تفسير النسفي - ج ٣

عبدالله بن أحمد النسفي

تفسير النسفي - ج ٣

المؤلف:

عبدالله بن أحمد النسفي


المحقق: الشيخ مروان محمّد الشعار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٦

(قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (٧٦)

٧٢ ـ (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) استعجلوا العذاب الموعود فقيل لهم عسى أن يكون ردفكم بعضه ، وهو عذاب يوم بدر ، فزيدت اللام للتأكيد كالباء في : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (١) أو ضمّن معنى فعل يتعدّى باللام نحو دنا لكم ، وأزف لكم ، ومعناه تبعكم ولحقكم ، وعسى ولعل وسوف في وعد الملوك ووعيدهم يدلّ على صدق الأمر وجدّه ، فعلى ذلك جرى وعد الله ووعيده.

٧٣ ـ (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ) أي إفضال (عَلَى النَّاسِ) بترك المعاجلة بالعذاب (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) أي أكثرهم لا يعرفون حقّ النعمة فيه ولا يشكرونه فيستعجلون العذاب بجهلهم.

٧٤ ـ (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُ) تخفي (صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) يظهرون من القول ، فليس تأخير العذاب عنهم لخفاء حالهم ولكن له وقت مقدر أو أنه يعلم ما يخفون وما يعلنون من عداوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومكايدهم وهو معاقبهم على ذلك بما يستحقونه ، وقرىء تكنّ يقال كننت الشيء وأكننته إذا سترته وأخفيته.

٧٥ ـ (وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) سمى الشيء الذي يغيب ويخفى غائبة وخافية والتاء فيهما كالتاء في العاقبة والعافية ونظائرهما الرمية والذبيحة والنطيحة في أنها أسماء غير صفات ويجوز أن يكونا صفتين وتاؤهما للمبالغة كالرواية ، كأنه قال وما من شيء شديد الغيبوبة إلا وقد علمه الله وأحاط به وأثبته في اللوح المحفوظ ، والمبين الظاهر البيّن لمن ينظر فيه من الملائكة.

٧٦ ـ (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) أي يبيّن لهم (أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) فإنهم اختلفوا في المسيح فتحزّبوا فيه أحزابا ، ووقع بينهم التناكر في أشياء كثيرة حتى لعن بعضهم بعضا ، وقد نزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه لو أنصفوا

__________________

(١) البقرة ، ٢ / ١٩٥.

٣٢١

(وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) (٨١)

وأخذوا له وأسلموا ، يريد اليهود والنصارى.

٧٧ ـ (وَإِنَّهُ) وإنّ القرآن (لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) لمن أنصف منهم وآمن أي من بني إسرائيل أو منهم ومن غيرهم.

٧٨ ـ (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ) بين من آمن بالقرآن ومن كفر به (بِحُكْمِهِ) أي (١) بعدله لأنه لا يقضي إلا بالعدل فسمى المحكوم به حكما أو بحكمته ويدلّ عليه قراءة من قرأ بحكمه جمع حكمة (وَهُوَ الْعَزِيزُ) فلا يردّ قضاؤه (الْعَلِيمُ) بمن يقضى له ، وبمن يقضى عليه ، أو العزيز في انتقامه من المبطلين ، العليم بالفصل بينهم وبين المحقين.

٧٩ ـ (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أمره بالتوكّل على الله وقلة المبالاة بأعداء الدين (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) وعلّل التوكّل بأنه على الحقّ الأبلج وهو الدين الواضح الذي لا يتعلق به شكّ ، وفيه بيان أنّ صاحب الحقّ حقيق بالوثوق بالله وبنصرته.

٨١ ـ ٨٠ ـ (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ. وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) لمّا كانوا لا يعون ما يسمعون ولا به ينتفعون شبّهوا بالموتى وهم أحياء صحاح الحواس ، وبالصّمّ الذين ينعق بهم فلا يسمعون ، وبالعمي حيث يضلّون الطريق ولا يقدر أحد أن ينزع ذلك عنهم ويجعلهم هداة بصراء إلّا الله تعالى ، ثم أكّد حال الصّمّ بقوله إذا ولوا مدبرين ، لأنه إذا تباعد عن الداعي بأن تولى عنه مدبرا ، كان أبعد عن إدراك صوته ، ولا يسمع الصّمّ مكي وكذا في «الروم» ، وما أنت تهدي العمي ، وكذا في «الروم» حمزة (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) أي ما يجدي إسماعك إلا على الذين علم الله أنهم يؤمنون بآياته ، أي يصدّقون بها (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) مخلصون ، من قوله : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) (٢) يعني جعله سالما لله خالصا له.

__________________

(١) ليس في (ز) أي.

(٢) البقرة ، ٢ / ١١٢.

٣٢٢

(وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٨٤)

٨٢ ـ (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) سمّى معنى القول ومؤدّاه بالقول ، وهو ما وعدوا من قيام الساعة والعذاب ، ووقوعه حصوله ، والمراد مشارفة الساعة وظهور أشراطها وحين لا تنفع التوبة (أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ) هي الجسّاسة ، في الحديث : (طولها ستون ذراعا لا يدركها طالب ولا يفوتها هارب ولها أربع قوائم وزغب وريش وجناحان) (١) وقيل لها رأس ثور ، وعين خنزير ، وأذن فيل ، وقرن أيل ، وعنق نعامة ، وصدر أسد ، ولون نمر ، وخاصرة هرة ، وذنب كبش ، وخفّ بعير ، وما بين المفصلين اثنا عشر ذراعا تخرج من الصّفا فتكلّمهم بالعربية فتقول (أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) أي لا يوقنون بخروجي ، لأنّ خروجها من الآيات ، وتقول ألا لعنة الله على الظالمين ، أو تكلّمهم ببطلان الأديان كلّها سوى دين الإسلام ، أو بأنّ هذا مؤمن وهذا كافر ، وفتح أنّ كوفي وسهل على حذف الجار ، أي تكلّمهم بأن ، وغيرهم كسروا ، لأنّ الكلام بمعنى القول ، أو بإضمار القول ، أي تقول الدابة ذلك ويكون المعنى بآيات ربّنا ، أو هي (٢) حكاية لقول الله تعالى عند ذلك ، ثم ذكر قيام الساعة فقال :

٨٣ ـ (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً) من للتبعيض أي واذكر يوم نجمع من كلّ أمة ، من الأمم زمرة (مِمَّنْ يُكَذِّبُ) من للتبيين (بِآياتِنا) المنزلة على أنبيائنا (فَهُمْ يُوزَعُونَ) يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا ، ثم يساقون إلى موضع الحساب ، وهذه عبارة عن كثرة العدد ، وكذا الفوج عبارة عن الجماعة الكثيرة.

٨٤ ـ (حَتَّى إِذا جاؤُ) حضروا موقف الحساب والسؤال (قالَ) لهم تعالى تهديدا (أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي) المنزّلة على رسلي (وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً) الواو للحال ، كأنه قال أكذّبتم بآياتي بادىء الرأي من غير فكر ولا نظر يؤدي إلى إحاطة العلم بكنهها ، وأنها حقيقة بالتصديق أو بالتكذيب (أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) حيث لم تتفكروا فيها فإنكم لم تخلقوا عبثا.

__________________

(١) الثعلبي من حديث حذيفة بن اليمان.

(٢) ليس في (ز) هي.

٣٢٣

(وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ) (٨٨)

٨٥ ـ (وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) أي يغشاهم العذاب الموعود بسبب ظلمهم وهو التكذيب بآيات الله فيشغلهم عن النطق والاعتذار كقوله : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) (١).

٨٦ ـ (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) حال ، جعل الإبصار للنهار وهو لأهله والتقابل مراعى من حيث المعنى ، لأنّ معنى مبصرا ليبصروا فيه طرق التقلّب في المكاسب (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يصدّقون فيعتبرون ، وفيه دليل على صحة البعث ، لأنّ معناه ألم يعلموا أنّا جعلنا الليل والنهار قواما لمعاشهم في الدنيا ليعلموا أنّ ذلك لم يجعل عبثا بل محنة وابتلاء ولا بد عند ذلك من ثواب وعقاب ، فإذا لم يكونا في هذه الدار فلا بدّ من دار أخرى للثواب والعقاب.

٨٧ ـ (وَيَوْمَ) واذكر يوم (يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) وهو قرن ، أو جمع صورة ، والنافخ إسرافيل عليه‌السلام (فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) اختير فزع على يفزع للإشعار بتحقّق الفزع وثبوته وأنه كائن لا محالة ، والمراد فزعهم عند النفخة الأولى حين يصعقون (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) إلا من ثبّت الله قلبه من الملائكة ، قالوا هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليهم‌السلام ، وقيل الشهداء ، وقيل الحور وخزنة النار وحملة العرش ، وعن جابر رضي الله عنه : منهم موسى عليه‌السلام لأنه صعق مرة ، ومثله : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) (٢) (وَكُلٌّ أَتَوْهُ) حمزة وحفص وخلف ، آتوه غيرهم وأصله آتيوه (داخِرِينَ) حال أي صاغرين ، ومعنى الإتيان حضورهم الموقف ورجوعهم إلى أمره تعالى وانقيادهم له.

٨٨ ـ (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها) بفتح السين شامي وحمزة ويزيد وعاصم ، وبكسرها غيرهم ، حال من المخاطب (جامِدَةً) واقفة ممسكة عن الحركة ، من جمد في مكانه إذا لم يبرح (وَهِيَ تَمُرُّ) حال من الضمير المنصوب في تحسبها (مَرَّ السَّحابِ) أي

__________________

(١) المرسلات ، ٧٧ / ٣٥.

(٢) الزمر ، ٣٩ / ٦٨.

٣٢٤

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٩٠)

مثل مرّ السحاب ، والمعنى أنك إذا رأيت الجبال وقت النفخة ظننتها ثابتة في مكان واحد لعظمها ، وهي تسير سيرا سريعا كالسحاب إذا ضربته الريح ، وهكذا الأجرام العظام المتكاثرة العدد إذا تحركت لا تكاد تتبين حركتها ، كما قال النابغة في صفة جيش :

بأرعن مثل الطود تحسب أنهم

وقوف لحاج والركاب تهملج (١)

(صُنْعَ اللهِ) مصدر عمل فيه ما دل عليه تمرّ لأن مرورها كمرّ السّحاب من صنع الله ، فكأنه قيل صنع الله ذلك صنعا ، وذكر اسم الله لأنه لم يذكر قبل (الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) أي أحكم خلقه (إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ) (٢) مكي وبصري غير سهل ، وأبو بكر غير يحيى ، وغيرهم بالتاء أي أنه عالم بما يفعل العباد فيكافئهم على حسب ذلك. ثم لخص ذلك بقوله :

٨٩ ـ (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) أي بقول لا إله إلا الله عند الجمهور (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) أي فله خير حاصل من جهتها أي بسببها (٣) وهو الجنة ، وعلى هذا لا يكون خير بمعنى أفضل ويكون منها في موضع رفع صفة لخير (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ) كوفي أي من فزع شديد مفرط الشدّة ، وهو خوف النار ، أو من فزع ما وإن قلّ ، وبغير تنوين غيرهم (يَوْمَئِذٍ) كوفي ومدني ، وبكسر الميم غيرهم ، والمراد يوم القيامة (آمِنُونَ) أمن يعدّى بالجارّ وبنفسه كقوله : (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ) (٤).

٩٠ ـ (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) بالشرك (فَكُبَّتْ) ألقيت (وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) يقال كببت الرجل ألقيته على وجهه ، أي ألقوا على رؤوسهم في النار ، أو عبّر عن الجملة بالوجه كما يعبّر بالرأس والرقبة عنها ، أي ألقوا في النار ويقال لهم تبكيتا عند الكبّ (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في الدنيا من الشرك والمعاصي.

__________________

(١) تهملج : تذلل (القاموس ١ / ٢١٣).

(٢) في مصحف النسفي : يفعلون بالياء لذلك افتتح بقّرّائها. وفي (ز) اثبتت يفعلون قبل مكي.

(٣) ليس في (ظ) و (ز) أي بسببها ، وإنما زيدت فيهما بعد لخير.

(٤) الأعراف : ٧ / ٩٩.

٣٢٥

(إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٩٣)

٩١ ـ (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ) مكة (الَّذِي حَرَّمَها) جعلها حرما آمنا يأمن فيها اللاجىء إليها ولا يختلى خلاها ولا يعضد شوكها ولا ينفّر صيدها (وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) مع هذه البلدة فهو مالك الدنيا والآخرة (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) المنقادين له.

٩٢ ـ (وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) من التلاوة ، أو من التّلو كقوله : (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) (١) أمر رسوله بأن يقول أمرت أن أخصّ الله وحده بالعبادة ولا أتحذ له شريكا كما فعلت قريش ، وأن أكون من الحنفاء الثابتين على ملة الإسلام ، وأن أتلو القرآن لأعرف الحلال والحرام وما يقتضيه الإسلام ، وخصّ مكة من بين سائر البلاد بإضافة اسمه إليها ، لأنها أحبّ بلاده إليه وأعظمها عنده وأشار إليها بقوله هذه إشارة تعظيم لها وتقريب دالا على أنها موطن نبيّه ومهبط وحيه ، ووصف ذاته بالتحريم الذي هو خاصّ وصفها ، وجعل دخول كلّ شيء تحت ربوبيته وملكوته كالتابع لدخولها تحتها (٢) (فَمَنِ اهْتَدى) باتباعه إياي فيما أنا بصدده من توحيد الله ونفي الشركاء عنه والدخول في الملة الحنيفية ، واتباع ما أنزل عليّ من الوحي (فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) فمنفعة اهتدائه راجعة إليه لا إليّ (وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) أي ومن ضلّ ولم يتبعني فلا عليّ ، وما أنا إلا رسول منذر ، وما على الرسول إلا البلاغ المبين.

٩٣ ـ (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها) ثم أمره أن يحمد الله على ما خوّله من نعمة النبوّة التي لا توازيها نعمة ، وأن يهدد أعداءه بما سيريهم الله من آياته في الآخرة فيستيقنون بها ، وقيل هو انشقاق القمر والدخان وما حلّ بهم من نقمات الله في الدنيا (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) بالتاء مدني وشامي وحفص ويعقوب ، خطاب لأهل مكة ، وبالياء غيرهم ، أي كلّ عمل يعملونه فإنّ الله عالم غير غافل عنه ، فالغفلة والسهو لا يجوزان عليه.

__________________

(١) الأحزاب ، ٣٣ / ٢.

(٢) في (ز) تحتهما.

٣٢٦

سورة القصص

مكية وهي ثمانون وثمان آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (٤)

٢ ـ ١ ـ (طسم. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) يقال بان الشيء وأبان بمعنى واحد ، ويقال أبنته فأبان لازم ومتعد ، أي مبين خيره وبركته ، أو مبين للحلال والحرام والوعد والوعيد والإخلاص والتوحيد.

٣ ـ (نَتْلُوا عَلَيْكَ) نقرأ عليك ، أي يقرؤه جبريل بأمرنا ومفعول نتلو (مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ) أي نتلو عليك بعض خبرهما (بِالْحَقِ) حال ، أي محقين (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لمن سبق في علمنا أنه مؤمن ، لأن التلاوة إنما تنفع هؤلاء دون غيرهم.

٤ ـ (إِنَّ فِرْعَوْنَ) جملة مستأنفة كالتفسير للجمل ، كأن قائلا قال : وكيف كان نبؤهما؟ فقال : إن فرعون (عَلا) طغى وجاوز الحدّ في الظلم واستكبر وافتخر بنفسه ونسي العبودية (فِي الْأَرْضِ) أي أرض مملكته ، يعني مصر (وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) فرقا يشيّعونه على ما يريد ويطيعونه ، لا يملك أحد منهم أن يلوي عنقه ، أو فرقا مختلفة يكرم طائفة ويهين أخرى ، فأكرم القبطيّ وأهان الإسرائيليّ (يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ) هم بنو إسرائيل (يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) أي يترك البنات أحياء للخدمة ، وسبب ذبح الأبناء أنّ كاهنا قال له : يولد مولود في بني إسرائيل يذهب ملكك على يده ، وفيه دليل على حمق فرعون ، فإنه إن صدّق الكاهن لم ينفعه القتل ،

٣٢٧

(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ(٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦) وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٧)

وإن كذّب فما معنى القتل ، ويستضعف حال من الضمير في وجعل ، أو صفة لشيعا ، أو كلام مستأنف ويذبّح بدل من يستضعف (إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) فيه (١) أنّ القتل ظلما إنما هو فعل المفسدين إذ لا طائل تحته صدق الكاهن أو كذب.

٥ ـ (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَ) نتفضّل ، وهو دليل لنا في مسألة الأصلح ، وهذه الجملة معطوفة على إنّ فرعون علا في الأرض ، لأنها نظيرة تلك في وقوعها تفسيرا لنبأ موسى وفرعون ، واقتصاصا له ، أو حال من يستضعف ، أي يستضعفهم فرعون ونحن نريد أن نمنّ عليهم ، وإرادة الله تعالى كائنة ، فجعلت كالمقارنة لاستضعافهم (عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) قادة يقتدى بهم في الخير ، أو دعاة (٢) إلى الخير ، أو ولاة وملوكا (وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) أي يرثون فرعون وقومه ملكهم وكلّ ما كان لهم.

٦ ـ (وَنُمَكِّنَ) مكّن له إذا جعل له مكانا يقعد عليه أو يرقد ، ومعنى التمكين (لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي أرض مصر والشام أن يجعلها بحيث لا تنبو بهم ويسلّطهم وينفذ أمرهم (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما) بضم النون ونصب فرعون وما بعده ، وبالياء ورفع فرعون وما بعده عليّ وحمزة ، أي يرون منهم ما حذّروه من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود منهم ، ويرى نصب عطف على المنصوب قبله كقراءة النون ، أو رفع على الاستئناف (مِنْهُمْ) من بني إسرائيل ، ويتعلق بنري دون يحذرون ، لأن الصلة لا تتقدم على الموصول (ما كانُوا يَحْذَرُونَ) الحذر : التوقي من الضرر.

٧ ـ (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) بالإلهام أو بالرؤيا ، أو بإخبار ملك كما كان لمريم ، وليس هذا وحي رسالة فلا تكون هي رسولا (أَنْ أَرْضِعِيهِ) أن بمعنى أي ، أو مصدرية (فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ) من القتل بأن يسمع الجيران صوته فينمّوا عليه (فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ) البحر ، قيل هو نيل مصر (وَلا تَخافِي) من الغرق والضّياع (وَلا تَحْزَنِي) بفراقه (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) بوجه لطيف لتربّيه (وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) وفي هذه الآية

__________________

(١) في (ظ) و (ز) أي.

(٢) في (ز) قادة.

٣٢٨

(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (٩)

أمران ونهيان ، وخبران وبشارتان ، والفرق بين الخوف والحزن أنّ الخوف غمّ يلحق الإنسان كمتوقّع ، والحزن غمّ يلحقه لواقع وهو فراقه والإخطار به ، فنهيت عنهما ، وبشّرت بردّه إليها ، وجعله من المرسلين. وروي أنه ذبح في طلب موسى تسعون ألف وليد ، وروي أنها حين ضربها الطلق وكانت بعض القوابل الموكلات بحبالى بني إسرائيل مصافية لها ، فعالجتها ، فلما وقع إلى الأرض هالها نور بين عينيه ، ودخل حبّه قلبها فقالت ما جئتك إلا لأقتل مولودك وأخبر فرعون ، ولكن وجدت لابنك حبا ما وجدت مثله فاحفظيه ، فلما خرجت القابلة جاءت عيون فرعون فلفّته في خرقة ووضعته في تنور مسجور ، لم تعلم ما تصنع لما طاش من عقلها ، فطلبوا ، فلم يلقوا شيئا ، فخرجوا وهي لا تدري مكانه ، فسمعت بكاءه من التنور ، فانطلقت إليه وقد جعل الله النار بردا وسلاما ، فلما ألح فرعون في طلب الولدان أوحي إليها بإلقائه في اليم (١) بعد أن أرضعته ثلاثة أشهر.

٨ ـ (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) أخذه ، قال الزّجّاج : كان فرعون من أهل فارس من اصطخر (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا) أي ليصير الأمر إلى ذلك لا أنهم أخذوه لهذا ، كقولهم للموت ما تلده الوالدة وهي لم تلد لأن يموت ولدها ولكن المصير إلى ذلك ، كذا قاله الزّجّاج ، وعن هذا قال المفسرون : إنّ هذه لام العاقبة والصيرورة. وقال صاحب «الكشاف» هي لام كي التي معناها التعليل ، كقولك جئتك لتكرمني ، ولكن معنى التعليل فيها وارد على طريق المجاز لأنّ ذلك لما كان نتيجة التقاطهم له شبّه بالداعي الذي يفعل الفاعل الفعل لأجله وهو الإكرام الذي هو نتيجة المجيء (وَحَزَناً) وحزنا عليّ وحمزة ، وهما لغتان كالعدم والعدم (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ) خاطين تخفيف خاطئين أبو جعفر ، أي كانوا مذنبين فعاقبهم الله بأن ربّى عدوّهم ومن هو سبب هلاكهم على أيديهم ، أو كانوا خاطئين في كلّ شيء فليس خطؤهم في تربية عدوّهم ببدع منهم.

٩ ـ (وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) روي أنهم حين التقطوا التابوت

__________________

(١) في (ظ) و (ز) زاد فألقته في اليم.

٣٢٩

(وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (١٠)

عالجوا فتحه فلم يقدروا عليه ، فعالجوا كسره فأعياهم ، فدنت آسية ، فرأت في جوف التابوت نورا ، فعالجته ، ففتحه ، فإذا بصبي نوره بين عينيه ، فأحبوه ، وكانت لفرعون بنت برصاء فنظرت إلى وجهه فبرئت ، فقالت الغواة من قومه : هو الذي نحذر منه فأذن لنا في قتله ، فهمّ بذلك ، فقالت آسية قرة عين لي ولك ، فقال فرعون : لك ، لا لي. وفي الحديث : (لو قال كما قالت لهداه الله تعالى كما هداها) (١) وهذا على سبيل الفرض ، أي لو كان غير مطبوع على قلبه كآسية لقال مثل قولها ، ولأسلم (٢) كما أسلمت ، وقرة خبر مبتدأ محذوف أي هو قرة ، ولي ولك صفتان لقرة (لا تَقْتُلُوهُ) خاطبته خطاب الملوك ، أو خاطبت الغواة (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) فإنّ فيه مخايل اليمن ودلائل النفع ، وذلك لما عاينت من النور وبرء البرصاء (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) أو نتبنّاه ، فإنه أهل لأن يكون ولدا للملوك (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) حال ، وذو حالها آل فرعون ، وتقدير الكلام فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ، وقالت امرأة فرعون كذا ، وهم لا يشعرون أنهم على خطأ عظيم في التقاطه ورجاء النفع منه وتبنّيه ، وقوله إنّ فرعون ، الآية ، جملة اعتراضية واقعة بين المعطوف والمعطوف عليه مؤكدة لمعنى خطئهم ، وما أحسن نظم هذا الكلام عند أصحاب المعاني والبيان.

١٠ ـ (وَأَصْبَحَ) فصار (فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً) صفرا من العقل لما دهمها من فرط الجزع لمّا سمعت بوقوعه في يد فرعون (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) لتظهر به ، والضمير لموسى ، والمراد بأمره وقصته وأنه ولدها. قيل لما رأت الأمواج تلعب بالتابوت كادت تصيح وتقول : وا ابناه ، وقيل لما سمعت أنّ فرعون أخذ التابوت لم تشك أنه يقتله ، فكادت تقول : وا ابناه شفقة عليه ، وإن مخففة من الثقيلة ، أي إنها كادت (لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) لو لا ربطنا على قلبها ، والربط على القلب تقويته بإلهام الصبر (لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) من المصدّقين بوعدنا ، وهو إنا رادوه إليك ، وجواب لو لا محذوف أي لأبدته ، أو فارغا من الهمّ حين سمعت أنّ فرعون تبنّاه ، إن كادت لتبدي بأنه ولدها ، لأنها لم تملك نفسها فرحا وسرورا بما سمعت لو لا أنّا

__________________

(١) أخرجه النسائي من حديث ابن عباس.

(٢) في (ز) وكان أسلم.

٣٣٠

(وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) (١٢)

طأمنّا (١) قلبها وسكّنّا قلقها (٢) الذي حدث به من شدة الفرح لتكون من المؤمنين الواثقين بوعد الله لا بتبني فرعون ، قال يوسف بن الحسين (٣) : أمرت أمّ موسى بشيئين ونهيت عن شيئين وبشّرت ببشارتين ، فلم ينفعها الكلّ حتى تولّى الله حياطتها ، فربط على قلبها.

١١ ـ (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ) مريم (قُصِّيهِ) اتبعي أثره لتعلمي خبره (فَبَصُرَتْ بِهِ) أي أبصرته (عَنْ جُنُبٍ) عن بعد ، حال عن (٤) الضمير في به ، أو من الضمير في بصرت (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أنها أخته.

١٢ ـ (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ) تحريم منع لا تحريم شرع ، أي منعناه أن يرضع ثديا غير ثدي أمّه ، وكان لا يقبل ثدي مرضع حتى أهمّهم ذلك. والمراضع جمع مرضع ، وهي المرأة التي ترضع ، أو جمع مرضع وهو موضع الرّضاع وهو الثدي ، أو الرّضاع (مِنْ قَبْلُ) من قبل قصصها (٥) أثره ، أو من قبل أن نردّه على أمّه (فَقالَتْ) أخته ، وقد دخلت بين المراضع ورأته لا يقبل ثديا (هَلْ أَدُلُّكُمْ) أرشدكم (عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ) أي موسى (لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) النصح إخلاص العمل من شائبة الفساد. روي أنها لما قالت وهم له ناصحون ، قال هامان : إنها لتعرفه وتعرف أهله فخذوها حتى تخبر بقصة هذا الغلام ، فقالت : إنما أردت وهم للملك ناصحون ، فانطلقت إلى أمّها بأمرهم ، فجاءت بها والصبي على يد فرعون يعلّله شفقة عليه ، وهو يبكي يطلب الرضاع ، فحين وجد ريحها استأنس والتقم ثديها ، فقال لها فرعون : ومن أنت منه فقد أبى كلّ ثدي إلا ثديك؟ فقالت : إني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن لا أوتي بصبي إلا قبلني ، فدفعه إليها ، وأجرى عليها ، وذهبت به إلى بيتها ، وأنجز الله وعده في الردّ ، فعندها ثبت واستقرّ في علمها أنه سيكون نبيا وذلك قوله :

__________________

(١) طأمن بمعنى طمأن على القلب.

(٢) في (ز) قلقه.

(٣) يوسف بن الحسين بن علي ، أبو يعقوب الرازي ، زاهد ، صوفي ، من العلماء والأدباء كان شيخ الري والجبال في وقته توفي عام ٣٠٤ ه‍ (الأعلام ٨ / ٢٢٧).

(٤) في (ز) من.

(٥) في (ز) قصها.

٣٣١

(فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) (١٥)

١٣ ـ (فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها) بالمقام معه (وَلا تَحْزَنَ) بفراقه (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي وليثبت علمها مشاهدة كما علمت خبرا ، وقوله ولا تحزن معطوف على تقرّ ، وإنما حلّ لها ما تأخذه من الدينار كلّ يوم كما قال السدي لأنه مال حربي لا أنه أجرة على إرضاع ولدها (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) هو داخل تحت علمها ، أي لتعلم أنّ وعد الله حق ولكن أكثر الناس لا يعلمون أنه حقّ فيرتابون ، ويشبه التعريض بما فرط منها حين سمعت بخبر موسى فجزعت.

١٤ ـ (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) بلغ موسى نهاية القوة وتمام العقل ، وهو جمع شدة كنعمة وأنعم عند سيبويه (وَاسْتَوى) اعتدل وتم استحكامه وهو أربعون سنة ، ويروى أنه لم يبعث نبيّ إلا على رأس أربعين سنة (آتَيْناهُ حُكْماً) نبوّة (وَعِلْماً) فقها ، أو علما بمصالح الدارين (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي كما فعلنا بموسى وأمه نفعل بالمؤمنين. قال الزّجّاج : جعل الله تعالى إيتاء العلم والحكمة مجازاة على الإحسان لأنهما يؤدّيان إلى الجنة التي هي جزاء المحسنين ، والعالم الحكيم من يعمل بعلمه لأنه تعالى قال : (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (١) فجعلهم جهّالا إذ لم يعملوا بالعلم.

١٥ ـ (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ) أي مصر (عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) حال من الفاعل ، أي مختفيا ، وهو ما بين العشاءين ، أو وقت القائلة يعني انتصاف النهار ، وقيل لما شبّ وعقل أخذ يتكلم بالحقّ وينكر عليهم ، فأخافوه ، فلا يدخل المدينة إلا على تغفّل (فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ) ممن شايعه على دينه من بني إسرائيل ، قيل هو السامري (٢) (وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) من مخالفيه من القبط ، وهو فانون ، وقيل فيهما هذا وهذا وإن كانا غائبين على جهة الحكاية ، أي إذا نظر إليهما الناظر قال

__________________

(١) البقرة ، ٢ / ١٠٢.

(٢) زاد في (ظ) و (ز) وشيعة الرجل أتباعه وأنصاره.

٣٣٢

(قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) (١٨)

هذا من شيعته وهذا من عدوه (فَاسْتَغاثَهُ) فاستنصره (الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى) ضربه بجمع كفه ، أو بأطراف أصابعه (فَقَضى عَلَيْهِ) فقتله (قالَ هذا) إشارة إلى القتل الحاصل بغير قصد (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) وإنما جعل قتل الكافر من عمل الشيطان وسمّاه ظلما لنفسه واستغفر منه لأنه كان مستأمنا فيهم ، فلا يحلّ له قتل الكافر الحربي (١) ، أو لأنه قتله قبل أن يؤذن له في القتل ، وعن ابن جريج : ليس لنبي أن يقتل ما لم يؤمر (إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) ظاهر العداوة.

١٦ ـ (قالَ رَبِ) يا ربّ (إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) بفعل صار قتلا (فَاغْفِرْ لِي) زلتي (فَغَفَرَ لَهُ) زلّته (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ) بإقالة الزّلل (الرَّحِيمُ) بإزالة الخجل.

١٧ ـ (قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً) معينا (لِلْمُجْرِمِينَ) للكافرين ، وبما أنعمت علي قسم جوابه محذوف تقديره أقسم بإنعامك عليّ بالمغفرة لأتوبنّ فلن أكون ظهيرا للمجرمين ، أو استعطاف كأنه قال ربّ اعصمني بحقّ ما أنعمت عليّ من المغفرة فلن أكون إن عصمتني ظهيرا للمجرمين ، وأراد بمظاهرة المجرمين صحبة فرعون وانتظامه في جملته وتكثيره سواده حيث كان يركب بركوبه كالولد مع الوالد.

١٨ ـ (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً) على نفسه من قتله القبطيّ أن يؤخذ به (يَتَرَقَّبُ) حال ، أي يتوقع المكروه ، وهو الاستقادة منه ، أو الأخبار ، أو ما يقال فيه ، وقال ابن عطاء : خائفا على نفسه يترقب نصرة ربّه ، وفيه دليل على أنه لا بأس بالخوف من دون الله بخلاف ما يقوله بعض الناس أنه لا يسوّغ الخوف من دون الله (فَإِذَا الَّذِي) إذا للمفاجأة وما بعدها مبتدأ (اسْتَنْصَرَهُ) أي موسى (بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ) يستغيثه ، والمعنى أنّ الإسرائيلي الذي خلّصه موسى استغاث به ثانيا من قبطي آخر (قالَ لَهُ مُوسى) أي للإسرائيلي (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) أي ضال عن الرشد ظاهر الغي ، فقد قاتلت بالأمس رجلا فقتلته بسببك ، والرشيد في التدبير لا يفعل فعلا (٢) يفضي إلى البلاء على نفسه وعلى من يريد نصرته.

__________________

(١) في (ز) ولا يحل قتل الكافر الحربي المستأمن.

(٢) في (ظ) و (ز) والرشد في التدبير أن لا يفعل فعلا.

٣٣٣

(فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) (٢٢)

١٩ ـ (فَلَمَّا أَنْ أَرادَ) موسى (أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي) بالقبطي الذي (هُوَ عَدُوٌّ لَهُما) لموسى والإسرائيلي لأنه ليس على دينهما ، ولأنّ القبط كانوا أعداء بني إسرائيل (قالَ) الإسرائيلي لموسى عليه‌السلام وقد توهّم أنه أراد أخذه لا أخذ القبطي إذ قال له : إنك لغوي مبين (يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً) يعني القبطي (بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ) ما تريد (إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً) أي قتّالا بالغضب (فِي الْأَرْضِ) أرض مصر (وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) في كظم الغيظ ، وكان قتل القبطي بالأمس قد شاع ، ولكن خفي قاتله فلما أفشي على موسى عليه‌السلام علم القبطيّ أنّ قاتله موسى فأخبر فرعون فهموا بقتله.

٢٠ ـ (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) هو مؤمن آل فرعون وكان ابن عمّ فرعون (يَسْعى) صفة لرجل ، أو حال من رجل لأنه وصف بقوله من أقصى المدينة (قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ) أي يأمر بعضهم بعضا بقتلك ، أو يتشاورون بسببك ، والائتمار التشاور ، يقال الرجلان يتآمران ويأتمران لأنّ كلّ واحد منهما يأمر صاحبه بشيء أو يشير عليه بأمر (فَاخْرُجْ) من المدينة (إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) لك ، بيان وليس بصلة الناصحين ، لأن الصلة لا تتقدم على الموصول ، كأنه قال إني من الناصحين ، ثم أراد أن يبيّن فقال لك ، كما يقال سقيا لك ومرحبا بك (١).

٢١ ـ (فَخَرَجَ) موسى (مِنْها) من المدينة (خائِفاً يَتَرَقَّبُ) التعرض له في الطريق ، أو أن يلحقه من يقتله (قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي قوم فرعون.

٢٢ ـ (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ) نحوها ، والتوجه الإقبال على الشيء ، ومدين قرية شعيب عليه‌السلام ، سمّيت بمدين بن إبراهيم ولم تكن في سلطان فرعون وبينها وبين مصر مسيرة ثمانية أيام ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : خرج ولم يكن له علم

__________________

(١) في (ظ) و (ز) لك.

٣٣٤

(وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (٢٤)

بالطريق إلّا حسن ظنّه (١) بربّه (قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) أي وسطه ومعظم نهجه ، فجاءه ملك فانطلق به إلى مدين.

٢٣ ـ (وَلَمَّا وَرَدَ) وصل (ماءَ مَدْيَنَ) ماءهم الذي يستقون (٢) منه وكان بئرا (وَجَدَ عَلَيْهِ) على جانب البئر (أُمَّةً) جماعة كثيرة (مِنَ النَّاسِ) من أناس مختلفين (يَسْقُونَ) مواشيهم (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ) في مكان أسفل من مكانهم (امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ) تطردان غنمهما عن الماء ، لأن على الماء من هو أقوى منهما فلا تتمكنان من السقي ، أو لئلا تختلط أغنامهما بأغنامهم ، والذود الطرد والدفع (قالَ ما خَطْبُكُما) ما شأنكما ، وحقيقته ما مخطوبكما أي ما مطلوبكما من الذياد ، فسمّي المخطوب خطبا (قالَتا لا نَسْقِي) غنمنا (حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ) مواشيهم يصدر شامي ويزيد وأبو عمرو أي يرجع ، والرّعاء جمع راع كقائم وقيام (وَأَبُونا شَيْخٌ) لا يمكنه سقي الأغنام (كَبِيرٌ) في حاله ، أو في السنّ لا يقدر على رعي الغنم ، أبلتا عليه (٣) عذرهما في توليهما السقي بأنفسهما.

٢٤ ـ (فَسَقى لَهُما) فسقى غنمهما لأجلهما رغبة في المعروف وإغاثة للملهوف ، روي أنه نحّى القوم عن رأس البئر وسألهم دلوا ، فأعطوه دلوهم وقالوا استق بها ، وكانت لا ينزعها إلا أربعون ، فاستقى بها وصبّها في الحوض ودعا بالبركة ، وترك المفعول في يسقون وتذودان ولا نسقي وفسقى لأنّ الغرض هو الفعل لا المفعول ، ألا ترى أنه إنما رحمهما لأنهما كانتا على الذياد وهم على السقي ولم يرحمهما لأنّ مذودهما غنم ومسقيهم إبل مثلا ، وكذا في لا نسقي وفسقى فالمقصود هو السقي لا المسقيّ ، ووجه مطابقة جوابهما سؤاله أنه سألهما عن سبب الذود فقالتا السبب في ذلك أنّا امرأتان مستورتان ضعيفتان لا نقدر على مزاحمة الرجال ونستحي من الاختلاط بهم ، فلا بد لنا من تأخير (٤) السقي إلى أن يفرغوا ، وإنما رضي شعيب عليه‌السلام لابنتيه بسقي الماشية لأنّ هذا الأمر في نفسه ليس بمحظور والدين لا

__________________

(١) في (ظ) و (ز) الظن.

(٢) في (ز) يسقون.

(٣) في (ز) أبدتا إليه ، وأبلتا : أظهرتا.

(٤) في (ز) تأجيل.

٣٣٥

(فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٢٥)

يأباه ، وأما المروءة فعادات الناس في ذلك متباينة وأحوال العرب فيه خلاف أحوال العجم ، ومذهب أهل البدو فيه غير مذهب أهل الحضر خصوصا إذا كانت الحالة حالة ضرورة (ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِ) أي ظلّ سمرة (١) ، وفيه دليل جواز الاستراحة في الدنيا بخلاف ما يقوله بعض المتقشّفة ، ولما طال البلاء عليه أنس بالشكوى ، إذ لا نقص في الشكوى إلى المولى (فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما) لأي شيء (أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ) قليل أو كثير غثّ أو سمين (فَقِيرٌ) محتاج ، وعدّي فقير باللام لأنه ضمّن معنى سائل وطالب ، قيل كان لم يذق طعاما سبعة أيام وقد لصق ظهره بطنه (٢) ، ويحتمل أن يريد أني فقير من الدنيا لأجل ما أنزلت إلي من خير الدارين (٣) وهو النجاة من الظالمين ، لأنه كان عند فرعون في ملك وثروة ، قال ذلك رضا بالبدل السنيّ وفرحا به وشكرا له ، وقال ابن عطاء : نظر من العبودية إلى الربوبية ، وتكلّم بلسان الافتقار لما ورد على سرّه من الأنوار.

٢٥ ـ (فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) على استحياء في موضع الحال أي مستحية ، وهذا دليل كمال إيمانها وشرف عنصرها ، لأنها كانت تدعوه إلى ضيافتها ولم تعلم أيجيبها أم لا ، فأتته مستحية قد استترت بكمّ درعها ، وما في سقيت مصدرية أي جزاء سقيك ، روي أنهما لما رجعتا إلى أبيهما قبل الناس وأغنامهما حفّل (٤) قال لهما : ما أعجلكما؟ قالتا : وجدنا رجلا صالحا رحمنا فسقى لنا ، فقال لإحداهما : اذهبي فادعيه لي ، فتبعها موسى عليه‌السلام فألزقت الريح ثوبها بجسدها فوصفته ، قال لها : امشي خلفي وانعتي لي الطريق (فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ) أي قصته وأحواله مع فرعون ، والقصص مصدر كالعلل سمّي به المقصوص (قالَ) له (لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) إذ لا سلطان لفرعون بأرضنا ، وفيه دليل جواز العمل بخبر الواحد ولو عبدا أو أنثى ، والمشي مع الأجنبية مع ذلك الاحتياط والتورع ، وأما أخذ الأجر على البرّ والمعروف

__________________

(١) سمرة : ضرب من شجر الطلح (النهاية في غريب الحديث ٢ / ٣٩٩).

(٢) في (ظ) و (ز) لصق بظهره بطنه.

(٣) في (ز) الدين.

(٤) حفل : أي مملوءة ضروعها باللبن.

٣٣٦

(قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٢٧)

فقيل إنه لا بأس به عند الحاجة كما كان لموسى عليه‌السلام ، على أنه روي أنها لما قالت ليجزيك كره ذلك ، وإنما أجابها لئلا يخيب قصدها ، لأن للقاصد حرمة ، ولما وضع شعيب الطعام بين يديه امتنع ، فقال شعيب : ألست جائعا؟ قال : بلى ولكن أخاف أن يكون عوضا مما سقيت لهما ، وإنّا أهل بيت لا نبيع ديننا بالدنيا ، ولا نأخذ على المعروف ثمنا ، فقال شعيب عليه‌السلام : هذه عادتنا مع كلّ من ينزل بنا ، فأكل.

٢٦ ـ (قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) اتخذه أجيرا لرعي الغنم ، روي أنّ كبراهما كانت تسمى صفراء والصغرى صفيراء ، وصفراء هي التي ذهبت به ، وطلبت إلى أبيها أن يستأجره ، وهي التي تزوّجها (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) فقال : وما علمك بقوته وأمانته؟ فذكرت نزع الدلو وأمرها بالمشي خلفه ، وورد الفعل بلفظ الماضي للدلالة على أنّ أمانته وقوّته أمران متحقّقان ، وقولها إنّ خير من استأجرت القويّ الأمين كلام جامع ، لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان الكفاية والأمانة في القائم بأمرك فقد فرغ بالك وتمّ مرادك ، وقيل القوي في دينه الأمين في جوارحه ، وقد استغنت بهذا الكلام الجاري مجرى المثل عن أن تقول استأجره لقوته وأمانته. وعن ابن مسعود رضي الله عنه : أفرس الناس ثلاث : بنت شعيب وصاحب يوسف في قوله عسى أن ينفعنا ، وأبو بكر في عمر.

٢٧ ـ (قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ) أزوّجك (إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ) قوله هاتين يدلّ على أنه كان له غيرهما ، وهذه مواعدة منه ، ولم يكن ذلك عقدا للنكاح (١) إذ لو كان عقدا لقال قد أنكحتك (عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي) تكون أجيرا لي من أجرته إذا كنت أجيرا (ثَمانِيَ حِجَجٍ) ظرفه (٢) والحجّة السنة ، وجمعها حجج والتزوّج على رعي الغنم جائز بالإجماع لأنه من باب القيام بأمر الزوجية فلا مناقضة بخلاف التزوّج على الخدمة (فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً) أي عمل عشر حجج (فَمِنْ عِنْدِكَ) فذلك تفضّل منك ليس بواجب عليك ، أو فإتمامه من عندك ولا أحتمه عليك ، ولكنّك إن فعلته فهو منك تفضّل وتبرع (وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ) بإلزام أتمّ الأجلين ، وحقيقة قولهم : شققت

__________________

(١) في (ظ) و (ز) عقد نكاح.

(٢) في (ز) ظرف.

٣٣٧

(قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) (٢٨)

عليه وشقّ عليه الأمر أنّ الأمر إذا تعاظمك فكأنه شقّ عليك ظنّك باثنين ، تقول تارة أطيقه وطورا لا أطيقه (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) في حسن المعاملة والوفاء بالعهد ، ويجوز أن يراد الصلاح على العموم ويدخل تحته حسن المعاملة ، والمراد باشتراطه مشيئة الله فيما وعد من الصلاح الاتكال على توفيقه فيه ومعونته لأنه إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل ذلك.

٢٨ ـ (قالَ) موسى (ذلِكَ) مبتدأ ، وهو إشارة إلى ما عاهده عليه شعيب ، والخبر (بَيْنِي وَبَيْنَكَ) يعني ذلك الذي قلته وعاهدتني فيه وشارطتني عليه قائم بيننا جميعا لا يخرج كلانا عنه ، لا أنا عما (١) شرطت علي ، ولا أنت فيما شرطت على نفسك ، ثم قال (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ) أي أيّ أجل قضيت من الأجلين يعني العشر والثماني (٢) ، وأيّ نصب بقضيت ، وما زائدة ومؤكدة لإبهام أيّ ، وهي شرطية وجوابها (فَلا عُدْوانَ عَلَيَ) أي لا يعتدى عليّ في طلب الزيادة عليه ، قال المبرد : قد علم أنه لا عدوان عليه في أتمهما (٣) ، ولكن جمعهما ليجعل الأقلّ كالأتمّ في الوفاء ، وكما أنّ طلب الزيادة على الأتم عدوان فكذا طلب الزيادة على الأقلّ (وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) هو من وكل إليه الأمر ، وعدّي بعلى لأنه استعمل في موضع الشاهد والمقيت (٤).

روي أنّ شعيبا كانت عنده عصيّ الأنبياء عليهم‌السلام فقال لموسى بالليل : أدخل ذلك البيت فخذ عصا من تلك العصيّ ، فأخذ عصا هبط بها آدم من الجنة ، ولم يزل الأنبياء عليهم‌السلام يتوارثونها حتى وقعت إلى شعيب ، فمسّها ، وكان مكفوفا ، فضنّ بها ، فقال : خذ غيرها ، فما وقع في يده إلا هي سبع مرات ، فعلم أنّ له شأنا ، ولما أصبح قال له شعيب : إذا بلغت مفرق الطريق فلا تأخذ على يمينك ، فإن الكلأ وإن كان بها أكثر إلا أنّ فيها تنينا أخشاه عليك وعلى الغنم ، فأخذت الغنم ذات اليمين ولم يقدر على كفّها ، فمشى على أثرها ، فإذا عشب وريف لم ير مثله ، فنام ، فإذا التنين

__________________

(١) في (ز) فيما.

(٢) في (ز) العشرة أو الثمانية.

(٣) في (ز) أيهما.

(٤) في (ظ) و (ز) الرقيب. والمقيت الحافظ للشيء والشاهد له ، وقيل : المقيت المقتدر كالذي يعطي كل رجل قوته. (مختار الصحاح).

٣٣٨

(فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٣٠)

قد أقبل ، فحاربته العصا حتى قتلته ، وعادت إلى جنب موسى دامية ، فلما أبصرها دامية والتنين مقتولا ارتاح لذلك ، ولما رجع إلى شعيب مسّ الغنم فوجدها ملأى البطون غزيرة اللبن ، فأخبره موسى ، ففرح ، وعلم أنّ لموسى والعصا شأنا ، وقال له : إني وهبت لك من نتاج غنمي هذا العام كلّ أدرع ودرعاء (١) ، فأوحي إليه في المنام أن أضرب بعصاك مستقى الغنم ، ففعل ، ثم سقى ، فوضعت كلّهنّ أدرع ودرعاء فوفى له بشرطه.

٢٩ ـ (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) قال عليه‌السلام : (قضى أوفاهما وتزوج صغراهما) (٢) وهذا بخلاف الرواية التي مرّت (وَسارَ بِأَهْلِهِ) بامرأته نحو مصر. قال ابن عطاء : لما تمّ أجل المحنة ، ودنا أيام الزّلفة ، وظهرت أنوار النبوة ، سار بأهله ليشتركوا معه في لطائف صنع ربّه (آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) عن الطريق لأنه قد ضلّ الطريق (أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ).

٣٠ ـ (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ) بالنسبة إلى موسى (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) بتكليم الله تعالى فيها (مِنَ الشَّجَرَةِ) العناب أو العوسج (أَنْ يا مُوسى) أن مفسرة أو مخففة من الثقيلة (إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) قال جعفر : أبصر نارا دلّته على الأنوار لأنه رأى النور في هيئة النار ، فلما دنا منها شملته أنوار القدس ، وأحاطت به جلابيب الأنس ، فخوطب بألطف خطاب ، واستدعى منه أحسن جواب ، فصار بذلك مكلّما شريفا ، أعطي ما سأل ، وأمن مما خاف ، والجذوة باللغات الثلاث ، وقرىء بهنّ ، فعاصم بفتح الجيم ، وحمزة وخلف بضمّها ، وغيرهما بكسرها ، العود الغليظ كانت في رأسه نار أو لم تكن ، ومن الأولى والثانية لابتداء الغاية ، أي أتاه النداء من شاطىء الوادي من قبل الشجرة ، ومن الشجرة بدل من

__________________

(١) الأدرع : من الشاء ما اسود رأسه وابيضّ سائره (القاموس ٣ / ٢٠).

(٢) الطبراني والبزار.

٣٣٩

(وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) (٣٢)

شاطىء الواد بدل الاشتمال ، لأن الشجرة كانت نابتة على الشاطىء أي الجانب.

٣١ ـ (وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ) ونودي أن ألق عصاك ، فألقاها ، فقلبها الله ثعبانا (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ) تتحرك (كَأَنَّها جَانٌ) حية في سعيها ، وهي ثعبان في جثتها (وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) يرجع ، فقيل له (يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) أي أمنت من أن ينالك مكروه من الحية.

٣٢ ـ (اسْلُكْ) أدخل (يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) جيب قميصك (تَخْرُجْ بَيْضاءَ) لها شعاع كشعاع الشمس (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) برص (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) حجازي وبصري (١). الرّهب حفص ، الرّهب غيرهم ، ومعنى الكلّ الخوف ، والمعنى واضمم يدك إلى صدرك يذهب ما بك من فرق ، أي لأجل الحية ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : كلّ خائف إذا وضع يده على صدره زال خوفه. وقيل معنى ضم الجناح أنّ الله تعالى لما قلب العصا حية فزع موسى واتّقاها بيده كما يفعل الخائف من الشيء ، فقيل له إنّ اتقاءك بيدك فيه غضاضة عند الأعداء ، فإذا ألقيتها فكما تنقلب حية فأدخل يدك تحت عضدك مكان اتقائك بها ، ثم أخرجها بيضاء ليحصل الأمران اجتناب ما هو غضاضة عليك وإظهار معجزة أخرى ، والمراد بالجناح اليد لأنّ يدي الإنسان بمنزلة جناحي الطائر وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضده اليسرى فقد ضمّ جناحه إليه ، أو أريد بضمّ جناحه إليه تجلّده وضبطه نفسه عند انقلاب العصا حية حتى لا يضطرب ولا يرهب ، استعارة من فعل الطائر لأنه إذا خاف نشر جناحيه وأرخاهما ، وإلا فجناحاه مضمومان إليه مشمّران ، ومعنى من الرّهب من أجل الرّهب أي إذا أصابك الرّهب عند رؤية الحية فاضمم إليك جناحك ، جعل الرّهب الذي كان يصيبه سببا وعلّة فيما أمر به من ضمّ جناحه إليه ومعنى واضمم إليك جناحك واسلك يدك في جيبك على أحد التفسيرين واحد ولكن خولف بين العبارتين لاختلاف الغرضين ، إذ الغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء ، وفي الثاني إخفاء الرهب ، ومعنى : (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى

__________________

(١) في مصحف النسفي : (الرَّهْبِ) بفتح الراء والهاء وهي قراءة ...

٣٤٠