تفسير النسفي - ج ٣

عبدالله بن أحمد النسفي

تفسير النسفي - ج ٣

المؤلف:

عبدالله بن أحمد النسفي


المحقق: الشيخ مروان محمّد الشعار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٦

قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) (٣٥)

(جَناحِكَ) (١) في طه أدخل يمناك تحت يسراك (فَذانِكَ) مخففا مثنى ذاك ، ومشدّدا مكي وأبو عمرو مثنى ذلك ، فإحدى النونين عوض من اللام المحذوفة ، والمراد اليد والعصا (بُرْهانانِ) حجّتان نيّرتان بيّنتان ، وسمّيت الحجّة برهانا لإنارتها ، من قولهم للمرأة البيضاء برهرهة (مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أي أرسلناك إلى فرعون وملئه بهاتين الآيتين (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) كافرين.

٣٣ ـ (قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) به ، بغير ياء وبالياء يعقوب.

٣٤ ـ (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي) حفص (رِدْءاً) حال أي عونا ، يقال ردأته أعنته ، وبلا همز مدني (يُصَدِّقُنِي) عاصم وحمزة صفة ، أي ردأ مصدّقا لي ، وغيرهما بالجزم جواب لأرسله ، ومعنى تصديقه موسى إعانته إياه بزيادة البيان في مظانّ الجدال إن احتاج إليه ليثبت دعواه ، لا أن يقول له صدقت ، ألا ترى إلى قوله هو أفصح مني لسانا فأرسله ، وفضل الفصاحة إنما يحتاج إليه لتقرير البرهان لا لقوله صدقت ، فسحبان (٢) وباقل (٣) فيه يستويان (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) يكذبوني في الحالين يعقوب.

٣٥ ـ (قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) سنقوّيك به ، إذ اليد تشتدّ (٤) بشدّة العضد ، لأنه قوام اليد ، والجملة تقوى بشدّة اليد على مزاولة الأمور (وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً) غلبة وتسلطا وهيبة في قلوب الأعداء (فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا) الباء تتعلق بيصلون ، أي لا يصلون إليكما بسبب آياتنا وتم الكلام ، أو بنجعل لكما سلطانا أي نسلطكما بآياتنا ، أو بمحذوف أي اذهبا بآياتنا ، أو هو بيان للغالبون لا صلة ، أو قسم جوابه لا يصلون مقدّما عليه (أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ).

__________________

(١) طه ، ٢٠ / ٢٢.

(٢) سحبان : اسم رجل بليغ يضرب به المثل (القاموس ١ / ٨١).

(٣) باقل : رجل اشترى ظبيا بأحد عشر درهما فسئل عن شرائه ، ففتح كفيه وأخرج لسانه يشير إلى ثمنه ، فانفلت ، فضرب به المثل في العي (القاموس ٣ / ٣٣٦).

(٤) في (ز) تشد.

٣٤١

(فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) (٣٨)

٣٦ ـ (فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ) واضحات (قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً) أي سحر تعمله أنت ثم تفتريه على الله ، أو سحر موصوف بالافتراء كسائر أنواع السحر وليس بمعجزة من عند الله (وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) في آبائنا (١) حال منصوبة عن هذا ، أي كائنا في زمانهم ، يعني ما حدّثنا بكونه فيهم.

٣٧ ـ (وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي ربّي أعلم منكم بحال من أهّله الله للفلاح الأعظم حيث جعله نبيا ، وبعثه بالهدى ، ووعده حسن العقبى ، يعني نفسه ، ولو كان كما تزعمون ساحرا مفتريا لما أهّله لذلك ، لأنه غنيّ حكيم لا يرسل الكاذبين ولا ينبىء الساحرين ، ولا يفلح عنده الظالمون ، وعاقبة الدار هي العاقبة المحمودة لقوله تعالى : (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ. جَنَّاتُ عَدْنٍ) (٢) والمراد بالدار الدنيا وعاقبتها أن يختم للعبد بالرحمة والرضوان ، وتلقّي الملائكة بالبشرى والغفران. قال موسى بغير واو (٣) مكي وهي حسن لأن الموضع موضع سؤال وبحث عما أجابهم به موسى عند تسميتهم مثل تلك الآيات العظام سحرا مفترى ، ووجه الأخرى أنهم قالوا ذلك وقال موسى هذا ليوازن الناظر بين القول والقول (٤) ويتبصّر فساد أحدهما وصحّة الآخر ، ربّي أعلم حجازي وأبو عمرو ، ومن يكون حمزة وعليّ.

٣٨ ـ (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) قصد بنفي علمه بإله غيره نفي وجوده ، أي ما لكم من إله غيري ، أو هو على ظاهره وأنّ إلها غيره غير معلوم عنده (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ) أي اطبخ لي الآجرّ واتخذه ، وإنما لم يقل هذا (٥) لأنه أول من عمل الآجرّ ، فهو يعلّمه الصنعة بهذه العبارة ، ولأنه

__________________

(١) ليس في (ظ) و (ز) في آبائنا.

(٢) الرعد ، ١٣ / ٢٢ ـ ٢٣.

(٣) أي قبل قال.

(٤) في (ز) والمقول.

(٥) في (ظ) و (ز) لم يقل مكان الطين هذا.

٣٤٢

(وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) (٤١)

أفصح وأشبه بكلام الجبابرة ، إذ أمر هامان وهو وزيره بالإيقاد على الطين منادى باسمه بيا في وسط الكلام دليل التعظّم والتجبّر (فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً) قصرا عاليا (لَعَلِّي أَطَّلِعُ) أي أصعد ، فالاطّلاع الصعود (إِلى إِلهِ مُوسى) حسب أنه تعالى في مكان كما كان هو في مكان (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ) أي موسى (مِنَ الْكاذِبِينَ) في دعواه أنّ له إلها وأنه أرسله إلينا رسولا ، فقد تناقض المخذول فإنه قال ما علمت لكم من إله غيري ، ثم أظهر حاجته إلى هامان ، وأثبت لموسى إلها وأخبر أنه غير متيقن بكذبه ، وكأنه تحصّن من عصا موسى عليه‌السلام فلبّس ، وقال لعلّي أطلع إلى إله موسى.

روي أنّ هامان جمع خمسين ألف بنّاء ، وبنى صرحا لم يبلغه بناء أحد من الخلق فضرب الصرح جبريل عليه‌السلام بجناحه فقطعه ثلاث قطع ، وقعت قطعة على عسكر فرعون فقتلت ألف ألف رجل وقطعة في البحر ، وقطعة في المغرب ولم يبق أحد من عماله إلا هلك.

٣٩ ـ (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ) تعظّم (فِي الْأَرْضِ) أرض مصر (بِغَيْرِ الْحَقِ) أي بالباطل ، والاستكبار بالحقّ لله تعالى ، وهو المتكبّر على الحقيقة ، أي المتبالغ في كبرياء الشأن كما حكى رسولنا عن ربّه : (الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في النار) (١) وكلّ مستكبر سواه فاستكباره بغير الحقّ (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ) يرجعون نافع وحمزة وعليّ وخلف ويعقوب.

٤٠ ـ (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ) من الكلام الفخم (٢) الذي دلّ به على عظمة شأنه ، شبّههم استقلالا لعددهم وإن كانوا الجمّ الغفير بحصيّات أخذهنّ آخذ بكفّه فطرحهنّ في البحر (فَانْظُرْ) يا محمد (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) وحذّر قومك فإنك منصور عليهم.

٤١ ـ (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً) قادة (يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) أي عمل أهل النار ، قال ابن عطاء : نزع عن أسرارهم التوفيق وأنوار التحقيق فهم في ظلمات نفوسهم لا

__________________

(١) مسلم من حديث أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ربه.

(٢) في (ز) المفخم.

٣٤٣

(وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) (٤٥)

يدلّون على سبيل الرشاد ، وفيه دلالة خلق أفعال العباد (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) من العذاب.

٤٢ ـ (وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً) ألزمناهم طردا وإبعادا عن الرحمة ، وقيل هو ما يلحقهم من لعن الناس إيّاهم بعدهم (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) المطرودين المبعدين ، أو المهلكين المشوّهين بسواد الوجوه وزرقة العيون ، ويوم ظرف للمقبوحين.

٤٣ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) التوراة (مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) قوم نوح وهود وصالح ولوط عليهم‌السلام (بَصائِرَ لِلنَّاسِ) حال من الكتاب ، والبصيرة نور القلب الذي يبصر به الرشد والسعادة ، كما أنّ البصر نور العين الذي تبصر به (١) يريد آتيناه التوراة أنوارا للقلوب لأنها كانت عميا (٢) لا تستبصر ولا تعرف حقا من باطل (وَهُدىً) وإرشادا ، لأنهم كانوا يخبطون في ضلال (وَرَحْمَةً) لمن اتّبعها ، لأنهم إذا عملوا بها وصلوا إلى نيل الرحمة (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) يتّعظون.

٤٤ ـ (وَما كُنْتَ) يا محمد (بِجانِبِ) الجبل (الْغَرْبِيِ) وهو المكان الواقع في شقّ الغرب ، وهو الذي وقع فيه ميقات موسى (إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) أي كلمناه وقرّبناه نجيّا (وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) من جملة الشاهدين للوحي إليه حتى تقف من جهة المشاهدة على ما جرى من أمر موسى في ميقاته.

٤٥ ـ (وَلكِنَّا أَنْشَأْنا) بعد موسى (قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) أي طالت أعمارهم ، وفترت النبوة ، وكادت الأخبار تخفى ، واندرست العلوم ، ووقع التحريف في كثير منها ، فأرسلناك مجدّدا لتلك الأخبار ، مبيّنا ما وقع فيه التحريف ، وأعطيناك العلم بقصص الأنبياء وقصة موسى ، كأنه قال وما كنت شاهدا لموسى وما جرى

__________________

(١) في (ز) الذي يبصر به الأجساد.

(٢) في (ز) عمياء.

٣٤٤

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦) وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٤٧)

عليه ، ولكنا أوحيناه إليك ، فذكر سبب الوحي الذي هو إطالة الفترة ، ودل به على المسبّب اختصارا ، فإذا هذا الاستدراك شبيه الاستدراكين بعده (وَما كُنْتَ ثاوِياً) مقيما (فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) وهم شعيب والمؤمنون به (تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) تقرؤها عليهم تعلّما منهم ، يريد الآيات التي فيها قصة شعيب وقومه ، وتتلو في موضع نصب خبر ثان ، أو حال من الضمير في ثاويا (وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) ولكنا أرسلناك وأخبرناك بها وعلّمناكها.

٤٦ ـ (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا) موسى أن خذ الكتاب بقوة (وَلكِنْ) علّمناك وأرسلناك (١) (رَحْمَةً) للرّحمة (مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) في زمان الفترة بينك وبين عيسى وهو خمسمائة وخمسون سنة (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ).

٤٧ ـ (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ) عقوبة (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) من الكفر والظّلم ، ولما كانت أكثر الأعمال تزاول بالأيدي نسبت الأعمال إلى الأيدي وإن كانت من أعمال القلوب تغليبا للأكثر على الأقل (فَيَقُولُوا) عند العذاب (رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) لو لا الأولى امتناعية وجوابها محذوف ، والثانية تحضيضية ، والفاء الأولى للعطف والثانية جواب لو لا لكونها في حكم الأمر ، إذ الأمر باعث على الفعل ، والباعث والمحضّض من واد واحد ، والفاء تدخل في جواب الأمر ، والمعنى ولو لا أنهم قائلون إذا عوقبوا بما قدّموا من الشرك والمعاصي هلّا أرسلت إلينا رسولا؟ محتجين علينا بذلك لما أرسلنا إليهم ، يعني أنّ إرسال الرسول إليهم إنما هو ليلزموا الحجّة ولا يلزموها كقوله : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (٢) فإن قلت : كيف استقام هذا المعنى وقد جعلت العقوبة هي السبب في الإرسال لا القول لدخول لو لا الامتناعية عليها دونه؟ قلت : القول هو المقصود بأن يكون سببا للإرسال ، ولكن العقوبة لما كانت سببا للقول وكان وجوده بوجودها جعلت العقوبة كأنها سبب الإرسال ، فأدخلت عليها لو لا ، وجيء بالقول

__________________

(١) ليس في (أ) وأرسلناك ، وفي (ز) أعلمناك.

(٢) النساء ، ٤ / ١٦٥.

٣٤٥

(فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٥٠)

معطوفا عليها بالفاء المعطية معنى السببية ، ويؤول معناه إلى قولك ولو لا قولهم هذا إذا أصابتهم مصيبة لما أرسلنا.

٤٨ ـ (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا) أي القرآن ، أو الرسول المصدّق بالكتاب المعجز (قالُوا) أي كفار مكة (لَوْ لا أُوتِيَ) هلّا أعطي (مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) من الكتاب المنزّل جملة واحدة (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا) يعني أبناء جنسهم ، ومن مذهبهم مذهبهم وعنادهم عنادهم ، وهم الكفرة في زمن موسى عليه‌السلام (بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) من قبل القرآن (قالُوا) في موسى وهارون (سِحْرانِ تَظاهَرا) تعاونا (١) ، سحران كوفي أي ذوا سحر ، أو جعلوهما سحرين مبالغة في وصفهما بالسحر (وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍ) بكلّ واحد منهما (كافِرُونَ) وقيل أن أهل مكة كما كفروا بمحمد عليه‌السلام وبالقرآن فقد كفروا بموسى والتوراة وقالوا في موسى ومحمد ساحران تظاهرا ، أو في التوراة والقرآن سحران تظاهرا ، وذلك حين بعثوا الرهط إلى رؤساء اليهود بالمدينة يسألونهم عن محمد فأخبروهم أنه في كتابهم ، فرجع الرهط إلى قريش فأخبروهم بقول اليهود فقالوا عند ذلك : ساحران تظاهرا.

٤٩ ـ (قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما) مما أنزل على موسى ، ومما أنزل عليّ (أَتَّبِعْهُ) جواب فأتوا (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أنهما سحران.

٥٠ ـ (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ) فإن لم يستجيبوا دعاءك إلى الإتيان بالكتاب الأهدى فاعلم أنّهم قد ألزموا ولم تبق لهم حجة إلا اتباع الهوى (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) أي لا أحد أضلّ ممن اتبع في الدين هواه ، وبغير هدى حال ، أي مخذولا مخلّى (٢) بينه وبين هواه (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

__________________

(١) في مصحف النسفي : (سِحْرانِ تَظاهَرا). لذلك قال تعاونا ، وهي قراءة.

(٢) في (ز) يخلى.

٣٤٦

(وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥) إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (٥٦)

٥١ ـ (وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) التوصيل تكثير الوصل وتكريره ، يعني أنّ القرآن أتاهم متتابعا متواصلا وعدا ووعيدا وقصصا وعبرا ومواعظ ليتذكروا فيفلحوا.

٥٢ ـ (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ) من قبل القرآن ، وخبر الذين (هُمْ بِهِ) بالقرآن (يُؤْمِنُونَ) نزلت في مؤمني أهل الكتاب.

٥٣ ـ (وَإِذا يُتْلى) القرآن (عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ) من قبل نزول القرآن (مُسْلِمِينَ) كائنين على دين الإسلام مؤمنين بمحمد عليه‌السلام ، وقوله إنه تعليل للإيمان به ، لأن كونه حقا من الله حقيق بأن يؤمن به ، وقوله إنا بيان لقوله آمنا ، لأنه يحتمل أن يكون إيمانا قريب العهد وبعيده فأخبروا بأنّ إيمانهم به متقادم.

٥٤ ـ (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) بصبرهم على الإيمان بالتوراة والإيمان بالقرآن ، أو بصبرهم على الإيمان بالقرآن قبل نزوله وبعد نزوله ، أو بصبرهم على أذى المشركين وأهل الكتاب (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) يدفعون بالطاعة المعصية ، أو بالحلم الأذى (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) يزكّون.

٥٥ ـ (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ) الباطل ، أو الشتم من المشركين (أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا) للّاغين (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أمان منّا لكم بأن نقابل لغوكم بمثله (لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) لا نريد مخالطتهم وصحبتهم.

٥٦ ـ (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) لا تقدر أن تدخل في الإسلام كلّ من أحببت أن يدخل فيه من قومك وغيرهم (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) يخلق فعل الاهتداء فيمن يشاء (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) بمن يختار الهداية ويقبلها ويتعظ بالدلائل والآيات. قال الزّجّاج : أجمع المفسرون على أنها نزلت في أبي طالب ، وذلك أنه قال عند موته : يا معشر بني هاشم صدّقوا محمدا تفلحوا ، فقال عليه‌السلام : (يا عم تأمرهم

٣٤٧

(وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) (٥٨)

بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك)؟ قال : فما تريد يا ابن أخي؟ قال : (أريد منك أن تقول لا إله إلّا الله أشهد لك بها عند الله) قال : يا ابن أخي (١) قد علمت أنك صادق ولكني أكره أن يقال خرع (٢) عند الموت (٣). وإن كانت الصيغة عامة ، والآية حجة على المعتزلة لأنهم يقولون : الهدى هو البيان وقد هدى الناس أجمع ، ولكنهم لم يهتدوا بسوء اختيارهم فدلّ أنّ وراء البيان ما يسمّى هداية ، وهو خلق الاهتداء وإعطاء التوفيق والقدرة.

٥٧ ـ (وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً) قالت قريش نحن نعلم أنك على الحق ولكنّا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب بذلك أن يتخطّفونا من أرضنا ، فألقمهم الله الحجة (٤) بأنه مكّن لهم في الحرم الذي أمّنه بحرمة البيت وأمّن قطّانه بحرمته ، والثمرات تجبى إليه من كلّ أوب وهم كفرة ، فأنّى يستقيم أن يعرّضهم للتخطّف ويسلبهم الأمن إذا ضمّوا إلى حرمة البيت حرمة الإسلام؟ وإسناد الأمن إلى أهل الحرم حقيقة وإلى الحرم مجاز (يُجْبى إِلَيْهِ) وبالتاء مدني ويعقوب وسهل أي يجلب ويجمع (٥) (ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) معنى الكلية الكثرة كقوله : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) (٦) (رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا) هو مصدر لأنّ معنى يجبى إليه يرزق ، أو مفعول له ، أو حال من الثمرات إن كان بمعنى مرزوق لتخصّصها بالإضافة كما تنصب عن النكرة المتخصصة بالصفة (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) متعلق بمن لدنّا ، أي قليل منهم يقرّون بأنّ ذلك رزق من عند الله وأكثرهم جهلة لا يعلمون ذلك ، ولو علموا أنه من عند الله لعلموا أنّ الخوف والأمن من عنده ولما خافوا التخطّف إذا آمنوا به.

٥٨ ـ (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) هذا تخويف لأهل مكة من

__________________

(١) في (ظ) و (ز) زاد أنا.

(٢) في (ز) جزع ، وخرع يعني ضعف.

(٣) قصة وفاة أبي طالب في الصحيحين بغير هذا السياق.

(٤) في (ظ) و (ز) الحجر.

(٥) في (ظ) و (ز) تجلب وتجمع.

(٦) النمل ، ٢٧ / ٢٣.

٣٤٨

(وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) (٦١)

سوء عاقبة قوم كانوا في مثل حالهم بإنعام الله عليهم فلم يشكروا النعمة وقابلوها بالبطر فأهلكوا ، وكم نصب بأهلكنا ومعيشتها بحذف الجار وإيصال الفعل ، أي في معيشتها ، والبطر سوء احتمال الغنى ، وهو أن لا يحفظ حقّ الله فيه (فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ) منازلهم باقية الآثار يشاهدونها في الأسفار كبلاد ثمود وقوم شعيب وغيرهم (لَمْ تُسْكَنْ) حال ، والعامل فيها الإشارة (مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً) من السّكنى ، أي لم يسكنها إلّا المسافر ومارّ الطريق يوما أو ساعة (وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) لتلك المساكن من ساكنيها ، أي لا يملك التصرّف فيها غيرنا.

٥٩ ـ (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى) في كلّ وقت (حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها) وبكسر الهمزة حمزة وعليّ ، أي في القرية التي هي أمّها أي أصلها ومعظمها (رَسُولاً) لإلزام الحجة وقطع المعذرة ، أو وما كان في حكم الله وسابق قضائه أن يهلك القرى في الأرض حتى يبعث في أمّ القرى يعني مكة ، لأنّ الأرض دحيت من تحتها ، رسولا يعني محمدا عليه‌السلام (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) أي القرآن (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) أي وما أهلكناهم للانتقام إلّا وأهلها مستحقون العذاب بظلمهم ، وهو إصرارهم على كفرهم ، وعنادهم ومكابرتهم بعد الإعذار إليهم.

٦٠ ـ (وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها) وأي شيء أصبتموه من أسباب الدنيا فما هو إلا تمتع وزينة أياما قلائل ، وهي مدة الحياة الفانية (وَما عِنْدَ اللهِ) وهو ثوابه (خَيْرٌ) في نفسه من ذلك (وَأَبْقى) لأنه دائم (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أنّ الباقي خير من الفاني ، وخيّر أبو عمرو بين الياء والتاء ، والباقون بالتاء لا غير ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ الله تعالى خلق الدنيا وجعل أهلها ثلاثة أصناف : المؤمن والمنافق والكافر ، فالمؤمن يتزود والمنافق يتزين والكافر يتمتع. ثم قرر هذه الآية بقوله :

٦١ ـ (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً) أي الجنة فلا شيء أحسن منها لأنها دائمة ولذا سمّيت الجنة بالحسنى (فَهُوَ لاقِيهِ) أي رائيه ومدركه ومصيبه (كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ

٣٤٩

وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) (٦٣)

(الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) من الذين أحضروا النار ، ونحوه : (فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) (١) نزلت في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي جهل عليه اللعنة (٢) ، أو في عليّ وحمزة وأبي جهل ، أو في المؤمن والكافر ، ومعنى الفاء الأولى أنه لما ذكر التفاوت بين متاع الحياة الدنيا وما عند الله عقّبه بقوله أفمن وعدناه ، أي أبعد هذا التفاوت الجليّ يسوّى بين أبناء الدنيا وأبناء الآخرة ، والفاء الثانية للتسبيب لأنّ لقاء الموعود مسبّب عن الوعد ، وثم لتراخي حال الإحضار عن حال التمتيع (٣) ، ثم هو عليّ كما قيل عضد في عضد شبّه المنفصل بالمتصل.

٦٢ ـ (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) ينادي الله الكفار نداء توبيخ ، وهو عطف على يوم القيامة ، أو منصوب باذكر (فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ) بناء على زعمهم (الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) ومفعولا تزعمون محذوفان تقديره كنتم تزعمونهم شركائي ، ويجوز حذف المفعولين في باب ظننت ولا يجوز الاقتصار على أحدهما.

٦٣ ـ (قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي الشياطين أو أئمة الكفر ، ومعنى حقّ عليهم القول وجب عليه مقتضاه وثبت وهو قوله : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (٤) (رَبَّنا هؤُلاءِ) مبتدأ (الَّذِينَ أَغْوَيْنا) أي دعوناهم إلى الشرك وسوّلنا لهم الغيّ ، صفته (٥) والراجع إلى الموصول محذوف ، والخبر (أَغْوَيْناهُمْ) والكاف في (كَما غَوَيْنا) صفة مصدر محذوف تقديره أغويناهم فغووا غيا مثل ما غوينا ، يعنون أنّا لم نغو إلا باختيارنا ، فهؤلاء كذلك غووا باختيارهم ، لأنّ إغواءنا لهم لم يكن إلا وسوسة وتسويلا ، فلا فرق إذا بين غيّنا وغيّهم ، وإن كان تسويلنا داعيا لهم إلى الكفر فقد كان في مقابلته دعاء الله لهم إلى الإيمان بما وضع فيهم من أدلة العقل ، وما بعث إليهم من الرسل ، وأنزل عليهم من الكتب ، وهو كقوله : (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ) إلى قوله : (وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) (٦) (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ) منهم ومما اختاروه من الكفر (ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) بل يعبدون أهواءهم ويطيعون شهواتهم ، وإخلاء الجملتين من العاطف لكونهما مقرّرتين لمعنى الجملة الأولى.

__________________

(١) الصافات ، ٣٧ / ١٢٧.

(٢) في (ظ) و (ز) لعنه الله.

(٣) في (ظ) و (ز) التمتع.

(٤) هود ، ١١ / ١١٩. السجدة ، ٣٢ / ١٣.

(٥) في (ز) صفة.

(٦) إبراهيم ، ١٤ / ٢٢.

٣٥٠

(وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (٦٦) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٦٨)

٦٤ ـ (وَقِيلَ) للمشركين (ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) أي الأصنام لتخلّصكم من العذاب (فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) فلم يجيبوهم (وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) وجواب لو محذوف ، أي لما رأوا العذاب.

٦٥ ـ (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) الذين أرسلوا إليكم ، حكي أولا ما يوبخهم به من اتخاذهم له شركاء ، ثم ما يقوله الشياطين أو أئمة الكفر عند توبيخهم ، لأنهم إذا وبّخوا بعبادة الآلهة اعتذروا بأنّ الشياطين هم الذين استغووهم ، ثم ما يشبّه الشماتة بهم من استغاثتهم (١) آلهتهم وعجزهم عن نصرتهم ، ثم ما يبكّتون به من الاحتجاج عليهم بإرسال الرسل وإزاحة العلل.

٦٦ ـ (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ) خفيت عليهم الحجج أو الأخبار ، وقيل خفي عليهم الجواب فلم يدروا بما ذا يجيبون إذ لم يكن عندهم جواب (فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) لا يسأل بعضهم بعضا عن العذر والحجّة رجاء أن يكون عنده عذر وحجة ، لأنهم يتساوون في العجز عن الجواب.

٦٧ ـ (فَأَمَّا مَنْ تابَ) من الشرك (وَآمَنَ) بربّه وبما جاء من عنده (وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) أي فعسى أن يفلح عند الله وعسى من الكرام تحقيق ، وفيه بشارة للمسلمين على الإسلام ، وترغيب للكافرين على الإيمان ، ونزل جوابا لقول الوليد بن المغيرة (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (٢) يعني نفسه أو أبا مسعود (٣).

٦٨ ـ (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) وفيه دلالة خلق الأفعال ، ويوقف على (وَيَخْتارُ) أي وربّك يخلق ما يشاء وربّك يختار ما يشاء (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ)

__________________

(١) في (ز) لاستغاثتهم.

(٢) الزخرف ، ٤٣ / ٣١.

(٣) أبو مسعود : هو عروة بن مسعود بن معتب الثقفي ، صحابي مشهور ، كان كبيرا في قومه بالطائف ، دعاهم إلى الإسلام فخالفوه وقتلوه (الأعلام ٤ / ٢٢٧).

٣٥١

(وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩) وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ) (٧١)

أي ليس لهم أن يختاروا على الله شيئا ما وله الخيرة عليهم ، ولم يدخل العاطف في ما كان لهم الخيرة لأنه بيان لقوله ويختار ، إذ المعنى أنّ الخيرة لله وهو أعلم بوجوه الحكمة في أفعاله ، فليس لأحد من خلقه أن يختار عليه ، ومن وصل على معنى ويختار الذي لهم فيه الخيرة فقد أبعد ، بل ما لنفي اختيار الخلق تقريرا لاختيار الحقّ ، ومن قال معناه ويختار للعباد ما هو خير لهم وأصلح فهو مائل إلى الاعتزال. والخيرة من التخير يستعمل بمعنى المصدر وهو التخيّر ، وبمعنى المتخيّر كقولهم محمد خيرة الله من خلقه (سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي الله بريء من إشراكهم ، وهو منزّه عن أن يكون لأحد عليه اختيار.

٦٩ ـ (وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُ) تضمر (صُدُورُهُمْ) من عداوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحسده (وَما يُعْلِنُونَ) من مطاعنهم فيه ، وقولهم هلّا اختير عليه غيره في النبوة.

٧٠ ـ (وَهُوَ اللهُ) وهو المستأثر بالإلهية المختصّ بها (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) تقرير لذلك ، كقولك القبلة الكعبة لا قبلة إلا هي (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى) الدنيا (وَالْآخِرَةِ) هو قولهم (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) (١) (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) (٢) (وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٣) والتحميد ثمّ على وجه اللذة لا الكلفة (وَلَهُ الْحُكْمُ) القضاء بين عباده (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) بالبعث والنشور. وبفتح التاء وكسر الجيم يعقوب.

٧١ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) أريتم بحذف (٤) الهمزة عليّ (إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً) هو مفعول ثان لجعل أي دائما ، من السرد وهو المتابعة ، ومنه قولهم في الأشهر الحرم : ثلاثة سرد وواحد فرد ، والميم مزيدة ، ووزنه فعمل (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ) والمعنى أخبروني من يقدر على هذا.

__________________

(١) فاطر ، ٣٥ / ٣٤.

(٢) الزمر ، ٣٩ / ٧٤.

(٣) الزمر ، ٣٩ / ٧٥.

(٤) في (ظ) و (ز) محذوف.

٣٥٢

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٧٥)

٧٢ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ) ولم يقل بنهار تتصرفون فيه كما قال بليل تسكنون فيه بل ذكر الضياء وهو ضوء الشمس لأنّ المنافع التي تتعلق به متكاثرة ليس التصرف في المعاش وحده والظلام ليس بتلك المنزلة ومن ثمّ قرن بالضياء أفلا تسمعون ، لأنّ السمع يدرك ما لا يدركه البصر من ذكر منافعه ووصف فوائده ، وقرن بالليل أفلا تبصرون لأنّ غيرك يبصر من منفعة الظلام ما تبصره أنت من السكون ، ونحوه.

٧٣ ـ (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي لتسكنوا في الليل (١) ولتبتغوا من فضل الله في النهار ، فيكون من باب اللفّ والنّشر (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الله على نعمه ، وقال الزّجّاج : يجوز أن يكون معناه لتسكنوا فيهما ولتبتغوا من فضل الله فيهما ، ويكون المعنى جعل لكم الزمان ليلا ونهارا لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله فيه.

٧٤ ـ (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) كرّر التوبيخ لاتخاذ الشركاء ليؤذن أن لا شيء أجلب لغضب الله من الإشراك به ، كما لا شيء أدخل في مرضاته من توحيده.

٧٥ ـ (وَنَزَعْنا) وأخرجنا (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) يعني نبيّهم ، لأنّ الأنبياء للأمم شهداء عليهم يشهدون بما كانوا عليه (فَقُلْنا) للأمم (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) فيما كنتم عليه من الشرك ومخالفة الرسل (فَعَلِمُوا) حينئذ (أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ) التوحيد (وَضَلَّ عَنْهُمْ) وغاب عنهم غيبة الشيء الضائع (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من ألوهية غير الله والشفاعة لهم.

__________________

(١) في (ز) بالليل.

٣٥٣

(إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (٧٧)

٧٦ ـ (إِنَّ قارُونَ) لا ينصرف للعجمة والتعريف ، ولو كان فاعولا من قرنت الشيء لانصرف (كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى) كان إسرائيليا ابن عم لموسى ، فهو قارون ابن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب ، وموسى بن عمران بن قاهث وكان يسمى المنوّر لحسن صورته ، وكان أقرأ بني إسرائيل للتوراة ولكنه نافق كما نافق السامري (فَبَغى عَلَيْهِمْ) من البغي وهو الظلم ، قيل ملّكه فرعون على بني إسرائيل فظلمهم ، أو من البغي الكبر ، تكبّر عليهم بكثرة ماله وولده ، أو زاد عليهم في الثياب شبرا (وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ) ما بمعنى الذي في موضع نصب بآتينا ، وإنّ واسمها وخبرها صلة الذي ولهذا كسرت إن ، والمفاتح جمع مفتح بالكسر ، وهو ما يفتح به ، أو مفتح بالفتح وهو الخزانة والأصوب أنها المقاليد (لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ) لتثقل العصبة ، فالباء للتعدية يقال ناء به الحمل إذا أثقله حتى أماله ، والعصبة الجماعة الكثيرة ، وكانت تحمل مفاتيح خزائنه ستون بغلا لكلّ خزانة مفتاح ، ولا يزيد المفتاح على إصبع ، وكانت من جلود (أُولِي الْقُوَّةِ) الشدّة (إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ) أي المؤمنون ، وقيل القائل موسى عليه‌السلام ، ومحلّ إذ نصب بتنوء (لا تَفْرَحْ) لا تبطر بكثرة المال كقوله : (وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) (١) ولا يفرح بالدنيا إلّا من رضي بها واطمأنّ ، وأما من قلبه إلى الآخرة ويعلم أنه يتركها عن قريب فلا يفرح بها (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) البطرين بالمال.

٧٧ ـ (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ) من الغنى والثروة (الدَّارَ الْآخِرَةَ) بأن تتصدق على الفقراء وتصل الرحم وتصرف إلى أبواب الخير (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) وهو أن تأخذ ما يكفيك ويصلحك ، وقيل معناه واطلب بدنياك آخرتك فإنّ ذلك حظّ المؤمن منها (وَأَحْسِنْ) إلى عباد الله (كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) أو أحسن بشكرك وطاعتك لخالق الأنام كما أحسن إليك بالإنعام (وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) بالظلم والبغي (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ).

__________________

(١) الحديد ، ٥٧ / ٢٣.

٣٥٤

(قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (٧٩)

٧٨ ـ (قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ) أي المال (عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) أي على استحقاق لما فيّ من العلم الذي فضّلت به الناس ، وهو علم التوراة ، أو علم الكيمياء ، وكان يأخذ الرصاص والنحاس فيجعلهما ذهبا ، أو العلم بوجوه المكاسب من التجارة والزراعة ، وعندي صفة لعلم ، قال سهل : ما نظر أحد إلى نفسه فأفلح والسعيد من صرف بصره عن أفعاله وأقواله وفتح له سبيل رؤية منّة الله تعالى عليه في جميع الأفعال والأقوال ، والشقيّ من زيّن في عينه أفعاله وأقواله وأحواله (١) فافتخر بها وادّعاها لنفسه ، فشؤمه يهلكه يوما كما خسف بقارون لما ادّعاها (٢) لنفسه فضلا (أَوَلَمْ يَعْلَمْ) قارون (أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً) هو إثبات لعلمه بأنّ الله قد أهلك من القرون قبله من هو أقوى منه وأغنى ، لأنه قد قرأه في التوراة ، كأنه قيل أولم يعلم في جملة ما عنده من العلم هذا حتى لا يغترّ بكثرة ماله وقوته ، أو نفي لعلمه بذلك ، لأنه لما قال أوتيته على علم عندي قيل أعنده مثل ذلك العلم الذي ادعاه ، ورأى نفسه به مستوجبة لكلّ نعمة ولم يعلم هذا العلم النافع حتى يقي به نفسه مصارع الهالكين (وَأَكْثَرُ جَمْعاً) للمال ، أو أكثر جماعة وعددا (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) لعلمه تعالى بهم ، بل يدخلون النار بغير حساب ، أو يعترفون بها بغير سؤال ، أو يعرفون بسيماهم فلا يسألون ، أو لا يسألون لتعلم من جهتهم بل يسألون سؤال توبيخ ، أو لا يسأل عن ذنوب الماضين المجرمون من هذه الأمة.

٧٩ ـ (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) في الحمرة والصّفرة ، وقيل خرج يوم السبت على بغلة شهباء عليها الأرجوان وعليها سرج من ذهب ومعه أربعة آلاف على زيّه ، وقيل عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر ، وعن يمينه ثلثمائة غلام ، وعن يساره ثلثمائة جارية بيض عليهنّ الحليّ والديباج ، وفي زينته حال من فاعل خرج أي متزينا (قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) قيل كانوا مسلمين وإنما تمنوا على سبيل الرغبة

__________________

(١) زاد في (ظ) و (ز) ولم يفتح له سبيل رؤية منة الله.

(٢) في (ظ) و (ز) ادعى.

٣٥٥

(وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ) (٨١)

في اليسار كعادة البشر ، وقيل كانوا كفارا (يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ) قالوه غبطة ، والغابط هو الذي يتمنى مثل نعمة صاحبه من غير أن تزول عنه كهذه الآية ، والحاسد هو الذي يتمنى أن تكون نعمة صاحبه له دونه وهو كقوله تعالى : (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) (١) وقيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل تضرّ الغبطة؟ قال : (لا إلّا كما يضرّ العضاه (٢) الخبط) (٣) (إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) الحظّ الجدّ وهو البخت والدولة.

٨٠ ـ (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) بالثواب والعقاب وفناء الدنيا وبقاء العقبى لغابطي قارون (وَيْلَكُمْ) أصل ويلك الدعاء بالهلاك ، ثم استعمل في الزجر والردع والبعث على ترك ما لا يرضي ، وفي التبيان في إعراب القرآن (٤) هو مفعول فعل محذوف أي ألزمكم الله ويلكم (ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها) أي لا يلقن هذه الكلمة وهي ثواب الله خير (إِلَّا الصَّابِرُونَ) على الطاعات وعن الشهوات وزينة الدنيا وعلى ما قسم الله من القليل عن الكثير.

٨١ ـ (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) كان قارون يؤذي موسى عليه‌السلام كلّ وقت ، وهو يداريه للقرابة التي بينهما حتى نزلت الزكاة فصالحه عن كلّ ألف دينار على دينار وعن كلّ ألف درهم على درهم ، فحسبه فاستكثره ، فشحّت به نفسه ، فجمع بني إسرائيل وقال : إن موسى يريد أن يأخذ أموالكم ، فقالوا : أنت كبيرنا فمر بما شئت ، قال : نبرطل فلانة البغي حتى ترميه بنفسها ، فترفضه بنو إسرائيل ، فجعل لها ألف دينار أو طستا من ذهب ، أو حكمها ، فلما كان يوم عيد قام موسى فقال : يا بني إسرائيل من سرق قطعناه ، ومن افترى جلدناه ، ومن زنى وهو غير محصن جلدناه ، وإن أحصن رجمناه ، فقال قارون : وإن كنت أنت؟ قال : وإن كنت أنا ، قال : فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة ، فأحضرت ، فناشدها بالذي فلق البحر وأنزل

__________________

(١) النساء ، ٤ / ٣٢.

(٢) العضاه : كل شجر عظيم له شوك. الواحدة عضة (النهاية ٣ / ٢٥٥).

(٣) قال ابن حجر : ذكره ثابت السرقسطي في الغريب هكذا بغير إسناد.

(٤) ويسمى «إملاء ما منّ به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات في جميع القرآن» لأبي البقاء العكبري.

٣٥٦

(وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (٨٣)

التوراة أن تصدق ، فقالت : جعل لي قارون جعلا على أن أقذفك بنفسي ، فخرّ موسى ساجدا يبكي ، وقال : يا ربّ إن كنت رسولك فاغضب لي ، فأوحى الله إليه أن مر الأرض بما شئت فإنها مطيعة لك ، فقال : يا بني إسرائيل إنّ الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون ، فمن كان معه فيلزم مكانه ومن كان معي فليعتزل ، فاعتزلوا جميعا غير رجلين ، ثم قال : يا أرض خذيهم ، فأخذتهم إلى الرّكب ، ثم قال : خذيهم ، فأخذتهم إلى الأوساط ، ثم قال : خذيهم ، فأخذتهم إلى الأعناق ، وقارون وأصحابه يتضرعون إلى موسى ويناشدونه بالله والرّحم وموسى لا يلتفت إليهم لشدة غضبه ، ثم قال : خذيهم فانطبقت عليهم ، فقال الله تعالى لموسى (١) : استغاث بك مرارا فلم ترحمه فوعزتي لو استرحمني مرة لرحمته ، فقال بعض بني إسرائيل : إنما أهلكه ليرث ماله ، فدعا الله حتى خسف بداره وكنوزه (٢) (فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ) جماعة (يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ) يمنعونه من عذاب الله (وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ) من المنتقمين من موسى ، أو من الممتنعين من عذاب الله ، يقال نصره من عدوّه فانتصر ، أي منعه منه فامتنع.

٨٢ ـ (وَأَصْبَحَ) وصار (الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ) منزلته من الدنيا (بِالْأَمْسِ) ظرف لتمنوا ولم يرد به اليوم الذي قبل يومك ولكن الوقت القريب استعارة (يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ) وي منفصلة عن كأنّ عند البصريين ، قال سيبويه : وي كلمة تنبيه (٣) على الخطأ وتندّم يستعملها النادم بإظهار ندامته ، يعني أنّ القوم قد تنبهوا على خطئهم في تمنيهم وقولهم يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون وتندّموا (لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) بصرف ما كنّا نتمناه بالأمس (لَخَسَفَ بِنا) (٤) وبفتحتين حفص ويعقوب وسهل ، وفيه ضمير الله تعالى (وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) أي تندموا ثم قالوا كأنه لا يفلح الكافرون.

٨٣ ـ (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ) تلك تعظيم لها وتفخيم لشأنها يعني تلك التي

__________________

(١) ليس في (ز) لموسى.

(٢) الطبري عن ابن عباس وأوسع منه.

(٣) في (ظ) و (ز) تنبه.

(٤) في مصحف النسفي : لخسف بضم الخاء وكسر السين وهي قراءة لذلك انتقل في التفسير إلى قراءة أخرى فقال : ...

٣٥٧

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٨٥)

سمعت بذكرها وبلغك وصفها ، وقوله (نَجْعَلُها) خبر تلك ، والدار نعتها (لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ) بغيا ابن جبير ، وظلما الضحاك (١) ، (وَلا فَساداً) عملا بالمعاصي ، أو قتل النفس ، أو دعاء إلى عبادة غير الله ، ولم يعلّق الموعد بترك العلوّ والفساد ولكن بترك إرادتهما وميل القلوب إليهما ، كما قال : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) (٢) فعلّق الوعيد بالركون ، وعن علي رضي الله عنه أنّ الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها (٣) ، وعن الفضيل أنه قرأها ثم قال : ذهبت الأماني ههنا ، وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يرددها حتى قبض وقال بعضهم : حقيقته التنفير عن متابعة فرعون وقارون متشبثا بقوله : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) (٤) (وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) (٥) (وَالْعاقِبَةُ) المحمودة (لِلْمُتَّقِينَ).

٨٤ ـ (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) مر في النمل (٦) (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ) معناه فلا يجزون ، فوضع الذين عملوا السيئات موضع الضمير ، لأنّ في إسناد عمل السيئة إليهم مكررا فضل تهجين بحالهم (٧) وزيادة تبغيض للسيئة إلى قلوب السامعين (إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) إلا مثل ما كانوا يعملون ، ومن فضله العظيم أن لا يجزي السيئة إلا بمثلها ويجزي الحسنة بعشر أمثالها وبسبعمائة.

٨٥ ـ (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه (لَرادُّكَ) بعد الموت (إِلى مَعادٍ) أيّ معاد ، وإلى معاد ليس لغيرك من البشر فلذا نكّره ، أو المراد به مكة ، والمراد ردّه إليها يوم الفتح لأنها كانت في ذلك اليوم معادا له شأن ومرجعا له اعتداد لغلبة رسول الله وقهره لأهله (٨) ولظهور عزّ الإسلام وأهله وذلّ الشرك وحزبه ، والسورة مكية ولكن هذه الآية نزلت بالجحفة لا بمكة ولا بالمدينة حين اشتاق إلى مولده ومولد آبائه. ولما وعد رسوله الردّ إلى معاده قال

__________________

(١) زاد في (ظ) و (ز) أو كبرا.

(٢) هود ، ١١ / ١١٣.

(٣) الطبري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وفيه : فيدخل في قوله (تِلْكَ الدَّارُ) الآية.

(٤) القصص ، ٢٨ / ٤.

(٥) القصص ، ٢٨ / ٧٧.

(٦) الآية ٨٩ أي تفسيرها.

(٧) في (ز) لحالهم.

(٨) في (ز) لأهلها.

٣٥٨

(وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٨٨)

(قُلْ) للمشركين (رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى) يعني نفسه وما له من الثواب في معاده (وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) يعني المشركين وما يستحقونه من العذاب في معادهم ، من في محل نصب بفعل مضمر أي يعلم.

٨٦ ـ (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى) يوحى (إِلَيْكَ الْكِتابُ) القرآن (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) هو محمول على المعنى أي وما ألقي إليك الكتاب إلّا رحمة من ربّك ، أو إلّا بمعنى لكن للاستدراك أي ولكن لرحمة من ربك ألقي إليك (١) (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) معينا لهم على دينهم.

٨٧ ـ (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ) هو على الجمع أي ألا يمنعنّك هؤلاء عن العمل بآيات الله أي القرآن (بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) الآيات أي بعد وقت إنزاله ، وإذ يضاف إليه أسماء الزمان كقولك حينئذ ويومئذ (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) إلى توحيده وعبادته (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

٨٨ ـ (وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : الخطاب في الظاهر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد به (٢) أهل دينه ، ولأنّ العصمة لا تمنع النهي ، والوقف على آخر لازم لأنه لو وصل لصار (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) صفة لإلها آخر وفيه من الفساد ما فيه (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) أي إلا إياه ، فالوجه يعبّر به عن الذات ، وقال مجاهد : يعني علم العلماء إذا أريد به وجه الله (لَهُ الْحُكْمُ) القضاء في خلقه (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) وبفتح (٣) التاء وكسر الجيم يعقوب (٤).

__________________

(١) في (ظ) و (ز) ألقى إليك الكتاب.

(٢) ليس في (ز) به.

(٣) في (ز) كتب : ترجعون بفتح التاء.

(٤) زاد في (ز) والله أعلم.

٣٥٩

سورة العنكبوت

مكية وهي تسع وستون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (٢)

٢ ـ ١ ـ (الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) الحسبان قوة أحد النقيضين على الآخر كالظنّ بخلاف الشكّ ، فهو الوقوف بينهما ، والعلم فهو القطع على أحدهما ، ولا يصحّ تعليقهما بمعاني المفردات ولكن بمضامين الجمل ، فلو قلت حسبت زيدا وظننت الفرس لم يكن شيئا حتى تقول حسبت زيدا عالما وظننت الفرس جوادا ، لأن قولك زيد عالم والفرس جواد كلام دال على مضمون ، فإذا أردت الإخبار عن ذلك المضمون ثابتا عندك على وجه الظنّ لا اليقين أدخلت على شطري الجملة فعل الحسبان حتى يتم لك غرضك ، والكلام الدالّ على المضمون الذي يقتضيه الحسبان هنا أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ، وذلك أنّ تقديره أحسبوا تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا ، فالترك أول مفعولي حسب ، ولقولهم آمنا هو الخبر ، وأما غير مفتونين فتتمة الترك لأنه من الترك الذي هو بمعنى التصيير ، كقول عنترة : فتركته جزر السباع ينشنه ، ألا ترى أنك قبل المجيء بالحسبان تقدر أن تقول تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا على تقدير حاصل ومستقر قبل اللام ، وهو استفهام توبيخ ، والفتنة الامتحان بشدائد التكليف من مفارقة الأوطان ومجاهدة الأعداء وسائر الطاعات الشاقة وهجر الشهوات وبالفقر والقحط وأنواع المصائب في الأنفس والأموال ومصابرة الكفار على أذاهم وكيدهم ، وروي أنها نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد جزعوا من أذى المشركين ، أو في عمار بن ياسر وكان يعذّب في الله.

٣٦٠