تفسير النسفي - ج ٣

عبدالله بن أحمد النسفي

تفسير النسفي - ج ٣

المؤلف:

عبدالله بن أحمد النسفي


المحقق: الشيخ مروان محمّد الشعار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٦

سورة الحج

مكية وهي ثمان وسبعون آية

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) (٢)

١ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) أمر بني آدم بالتقوى ، ثم علّل وجوبها عليهم بذكر الساعة ، ووصفها بأهول صفة بقوله (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) لينظروا إلى تلك الصفة ببصائرهم ، ويتصوروها بعقولهم ، حتى يبقوا على أنفسهم ويرحموها من شدائد ذلك اليوم بامتثال ما أمرهم به ربّهم من التردّي بلباس التقوى الذي يؤمنهم من تلك الأفزاع. والزلزلة شدّة التحريك والإزعاج ، وإضافة الزلزلة إلى الساعة إضافة المصدر إلى فاعله ، كأنها هي التي تزلزل الأرض على المجاز الحكمي ، أو إلى الظرف لأنها تكون فيها كقوله : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) (١) ووقتها يكون يوم القيامة أو عند طلوع الشمس من مغربها ، ولا حجة فيها للمعتزلة في تسمية المعدوم شيئا ، فإنّ هذا اسم لها حال وجودها.

٢ ـ وانتصب (يَوْمَ تَرَوْنَها) أي الزلزلة أو الساعة بقوله (تَذْهَلُ) تغفل. والذهول : الغفلة (كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) عن إرضاعها ، أو عن الذي أرضعته ، وهو الطفل ، وقيل مرضعة ليدلّ على أنّ ذلك الهول إذا حدث وقد ألقمت

__________________

(١) سبأ ، ٣٤ / ٣٣.

١٤١

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) (٤)

الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الدهشة ، إذ المرضعة هي التي في حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبيّ ، والمرضع التي شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به (وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ) أي حبلى (حَمْلَها) ولدها قبل تمامه ، عن الحسن : تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام (وَتَرَى النَّاسَ) أيها الناظر (سُكارى) على التّشبيه لمّا شاهدوا بساط العزة وسلطنة الجبروت وسرادق الكبرياء ، حتى قال كلّ نبيّ : نفسي نفسي (وَما هُمْ بِسُكارى) على التحقيق (وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) فخوف عذاب الله هو الذي أذهب عقولهم ، وطيّر تمييزهم ، وردّهم في نحو حال من يذهب السكر بعقله وتمييزه. وعن الحسن : وترى الناس سكارى من الخوف وما هم بسكارى من الشراب. سكرى فيهما بالإمالة حمزة وعليّ ، وهو كعطشى في عطشان. روي أنه نزلت الآيتان ليلا في غزوة بني المصطلق فقرأهما النبيّ عليه‌السلام فلم ير أكثر باكيا من تلك الليلة (١).

٣ ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ) في دين الله (بِغَيْرِ عِلْمٍ) حال ، نزلت في النضر بن الحارث وكان جدلا يقول : الملائكة بنات الله ، والقرآن أساطير الأولين ، والله غير قادر على إحياء من بلي ، أو هي عامة في كلّ من يخاصم في الدين بالهوى (وَيَتَّبِعُ) في ذلك (كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) عات مستمر في الشرّ ، ولا وقف على مريد لأنّ ما بعده صفة (٢).

٤ ـ (كُتِبَ عَلَيْهِ) قضي على الشيطان (أَنَّهُ) أن الأمر والشأن ، وهو فاعل كتب (٣) (مَنْ تَوَلَّاهُ) تبعه ، أي تبع الشيطان (فَأَنَّهُ) فأنّ الشيطان (يُضِلُّهُ) عن سواء السبيل (وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) النار. قال الزّجّاج : الفاء في فأنه للعطف ، وأن مكررة للتأكيد ، ورد عليه أبو علي وقال : إنّ من إن كان للشرط فالفاء دخل لجزاء الشرط ، وإن كان بمعنى الذي فالفاء دخل على خبر المبتدأ ، والتقدير فالأمر أنه يضلّه ، قال : والعطف والتأكيد يكون بعد تمام الأول ، والمعنى كتب على الشيطان

__________________

(١) رواه الترمذي والنسائي والحاكم.

(٢) في (ز) صفته.

(٣) سقطت هذه العبارة من (ز).

١٤٢

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (٥)

إضلال من تولاه وهدايته إلى النار.

ثم ألزم الحجة على منكري البعث فقال :

٥ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) يعني إن ارتبتم في البعث فمزيل ريبكم أن تنظروا في بدء خلقكم وقد كنتم في الابتداء ترابا وماء وليس سبب إنكاركم البعث إلا هذا ، وهو صيرورة الخلق ترابا وماء (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ) أي أباءكم (١) (مِنْ تُرابٍ ثُمَ) خلقتم (مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) أي قطعة دم جامدة (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ) أي لحمة صغيرة قدر ما يمضغ (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) المخلقة المسوّاة الملساء من النقصان والعيب ، كأن الله عزوجل يخلق المضغ (٢) متفاوتة منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب ، ومنها ما هو على عكس ذلك ، فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصانهم ، وإنما نقلناكم من حال إلى حال ومن خلقة إلى خلقة (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) بهذا التدريج ، كمال قدرتنا وحكمتنا وأنّ من قدر على خلق البشر من تراب أولا ثم من نطفة ثانيا ، ولا مناسبة بين التراب والماء ، وقدر أن يجعل النطفة علقة ، والعلقة مضغة ، والمضغة عظاما ، قادر على إعادة ما بدأه (وَنُقِرُّ) بالرفع عند غير المفضّل ، مستأنف بعد وقف ، أي نحن نثبت (فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ) ثبوته (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي وقت الولادة ، وما لم نشأ ثبوته أسقطته الأرحام (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ) من الرحم (طِفْلاً) حال ، وأريد به الجنس فلذا لم يجمع ، أو أريد به ثم نخرج كلّ واحد منكم طفلا (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا) ثم نربيكم لتبلغوا (أَشُدَّكُمْ) كمال عقلكم وقوتكم ، وهو من ألفاظ الجموع التي لم (٣) يستعمل لها واحد (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى) عند بلوغ الأشدّ أو قبله أو بعده (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) أخسّه ، يعني الهرم والخرف (لِكَيْلا

__________________

(١) في (ظ) و (ز) أباكم.

(٢) في (ز) المضغة.

(٣) في (ظ) و (ز) لا.

١٤٣

ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) (١٠)

(يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) أي لكيلا يعلم شيئا من بعد ما كان يعلمه ، أو لكيلا يستفيد علما وينسى ما كان عالما به ، ثم ذكر دليلا آخر على البعث فقال (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً) ميتة يابسة (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ) تحركت بالنبات (وَرَبَتْ) وانتفخت. وربأت حيث كان يزيد ارتفعت (وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) صنف (بَهِيجٍ) حسن سارّ للناظر (١) إليه.

٦ ـ (ذلِكَ) مبتدأ خبره (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) أي ذلك الذي ذكرنا من خلق بني آدم وإحياء الأرض مع ما في تضاعف (٢) ذلك من أصناف الحكم حاصل بهذا وهو أنّ الله هو الحقّ أي الثابت الوجود (وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى) كما أحيا الأرض (وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) قادر.

٧ ـ (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) أي أنه حكيم لا يخلف ميعاده (٣) وقد وعد الساعة والبعث فلا بدّ أن يفي بما وعد.

٨ ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ) في صفاته فيصفه بغير ما هو له. نزلت في أبي جهل (بِغَيْرِ عِلْمٍ) ضروري (وَلا هُدىً) أي استدلاليّ (٤) ، لأنه يهدي إلى المعرفة (وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) أي وحي ، والعلم للإنسان من أحد هذه الوجوه الثلاثة.

٩ ـ (ثانِيَ عِطْفِهِ) حال ، أي لاويا عنقه عن طاعة الله كبرا وخيلاء (٥) (لِيُضِلَ) تعليل للمجادلة. ليضل مكي وأبو عمرو (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) دينه (لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) أي القتل يوم بدر (وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ) أي جمع له عذاب الدارين.

١٠ ـ (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) أي السبب في عذاب الدارين هو ما قدّمت نفسه

__________________

(١) في (ظ) و (ز) للناظرين.

(٢) في (ظ) و (ز) تضاعيف.

(٣) في (ز) الميعاد.

(٤) في (ظ) و (ز) استدلال.

(٥) زاد في (ظ) و (ز) وعن الحسن ثاني عطفه بفتح العين أي مانع لعطفه إلى غيره.

١٤٤

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) (١٢)

من الكفر والتكذيب ، وكنّى عنها باليد لأنّ اليد آلة الكسب (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) فلا يأخذ أحدا بغير ذنب ولا بذنب غيره ، وهو عطف على بما أي وبأنّ الله. وذكر الظلام بلفظ المبالغة لاقترانه بلفظ الجمع وهو العبيد ، ولأن قليل الظلم منه مع علمه بقبحه واستغنائه كالكثير منا.

١١ ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) على طرف من الدين لا في وسطه وقلبه ، وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم لا على سكون وطمأنينة ، وهو حال أي مضطربا (فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ) صحة في جسمه وسعة في معيشته (اطْمَأَنَ) سكن واستقرّ (بِهِ) بالخير الذي أصابه أو بالدين فيعبد (١) الله (وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ) شرّ وبلاء في جسده وضيق في معيشته (انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) جهته ، أي ارتدّ ورجع إلى الكفر كالذي يكون علي طرف من العسكر فإن أحس بظفر وغنيمة قرّ واطمأن وإلا فرّ وطار على وجهه. قالوا نزلت في أعاريب قدموا المدينة مهاجرين وكان أحدهم إذا صحّ بدنه ، ونتجت فرسه مهرا سويا ، وولدت امرأته غلاما سويا ، وكثر ماله وماشيته قال : ما أصبت منذ دخلت في ديني هذا إلا خيرا واطمأن ، وإن كان الأمر بخلافه قال : ما أصبت إلا شرّا وانقلب عن دينه (٢) (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) حال ، وقد مقدّرة دليله قراءة روح (٣) وزيد (٤) خاسر الدنيا والآخرة ، والخسران في الدنيا بالقتل فيها ، وفي الآخرة بالخلود في النار (ذلِكَ) أي خسران الدارين (هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) الظاهر الذي لا يخفى على أحد.

١٢ ـ (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ) يعني الصنم ، فإنه بعد الردة يفعل كذلك (ما لا يَضُرُّهُ) إن لم يعبده (وَما لا يَنْفَعُهُ) إن عبده (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) عن الصواب.

__________________

(١) في (ظ) و (ز) فعبد.

(٢) أخرجه البخاري بنحوه عن ابن عباس.

(٣) روح : روح بن عبد المؤمن ويكنى أبا الحسن الهذلي مولاهم البصري النحوي روى عنه البخاري في صحيحه مات سنة ٢٣٤ ه‍ (غاية النهاية ١ / ٢٨٥).

(٤) زيد : هو زيد بن أحمد بن أبي إسحاق ويكنى أبا علي الحضرمي ، روى القراءة عرضا عن عمه يعقوب بن إسحاق الحضرمي (غاية النهاية ١ / ٢٩٦).

تفسير النسفي ج ٣ / م ١٠

١٤٥

(يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) (١٦)

١٣ ـ (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) والإشكال أنه تعالى نفى الضّرّ والنفع عن الأصنام قبل هذه الآية وأثبتهما لها هنا ، والجواب أنّ المعنى إذا فهم ذهب هذا الوهم ، وذلك أنّ الله تعالى سفّه هذا (١) الكافر بأنه يعبد جمادا لا يملك ضرّا ولا نفعا ، وهو يعتقد فيه أنه ينفعه ، ثم قال يوم القيامة يقول هذا الكافر بدعاء وصراخ حين يرى استضراره بالأصنام ولا يرى لها أثر الشفاعة لمن ضرّه أقرب من نفعه (لَبِئْسَ الْمَوْلى) أي الناصر (٢) (وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) الصاحب (٣) ، أو كرّر يدعو كأنه قال يدعو من دون الله ما لا يضرّه وما لا ينفعه ، ثم قال لمن ضره بكونه معبودا أقرب من نفعه بكونه شفيعا.

١٤ ـ (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) هذا وعد لمن عبد الله بكلّ حال لا لمن عبد الله على حرف.

١٥ ـ (مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) المعنى أنّ الله ناصر رسوله في الدنيا والآخرة فمن ظنّ من أعاديه غير ذلك (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ) بحبل (إِلَى السَّماءِ) أي (٤) سماء بيته (ثُمَّ لْيَقْطَعْ) ثم ليختنق به ، وسمى الاختناق قطعا لأنّ المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه. وبكسر اللام بصري وشامي (فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ) أي الذي يغيظه ، أو ما مصدرية أي غيظه ، والمعنى فليصوّر في نفسه أنه إن فعل ذلك هل يذهب نصر الله الذي يغيظه ، وسمّي فعله كيدا على سبيل الاستهزاء لأنه لم يكد به محسوده إنما كاد به نفسه ، والمراد ليس في يده إلا ما ليس بمذهب لما يغيظ.

١٦ ـ (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ) ومثل ذلك الإنزال أنزل القرآن كلّه (آياتٍ بَيِّناتٍ) واضحات (وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) أي ولأنّ الله يهدي به الذين يعلم أنهم يؤمنون ، أو يثبّت الذين آمنوا ويزيدهم هدى أنزله كذلك مبيّنا.

__________________

(١) ليس في (ظ) و (ز) هذا.

(٢) زاد في (ز) الصاحب.

(٣) في (ز) المصاحب.

(٤) في (ظ) و (ز) إلى.

١٤٦

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (١٨) هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ) (١٩)

١٧ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) قيل الأديان خمسة أربعة للشيطان وواحد للرحمن ، والصابئون نوع من النصارى فلا تكون ستة (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) في الأحوال والأماكن فلا يجازيهم جزاء واحدا ولا يجمعهم في موطن واحد ، وخبر إنّ الذين آمنوا إنّ الله يفصل بينهم ، كما تقول إنّ زيدا إنّ أباه قائم (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) عالم به حافظ له ، فلينظر كلّ امرئ معتقده وقوله وفعله ، وهو أبلغ وعيد.

١٨ ـ (أَلَمْ تَرَ) ألم تعلم يا محمد علما يقوم مقام العيان (أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُ) قيل إنّ الكلّ يسجد له ولكنا لا نقف عليه كما لا نقف على تسبيحها ، قال الله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (١) وقيل سميت (٢) مطاوعة غير المكلّف له فيما يحدث فيه من أفعاله وتسخيره له سجودا له تشبيها لمطاوعته بسجود المكلّف الذي كلّ خضوع دونه (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) أي ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة وعبادة ، أو هو مرفوع على الابتداء ، ومن الناس صفة له ، والخبر محذوف وهو مثاب ويدلّ عليه قوله (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) أي وكثير منهم حقّ عليه العذاب بكفره وإبائه السجود (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ) بالشقاوة (فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) بالسعادة (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) من الإكرام والإهانة وغير ذلك ، وظاهر هذه الآية والتي قبلها ينقض على المعتزلة قولهم لأنهم يقولون شاء أشياء ولم يفعل وهو يقول يفعل ما يشاء.

١٩ ـ (هذانِ خَصْمانِ) أي فريقان مختصمان ، فالخصم صفة وصف بها

__________________

(١) الإسراء ، ١٧ / ٤٤.

(٢) في (ز) سمي.

١٤٧

(يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) (٢٣)

الفريق ، وقوله (اخْتَصَمُوا) للمعنى ، وهذان للفظ ، والمراد المؤمنون والكافرون ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما رجع إلى أهل الأديان المذكورة ، فالمؤمنون خصم وسائر الخمسة خصم (فِي رَبِّهِمْ) في دينه وصفاته ، ثم بيّن جزاء كلّ خصم بقوله (فَالَّذِينَ كَفَرُوا) وهو فصل الخصومة ، المعنيّ بقوله إن الله يفصل بينهم يوم القيامة (قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) كأنّ الله يقدّر لهم نيرانا على مقادير جثتهم تشتمل عليهم كما تقطّع الثياب الملبوسة ، واختير لفظ الماضي لأنه كائن لا محالة فهو كالثابت المتحقق (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ) بكسر الهاء والميم بصري ، وبضمهما حمزة وعليّ وخلف وبكسر الهاء وضم الميم غيرهم (الْحَمِيمُ) الماء الحارّ ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : لو سقطت منه نقطة على جبال الدنيا لأذابتها.

٢٠ ـ (يُصْهَرُ) يذاب (بِهِ) بالحميم (ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ) أي يذيب أمعاءهم وأحشاءهم كما يذيب جلودهم فيؤثر في الظاهر والباطن.

٢١ ـ (وَلَهُمْ مَقامِعُ) سياط مختصة بهم (مِنْ حَدِيدٍ) يضربون بها.

٢٢ ـ (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها) من النار (مِنْ غَمٍ) بدل الاشتمال من منها بإعادة الجار ، أو الأولى لابتداء الغاية والثانية بمعنى من أجل ، يعني كلّما أرادوا الخروج من النار من أجل غم يلحقهم فخرجوا (أُعِيدُوا فِيها) بالمقامع ، ومعنى الخروج عند الحسن : أنّ النار تضربهم بلهبها فتلقيهم إلى أعلاها ، فضربوا بالمقامع فهووا فيها سبعين خريفا ، والمراد إعادتهم إلى معظم النار لا أنهم ينفصلون عنها بالكلّية ثم يعودون إليها (وَذُوقُوا) أي وقيل لهم ذوقوا (عَذابَ الْحَرِيقِ) هو الغليظ من النار المنتشر العظيم الإهلاك. ثم ذكر جزاء الخصم الآخر فقال:

٢٣ ـ (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ) جمع أسورة جمع سوار (مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً) بالنصب مدني وعاصم وعليّ ، ويؤتون لؤلؤا ، وبالجر غيرهم عطفا على من ذهب ، وبترك الهمزة الأولى في كلّ القرآن أبو بكر وحماد (وَلِباسُهُمْ فِيها

١٤٨

وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥) وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (٢٦)

(حَرِيرٌ) إبريسم (١).

٢٤ ـ (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) أي أرشد هؤلاء في الدنيا إلى كلمة التوحيد وإلى صراط الحميد أي الإسلام ، أو هداهم الله في الآخرة وألهمهم أن يقولوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وهداهم إلى طريق الجنة ، والحميد الله المحمود بكلّ لسان.

٢٥ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي يمنعون عن الدخول في الإسلام ، ويصدون حال من فاعل كفروا أي وهم يصدون ، أي الصدود منهم مستمر دائم كما يقال فلان يحسن إلى الفقراء فإنه يراد به استمرار وجود الإحسان منه لا (٢) الحال والاستقبال (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي ويصدون عن المسجد الحرام والدخول فيه (الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ) مطلقا من غير فرق بين حاضر وباد ، فإن أريد بالمسجد الحرام مكة ففيه دليل على أنه لا تباع دور مكة ، وإن أريد به البيت فالمعنى أنه قبلة لجميع الناس (سَواءً) بالنصب حفص ، مفعول ثان لجعلناه أي جعلناه مستويا (الْعاكِفُ) المستقيم (فِيهِ وَالْبادِ) وغير المقيم (٣) بالياء مكي ، وافقه أبو عمرو في الوصل ، وغيره بالرفع على أنه خبر والمبتدأ مؤخر أي العاكف فيه والباد سواء ، والجملة مفعول ثان ، وللناس حال (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ) في المسجد الحرام (بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) حالان مترادفان ، ومفعول يرد متروك ليتناول كلّ متناول كأنه قال ومن يرد فيه مرادا مّا عادلا عن القصد ظالما ، فالإلحاد العدول عن القصد (نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) في الآخرة ، وخبر إنّ محذوف لدلالة جواب الشرط عليه تقديره إنّ الذين كفروا ويصدون عن المسجد الحرام نذيقهم من عذاب أليم ، وكل من ارتكب فيه ذنبا فهو كذلك.

٢٦ ـ (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) واذكر يا محمد حين جعلنا

__________________

(١) ابريسم : بفتح السين وضمها الحرير (القاموس ٤ / ٧٩).

(٢) في (ز) في.

(٣) في (ز) : (الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) وغير المقيم.

١٤٩

(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (٢٧)

لإبراهيم مكان البيت مباءة ، أي مرجعا يرجع إليه للعمارة والعبادة ، وقد رفع البيت إلى السماء أيام الطوفان ، وكان من ياقوتة حمراء ، فأعلم الله إبراهيم مكانه بريح أرسلها ، فكنست مكان البيت ، فبناه على أسّه القديم (أَنْ) هي المفسرة للقول المقدر ، أي قائلين له (لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ) من الأصنام والأقذار ، وبفتح الياء مدني وحفص (لِلطَّائِفِينَ) لمن يطوف به (وَالْقائِمِينَ) والمقيمين بمكة (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) أي (١) المصلين جمع راكع وساجد.

٢٧ ـ (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ) ناد فيهم ، والحجّ هو القصد البليغ إلى مقصد منيع. روي أنه صعد أبا قبيس فقال : يا أيها الناس حجّوا بيت ربّكم ، فأجاب من قدّر له أن يحجّ من الأصلاب والأرحام بلبيك اللهم لبيك (٢). وعن الحسن أنه خطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر أن يفعل ذلك في حجة الوداع ، والأول أظهر ، وجواب الأمر (يَأْتُوكَ رِجالاً) مشاة جمع راجل كقائم وقيام (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) حال معطوفة على رجال ، كأنه قال رجالا وركبانا ، والضامر البعير المهزول ، وقدّم الرّجال على الركبان إظهارا لفضيلة المشاة كما ورد في الحديث (يَأْتِينَ) صفة لكلّ ضامر ، لأنه في معنى الجمع ، وقرأ عبد الله يأتون صفة للرجال والرّكبان (مِنْ كُلِّ فَجٍ) طريق (عَمِيقٍ) بعيد ، قال محمد بن ياسين (٣) : قال لي شيخ في الطواف : من أين أنت؟ فقلت : من خراسان : قال : كم بينكم وبين البيت؟ قلت : مسيرة شهرين أو ثلاثة ، قال : فأنتم جيران البيت ، فقلت : أنت من أين جئت؟ قال : من مسيرة خمس سنوات ، وخرجت وأنا شاب فاكتهلت ، قلت : والله هذه الطاعة الجميلة والمحبة الصادقة فقال (٤) :

__________________

(١) ليست في (ز).

(٢) الطبري عن ابن عباس بلفظ قام إبراهيم خليل الله على الحجر فنادى. وأبو قبيس اسم الجبل المشرف على مكة (معجم البلدان ١ / ١٠٣).

(٣) محمد بن ياسين : هو أحد اثنين ولا توجد قرينة تدل على أي منهما هو المقصود : الأول أبو بكر الباهلي ، الفقيه النيسابوري ، يروي عن إسحاق بن راهويه وعثمان بن أبي شيبة توفي سنة ٢٩٣ ه‍. والثاني أبو أحمد النيسابوري الفقيه ولي قضاء بلده وكذلك ابنه ، سمع محمد بن رافع وعلي بن سعد النسوي توفي في عام ٣٠٢ ه‍ (تاريخ الإسلام ، أحداث ووفيات عام ٢٩١ ـ ٣٠٠ ه‍ و ٣٠١ ـ ٣٢٠ ه‍).

(٤) لم أصل إلى أصله.

١٥٠

(لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) (٢٨)

زر من هويت وإن شطّت بك الدار

وحال من دونه حجب وأستار

لا يمنعنّك بعد عن زيارته

إنّ المحبّ لمن يهواه زوّار

٢٨ ـ واللام في (لِيَشْهَدُوا) ليحضروا متعلق بأذّن أو بيأتوك (مَنافِعَ لَهُمْ) نكّرها لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية (١) لا توجد في غيرها من العبادة ، وهذا لأنّ العبادة شرعت للابتلاء بالنفس كالصلاة والصوم أو بالمال كالزكاة ، وقد اشتمل الحجّ عليهما مع ما فيه من تحمّل الأثقال ، وركوب الأهوال ، وخلع الأسباب (٢) ، وقطيعة الأصحاب ، وهجرة البلاد والأوطان ، وفرقة الأولاد والخلان ، والتنبيه على ما يستمرّ عليه إذا انتقل من دار الفناء إلى دار البقاء ، فالحاجّ إذا دخل البادية لا يتكل فيها إلا على عتاده ، ولا يأكل إلا من زاده ، فكذا المرء إذا خرج من شاطئ الحياة وركب بحر الوفاء ، لا ينفع وحدته إلا ما سعى في معاشه لمعاده ، ولا يؤنس وحشته إلا ما كان يأنس به من أوراده ، وغسل من يحرم ، وتأهبه ، ولبسه غير المخيط ، وتطيبه ، مرآة لما سيأتي عليه من وضعه على سريره لغسله ، وتجهيزه مطيبا بالحنوط ، ملففا في كفن غير مخيط ، ثم المحرم يكون أشعث حيران ، فكذا يوم الحشر يخرج من القبر لهفان ، ووقوف الحجيج بعرفات آملين رغبا ورهبا ، سائلين خوفا وطمعا ، وهم من بين مقبول ومخذول ، كموقف العرصات (٣) لا تكلّم نفس إلّا بإذنه ، فمنهم شقي وسعيد ، والإفاضة إلى المزدلفة بالمساء هو السوق لفصل القضاء ، ومنى هو موقف المنى للمذنبين إلى شفاعة الشافعين ، وحلق الرأس والتنظيف ، كالخروج من السيئات بالرحمة والتخفيف ، والبيت الحرام الذي من دخله كان آمنا من الإيذاء والقتال ، أنموذج لدار السلام التي هي من نزلها بقي سالما من الفناء والزوال ، غير أنّ الجنة حفّت بمكاره النفس العادية ، كما أنّ الكعبة حفّت بمتالف البادية ، فمرحبا بمن جاوز مهالك البوادي ، شوقا إلى اللقاء يوم التنادي (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ) عند الذبح (فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) هي عشر ذي الحجة عند أبي حنيفة رحمه‌الله ، وآخرها يوم النحر ، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما وأكثر المفسرين رحمهم‌الله ، وعند صاحبيه هي

__________________

(١) زاد في (ز) ودنيوية.

(٢) خلع الأسباب : خيار المال (انظر القاموس ٣ / ١٩).

(٣) العرصات : جمع عرصة وهي كل بقعة بين الدور واسعة ليس فيها بناء.

١٥١

(ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (٢٩)

أيام النحر ، وهو قول ابن عمر رضي الله عنهما (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) أي على ذبحه ، وهو يؤيد قولهما ، والبهيمة مبهمة في كلّ ذات أربع في البرّ والبحر ، فبيّنت بالأنعام وهي الإبل والبقر والضأن والمعز (فَكُلُوا مِنْها) من لحومها ، والأمر للإباحة ، ويجوز الأكل من هدي التطوع والمتعة والقران لأنه دم نسك فأشبه الأضحية ، ولا يجوز الأكل من بقية الهدايا (وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ) الذي أصابه بؤس أي شدة (الْفَقِيرَ) الذي أضعفه الإعسار.

٢٩ ـ (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) ثم ليزيلوا عنهم أدرانهم ، كذا قاله نفطويه (١) ، قيل قضاء التّفث قصّ الشارب والأظفار ونتف الإبط والاستحداد (٢) ، والتّفث : الوسخ ، والمراد قضاء إزالة التفث ، وقال ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما : قضاء التفث مناسك الحجّ كلّها (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) مواجب حجّهم ، والعرب تقول لكلّ من خرج عما وجب عليه : وفّى بنذره وإن لم ينذر ، أو ما ينذرونه من أعمال البرّ في حجّهم ، وليوفّوا بسكون اللام والتشديد أبو بكر (وَلْيَطَّوَّفُوا) طواف الزيارة الذي هو ركن الحجّ ويقع به تمام التحلّل. اللامات الثلاث ساكنة عند غير ابن عياش وأبي عمرو (بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) القديم لأنه أول بيت وضع للناس بناه آدم ثم جدّده إبراهيم ، أو الكريم ومنه عتاق الخيل لكرائمها وعتاق الرقيق الخروج (٣) من ذلّ العبودية إلى كرم الحرية ، أو لأنه أعتق من الغرق لأنه رفع زمن الطوفان ، أو من أيدي الجبابرة ، كم من جبار سار إليه ليهدمه فمنعه الله ، أو من أيدي الملّاك فلم يملّك قط ، وهو مطاف أهل الغبراء كما أنّ العرش مطاف أهل السماء ، فإنّ الطالب إذا هاجته ميعة (٤) الطرب ، وجذبته جواذب الطلب ، جعل يقطع مناكب الأرض مراحل ، ويتخذ مسالك المهالك منازل ، فإذا عاين البيت لم يزده التسلي به إلا اشتياقا ، ولم يفده التشفي باستلام الحجر إلا احتراقا فيذبذبه (٥) الأسف لهفان ويردّده (٦) اللهف حوله في الدوران ، وطواف الزيارة آخر فرائض الحجّ الثلاث ، وأولها الإحرام ، وهو عقد

__________________

(١) نفطويه : هو إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي العتكي ، أبو عبد الله ، من أحفاد المهلب بن أبي صفرة ، إمام في النحو وكان فقيها ورأسا في مذهب داود الظاهري ، مسندا في الحديث ، ثقة ، ولد عام ٢٤٤ ه‍ ومات عام ٣٢٣ ه‍ (الأعلام ١ / ٦١).

(٢) الاستحداد : حلق شعر العانة.

(٣) في (ز) لخروجه.

(٤) في (ز) معيه.

(٥) في (ز) فيرده.

(٦) في (ز) ويرده.

١٥٢

(ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) (٣٠)

الالتزام ، يشبه الاعتصام بعروة الإسلام حتى لا يرتفض بارتكاب ما هو محظور فيه ، ويبقى عقده مع ما يفسده وينافيه ، كما أنّ عقد الإسلام لا ينحلّ بازدحام الآثام ، وترتفع ألف حوبة بتوبة ، وثانيها الوقوف بعرفات بسمة الابتهال ، في صفة الاهتبال ، وصدق الاعتزال ، عن دفع الاتكال ، على مراتب الأعمال ، وشواهد الأحوال.

٣٠ ـ (ذلِكَ) خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك ، أو تقديره ليفعلوا ذلك (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ) الحرمة ما لا يحلّ هتكه ، وجميع ما كلّفه الله عزوجل بهذه الصفة من مناسك الحجّ وغيرها ، فيحتمل أن يكون عاما في جميع تكاليفه ، ويحتمل أن يكون خاصا بما يتعلق بالحجّ ، وقيل حرمات الله : البيت الحرام ، والمشعر الحرام ، والشهر الحرام ، والبلد الحرام ، والمسجد الحرام (فَهُوَ) أي التعظيم (خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) ومعنى التعظيم العلم بأنها واجبة المراعاة والحفظ ، والقيام بمراعاتها (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ) أي أكلها (١) (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) آية تحريمه ، وذلك قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) (٢) الآية ، والمعنى أنّ الله تعالى أحلّ لكم الأنعام (٣) إلا ما بيّن في كتابه ، فحافظوا على حدوده ، ولا تحرموا شيئا مما أحلّ كتحريم البحيرة ونحوها ، ولا تحلّوا مما حرّم كإحلالهم أكل الموقوذة والميتة وغيرهما.

ولما حثّ على تعظيم حرماته أتبعه الأمر باجتناب الأوثان وقول الزور بقوله (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) لأنّ ذلك من أعظم الحرمات وأسبقها (٤) ، ومن الأوثان بيان للرجس لأنّ الرجس مبهم يتناول غير شيء ، كأنه قيل فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان ، وسمّى الأوثان رجسا على طريقة التشبيه ، يعني أنكم كما تنفرون بطباعكم عن الرجس فعليكم أن تنفروا عنها ، وجمع بين الشرك وقول الزور أي الكذب والبهتان ، أو شهادة الزور وهو من الزّور وهو الانحراف لأنّ الشرك من باب الزور إذ المشرك زاعم أنّ الوثن يحقّ له العبادة.

__________________

(١) في (ز) كلها.

(٢) المائدة ، ٥ / ٣.

(٣) زاد في (ز) كلها.

(٤) زاد في (ز) حظرا.

١٥٣

(حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) (٣٤)

٣١ ـ (حُنَفاءَ لِلَّهِ) مسلمين (غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) حال كحنفاء (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ) سقط (مِنَ السَّماءِ) إلى الأرض (فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ) أي تستلبه (١) بسرعة ، فتخطّفه أي تتخطفه مدني (أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ) أي تسقطه ، والهويّ السقوط (فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) بعيد ، يجوز أن يكون هذا تشبيها مركبا ، ويجوز أن يكون مفرّقا ، فإن كان تشبيها مركبا فكأنه قال من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس بعده بأن صوّر حاله بصورة حال من خرّ من السماء فاختطفته الطير فتفرّق قطعا في حواصلها ، أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المهالك البعيدة ، وإن كان مفرّقا فقد شبّه الإيمان في علوّه بالسماء والذي أشرك بالله بالساقط من السماء ، والأهواء المردية بالطير المتخطفة والشيطان الذي هو يوقعه في الضلال بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة.

٣٢ ـ (ذلِكَ) أي الأمر ذلك (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ) تعظيم الشعائر ، وهي الهدايا ، لأنها من معالم الحجّ أن يختارها عظام الأجرام حسانا سمانا (٢) ، غالية الأثمان (فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) أي فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب ، فحذفت هذه المضافات ، وإنما ذكرت القلوب لأنها مراكز التقوى.

٣٣ ـ (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ) من الركوب عند الحاجة وشرب ألبانها عند الضرورة (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) إلى أن تنحر (ثُمَّ مَحِلُّها) أي وقت وجوب نحرها منتهية (إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) والمراد نحرها في الحرم الذي هو في حكم البيت إذ الحرم حريم البيت ، ومثله في الاتساع قولك بلغت البلد وإنما اتصل مسيرك بحدوده ، وقيل الشعائر المناسك كلّها ، وتعظيمها إتمامها ، ومحلّها إلى البيت العتيق باباه (٣).

٣٤ ـ (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ) جماعة مؤمنة قبلكم (جَعَلْنا مَنْسَكاً) حيث كان بكسر

__________________

(١) في (ز) تسلبه.

(٢) في (ز) ثمانا.

(٣) في (ظ) ياباه ، وفي (ز) يأباه.

١٥٤

(الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥) وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٣٦)

السين بمعنى الموضع عليّ وحمزة أي موضع قربان ، وغيرهما بالفتح على المصدر أي إراقة الدماء وذبح القرابين (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ) دون غيره (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) أي عند نحرها وذبحها (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) أي اذكروا على الذبح اسم الله وحده فإنّ إلهكم إله واحد ، وفيه دليل على أنّ ذكر اسم الله شرط الذبح ، يعني أنّ الله تعالى شرع لكلّ أمة أن ينسكوا له ، أي يذبحوا له على وجه التقرّب ، وجعل العلة في ذلك أن يذكر اسمه تقدّست أسماؤه على النسائك وقوله (فَلَهُ أَسْلِمُوا) أي أخلصوا له الذكر خاصة ، واجعلوه له سالما ، أي خالصا لا تشوبوه بإشراك (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) المطمئنين بذكر الله ، أو المتواضعين الخاشعين ، من الخبت وهو المطمئن من الأرض ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا ، وقيل تفسيره ما بعده (١).

٣٥ ـ (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ) خافت (قُلُوبُهُمْ) منه هيبة (٢) (وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ) من المحن والمصائب (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ) في أوقاتها (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) يتصدّقون.

٣٦ ـ (وَالْبُدْنَ) جمع بدنة سمّيت لعظم بدنها ، وفي الشريعة يتناول الإبل والبقر ، وقرئ برفعها وهو كقوله : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ) (٣) (جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) أي من أعلام الشريعة التي شرعها الله ، وإضافتها إلى اسمه تعظيم لها ، ومن شعائر الله ثاني مفعولي جعلنا (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) النفع في الدنيا والأجر في العقبى (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها) عند نحرها (صَوافَ) حال من الهاء ، أي قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) وجوب الجنوب وقوعها على الأرض من وجب الحائط وجبة إذا سقط ، أي إذا سقطت جنوبها على الأرض بعد نحرها وسكنت حركتها

__________________

(١) زاد في (ظ) و (ز) أي.

(٢) في (ظ) و (ز) : (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) خافت منه هيبة.

(٣) يس ، ٣٦ / ٣٩.

١٥٥

(لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧) إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (٣٩)

(فَكُلُوا مِنْها) إن شئتم (وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ) السائل من قنعت إليه إذا خضعت له وسألته قنوعا (وَالْمُعْتَرَّ) الذي يريك نفسه ويتعرض ولا يسأل ، وقيل القانع الراضي بما عنده وبما يعطى من غير سؤال ، من قنعت قنعا وقناعة ، والمعترّ المتعرض بالسؤال (١) (كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ) أي كما أمرناكم بنحرها سخّرناها لكم ، أو هو كقوله : (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ) ثم استأنف فقال سخرناها لكم أي ذلّلناها لكم مع قوتها وعظم أجرامها لتتمكنوا من نحرها (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) لكي تشكروا إنعام الله عليكم.

٣٧ ـ (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) أي لن يتقبل الله اللحوم والدماء ولكن يتقبل التقوى ، أو لن يصيب رضا الله اللحوم المتصدق بها ولا الدماء المراقة بالنحر ، والمراد أصحاب اللحوم والدماء ، والمعنى لن يرضي المضحّون والمقرّبون ربّهم إلا بمراعاة النية والإخلاص ورعاية شروط التقوى ، وقيل كان أهل الجاهلية إذا نحروا الإبل نضحوا الدماء حول البيت ولطخوه بالدم ، فلما حجّ المسلمون أرادوا مثل ذلك فنزلت (٢) (كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ) أي البدن (لِتُكَبِّرُوا اللهَ) لتسمّوا الله عند الذبح ، أو لتعظّموا الله (عَلى ما هَداكُمْ) على ما أرشدكم إليه (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) الممتثلين أوامره بالثواب.

٣٨ ـ (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ) (٣) مكي وبصري ، وغيرهما يدافع أي يبالغ في الدفع عنهم (عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) أي يدفع غائلة المشركين عن المؤمنين ، ونحوه (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) (٤) ثم علل ذلك بقوله (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ) في أمانة الله (كَفُورٍ) لنعمة الله ، أي لأنه لا يحبّ أضدادهم وهم الخونة الكفرة الذين يخونون الله والرسول ويخونون أماناتهم ويكفرون نعم الله ويغمطونها.

٣٩ ـ (أُذِنَ) مدني وبصري وعاصم (لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ) بفتح التاء مدني وشامي وحفص ، والمعنى أذن لهم في القتال فحذف المأذون فيه لدلالة يقاتلون عليه (بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) بسبب كونهم مظلومين ، وهم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مشركو

__________________

(١) في (ز) للسؤال.

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن جريج.

(٣) في مصحف النسفي يدفع وهي قراءة.

(٤) غافر ، ٤٠ / ٥١.

١٥٦

(الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) (٤١)

مكة يؤذونهم أذّى شديدا ، وكانوا يأتون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بين مضروب ومشجوج يتظلّمون إليه ، فيقول لهم : اصبروا فإني لم أومر بالقتال ، حتى هاجر فأنزلت هذه الآية (١) ، وهي أول آية أذن فيها بالقتال بعد ما نهي عنه في نيف وسبعين آية (وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ) على نصر المؤمنين (لَقَدِيرٌ) قادر ، وهو بشارة للمؤمنين بالنّصرة ، وهو مثل قوله (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا).

٤٠ ـ (الَّذِينَ) في محلّ جر بدل من للذين ، أو نصب بأعني ، أو رفع بإضمارهم (أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) بمكة (بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) أي بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب التمكين لا موجب الإخراج ، ومثله : (هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ) (٢) ومحلّ أن يقولوا جر بدل من حق ، والمعنى ما أخرجوا من ديارهم إلا بسبب قولهم (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ) دفاع مدني ويعقوب (النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ) وبالتخفيف حجازي (صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ) أي لو لا إظهاره وتسليطه المسلمين على الكافرين بالمجاهدة لاستولى المشركون على أهل الملل المختلفة في أزمنتهم وعلى متعبّداتهم فهدموها ، ولم يتركوا للنصارى بيعا ، ولا لرهبانهم صوامع ، ولا لليهود صلوات أي كنائس وسميت الكنيسة صلاة لأنها يصلّى فيها ، ولا للمسلمين مساجد ، أو لغلب المشركون في أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المسلمين وعلى أهل الكتاب الذين في ذمتهم ، وهدموا متعبّدات الفريقين ، وقدّم غير المساجد عليها لتقدّمها وجودا أو لقربها من التهديم (يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً) في المساجد ، أو في جميع ما تقدّم (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) أي ينصر دينه وأولياءه (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌ) على نصر أوليائه (عَزِيزٌ) على انتقام أعدائه.

٤١ ـ (الَّذِينَ) محلّه نصب بدل من من ينصره ، أو جر تابع للذين أخرجوا (إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ

__________________

(١) قال ابن حجر : عزاه الواحدي في «الوسيط» للمفسرين ، وهو منتزع من أحاديث.

(٢) المائدة ، ٥ / ٥٩.

١٥٧

وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) (٤٥)

(الْمُنْكَرِ) هو إخبار من الله عما ستكون عليه سيرة المهاجرين إن مكّنهم في الأرض وبسط لهم في الدنيا ، وكيف يقومون بأمر الدين ، وفيه دليل صحة أمر الخلفاء الراشدين لأنّ الله عزوجل أعطاهم التمكين ونفاذ الأمر مع السيرة العادلة ، وعن الحسن : هم أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) أي مرجعها إلى حكمه وتقديره ، وفيه تأكيد لما وعده من إظهار أوليائه وإعلاء كلمته.

٤٢ ـ (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) هذه تسلية لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تكذيب أهل مكة إياه ، أي لست بأوحديّ في التكذيب (فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) قبل قومك (قَوْمُ نُوحٍ) نوحا (وَعادٌ) هودا (وَثَمُودُ) صالحا.

٤٣ ـ (وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ) إبراهيم (وَقَوْمُ لُوطٍ) لوطا.

٤٤ ـ (وَأَصْحابُ مَدْيَنَ) شعيبا (وَكُذِّبَ مُوسى) كذّبه فرعون والقبط ، ولم يقل وقوم موسى لأنّ موسى ما كذّبه قومه بنو إسرائيل وإنما كذّبه غير قومه ، أو كأنه قيل بعد ما ذكر تكذيب كلّ قوم رسولهم وكذّب موسى أيضا مع وضوح آياته وظهور معجزاته فما ظنّك بغيره (فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ) أمهلتهم وأخرت عقوبتهم (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) عاقبتهم على كفرهم (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) إنكاري وتغييري حيث أبدلتهم بالنعم نقما وبالحياة هلاكا وبالعمارة خرابا. نكيري بالياء في الوصل والوقف يعقوب.

٤٥ ـ (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) أهلكتها بصري (وَهِيَ ظالِمَةٌ) حال أي وأهلها مشركون (فَهِيَ خاوِيَةٌ) ساقطة ، من خوى النجم إذا سقط (عَلى عُرُوشِها) يتعلق بخاوية ، والمعنى أنها ساقطة على سقوفها ، أي خرّت سقوفها على الأرض ، ثم تهدّمت حيطانها فسقطت فوق السقوف ، ولا محلّ لفهي خاوية من الإعراب لأنها معطوفة على أهلكناها ، وهذا الفعل ليس له محل ، وهذا إذا جعلنا كأيّن منصوب المحلّ على تقدير كثيرا من القرى أهلكناها (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) أي متروكة لفقد دلوها ورشائها (١) ورفض (٢) تفقّدها ، أو هي عامرة فيها الماء ومعها آلات الاستقاء إلا أنها

__________________

(١) رشائها : حبلها.

(٢) في (ز) وفقد.

١٥٨

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) (٤٨)

عطّلت أي تركت لا يستقى منها لهلاك أهلها (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) مجصّص ، من الشيد الجصّ ، أو مرفوع البنيان من شاد البناء رفعه ، والمعنى كم قرية أهلكناها وكم بئر عطّلناها عن سقاتها وقصر مشيد أخليناه عن ساكنيه ، أي أهلكنا البادية والحاضرة جميعا ، فخلت القصور عن أربابها والآبار عن ورّادها (١) ، والأظهر أنّ البئر والقصر على العموم.

٤٦ ـ (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) هذا حثّ على السفر ليروا مصارع من أهلكهم الله بكفرهم ويشاهدوا آثارهم فيعتبروا (فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) أي يعقلون ما يجب أن يعقل من التوحيد ونحوه ، ويسمعون ما يجب سماعه من الوحي (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) الضمير في فإنها ضمير القصّة ، أو ضمير مبهم يفسره الأبصار ، أي فما عميت أبصارهم عن الإبصار بل قلوبهم عن الاعتبار ، ولكلّ إنسان أربع أعين عينان في رأسه وعينان في قلبه ، فإذا أبصر ما في القلب وعمي ما في الرأس لم يضرّه ، وإن أبصر ما في الرأس وعمي ما في القلب لم ينفعه ، وذكر الصدور لبيان أنّ محلّ العلم القلب ، ولئلّا يقال إنّ القلب يعنى به غير هذا العضو كما يقال القلب لبّ لكلّ (٢) شيء.

٤٧ ـ (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) الآجل استهزاء (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) كأنّه قال : لم يستعجلون (٣) به كأنهم يجوّزون الفوت ، وإنما يجوز ذلك على ميعاد من يجوز عليه الخلف والله لا يخلف الميعاد (٤) ، وما وعده ليصيبنّهم ولو بعد حين (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) يعدّون مكي وكوفي غير عاصم ، أي كيف يستعجلون بعذاب من يوم واحد من أيام عذابه في طول ألف سنة من سنيّكم ، لأنّ أيام الشدائد طوال.

٤٨ ـ (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ) أي وكم من أهل قرية كانوا

__________________

(١) في (ز) واردها.

(٢) في (ظ) و (ز) لب كل شيء.

(٣) في (ز) يستعجلونك.

(٤) في (ظ) و (ز) ولن يخلف الله وعده.

١٥٩

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٥١) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٥٢)

مثلكم ظالمين قد أنظرتهم حينا (ثُمَّ أَخَذْتُها) بالعذاب (وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) أي المرجع إليّ فلا يفوتني شيء ، وإنما كانت الأولى أي فكأيّن معطوفة بالفاء وهذه أي وكأيّن بالواو لأنّ الأولى وقعت بدلا عن فكيف كان نكير ، وأما هذه فحكمها حكم ما تقدّمها من الجملتين المعطوفتين بالواو وهما ولن يخلف الله وعده ، وإنّ يوما عند ربّك.

٤٩ ـ (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) وإنما لم يقل بشير ونذير لذكر الفريقين بعده ، لأنّ الحديث مسوق إلى المشركين ، ويا أيها الناس نداء لهم ، وهم الذين قيل فيهم أفلم يسيروا ، ووصفوا بالاستعجال ، وإنما أقحم المؤمنون وثوابهم ليغاظوا ، أو تقديره نذير مبين وبشير ، فبشّر أولا فقال :

٥٠ ـ (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لذنوبهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي حسن. ثم أنذر فقال :

٥١ ـ (وَالَّذِينَ سَعَوْا) سعى في أمر فلان إذا أفسده بسعيه (فِي آياتِنا) أي القرآن (مُعاجِزِينَ) حال. معجّزين حيث كان مكي وأبو عمرو. وعاجزه سابقه أنّ (١) كلّ واحد منهما في طلب إعجاز الآخر عن اللحاق به ، فإذا سبقه قيل أعجزه وعجّزه ، والمعنى سعوا في معناها بالفساد من الطعن فيها حيث سمّوها سحرا وشعرا وأساطير ، مسابقين في زعمهم وتقديرهم طامعين أنّ كيدهم للإسلام يتمّ لهم (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي النار الموقدة.

٥٢ ـ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) من لابتداء الغاية (مِنْ رَسُولٍ) من زائدة لتأكيد النفي (وَلا نَبِيٍ) هذا دليل بيّن على ثبوت التغاير بين الرسول والنبي بخلاف ما يقول البعض إنهما واحد ، وسئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الأنبياء فقال : (مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا) فقيل فكم الرسل منهم فقال : (ثلثمائة وثلاثة عشر) (٢) والفرق بينهما أن الرسول

__________________

(١) في (ز) كأن.

(٢) أحمد وإسحاق من رواية معاذ بن رفاعة عن علي عن القاسم عن أبي أمامة أن أبا ذر سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الحديث ، وسبق ذكره في سورة النساء الآية ١٦٤ وأتم منه.

١٦٠