تفسير النسفي - ج ٣

عبدالله بن أحمد النسفي

تفسير النسفي - ج ٣

المؤلف:

عبدالله بن أحمد النسفي


المحقق: الشيخ مروان محمّد الشعار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٦

لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) (١٢)

(تَحْسَبُوهُ) أي الإفك (شَرًّا لَكُمْ) عند الله (بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لأنّ الله أثابكم عليه ، وأنزل في البراءة منه ثماني عشرة آية ، والخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وعائشة وصفوان ومن ساءه ذلك من المؤمنين (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) أي على كلّ امرىء من العصبة جزاء إثمه على مقدار خوضه فيه ، وكان بعضهم ضحك ، وبعضهم تكلّم فيه ، وبعضهم سكت (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) أي عظمه عبد الله بن أبيّ (مِنْهُمْ) أي من العصبة (لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي جهنم ، يحكى أنّ صفوان مرّ بهودجها عليه وهو في ملأ من قومه فقال : من هذه؟ فقالوا : عائشة فقال : والله ما نجت منه ولا نجا منها ، ثم وبّخ الخائضين فقال :

١٢ ـ (لَوْ لا) هلّا (إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) أي الإفك (ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ) بالذين منهم ، فالمؤمنون كنفس واحدة ، وهو كقوله : (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) (١) (خَيْراً) عفافا وصلاحا ، وذلك نحو ما يروى أنّ عمر رضي الله عنه قال لرسول الله عليه الصلاة والسلام : أنا قاطع بكذب المنافقين لأنّ الله عصمك من وقوع الذباب على جلدك لأنه يقع على النجاسات فيتلطخ بها ، فلما عصمك الله من ذلك القدر من القذر فكيف لا يعصمك عن صحبة من تكون متلطخة بمثل هذه الفاحشة؟ وقال عثمان رضي الله عنه أيضا (٢) : إن الله ما أوقع ظلّك على الأرض لئلا يضع إنسان قدمه على ذلك الظلّ فلمّا لم يمكّن أحدا من وضع القدم على ظلّك كيف يمكّن أحدا من تلويث عرض زوجتك؟ وكذا قال علي رضي الله عنه : إن جبريل أخبرك أنّ على نعلك قذرا وأمرك بإخراج النعل عن رجلك بسبب ما التصق به من القذر فكيف لا يأمرك بإخراجها؟ بتقدير أن تكون متلطخة بشيء من الفواحش ، وروي أنّ أبا أيوب (٣) الأنصاري قال لامرأته : ألا ترين ما يقال؟ فقالت : لو كنت بدل صفوان أكنت تظنّ بحرم رسول الله سوء؟ فقال : لا ، قالت : ولو كنت أنا بدل عائشة ما خنت رسول الله ، فعائشة خير مني وصفوان خير منك.

وإنّما عدل عن الخطاب إلى الغيبة وعن الضمير إلى الظاهر ولم يقل ظننتم بأنفسكم خيرا وقلتم ليبالغ في التوبيخ بطريق الالتفات ، وليدلّ التصريح بلفظ الإيمان على أنّ

__________________

(١) الحجرات ، ٤٩ / ١١.

(٢) ليس في (ز) رضي الله عنه أيضا.

(٣) أبو أيوب الأنصاري : خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة ، من بني النجار ، صحابي شهد العقبة وبدرا وسائر المشاهد ، كان محبا للجهاد والغزو توفي عام ٥٢ ه‍ (الأعلام ٢ / ٢٩٥).

٢٠١

(لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٣) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) (١٥)

الاشتراك فيه يقتضي أن لا يصدّق مؤمن على أخيه ولا مؤمنة على أختها قول عائب ولا طاعن ، وهذا من الأدب الحسن الذي قلّ القائم به والحافظ له ، وليتك تجد من يسمع ويسكت ولا يشيّعه بأخوات (١) (وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) كذب ظاهر لا يليق بهما.

١٣ ـ (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) هلّا جاؤوا على القذف لو كانوا صادقين بأربعة شهداء (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ) الأربعة (فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ) أي في حكمه وشريعته (هُمُ الْكاذِبُونَ) أي القاذفون ، لأن الله تعالى جعل التّفصلة بين الرمي الصادق والكاذب ثبوت شهادة الشهود الأربعة وانتفاءها ، والذين رموا عائشة رضي الله عنها لم يكن لهم بينة على قولهم فكانوا كاذبين.

١٤ ـ (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ) لو لا هذه لامتناع الشيء لوجود غيره بخلاف ما تقدم ، أي ولو لا أني قضيت أن أتفضّل عليكم في الدنيا بضروب النّعم التي من جملتها الإمهال للتوبة ، وأن أترحّم عليكم في الآخرة في العفو والمغفرة لعاجلتكم بالعقاب على ما خضتم فيه من حديث الإفك ، يقال أفاض في الحديث وخاض واندفع.

١٥ ـ (إِذْ) ظرف لمسّكم أو لأفضتم (تَلَقَّوْنَهُ) يأخذه بعضكم من بعض ، يقال تلقى القول وتلقّنه وتلقّفه (بِأَلْسِنَتِكُمْ) أي أنّ بعضكم كان يقول لبعض هل بلغك حديث عائشة؟ حتى شاع فيما بينهم وانتشر ، فلم يبق بيت ولا ناد إلا طار فيه (وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) إنما قيّده بالأفواه مع أنّ القول لا يكون إلّا بالفم لأنّ الشيء المعلوم يكون علمه في القلب ثم يترجم عنه اللسان ، وهذا الإفك ليس إلّا قولا يدور في أفواهكم من غير ترجمة عن علم به في القلب ، كقوله : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) (٢) (وَتَحْسَبُونَهُ) أي خوضكم في عائشة رضي الله عنها (هَيِّناً) صغيرة (وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) كبيرة. وجزع بعضهم عند الموت فقيل له في ذلك ، فقال : أخاف ذنبا لم يكن مني على بال وهو عند الله عظيم.

__________________

(١) في (ز) فيسكت ولا يشيع ما سمعه بإخوانه.

(٢) آل عمران ، ٣ / ١٦٧.

٢٠٢

(وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (١٩)

١٦ ـ (وَلَوْ لا) وهلّا (إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا) فصل بين لو لا وقلتم بالظرف لأنّ للظروف شأنا وهو تنزّلها من الأشياء منزلة أنفسها لوقوعها فيها وأنها لا تنفك عنها ، فلذا يتسع فيها ما لا يتسع في غيرها ، وفائدة تقديم الظرف أنه كان الواجب عليهم أن يتفادوا أول ما سمعوا بالإفك عن التكلّم به ، فلما كان ذكر الوقت أهم قدّم ، والمعنى هلّا قلتم إذ سمعتم الإفك ما يصحّ لنا أن نتكلّم بهذا (سُبْحانَكَ) للتعجب من عظم الأمر ومعنى التعجب في كلمة التسبيح أنّ الأصل أن يسبّح الله عند رؤية العجيب من صنائعه ، ثم كثر حتى استعمل في كلّ متعجّب منه ، أو لتنزيه الله من أن تكون حرمة نبيه فاجرة ، وإنما جاز أن تكون امرأة النبي كافرة كامرأة نوح ولوط ولم يجز أن تكون فاجرة لأنّ النبيّ مبعوث إلى الكفارّ ليدعوهم ، فيجب أن لا يكون معه ما ينفّرهم عنه والكفر غير منفّر عندهم ، وأما الكشخنة (١) فمن أعظم المنفرات (هذا بُهْتانٌ) زور يتبهّت من يسمع (عَظِيمٌ) وذكر فيما تقدّم هذا إفك مبين ويجوز أن يكونوا أمروا بهما مبالغة في التّبرّي.

١٧ ـ (يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا) في أن تعودوا (لِمِثْلِهِ) لمثل هذا الحديث من القذف واستماع حديثه (أَبَداً) ما دمتم أحياء مكلّفين (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فيه تهييج لهم ليتّعظوا وتذكير بما يوجب ترك العود ، وهو الإيمان الصادّ عن كلّ قبيح.

١٨ ـ (وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) الدلالات الواضحات أو أحكام الشرائع والآداب الجميلة (وَاللهُ عَلِيمٌ) بكم وبأعمالكم (حَكِيمٌ) يجزي على وفق أعمالكم ، أو علم صدق نزاهتها وحكم ببراءتها.

١٩ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا) أي ما قبح جدا ، والمعنى يشيعون الفاحشة عن قصد ، من (٢) الإشاعة ، ومحبة لها (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي

__________________

(١) الكشخنة : الدياثة وعدم الغيرة (الهوريني على هامش القاموس ٤ / ٢٦٣).

(٢) ليس في (ز) من.

٢٠٣

وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢٢)

(الدُّنْيا) بالحدّ ، ولقد ضرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابن أبي وحسانا ومسطحا الحدّ (وَالْآخِرَةِ) بالنار وغيرها (١) إن لم يتوبوا (وَاللهُ يَعْلَمُ) بواطن الأمور وسرائر الصدور (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي أنه قد علم محبة من أحبّ الإشاعة وهو معاقب عليها (٢).

٢٠ ـ (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) لعجّل لكم العذاب ، وكرّر المنّة بترك المعاجلة بالعقاب مع حذف الجواب مبالغة في المنّة عليهم والتوبيخ لهم (وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ) حيث أظهر براءة المقذوف وأثاب (رَحِيمٌ) بغفرانه جناية القاذف إذا تاب.

٢١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) أي آثاره ووساوسه بالإصغاء إلى الإفك والقول فيه (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ) فإنّ الشيطان (يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) ما أفرط قبحه (وَالْمُنْكَرِ) ما تنكره النفوس فتنفر عنه ولا ترتضيه (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) ولو لا أنّ الله تفضّل عليكم بالتوبة الممحصة لما طهر منكم أحد آخر الدهر من دنس إثم الإفك (وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) يطهّر التائبين بقبول توبتهم إذا محّضوها (وَاللهُ سَمِيعٌ) لقولهم (عَلِيمٌ) بضمائرهم وإخلاصهم.

٢٢ ـ (وَلا يَأْتَلِ) ولا يحلف ، من ائتلى إذا حلف افتعال من الأليّة ، أو لا يقصّر من الألو (أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ) في الدين (وَالسَّعَةِ) في الدنيا (أَنْ يُؤْتُوا) أي لا يؤتوا إن كان من الأليّة (أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي لا يحلفوا على أن يحسنوا إلى المستحقين للإحسان ، أو لا يقصّروا في أن يحسنوا إليهم ، وإن كانت بينهم وبينهم شحناء لجناية اقترفوها (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا) العفو الستر والصفح الإعراض ، أي وليتجاوزوا عن الجفاء وليعرضوا عن العقوبة (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ

__________________

(١) في (ز) وعدها.

(٢) في (ظ) وهو تعالى معاقبه عليها ، وفي (ز) وهو معاقبه عليها.

٢٠٤

إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) (٢٥)

(لَكُمْ) فليفعلوا بهم ما يرجون أن يفعل بهم ربّهم مع كثرة خطاياهم (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فتأدبوا بأدب الله واغفروا وارحموا ، نزلت في (١) أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين حلف أن لا ينفق على مسطح ابن خالته لخوضه في عائشة رضي الله عنها ، وكان مسكينا بدريا مهاجرا ، ولما قراها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أبي بكر قال : بلى أحبّ أن يغفر الله لي وردّ إلى مسطح نفقته.

٢٣ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) العفائف (الْغافِلاتِ) السليمات الصدور النقيات القلوب اللاتي ليس فيهنّ دهاء ولا مكر لأنهن لم يجربن الأمور (الْمُؤْمِناتِ) بما يجب الإيمان به ، عن ابن عباس رضي الله عنهما هنّ أزواجه عليه الصلاة والسلام ، وقيل هنّ جميع المؤمنات إذ العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ، وقيل أريدت عائشة رضي الله عنها وحدها ، وإنما جمع لأنّ من قذف واحدة من نساء النبيّ عليه الصلاة والسلام فكأنه قذفهنّ (لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) جعل القذفة ملعونين في الدارين وتوعّدهم بالعذاب العظيم في الآخرة إن لم يتوبوا.

٢٤ ـ والعامل في (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ) يعذبون وبالياء حمزة وعليّ (أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي بما أفكوا أو بهتوا.

٢٥ ـ والعامل في (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَ) بالنصب صفة للدين وهو الجزاء أي يوفيهم جزاءهم (٢) الحقّ الثابت الذي هم أهله ، وقرأ مجاهد بالرفع صفة لله كقراءة أبيّ يوفيهم الله الحقّ دينهم ، وعلى قراءة النصب يجوز أن يكون الحقّ وصفا لله بأن ينتصب على المدح (وَيَعْلَمُونَ) عند ذلك (أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) لارتفاع الشكوك وحصول العلم الضروري ، ولم يغلظ الله تعالى في القرآن في شيء من المعاصي تغليظه في إفك عائشة رضي الله عنها فأوجز في ذلك وأشبع وفصّل وأجمل وأكّد وكرّر وما ذاك إلّا لأمر ، وعن ابن عباس رضي الله عنه : من أذنب ذنبا ثم تاب منه قبلت توبته إلّا من خاض في أمر عائشة ، وهذا منه تعظيم ومبالغة في أمر الإفك ، ولقد برأ الله تعالى أربعة بأربعة : برأ يوسف عليه‌السلام بشاهد من أهلها ، وموسى عليه‌السلام

__________________

(١) زاد في (ز) شأن.

(٢) في (ز) وهو الجزاء معنى الحق.

٢٠٥

(الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (٢٦)

من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه ، ومريم رضي الله عنها بإنطاق ولدها ، وعائشة رضي الله عنها بهذه الآي العظام في كتابه المعجز المتلوّ على وجه الدهر بهذه المبالغات ، فانظر كم بينها وبين تبرئة أولئك؟ وما ذلك إلا لإظهار علوّ منزلة رسوله والتنبيه على إنافة محلّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى آله.

٢٦ ـ (الْخَبِيثاتُ) من القول تقال (لِلْخَبِيثِينَ) من الرجال والنساء (وَالْخَبِيثُونَ) منهم يتعرّضون (لِلْخَبِيثاتِ) من القول ، وكذلك (وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ) أي فيهم ، وأولئك إشارة إلى الطيبين وأنهم مبرّؤون مما يقول الخبيثون من خبيثات الكلم ، وهو كلام جار مجرى المثل لعائشة رضي الله عنها ، وما رميت به من قول لا يطابق حالها في النزاهة والطيب ، ويجوز أن يكون إشارة إلى أهل البيت وأنهم مبرّؤون مما يقول أهل الإفك ، وأن يراد بالخبيثات والطيبات النساء أي الخبائث يتزوجن الخباث ، والخباث (١) الخبائث ، وكذلك (٢) أهل الطيب (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) مستأنف ، أو خبر بعد خبر (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) في الجنة ، ودخل ابن عباس رضي الله عنهما على عائشة رضي الله عنها في مرضها وهي خائفة من القدوم على الله تعالى فقال : لا تخافي لأنك لا تقدمين إلا على مغفرة ورزق كريم وتلا الآية فغشي عليها فرحا بما تلا ، وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها : لقد أعطيت تسعا ما أعطيتهنّ امرأة ، نزل جبريل بصورتي في راحته حين أمر عليه الصلاة والسلام أن يتزوجني ، وتزوجني بكرا وما تزوج بكرا غيري ، وتوفي عليه الصلاة والسلام ورأسه في حجري ، وقبر في بيتي ، ونزل عليه الوحي وأنا في لحافه ، وأنا ابنة خليفته وصديقه ، ونزل عذري من السماء ، وخلقت طيبة عند طيب ، ووعدت مغفرة ورزقا كريما. وقال حسان معتذرا في حقها :

حصان رزان ما تزنّ بريبة

وتصبح (٣) غرثاء من لحوم الغوافل

حليلة خير الناس دينا ومنصبا

نبيّ الهدى والمكرمات الفواضل

عقيلة حيّ من لؤي بن غالب

كرام المباغ (٤) مجدها غير زائل

__________________

(١) زاد في (ز) تتزوج.

(٢) في (ز) وكذا.

(٣) في (ز) وتسبح غرثى.

(٤) في (ظ) المباغي وهو تصحيف ، وفي (ز) المساعي.

٢٠٦

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (٢٨)

مهذبة قد طيّب الله خيرها (١)

وطهّرها من كل شين وباطل

٢٧ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) أي بيوتا لستم تملكونها ولا تسكنونها (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) أي تستأذنوا ، عن ابن عباس رضي الله عنهما وقد قرأ به ، والاستئناس في الأصل الاستعلام والاستكشاف استفعال من آنس الشيء إذا أبصره ظاهرا مكشوفا ، أي تستعلموا أيطلق لكم (٢) الدخول أم لا ، وذلك بتسبيحة أو بتكبيرة أو بتحميدة أو بتنحنح (وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) والتسليم أن يقول السلام عليكم أأدخل ثلاث مرات فإن أذن له وإلا رجع ، وقيل إن تلاقيا يقدّم التسليم وإلا فالاستئذان (ذلِكُمْ) أي الاستئذان والتسليم (خَيْرٌ لَكُمْ) من تحية الجاهلية والدمور وهو الدخول بغير إذن ، فكان الرجل من أهل الجاهلية إذا دخل بيت غيره يقول حييتم صباحا وحييتم مساء ثم يدخل ، فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف واحد (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي قيل لكم هذا لكي تذكروا وتتعظوا وتعملوا ما أمرتم به في باب الاستئذان.

٢٨ ـ (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها) في البيوت (أَحَداً) من الآذنين (فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) حتى تجدوا من يأذن لكم ، أو فإن لم تجدوا فيها أحدا من أهلها ولكم فيها حاجة فلا تدخلوها إلا بإذن أهلها ، لأنّ التصرف في ملك الغير لا بدّ من أن يكون برضاه (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا) أي إذا كان فيها قوم فقالوا ارجعوا (فَارْجِعُوا) ولا تلحّوا في إطلاق الإذن ولا تلجّوا في تسهيل الحجاب ولا تقفوا على الأبواب ، لأنّ هذا مما يجلب الكراهة ، فإذا نهي عن ذلك لأدائه إلى الكراهة وجب الانتهاء عن كلّ ما يؤدي إليها من قرع الباب بعنف والتصييح بصاحب الدار وغير ذلك ، وعن أبي عبيد : ما قرعت بابا على عالم قط (هُوَ أَزْكى لَكُمْ) أي الرجوع أطيب وأطهر لما فيه من سلامة الصدور والبعد عن الريبة أو أنفع وأنمى خيرا (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) وعيد للمخاطبين بأنه عالم بما يأتون وما يذرون مما خوطبوا به فموفّ جزاءه عليه.

__________________

(١) في (ز) خيمها.

(٢) في (ظ) حتى تستعلموا أمطلق ، وفي (ز) حتى تستعلموا أيطلق.

٢٠٧

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٢٩) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٣١)

٢٩ ـ (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا) في أن تدخلوا (بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ) استثنى من البيوت التي يجب الاستئذان على داخلها ما ليس بمسكون منها كالخانات والرّبط وحوانيت التجار (فِيها مَتاعٌ لَكُمْ) أي منفعة كالاستكنان من الحر والبرد وإيواء الرّحال والسّلع والشراء والبيع ، وقيل الخربات يتبرّز فيها ، والمتاع التبرّز (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) وعيد للذين يدخلون الخربات والدور الخالية من أهل الريبة.

٣٠ ـ (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) من للتبعيض ، والمراد غضّ البصر عما يحرم والاقتصار به على ما يحلّ (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) عن الزنا ، ولم يدخل من هنا لأنّ الزنا لا رخصة فيه بوجه ، ويجوز النظر إلى وجه الأجنبية وكفّيها وقدميها في رواية ، وإلى رأس المحارم والصدر والساقين والعضدين (ذلِكَ) أي غضّ البصر وحفظ الفرج (أَزْكى لَهُمْ) أي أطهر من دنس الإثم (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ) فيه ترغيب وترهيب ، يعني أنه خبير بأحوالهم وأفعالهم وكيف يخينون (١) أبصارهم (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) (٢) فعليهم إذا عرفوا ذلك أن يكونوا منه على تقوى وحذر في كلّ حركة وسكون.

٣١ ـ (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ) أمرن بغضّ الأبصار فلا يحلّ للمرأة أن تنظر من الأجنبي إلى ما تحت سرّته إلى ركبتيه ، وإن اشتهت غضّت بصرها رأسا ، ولا تنظر إلى المرأة إلا إلى مثل ذلك وغضّ بصرها من الأجانب أصلا أولى بها ، وإنما قدّم غضّ الأبصار على حفظ الفروج لأنّ النظر بريد

__________________

(١) في (ظ) و (ز) يجيلون.

(٢) غافر ، ٤٠ / ١٩.

٢٠٨

الزنا ورائد الفجور ، فبذر الهوى طموح العين (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) الزينة ما تزينت به المرأة من حلى أو كحل أو خضاب ، والمعنى ولا يظهرن مواضع الزينة إذ إظهار عين الزينة وهي الحلى ونحوها مباح ، فالمراد بها مواضعها أو إظهارها وهي في مواضعها لإظهار مواضعها لا لإظهار أعيانها ، ومواضعها الرأس والأذن والعنق والصدر والعضدان والذراع والساق فهي للإكليل والقرط والقلادة والوشاح والدملج والسّوار والخلخال (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) إلا ما جرت العادة والجبلّة على ظهوره وهو الوجه والكفان والقدمان ففي سترها حرج بيّن ، فإن المرأة لا تجد بدّا من مزاولة الأشياء بيديها ، ومن الحاجة إلى كشف وجهها خصوصا في الشهادة والمحاكمة والنكاح وتضطر إلى المشي في الطرقات وظهور قدميها وخاصة الفقيرات منهنّ (وَلْيَضْرِبْنَ) وليضعن من قولك ضربت بيدي على الحائط إذا وضعتها عليه (بِخُمُرِهِنَ) جمع خمار (عَلى جُيُوبِهِنَ) بضم الجيم مدني وبصري وعاصم ، كانت جيوبهن واسعة تبدو منها صدورهنّ وما حواليها وكنّ يسدلن الخمر من ورائهنّ فتبقى مكشوفة فأمرن بأن يسدلنها من قدّامهنّ حتى تغطينها (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) أي مواضع الزينة الباطنة كالصدر والساق والرأس ونحوها (إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ) لأزواجهن جمع بعل (أَوْ آبائِهِنَ) ويدخل فيهم الأجداد (أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَ) فقد صاروا محارم (أَوْ أَبْنائِهِنَ) ويدخل فيهم النوافل (أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَ) فقد صاروا محارم أيضا (أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَ) ويدخل فيهم النوافل وسائر المحارم كالأعمام والأخوال وغيرهم دلالة (أَوْ نِسائِهِنَ) أي الحرائر لأنّ مطلق هذا اللفظ يتناول الحرائر (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) أي إمائهنّ ، ولا يحلّ لعبدها أن ينظر إلى هذه المواضع منها خصيا كان أو عنّينا أو فحلا ، وقال سعيد بن المسيب : لا تغرنكم سورة النور فإنها في الإماء دون الذكور (١) ، وعن عائشة رضي الله عنها أنها أباحت النظر إليها لعبدها (٢) (أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ) بالنصب شامي ويزيد وأبو بكر على الاستثناء أو الحال ، وغيرهم بالجرّ على البدل أو على الوصفية (أُولِي الْإِرْبَةِ) الحاجة أي (٣) إلى النساء ، قيل هم

__________________

(١) ابن أبي شيبة من رواية طارق عن سعيد.

(٢) قال ابن حجر : هذا ملفق من أثرين الأول أخرجه البيهقي من طريق عمرو بن ميمون عن سليمان بن يسار قال : استأذنت على عائشة فقالت : سليمان؟ أدخل فإنك عبد ما بقي عليك درهم ، وعلقه البخاري عن سليمان ، والثاني أخرجه ابن سعد عن رواية محمد بن علي بن الحسين أن عائشة رضي الله عنها قالت : إذا كفنت ودفنت وحنطت ودلاني ذكوان في حفرتي فهو حر. وأخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج.

(٣) ليست في (ز).

٢٠٩

(وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) (٣٢)

الذين يتبعونكم ليصيبوا من فضل طعامكم ولا حاجة لهم إلى النساء لأنهم بله لا يعرفون شيئا من أمرهنّ ، أو شيوخ صلحاء ، أو العنّين (١) ، أو الخصيّ (٢) ، أو المخنث (٣) ، وفي الأثر أنه المجبوب (٤) ، والأول الوجه (مِنَ الرِّجالِ) حال (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ) هو جنس فصلح أن يراد به الجمع (لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) أي لم يطلعوا لعدم الشهوة من ظهر على الشيء إذا أطلع عليه ، أو لم يبلغوا أوان القدرة على الوطء من ظهر على فلان إذا قوي عليه (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَ) كانت المرأة تضرب الأرض برجليها إذا مشت ليسمع قعقعة خلخالها فيعلم أنها ذات خلخال ، فنهين عن ذلك إذ سماع صوت الزينة كإظهارها ، ومنه سمّي صوت الحلى وسواسا (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ) أيه شامي إتباعا للضمة قبلها بعد حذف الألف لالتقاء الساكنين ، وغيره على فتح الهاء لأن بعدها ألفا في التقدير (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) العبد لا يخلو عن سهو وتقصير في أوامره ونواهيه وإن اجتهد ، فلذا وصى المؤمنين جميعا بالتوبة وبتأميل الفلاح إذا تابوا ، وقيل أحوج الناس إلى التوبة من توهّم أنه ليس له حاجة إلى التوبة ، وظاهر الآية يدلّ على أنّ العصيان لا ينافي الإيمان.

٣٢ ـ (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) الأيامى جمع أيّم وهو من لا زوج له رجلا كان أو امرأة بكرا كان أو ثيبا ، وأصله أيائم فقلبت (وَالصَّالِحِينَ) أي الخيّرين أو المؤمنين ، والمعنى زوّجوا من تأيّم منكم من الأحرار والحرائر ومن كان فيه صلاح (مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) أي من غلمانكم وجواريكم ، والأمر للندب إذ النكاح مندوب إليه (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ) من المال (يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) بالكفاية والقناعة ، أو باجتماع الرزقين ، وفي الحديث : (التمسوا الرزق بالنكاح) (٥) وعن عمر رضي الله عنه روي مثله (وَاللهُ واسِعٌ) غني ذو سعة لا يرزؤه إغناء الخلائق (عَلِيمٌ) يبسط الرزق لمن

__________________

(١) العنّين : من لا يأتي النساء عجزا ، أو لا يريدهن (القاموس ٤ / ٢٤٩).

(٢) الخصيّ : من سلّ خصييه (القاموس ٤ / ٣٢٤).

(٣) المخنث : المذكر الذي غلبت عليه الأنوثة فتكسر وتثنى (انظر القاموس ١ / ١٦٦).

(٤) المجبوب : من استئصلت خصييه ، (انظر القاموس ١ / ٤٣).

(٥) كنز العمال ١٦ / ٤٤٤٣٦.

٢١٠

(وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣٣)

يشاء ويقدر ، وقيل في الآية دليل على أن تزويج النساء والأيامى إلى الأولياء كما أن تزوج العبيد والإماء إلى الموالي ، قلنا الرجل : لا يلي على الرجل الأيم إلا بإذنه ، فكذا لا يلي على المرأة إلا بإذنها لأن الأيم ينتظمها.

٣٣ ـ (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ) وليجتهد (١) في العفة كأنّ المستعفّ طالب من نفسه العفاف (لا يَجِدُونَ نِكاحاً) استطاعة تزوّج من المهر والنفقة (حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) حتى يقدرهم على المهر والنفقة ، قال عليه الصلاة والسلام : (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغضّ للبصر وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) (٢) فانظر كيف رتّب هذه الأوامر فأمر أولا بما يعصم من الفتنة ويبعد عن مواقعة المعصية ، وهو غضّ البصر ، ثم بالنكاح المحصن للدين المغني عن الحرام ، ثم بعزة النفس الأمارة بالسوء عن الطموح إلى الشهوة عند العجز عن النكاح إلى أن تقدر عليه (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي المماليك الذين يطلبون الكتابة ، فالذين مرفوع بالابتداء أو منصوب بفعل يفسره (فَكاتِبُوهُمْ) وهو للندب ، ودخلت الفاء لتضمنه معنى الشرط ، والكتاب والمكاتبة كالعتاب والمعاتبة ، وهو أن يقول لمملوكه كاتبتك على ألف درهم فإن أدّاها عتق ، ومعناه كتبت لك على نفسي أن تعتق مني إذا وفّيت بالمال وكتبت لي على نفسك أن تفي بذلك ، أو كتبت عليك الوفاء بالمال وكتبت عليّ العتق ، ويجوز حالا ومؤجلا ومنجّما وغير منجّم لإطلاق الأمر (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) قدرة على الكسب ، أو أمانة وديانة ، والندبية معلقة بهذا الشرط (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) أمر للمسلمين على وجه الوجوب بإعانة المكاتبين ، وإعطائهم سهمهم من الزكاة لقوله تعالى : (وَفِي الرِّقابِ) (٣) وعند الشافعي رحمه‌الله معناه حطّوا من بدل الكتابة ربعا وهذا عندنا على وجه الندب ، والأول الوجه ، لأن الإيتاء هو التمليك فلا يقع على

__________________

(١) في (ز) وليجتهدوا.

(٢) كنز العمال ١٦ / ٤٤٤٠٨.

(٣) البقرة ، ٢ / ١٧٧. التوبة ، ٩ / ٦٠.

٢١١

الحطّ ، سأل صبيح (١) مولاه حويطبا (٢) أن يكاتبه فأبى فنزلت.

واعلم أنّ العبيد أربعة : قنّ مقتنى للخدمة ، ومأذون في التجارة ، ومكاتب ، وآبق.

فمثال الأول : وليّ العزلة الذي حصل العزلة بإيثار الخلوة وترك العشرة.

والثاني : وليّ العشرة فهو نجيّ الحضرة يخالط الناس للخبرة وينظر إليهم بالعبرة ويأمرهم بالغيرة فهو خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحكم بحكم الله ويأخذ لله ويعطي في الله ويفهم عن الله ويتكلم مع الله ، فالدنيا سوق تجارته والعقل رأس بضاعته والعدل في الغضب والرضا ميزانه ، والقصد في الفقر والغنى عنوانه والعلم (٣) مفزعه ومنجاه ، والقرآن كتاب الإذن من مولاه ، هو كائن في الناس بظواهره ، بائن منهم بسرائره ، فقد هجرهم فيما له عليهم في الله باطنا ، ثم وصلهم فيما لهم عليه لله ظاهرا :

وما هو منهمو بالعيش فيهم

ولكن معدن الذهب الرغام (٤)

يأكل ما يأكلون ويشرب ما يشربون وما يدريهم أنه ضيف الله يرى السماوات والأرض قائمات بأمره وكأنه قيل فيه :

فإن تفق الأنام وأنت منهم

فإنّ المسك بعض دم الغزال (٥)

فحال وليّ العزلة أصفى وأحلى ، وحال وليّ العشرة أوفى وأعلى ، ونزّل الأول من الثاني في حضرة الرحمن منزلة النديم من الوزير عند السلطان ، أما النبيّ عليه الصلاة والسلام فهو كريم الطرفين ومعدن الشّذرين ومجمع الحالين ومنبع الزلالين فباطن أحواله مهتدى وليّ العزلة ، وظاهر أعماله مقتدى ولي العشرة.

والثالث : المجاهد المحاسب العامل ، المطالب بالضرائب كنجوم المكاتب (٦) في اليوم والليلة خمس (٧) ، وفي المائتين (٨) خمسة ، وفي السنة شهر ، وفي العمر زورة ، فكأنه اشترى نفسه من ربّه بهذه النجوم المرتبة ، فيسعى في فكاك رقبته خوفا من البقاء في ربقة العبودية ، وطمعا في شحنة الحرية (٩) ليسرح في رياض الجنة فيتمتع

__________________

(١) صبيح مولى حويطب بن عبد العزى ، قال ابن السكن وابن حبان ، يقال له صحبة (الإصابة ٣ / ٢٣٥).

(٢) حويطب بن عبد العزى بن أبي قيس بن عبد ود من بني عامر بن لؤي ، صحابي قرشي ، من المعمرين أسلم يوم فتح مكة ، انتقل إلى المدينة ومات بها عام ٥٤ ه‍ (الأعلام ٢ / ٢٨٩).

(٣) في (ز) والعز.

(٤) لم أصل إليه.

(٥) لم أصل إليه.

(٦) زاد في (ز) عليه.

(٧) زاد في (ظ) من الصلوات.

(٨) في (ز) وفي المائتي درهم.

(٩) في (ز) في فتح باب الحرية.

٢١٢

(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) (٣٤)

بمناه ، ويفعل ما يشاء (١) ويهواه.

والرابع : الأبّاق فما أكثرهم ، فمنهم القاضي الجائر ، والعالم غير العامل ، والقراء (٢) المرائي ، والواعظ الذي لا يفعل ما يقول ، ويكون أكثر أقواله فضول (٣) ، وعلى كلّ ما لا ينفعه نصول (٤) ، فضلا عن السارق والزاني والغاصب ، ففيهم (٥) أخبر النبيّ عليه الصلاة والسلام : (إن الله لينصر هذا الدين بقوم لا خلاق لهم في الآخرة) (٦) (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ) كان لابن أبيّ ست جوار معاذة ومسيكة (٧) وأميمة وعمرة وأروى وقتيلة يكرههنّ على البغاء وضرب عليهنّ الضرائب ، فشكت اثنتان منهنّ إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام ، فنزلت (٨) ، ويكنى بالفتى والفتاة عن العبد والأمة ، والبغاء الزنا للنساء خاصة ، وهو مصدر البغي (٩) (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) تعففا عن الزنا ، وإنما قيده بهذا الشرط لأنّ الإكراه لا يكون إلّا مع إرادة التحصّن ، فآمر الطّيّعة (١٠) للبغاء لا يسمى مكرها ولا أمره إكراها ، ولأنها نزلت على سبب فوقع النهي على تلك الصفة ، وفيه توبيخ للموالي ، أي إذا رغبن في التحصّن فأنتم أحقّ بذلك (لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي لتبتغوا بإكراههنّ على الزنا أجورهن وأولادهن (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي لهنّ ، وفي مصحف ابن مسعود كذلك ، وكان الحسن يقول : لهنّ والله ، لهنّ والله ، ولعلّ الإكراه كان دون ما اعتبرته الشريعة ، وهو الذي يخاف منه التلف ، فكانت آثمة ، أو لهم إذا تابوا.

٣٤ ـ (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ) بفتح الياء حجازي وبصري وأبو بكر وحماد ، والمراد الآيات التي بيّنت في هذه السورة وأوضحت في معاني الأحكام والحدود ، وجاز أن يكون الأصل مبيّنا فيها فاتّسع في الظرف (١١) ، وبكسرها غيرهم ، أي بيّنت هي الأحكام والحدود ، جعل الفعل لها مجازا ، أو من بيّن بمعنى تبيّن ومنه

__________________

(١) في (ز) يشاؤه.

(٢) في (ز) والعامل المرائي.

(٣) في (ظ) و (ز) الفضول.

(٤) في (ظ) و (ز) يصول.

(٥) في (ظ) فعنهم ، وفي (ز) فمنهم.

(٦) لم أجده.

(٧) في (أ) مسيلة باللام وفي (ظ) و (ز) بالكاف وهو الصواب وقد ورد هكذا عند مسلم والبزار.

(٨) رواه الثعلبي من طريق مقاتل.

(٩) في (ز) لبغت.

(١٠) في (ز) المطيعة.

(١١) زاد في (ز) أي أجري مجرى المفعول به كقوله ويوم شهدناه.

٢١٣

(اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٣٥)

المثل : قد بيّن الصبح لذي عينين (وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) ومثلا من أمثال من قبلكم ، أي قصة عجيبة من قصصهم كقصة يوسف ومريم ، يعني قصة عائشة رضي الله عنها (وَمَوْعِظَةً) ما وعظ به من الآيات والمثل من نحو قوله تعالى : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) ... (يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً) (١) (لِلْمُتَّقِينَ) أي هم المنتفعون بها وإن كانت موعظة للكل نظير قوله :

٣٥ ـ (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مع قوله : (مَثَلُ نُورِهِ) و (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ) قولك زيد كرم وجود ، ثم تقول ينعش الناس بكرمه وجوده ، والمعنى ذو نور السماوات ونور السماوات والأرض الحقّ شبّهه بالنور في ظهوره وبيانه كقوله : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) (٢) أي من الباطل إلى الحقّ ، وأضاف النور إليهما للدلالة على سعة إشراقه وفشوّ إضاءته حتى تضيء له السماوات والأرض ، وجاز أنّ المراد أهل السماوات والأرض ، وأنهم يستضيئون به (مَثَلُ نُورِهِ) أي صفة نوره العجيبة الشأن في الإضاءة (كَمِشْكاةٍ) كصفة مشكاة وهي الكوّة في الجدار غير النافذة (فِيها مِصْباحٌ) أي سراج ضخم ثاقب (الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ) في قنديل من زجاج ، شامي بكسر الزاي (الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ) مضيء ، بضم الدال وتشديد الياء منسوب إلى الدرّ لفرط ضيائه وصفائه ، وبالكسر والهمزة عمرو وعلي كأنه يدرأ الظلام بضوئه ، وبالضم والهمزة أبو بكر وحمزة شبه في زهرته بأحد الكواكب الدراريّ كالمشتري والزّهرة ونحوهما (يُوقَدُ) (٣) بالتخفيف حمزة وعلي وأبو بكر أي (٤) الزجاجة ، ويوقد بالتخفيف شامي ونافع وحفص ، وتوقد (٥) مكي وبصري أي هذا المصباح (مِنْ شَجَرَةٍ) أي ابتداء توقّده (٦) من زيت شجرة الزيتون ، يعني

__________________

(١) سبق ذكر هذه الآيات في هذه السورة وهي الآيات ٢ و ١٢ و ١٦ و ١٧.

(٢) البقرة ، ٢ / ٢٥٧.

(٣) في مصحف النسفي توقد وهي قراءة.

(٤) ليس في (ز) أي.

(٥) زاد في (ز) بالتشديد وفي (ظ) بصري ومكي.

(٦) في (ظ) و (ز) ثقوبه.

٢١٤

روّيت ذبالته (١) بزيتها (مُبارَكَةٍ) كثيرة المنافع ، أو لأنها نبتت في الأرض التي بورك فيها للعالمين ، وقيل بارك فيها سبعون نبيا منهم إبراهيم عليه‌السلام (زَيْتُونَةٍ) بدل من شجرة نعتها (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) أي منبتها الشام ، يعني ليست من المشرق ولا من المغرب بل في الوسط منهما وهو الشام ، وأجود الزيتون زيتون الشام ، وقيل ليست مما تطلع عليه الشمس في وقت شروقها أو غروبها فقط بل يصيبها بالغداة والعشي جميعا فهي شرقية وغربية (يَكادُ زَيْتُها) دهنها (يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) وصف الزيت بالصفاء والوميض ، وأنه لتلألئه يكاد يضيء من غير نار (نُورٌ عَلى نُورٍ) أي هذا النور الذي شبّه به الحقّ نور متضاعف قد تناصر فيه المشكاة والزجاجة والمصباح والزيت حتى لم تبق بقية مما يقوّي النور ، وهذا لأنّ المصباح إذا كان في مكان متضايق كالمشكاة كان أجمع لنوره بخلاف المكان الواسع فإنّ الضوء ينتشر فيه ، والقنديل أعون شيء على زيادة الإنارة ، وكذلك الزيت وصفاؤه ، وضرب المثل يكون بدنيء محسوس معهود لعليّ (٢) غير معاين ولا مشهود ، فأبو تمام (٣) لما قال في المأمون (٤) :

إقدام عمرو في سماحة حاتم

في حلم أحنف في ذكاء إلياس

قيل له إنّ الخليفة فوق من مثّلته بهم فقال مرتجلا :

لا تنكروا ضربي له من دونه

مثلا شرودا في النّداء (٥) ، والباس

فالله قد ضرب الأقلّ لنوره

مثلا من المشكاة والنبراس

(يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ) أي لهذا النور الثاقب (مَنْ يَشاءُ) من عباده ، أي يوفّق لإصابة الحقّ من يشاء من عباده بإلهام من الله أو بنظره في الدليل (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) تقريبا إلى أفهامهم ليعتبروا فيؤمنوا (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيبيّن كلّ شيء بما يمكن أن يعلم به ، وقال ابن عباس رضي الله عنه : مثل نوره أي نور الله الذي هدى به المؤمن ، وقرأ ابن مسعود رحمه‌الله مثل نوره في قلب المؤمن

__________________

(١) ذبالة وذبّالة : الفتيلة. (القاموس ٣ / ٣٧٨).

(٢) في (ز) لا يعلي.

(٣) أبو تمام : حبيب بن أوس بن الحارث الطائي ، الشاعر الأديب أحد أمراء البيان ، ولد في حوران عام ١٨٨ ه‍ وتوفي في الموصل عام ٢٣١ ه‍ (الأعلام ٢ / ١٦٥).

(٤) المأمون : سبق ترجمته في ١٩ / ٨٤.

(٥) في (ظ) و (ز) الندى.

٢١٥

(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) (٣٧)

كمشكاة ، وقرأ أبيّ مثل نور المؤمن.

٣٦ ـ (فِي بُيُوتٍ) يتعلّق بمشكاة ، أي كمشكاة في بعض بيوت الله ، وهي المساجد ، كأنه قيل مثل نوره كما يرى في المسجد نور المشكاة التي من صفتها كيت وكيت ، أو بتوقد أي توقد في بيوت ، أو يسبّح ، أو يسبّح له رجال في بيوت ، وفيها تكرير فيه توكيد نحو زيد في الدار جالس فيها ، أو بمحذوف أي سبّحوا في بيوت (أَذِنَ اللهُ) أي أمر (أَنْ تُرْفَعَ) تبنى (١) (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ) (٢) أو تعظّم من الرّفعة ، وعن الحسن : ما أمر الله أن ترفع بالبناء ولكن بالتعظيم (وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) يتلى فيها كتابه ، أو هو عام في كلّ ذكر (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) أي يصلّى له فيها بالغداة صلاة الفجر وبالآصال صلاة الظهر والعصر والعشاءين ، وإنما وحّد الغدوّ لأنّ صلاته صلاة واحدة ، وفي الآصال صلوات ، والآصال جمع أصل جمع أصيل وهو العشي.

٣٧ ـ (رِجالٌ) فاعل يسبّح ، يسبّح شامي وأبو بكر ، ويسند إلى أحد الظروف الثلاثة أعني له فيها بالغدو ، ورجال مرفوع بما دلّ عليه يسبّح أي يسبّح له (لا تُلْهِيهِمْ) لا تشغلهم (تِجارَةٌ) في السفر (وَلا بَيْعٌ) في الحضر ، وقيل التجارة الشراء إطلاقا لاسم الجنس على النوع ، أو خصّ البيع بعدما عمّ لأنه أوغل في الإلهاء من الشراء ، لأنّ الربح في البيعة الرابحة يقين (٣) وفي الشراء مظنون (عَنْ ذِكْرِ اللهِ) باللسان والقلب (وَإِقامِ الصَّلاةِ) أي وعن إقامة الصلاة ، التاء في إقامة عوض من الألف (٤) الساقطة للإعلال ، والأصل إقوام ، فلما قلبت الواو ألفا اجتمع ألفان ، فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين ، فأدخلت التاء عوضا عن المحذوف ، فلما أضيفت أقيمت الإضافة مقام التاء فأسقطت (وَإِيتاءِ الزَّكاةِ) أي وعن إيتاء الزكاة والمعنى لا تجارة لهم حتى تلهيهم كأولياء العزلة ، أو يبيعون ويشترون ويذكرون الله مع ذلك ،

__________________

(١) زاد في (ظ) و (ز) كقوله : (بَناها. رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها) ـ النازعات ٧٩ / ٢٧ ـ ٢٨.

(٢) البقرة ، ٢ / ١٢٧.

(٣) في (ز) متيقن.

(٤) في (ظ) و (ز) العين الساقطة.

٢١٦

(لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٣٩)

وإذا حضرت الصلاة قاموا إليها غير متثاقلين كأولياء العشرة (يَخافُونَ يَوْماً) أي يوم القيامة ، ويخافون حال من الضمير في تلهيهم ، أو صفة أخرى لرجال (تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ) ببلوغها إلى الحناجر (وَالْأَبْصارُ) بالشخوص والزرقة (١) ، أو تتقلب القلوب إلى الإيمان بعد الكفران ، والأبصار إلى العيان بعد إنكاره للطغيان ، كقوله : (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٢).

٣٨ ـ (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي يسبّحون ويخافون ليجزيهم الله أحسن جزاء أعمالهم ، أي ليجزيهم ثوابهم مضاعفا ويزيدهم على الثواب الموعود على العمل تفضّلا (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي يثيب من يشاء ثوابا لا يدخل في حساب الخلق ، هذه صفات المهتدين بنور الله. فأما الذين ضلّوا عنه فالمذكورون في قوله :

٣٩ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ) هو ما يرى في الفلاة من ضوء الشمس وقت الظهيرة (٣) يسرب على وجه الأرض كأنه ماء يجري (بِقِيعَةٍ) بقاع ، أو جمع قاع وهو المنبسط المستوي من الأرض كجيرة في جار (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ) يظنّه العطشان (ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ) أي جاء إلى ما توهّم أنه ماء (لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) أي لم يجده (٤) كما ظنّه (وَوَجَدَ اللهَ) أي جزاء الله كقوله : (يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) (٥) أي يجد مغفرته ورحمته (عِنْدَهُ) عند الكافر (فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) أي أعطاه جزاء عمله وافيا كاملا ، وحّد بعد تقدّم الجمع حملا على كلّ واحد من الكفار (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) لأنه لا يحتاج إلى عدّ وعقد ، ولا يشغله حساب عن حساب ، أو قريب حسابه لأنّ ما هو آت قريب ، شبّه ما يعمله من لا يعتقد الإيمان ولا يتّبع الحقّ من الأعمال الصالحة

__________________

(١) الشخوص : فتح العينين مع عدم طرفهما ، والزرقة : انقلاب العين وظهور بياضها.

(٢) ق ، ٥٠ / ٢٢.

(٣) في (ز) الظهر.

(٤) ليس في (ز) أي لم يجده.

(٥) النساء ، ٤ / ١١٠.

٢١٧

(أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) (٤٠)

التي يحسبها تنفعه عند الله وتنجّيه من عذابه ، ثم يخيب في العاقبة أمله ويلقى خلاف ما قدّر ، بسراب يراه الكافر بالساهرة (١) ، وقد غلبه عطش يوم القيامة ، فيحسبه ماء ، فيأتيه فلا يجد ما رجاه ، ويجد زبانية الله عنده ، يأخذونه فيعتلونه إلى جهنم ، فيسقونه الحميم والغسّاق ، وهم الذين قال الله فيهم : (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) (٢) (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (٣) قيل نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية (٤) كان يترهب ملتمسا للدين في الجاهلية ، فلما جاء الإسلام كفر.

٤٠ ـ (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ) أو هنا كأو في (أَوْ كَصَيِّبٍ) (٥) (لُجِّيٍ) عميق كثير الماء ، منسوب إلى اللجّ ، وهو معظم ماء البحر (يَغْشاهُ) يغشى البحر ، أو من فيها (٦) أي يعلوه ويغطيه (مَوْجٌ) هو ما ارتفع من الماء (مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ) أي من فوق الموج موج آخر (مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ) من فوق الموج الأعلى سحاب (ظُلُماتٌ) أي هذه ظلمات ، ظلمة السحاب وظلمة الموج وظلمة البحر (بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) ظلمة الموج على ظلمة البحر وظلمة الموج على الموج وظلمة السحاب على الموج (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ) أي الواقع فيه (لَمْ يَكَدْ يَراها) مبالغة في لم يرها ، أي لم يقرب أن يراها فضلا عن أن يراها ، شبّه أعمالهم أولا في فوات نفعها وحضور ضررها بسراب لم يجده من خدعه من بعيد شيئا ، ولم يكفه خيبة (٧) كغيره من السراب حتى وجد عنده الزبانية تعتّله إلى النار ، وشبهها ثانيا في ظلمتها وسوادها لكونها باطلة ، وفي خلوّها عن نور الحق بظلمات متراكمة من لجّ البحر والأمواج والسحاب (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) من لم يهد (٨) الله لم يهتد عن الزّجّاج ، في الحديث : (خلق الله الخلق في ظلمة ثم رشّ عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضلّ) (٩).

__________________

(١) الساهرة : وجه الأرض.

(٢) الغاشية ، ٨٨ / ٣.

(٣) الكهف ، ١٨ / ١٠٤.

(٤) عتبة بن ربيعة بن أمية كبير من قريش وأحد ساداتها في الجاهلية ، انقضت حرب الفجار على يده ، أدرك الإسلام وطغى ، شهد بدرا وقتل فيها عام ٢ ه‍ (الأعلام ٤ / ٢٠٠).

(٥) البقرة ، ٢ / ١٩.

(٦) في (ز) فيه.

(٧) زاد في (ز) وكمدا أن لم يجد شيئا.

(٨) في (ظ) و (ز) يهده.

(٩) البيهقي ، كنز العمال ١ / ٥٨٤ و ١٣١٤.

٢١٨

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٤٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) (٤٣)

٤١ ـ (أَلَمْ تَرَ) ألم تعلم يا محمد علما يقوم مقام العيان في الإيقان (أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ) عطف على من (صَافَّاتٍ) حال من الطير ، أي يصففن أجنحتهنّ في الهواء (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) الضمير في علم لكلّ ، أو لله ، وكذا في صلاته وتسبيحه ، والصلاة الدعاء ، ولا (١) يبعد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) لا يعزب عن علمه شيء.

٤٢ ـ (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لأنه خالقهما ومن ملك شيئا فتمليكه (٢) إياه (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) مرجع الكلّ.

٤٣ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي) يسوقه (٣) إلى حيث يريد (سَحاباً) جمع سحابة دليله (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) وتذكيره للفظ ، أي يضم بعضه إلى بعض (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) متراكما بعضه فوق بعض (فَتَرَى الْوَدْقَ) المطر (يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) من فتوقه ومخارجه ، جمع خلل كجبال في جبل (وَيُنَزِّلُ) وينزل مكي وبصري (٤) (مِنَ السَّماءِ) لابتداء الغاية لأن ابتداء الإنزال من السماء (مِنْ جِبالٍ) من للتبعيض لأن ما ينزله الله بعض تلك الجبال التي (فِيها) في السماء (مِنْ بَرَدٍ) للبيان ، أو الأوليان للابتداء والآخرة للتبعيض ، ومعناه أنه ينزّل البرد من السماء من جبال فيها ، وعلى الأول مفعول ينزّل من جبال أي بعض جبال فيها ، ومعنى من جبال فيها من برد أن يخلق الله في السماء جبال برد كما خلق في الأرض جبال حجر ، أو يريد الكثرة بذكر الجبال ، كما يقال فلان يملك جبالا من ذهب (فَيُصِيبُ بِهِ) بالبرد (مَنْ يَشاءُ) أي يصيب الإنسان وزرعه (وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ) فلا يصيبه ، أو يعذّب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء فلا يعذّب به (٥) (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ) ضوؤه (٦) (يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ)

__________________

(١) في (ز) ولم.

(٢) في (ظ) و (ز) فبتمليكه.

(٣) في (ز) يسوق.

(٤) في (ز) مكي ومدني وبصري.

(٥) في (ز) فلا يعذبه.

(٦) في (ز) ضوئه.

٢١٩

(يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤) وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٤٥)

يخطفها (١) ، يذهب يزيد على زيادة الباء.

٤٤ ـ (يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) يصرّفهما في الاختلاف طولا وقصرا أو التعاقب ، (إِنَّ فِي ذلِكَ) في إزجاء السحاب وإنزال الودق والبرد وتقليب الليل والنهار (لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) لذوي العقول ، وهذا من تعديد الدلائل على ربوبيته حيث ذكر تسبيح من في السماوات والأرض وما يطير بينهما ودعاءهم له وتسخير السحاب إلى آخر ما ذكر فهي براهين لائحة على وجوده ودلائل على صفاته لمن نظر وتدبّر. ثم بيّن دليلا آخر ، فقال تعالى :

٤٥ ـ (وَاللهُ خَلَقَ كُلَ) خالق كلّ حمزة وعلي (دَابَّةٍ) كلّ حيوان يدبّ على وجه الأرض (مِنْ ماءٍ) أي من نوع من الماء مختصّ بتلك الدابة ، أو من ماء مخصوص وهو النطفة ، ثم خالف بين المخلوقات من النطفة ، فمنها الهوامّ (٢) ، ومنها بهائم ، ومنها أناسيّ ، وهو كقوله : (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) (٣) وهذا دليل على أنّ لها خالقا ومدبرا ، وإلّا لم تختلف لاتفاق الأصل ، وإنما عرّف الماء في قوله : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) (٤) لأنّ المقصود ثمّ أنّ أجناس الحيوان مخلوقة من جنس الماء ، وأنه هو الأصل وإن تخلّلت بينه وبينها وسائط. قالوا : إنّ أول ما خلق الله الماء ، فخلق منه النار والريح والطين ، فخلق من النار الجنّ ومن الريح الملائكة ومن الطين آدم ودواب الأرض ، ولما كانت الدابة تشمل المميّز وغير المميّز غلب المميّز فأعطي ما وراءه حكمه كأنّ الدواب كلّهم مميزون فمن ثمّ قيل (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) كالحية والحوت وسمّي الزحف على البطن مشيا استعارة كما يقال في الأمر المستمرّ قد مشى هذا الأمر ، أو على طرائق المشاكلة لذكر الزاحف مع الماشين (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ) كالإنسان والطير (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) كالبهائم ، وقدّم ما هو أعرف (٥) في القدرة وهو الماشي

__________________

(١) زاد في (ز) به.

(٢) في (ظ) و (ز) هوام.

(٣) الرعد ، ١٣ / ٤.

(٤) الأنبياء ، ٢١ / ٣٠.

(٥) في (ز) أعرق.

٢٢٠