى لا يبقى من جنس الشجر ولا واحدة إلّا وقد بريت أقلاما ، وأوثر الكلمات وهي جمع قلة على الكلم وهي جمع كثرة لأنّ معناه أنّ كلماته لا تفي بكتبتها البحار فكيف بكلمه (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) لا يعجزه شيء (حَكِيمٌ) لا يخرج من علمه وحكمته شيء فلا تنفد كلماته وحكمه.

٢٨ ـ (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) إلا كخلق نفس واحدة وبعث نفس واحدة ، فحذف للعلم به ، أي سواء في قدرته القليل والكثير ، فلا يشغله شأن عن شأن (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لقول المشركين إنه لا بعث (بَصِيرٌ) بأعمالهم فيجازيهم.

٢٩ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) يدخل ظلمة الليل في ضوء النهار إذا أقبل الليل (وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) لمنافع العباد (كُلٌ) أي كلّ واحد من الشمس والقمر (يَجْرِي) في فلكه ويقطعه (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) إلى يوم القيامة ، أو إلى وقت معلوم ، الشمس إلى آخر السنة والقمر إلى آخر الشهر (وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) وبالياء عبّاس (٢) ، دلّ أيضا بتعاقب الليل والنهار ، وزيادتهما ونقصانهما ، وجري النّيّرين في فلكيهما على تقدير وحساب ، وبإحاطته بجميع أعمال الخلق على عظم قدرته وكمال حكمته.

٣٠ ـ (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ) بالياء عراقي غير أبي بكر (مِنْ

__________________

(١) الكهف ، ١٨ / ١٠٩.

(٢) في (ظ) و (ز) عياش وهو تصحيف عباس.

٤١٢

أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) (٣٣)

(دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) أي ذلك الوصف الذي وصف (١) من عجائب قدرته وحكمته التي يعجز عنها الأحياء القادرون العالمون فكيف بالجماد الذي يدعونه من دون الله ، إنما هو بسبب أنه هو الحقّ الثابت إلهيته (٢) ، وأنّ من دونه باطل الإلهية ، وأنه هو العلي الشأن الكبير السلطان.

٣١ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ) وقرىء الفلك وكلّ فعل يجوز فيه فعل ، كما يجوز في كل فعل فعل (تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ) بإحسانه ورحمته ، أو بالريح لأنّ الريح من نعم الله (لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ) عجائب قدرته في البحر إذا ركبتموها (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ) على بلائه (شَكُورٍ) لنعمائه ، وهما صفتا المؤمن ، فالإيمان نصفان نصفه شكر ونصفه صبر ، فكأنه قيل إنّ في ذلك لآيات لكلّ مؤمن.

٣٢ ـ (وَإِذا غَشِيَهُمْ) أي الكفار (مَوْجٌ كَالظُّلَلِ) الموج يرتفع فيعود مثل الظّلل ، والظّلّة كلّ ما أظلّك من جبل أو سحاب أو غيرهما (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) أي باق على الإيمان والإخلاص الذي كان منه ولم يعد إلى الكفر أو متوسط في الكفر والظلم انزجر بعض الانزجار ولا يغلو إلى كفره (٣) ، أو مقتصد في الإخلاص الذي كان عليه في البحر ، يعني أنّ ذلك الإخلاص الحادث عند الخوف لا يبقى لأحد قط ، والمقتصد قليل نادر (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا) أي بحقّيّتها (٤) (إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ) غدّار ، والختر أقبح الغدر (كَفُورٍ) لربّه.

٣٣ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ) لا يقضي عنه شيئا ، والمعنى لا يجزي فيه فحذف (وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) وارد

__________________

(١) زاد في (ظ) و (ز) به.

(٢) في (ز) الإلهية.

(٣) سقط من (ز) أو متوسط في الكفر والظلم انزجر بعض الانزجار ولا يغلو إلى كفره.

(٤) في (ز) بحقيقتها.

٤١٣

(إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (٣٤)

على طريق من التوكيد لم يرد عليه ما هو معطوف عليه ، لأنّ الجملة الاسمية آكد من الجملة الفعلية ، وقد انضم إلى ذلك قوله هو ، وقوله مولود ، والسبب في ذلك أنّ الخطاب للمؤمنين وعلّيتهم قبض آباؤهم على الكفر فأريد حسم أطماعهم أن ينفعوا آباءهم بالشفاعة في الآخرة ، ومعنى التأكيد في لفظ المولود أنّ الواحد منهم لو شفع للأب الأدنى الذي ولد منه لم تقبل شفاعته فضلا أن يشفع لأجداده ، إذ الولد يقع على الولد وولد الولد بخلاف المولود فإنه لمن ولد منك كذا في «الكشاف» (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بالبعث والحساب والجزاء (حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) بزينتها ، فإنّ نعيمها (١) دانية ولذتها فانية (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) الشيطان ، أو الدنيا ، أو الأمل.

٣٤ ـ (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي وقت قيامها (وَيُنَزِّلُ) بالتشديد شامي ومدني وعاصم ، وهو عطف على ما يقتضيه الظرف من الفعل تقديره إنّ الله يثبت عنده علم الساعة وينزّل (الْغَيْثَ) في إبّانه من غير تقديم ولا تأخير (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) أذكر أم أنثى ، أتامّ أم ناقص (٢) (وَما تَدْرِي نَفْسٌ) برّة أو فاجرة (ما ذا تَكْسِبُ غَداً) من خير أو شرّ ، وربما كانت عازمة على خير فعملت شرّا ، وعازمة على شرّ فعملت خيرا (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) أي أين تموت ، وربما أقامت بأرض وضربت أوتادها وقالت لا أبرحها فترمي بها مرامي القدر حتى تموت في مكان لم يخطر ببالها.

روي أنّ ملك الموت مرّ على سليمان فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه ، فقال الرجل : من هذا؟ قال له : ملك الموت ، قال : كأنه يريدني ، وسأل سليمان عليه‌السلام أن يحمله على الريح ويلقيه ببلاد الهند ، ففعل ، ثم قال ملك الموت لسليمان : كان دوام نظري إليه تعجبا منه لأني أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك (٣).

وجعل العلم لله والدراية للعبيد لما في الدراية من معنى الختل والحيلة ،

__________________

(١) في (ظ) و (ز) نعمتها.

(٢) في (ظ) أم تام أم ناقص ، وفي (ز) وتام أم ناقص.

(٣) أحمد في الزهد وابن أبي شيبة عن شهر بن حوشب موقوفا.

٤١٤

والمعنى أنها لا تعرف وإن أعملت حيلها ما يختصّ بها ، ولا شيء أخصّ بالإنسان من كسبه وعاقبته ، فإذا لم يكن له طريق إلى معرفتهما كان من (١) معرفة ما عداهما أبعد ، وأما المنجّم الذي يخبر بوقت الغيث والموت ، فإنه يقول بالقياس والنظر في الطالع ، وما يدرك بالدليل لا يكون غيبا ، على أنه مجرد الظنّ ، والظنّ غير العلم ، وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (مفاتح الغيب خمس) وتلا هذه الآية (٢) ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : من أدّعى علم هذه الخمسة فقد كذب. ورأى المنصور (٣) في منامه صورة ملك الموت وسأله عن مدة عمره ، فأشار بأصابعه الخمس ، فعبّرها المعبّرون بخمس سنوات وبخمسة أشهر وبخمسة أيام ، فقال أبو حنيفة رضي الله عنه : هو إشارة إلى هذه الآية ، فإنّ هذه العلوم الخمسة لا يعلمها إلا الله (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بالغيوب (خَبِيرٌ) بما كان ويكون ، وعن الزهريّ رضي الله تعالى عنه : أكثروا قراءة سورة لقمان فإنّ فيها أعاجيب (٤).

__________________

(١) سقط من (ز) من.

(٢) أخرجه البخاري من حديث ابن عمر.

(٣) المنصور : سبق ترجمته في ٧ / ١٢٩.

(٤) زاد في (ز) والله أعلم.

٤١٥

سورة السجدة

مكية وهي ثلاثون آية مدني وكوفي ، وتسع وعشرون آية بصري

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) (٣)

١ ـ (الم) على أنها اسم السورة ، مبتدأ ، وخبره :

٢ ـ (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) وإن جعلتها تعديدا للحروف ارتفع تنزيل بأنه خبر مبتدأ محذوف ، أو هو مبتدأ خبره (لا رَيْبَ فِيهِ) أو يرتفع بالابتداء وخبره (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) ولا ريب فيه اعتراض لا محل له ، والضمير في فيه راجع إلى مضمون الجملة ، كأنه قيل لا ريب في ذلك ، أي في كونه منزّلا من ربّ العالمين ، لأنه معجز للبشر ، ومثله أبعد شيء من الريب ثم أضرب عن ذلك إلى قوله :

٣ ـ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) أي اختلقه محمد ، لأن أم هي المنقطعة الكائنة بمعنى بل ، والهمزة معناه بل أيقولون افتراه ، إنكارا لقولهم وتعجيبا منهم لظهور أمره في عجز بلغائهم عن مثل ثلاث آيات منه (بَلْ هُوَ الْحَقُ) ثم أضرب عن الإنكار إلى إثبات أنه الحقّ (مِنْ رَبِّكَ) ولم يفتره محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قالوا تعنتا وجهلا (لِتُنْذِرَ قَوْماً) أي العرب (ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) ما للنفي والجملة صفة لقوما (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) على الترجي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما كان لعله يتذكر على الترجي من موسى وهارون.

٤١٦

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) (٨)

٤ ـ (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) استولى عليه بإحداثه (ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ) من دون الله (مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ) أي إذا جاوزتم رضاه لم تجدوا لأنفسكم وليا ، أي ناصرا ينصركم ولا شفيعا يشفع لكم (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) تتعظون بمواعظ الله.

٥ ـ (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي أمر الدنيا (مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ) إلى أن تقوم الساعة (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) ذلك الأمر كلّه ، أي يصير إليه ليحكم فيه (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ) وهو يوم القيامة (مِمَّا تَعُدُّونَ) من أيام الدنيا ، ولا تمسّك للمشبّهة بقوله إليه في إثبات الجهة لأن معناه إلى حيث يرضاه ، أو أمره ، كما لا تشبّث لهم بقوله : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) (١) (إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) (٢) (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ) (٣).

٦ ـ (ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي الموصوف بما مرّ ، عالم ما غاب عن الخلق وما شاهدوه (الْعَزِيزُ) الغالب أمره (الرَّحِيمُ) البالغ لطفه وتيسيره ، وقيل لا وقف عليه ، لأن :

٧ ـ (الَّذِي) صفته (أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ) أي حسّنه ، لأنّ كلّ شيء مرتب على ما اقتضته الحكمة (خَلَقَهُ) كوفي ونافع وسهل ، على الوصف أي كلّ شيء خلقه فقد أحسنه (٤) ، خلقه غيرهم على البدل أي أحسن خلق كلّ شيء (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ) آدم (مِنْ طِينٍ).

٨ ـ (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ) ذريته (مِنْ سُلالَةٍ) من نطفة (مِنْ ماءٍ) أي منيّ ، وهو بدل من سلالة (مَهِينٍ) ضعيف حقير.

__________________

(١) الصافات ، ٣٧ / ٩٩.

(٢) العنكبوت ، ٢٩ / ٢٦.

(٣) النساء ، ٤ / ١٠٠.

(٤) في (ز) أحسن.

٤١٧

(ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٩) وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (١١)

٩ ـ (ثُمَّ سَوَّاهُ) قوّمه كقوله : (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (١) (وَنَفَخَ) أدخل (فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) الإضافة للاختصاص ، كأنه قال ونفخ فيه من الشيء الذي اختصّ هو به وبعلمه (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) لتسمعوا وتبصروا وتعقلوا (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أي تشكرون قليلا.

١٠ ـ (وَقالُوا) القائل أبيّ ابن خلف ، ولرضاهم بقوله أسند إليهم (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) أي صرنا ترابا ، وذهبنا مختلطين بتراب الأرض لا نتميّز منه كما يضلّ الماء في اللبن ، أو غبنا في الأرض بالدفن فيها ، وقرأ عليّ ضللنا بكسر اللام ، يقال ضلّ يضلّ وضلّ يضل ، وانتصب الظرف في أإذا ضللنا بما يدلّ عليه (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) وهو نبعث (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ) جاحدون ، لما ذكر كفرهم بالبعث أضرب عنه إلى ما هو أبلغ ، وهو أنهم كافرون بجميع ما يكون في العاقبة لا بالبعث وحده.

١١ ـ (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) أي يتوفى (٢) ملك الموت الذي وكّل بقبض أرواحكم ، ثم ترجعون إلى ربّكم بعد ذلك مبعوثين للحساب والجزاء ، وهذا معنى لقاء الله. والتوفّي استيفاء النفس وهي الروح ، أي يقبض أرواحكم أجمعين ، من قولك توفيت حقي من فلان إذا أخذته وافيا كملا من غير نقصان ، وعن مجاهد : حويت لملك الموت الأرض وجعلت له مثل الطست يتناول منها حيث يشاء ، وقيل ملك الموت يدعو الأرواح فتجيبه ، ثم يأمر أعوانه بقبضها ، والله تعالى هو الآمر بذلك (٣) كلّه ، وهو الخالق لأفعال المخلوقات ، وهذا وجه الجمع بين هذه الآية وبين قوله : (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) (٤) وقوله : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) (٥).

__________________

(١) التين ، ٩٥ / ٤.

(٢) في (ز) يتوفاكم.

(٣) في (ظ) و (ز) لذلك.

(٤) الأنعام ، ٦ / ٦١.

(٥) الزمر ، ٣٩ / ٤٢.

٤١٨

(وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٤)

١٢ ـ (وَلَوْ تَرى) الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكلّ أحد ، ولو امتناعية ، والجواب محذوف أي لرأيت أمرا عظيما (إِذِ الْمُجْرِمُونَ) وهم الذين قالوا أإذا ضللنا في الأرض ، ولو وإذ للمضيّ ، وإنما جاز ذلك لأن المترقّب من الله بمنزلة الموجود ولا يقدّر لترى ما يتناوله ، كأنه قيل ولو تكون منك الرؤية ، وإذ ظرف له (ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) من الذلّ والحياء والندم (عِنْدَ رَبِّهِمْ) عند حساب ربّهم ، ويوقف عليه لحقّ الحذف إذ التقدير يقولون (رَبَّنا أَبْصَرْنا) صدق وعدك ووعيدك (وَسَمِعْنا) منك تصديق رسلك ، أو كنّا عميا وصمّا فأبصرنا وسمعنا (فَارْجِعْنا) إلى الدنيا (نَعْمَلْ صالِحاً) أي الإيمان والطاعة (إِنَّا مُوقِنُونَ) بالبعث والحساب الآن.

١٣ ـ (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) في الدنيا ، أي لو شئنا أعطينا كلّ نفس ما عندنا من اللطف الذي لو كان منهم اختيار ذلك لاهتدوا ، لكن لم نعطهم ذلك اللطف لما علمنا منهم اختيار الكفر وإيثاره ، وهو حجة على المعتزلة فإنّ عندهم شاء الله أن يعطي كلّ نفس ما به اهتدت ، وقد أعطاها لكنها لم تهتد ، وهم أوّلوا الآية بمشيئة الجبر ، وهو تأويل فاسد لما عرف في تبصّر الأدلة (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) ولكن وجب القول مني بما علمت أنه يكون منهم ما يستوجبون به جهنّم ، وهو ما علم منهم أنهم يختارون الردّ والتكذيب ، وفي تخصيص الجن والإنس (١) إشارة إلى أنه عصم ملائكته عن عمل يستوجبون به جهنم.

١٤ ـ (فَذُوقُوا) العذاب (بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ) بما تركتم عمل (٢) لقاء (يَوْمِكُمْ هذا) وهو الإيمان به (إِنَّا نَسِيناكُمْ) وتركناكم في العذاب كالمنسيّ (وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ) أي العذاب الدائم الذي لا انقطاع له (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من الكفر والمعاصي.

__________________

(١) في (ظ) و (ز) الأنس والجن.

(٢) في (ز) من عمل.

٤١٩

(إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٧)

١٥ ـ (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها) أي وعظوا بها (خَرُّوا سُجَّداً) سجدوا لله تواضعا وخشوعا وشكرا على ما رزقهم من الإسلام (وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) ونزّهوا الله عما لا يليق به ، وأثنوا عليه حامدين له (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) عن الإيمان والسجود له.

١٦ ـ (تَتَجافى) ترتفع وتتنحى (جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) عن الفرش ومضاجع النوم. قال سهل : وهب لقوم هبة ، وهو أن أذن لهم في مناجاته وجعلهم من أهل وسيلته ، ثم مدحهم عليه فقال تتجافى جنوبهم عن المضاجع (يَدْعُونَ) داعين (رَبَّهُمْ) عابدين له (خَوْفاً وَطَمَعاً) مفعول له ، أي لأجل خوفهم من سخطه وطمعهم في رحمته ، وهم المتهجدون ، وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تفسيرها : (قيام العبد من الليل) (١) وعن ابن عطاء : أبت جنوبهم أن تسكن على بساط الغفلة وطلبت بساط القربة ، يعني صلاة الليل. وعن أنس : كان أناس من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلّون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء الأخيرة فنزلت فيهم (٢) ، وقيل هم الذين يصلون صلاة العتمة لا ينامون عنها (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) في طاعة الله تعالى.

١٧ ـ (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ) ما بمعنى الذي ، أخفي على حكاية النفس (٣) حمزة ويعقوب (مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) أي لا يعلم أحد ما أعدّ لهؤلاء من الكرامة (جَزاءً) مصدر ، أي جوزوا جزاء (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) عن الحسن رضي الله عنه : أخفى القوم أعمالا في الدنيا فأخفى الله لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، وفيه دليل على أنّ المراد الصلاة في جوف الليل ليكون الجزاء وفاقا.

ثم بيّن أنّ من كان في نور الطاعة والإيمان لا يستوي مع من هو في ظلمة الكفر والعصيان بقوله :

__________________

(١) أحمد من رواية شهر بن حوشب عن معاذ ، وابن أبي شيبة ، والحاكم ، وإسحاق من رواية أبي وائل عن معاذ في أثناء حديث مرفوع قال : (صلاة الرجل في جوف الليل ..).

(٢) ابن مردويه ، وأبو داود عن أنس نحوه.

(٣) أي بإسكان الياء على أنه فعل مضارع مرفوع لتجرده من الناصب والجازم وهو مسند لضمير المتكلم.

٤٢٠