تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ١

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٠

اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (٥٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ

____________________________________

(اتَّخَذُوها) أي اتخذوا الصلاة (هُزُواً وَلَعِباً) مهزلة وتلاعبا فيتضاحكون ويتغامزون بينهم ـ كما هي عادة منافقي اليوم أيضا ـ (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ) أي ذلك الاستهزاء بالصلاة بسبب أن الكفار (قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) منافع الصلاة وأنها موجبة للنجاة من النار.

[٦٠] وجاء قوم من اليهود يسألون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمن يؤمن به من الرسل؟ فقال : أؤمن بالله وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق .. إلى أن ذكر عيسى عليه‌السلام فلما سمعوا ذلك منه جحدوا نبوته وقالوا : ما نعلم أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم ، ولا دينا شرّا من دينكم ، فنزلت (قُلْ) يا رسول الله لأهل الكتاب : (يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا) أي تسخطون علينا (إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ) إيمانا لا يشوبه كفر ـ كإيمانكم ـ (وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) يعني القرآن الحكيم (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ) على جميع الأنبياء (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) فإن فسقكم ـ أي خروجكم ـ عن دين الله هو سبب نقمتكم علينا. وهذا كقولهم : «هل تنقم مني إلا أني عفيف وأنك فاجر» ، أو : «إلا أني كريم وأنت بخيل» ، فهو من باب الازدواج يحسن في الكلام لتعميم المقابلة ، فهو عطف على قوله : «أن آمنا».

[٦١] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء المستهزئين : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ) أي أخبركم (بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ) أي إن كان إيمانا شرا عندكم فأنا أخبركم بشر من

٦٦١

مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٦٠) وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ

____________________________________

ذلك (مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ) أي جزاء من عنده سبحانه ، وسمّي «مثوبة» استهزاء بهم ، وإنما سمّي ما عند المؤمنين شرا ـ وإن لم يكن ما للمؤمنين إلا الخير ـ للمقابلة في الكلام (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) أي طرده عن رحمته ، فلعنة الله لكم من شر إيماننا نحن (وَغَضِبَ عَلَيْهِ) بسبب عصيانه وتمرده عن الحق (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ) جمع «قرد» ، كما قال سبحانه : (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (١) ، (وَالْخَنازِيرَ) بأن مسخهم على صور هذين الحيوانين النجسين (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) عطف على قوله : «لعنه الله» والطاغوت هو العجل الذي عبدوه (أُولئِكَ) اليهود الذين هذه صفاتهم (شَرٌّ مَكاناً) أي أن مكانهم في سقر الذي هو شر من مكان المؤمنين الذين نقموا منهم ، وقد ذكرنا أن هذا الكلام من باب المشاكلة اللفظية وإلا فليس في مكان المؤمنين شر (وَأَضَلُ) أي أكثر ضلالا (عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) أي وسط الطريق.

[٦٢] وحيث ابتدأ الكلام بعرض المنافق وأهل الكتاب في صف واحد ، ذكر سبحانه صفة من صفات المنافقين ، وأنهم كيف لا يؤثّر فيهم الوعظ والإرشاد (وَإِذا جاؤُكُمْ) أي جاءكم المنافقون (قالُوا آمَنَّا) إيمانا كإيمانكم (وَ) لكنهم في دعواهم تلك كاذبون ، إذ (قَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ

__________________

(١) البقرة : ٦٦.

٦٦٢

وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢)

____________________________________

وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) أي بالكفر ، كأن «الكفر» مادة يحملونها معهم فهم قد دخلوا بهذه المادة حينما دخلوا في المجلس ، ثم خرجوا بهذه المادة كما دخلوا ، لم تؤثر فيهم الموعظة والبلاغ ، حيث كانت قلوبهم مع إخوانهم الكافرين لا معكم حتى تؤثر فيهم الموعظة (وَاللهُ أَعْلَمُ) منكم (بِما كانُوا يَكْتُمُونَ) أي يخفون من الكفر والنفاق.

[٦٣] ثم إن هؤلاء الكفار يجمعون مع كفرهم صفات أخرى ذميمة هي من مستلزمات الانحراف ، أشار إليها بقوله تعالى : (وَتَرى) يا رسول الله (كَثِيراً مِنْهُمْ) أي من هؤلاء الكفار وهم الرؤساء وذووا الجاه والمنصب (يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) فيسابق بعضهم بعضا في فعل الإثم والتعدي على الناس ، إنهم حيث لم يؤمنوا بالله وكانت ديانتهم ـ المزعومة ـ صورية كان همّهم تحصيل أكثر ما يمكن من المال والجاه ، لذا يتسابق بعضهم بعضا في ذلك ، إن الإثم لا أهمية له في نظرهم إذ لم يعمر قلوبهم الإيمان ، والتعدي من شأن من يريد إعمار دنياه (وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) كل مال حرام من رشوة وربا وأكل أموال اليتامى وأكل أموال الناس بالباطل (لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) فإن أعمالهم توجب خزي الدنيا والآخرة.

[٦٤] وهنا يتوجه السياق إلى العلماء والمتدينون منهم ، كيف يسكتون على هذه المنكرات البشعة التي ظهرت في اليهود؟ وما شأنهم إذا سكتوا عن

٦٦٣

لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣) وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا

____________________________________

كل تلكم الجرائم (لَوْ لا) كلمة تحضيض بمعنى «هلّا» أي : لماذا لا (يَنْهاهُمُ) أي ينهى هؤلاء الذين يسارعون في الإثم والعدوان (الرَّبَّانِيُّونَ) جمع «رباني» وهو منسوب إلى الرب على غير القياس ، أي الإلهيون الذين يتورعون من خوف الله سبحانه (وَالْأَحْبارُ) جمع «حبر» بالفتح والكسر ، وهو العالم (عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ) وهو ما يقوله الإنسان بغير حق من كذب وغيبة ونميمة وتحريف وغيرها (وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) من الربا والرشوة وغيرهما ، و «السحت» هو أشد أنواع الحرام (لَبِئْسَ ما كانُوا) أي كان هؤلاء الربانيون والأحبار (يَصْنَعُونَ) فإن سكوتهم عن الباطل ومجاملتهم لأهله نوع من الصنع.

[٦٥] ثم بيّن سبحانه مثلا ل «قولهم الإثم» بقوله : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) لا ينفق رزقا ولا يعطي شيئا ، كأنهم قالوا ذلك تبريرا لبخلهم ، فإن الله لو كان لا ينفق فأجدر بهم أن لا ينفقوا ، وقيل : إن سبب نزول هذه الآية : أن اليهود كانوا من أكثر الناس مالا وسعة ، فلما جاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذبوه ضيق الله عليهم فقال أحد اليهود : إن يد الله مغلولة ، فرد الله عليهم (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) دعاء عليهم بأن تغل أيديهم عن الخير ، أو إخبار عنهم بأن اليهود بخلاء لؤماء ، أي أنهم غلت أيديهم ، لا الله سبحانه (وَلُعِنُوا بِما قالُوا) لعنهم الله وطردهم عن رحمته بسبب هذه المقالة.

٦٦٤

بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ

____________________________________

(بَلْ يَداهُ) أي يدا الله سبحانه (مَبْسُوطَتانِ) كناية عن جوده وعطائه ، وإنما جاء بذكر اليد للمقابلة ، وذكر «يداه» لإفادة تمام معنى الجود (يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) فليس في تضييقه على اليهود دليل على أنه مغلول اليد بل إنما ينفق سبحانه كيف يشاء حسب الحكمة والمصلحة. ثم ذكر سبحانه أن نزول القرآن وفضحهم يزيد كثيرا من اليهود انحرافا (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ) أي كثيرا من اليهود ، وإنما لم يذكر كلهم لأن بعضهم لا يعنيه الأمر ، وبعضهم يسبب القرآن هدايتهم (ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) «ما» فاعل «يزيدن» و «كثيرا» مفعول مقدم أي طغيانهم وكفرهم يزداد بسبب القرآن ، أما أن كفرهم يزداد فلأنه كلما أنكروا آية وحكما ازدادوا كفرا وسترا للحق وأما أن طغيانهم يزداد ، فلأنهم يقاومون الدعوة أكثر فأكثر كلما رأوا تقدمها أكثر.

(وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ) أي بين اليهود (الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) فإن طبيعتهم المتخمرة بحب الذات واعتقاد أنهم شعب الله المختار وبخلهم في الأموال ، لا بد وأن توجد بينهم العداوة والحزازة ـ ما داموا يهودا يعتقدون بهذه الاعتقادات السخيفة ـ فإن أسباب النزاع في العالم يدور حول المنصب والمادة غالبا ، وهذان كامنان في كل يهودي ، وقد دل التاريخ على صدق ذلك ، فاليهود دائما متحاربون متباغضون ، حتى في فلسطين اليوم تقوم الأحزاب اليهودية والمنظمات

٦٦٥

كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥)

____________________________________

بأبشع أنواع العداوة والبغضاء فيما بينها وقد مر سابقا تفسير (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) وأنه كناية عن بقاء الحكم ما دام اليهود موجودين (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) أي كلما أرادوا محاربة المسلمين هزمهم الله ونصر المسلمين عليهم ، وقد دل التاريخ على ذلك ، فقد غلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على يهود بني «قريضة» و «النضير» و «خيبر» و «فدك» وغيرهم مع كثرة عددهم وعددهم ، وبعد ذلك لم يتمكن اليهود من محاربة المسلمين ، حتى في يومهم هذا في فلسطين إنما يستندون إلى «حبل من الناس». ثم ما هي إلا فترة حتى تراها قد انقشعوا انقشاع الضباب (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) فهم المفسدون دائما ، حيث يريدون العلو على الناس ، وجمع الأموال ، ومن المعلوم أن ذلك لا يتهيأ لهم إلا بالفساد (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) أي يكرههم ، لملازمة «كراهته» ل «عدم حبه» ، فإن كل مصلح محبوب وكل مفسد مكروه.

[٦٦] (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا) إيمانا بما أنزل الله وتقوى من معاصي الله (لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) أي سترنا سيئاتهم الماضية ، لأن الإسلام يجبّ ما قبله (وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي التي فيها أنواع النعم والكرامة.

٦٦٦

وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (٦٦) يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ

____________________________________

[٦٧] (وَلَوْ أَنَّهُمْ) أي أهل الكتاب (أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) أي عملوا بما فيهما بدون تحريف وزيادة ونقيصة (وَ) أقاموا (ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ) أي القرآن ، وكونه منزلا إليهم باعتبار نزوله بين أوساطهم وفي زمانهم (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ) أي السماء ، فإنه سبحانه ينزل «السماء مدرارا» لمن آمن واتقى (وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) بإعطاء الأرض خيرها وبركتها ، كما قال سبحانه : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) (١) ، (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ) أي من هؤلاء «أهل الكتاب» جماعة معتدلون في العمل لا غلو عندهم ولا تقصير ، كما نجد أن كل أمة بعضهم معتدلون ، وبعضهم متطرفون ، أو المراد بهم : الذين آمنوا بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإطلاق «منهم» على أولئك باعتبار الماضي (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ) أي أن أكثرهم متطرفون يعملون الأعمال السيئة.

[٦٨] (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) هذه الآية نزلت بمناسبة استخلاف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليا خليفة من بعده ـ كما أجمع عليه المفسرون ـ وقد كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخشى المنافقين من ذلك ، فبين

__________________

(١) الأعراف : ٩٧.

٦٦٧

وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ

____________________________________

سبحانه عظم الأمر بقوله : (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ) أي لم تبلغ خلافة علي عليه‌السلام (فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) لأن كل الرسالة رهن هذا التبليغ ، وذلك واضح إذ عدم الاستخلاف معناه ذهاب جميع الأتعاب سدى ، وقد أمنه الله سبحانه مما كان يخشى منه فقال : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ) أي يحفظك (مِنَ النَّاسِ) فلا يتمكنون من الفتنة والانقلاب والإيذاء مما كان يخشاه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وحين ذاك ، وعند منصرف الرسول من حجة الوداع في وسط الصحراء ، أمر بنصب منبر له وخطب خطبة طويلة بليغة ، ثم أخذ بكف علي عليه‌السلام وقال : «من كنت مولاه فهذا علي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله» ، وأنشد حسان :

يناديهم يوم الغدير نبيهم

بخمّ وأسمع بالرسول مناديا

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) الذين يكفرون ببلاغك ، ومعنى «لا يهديهم» أنه لا يلطف بهم اللطف الزائد بعد ما أعرضوا عن الحق عنادا واستكبارا ، ولعل الارتباط بين الآية وطرفيها أنه كما أن الناس مأمورون بالقبول ، فالرسول مأمور بالبلاغ ، مع تلطيف جو الكلام ، بتغيير الأسلوب في وسط المطلب ، تفنّنا في البلاغ ، وتنشيطا للأذهان ، كما تقدم في آيات أخرى مشابهة.

[٦٩] (قُلْ) يا رسول الله لأهل الكتاب : (يا أَهْلَ الْكِتابِ

٦٦٨

لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٦٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ

____________________________________

لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ) من الدين الصحيح الذي ارتضاه الله لعباده (حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) بالعمل بما فيهما بدون تحريف أو تحوير (وَ) تقيموا (ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) يعني القرآن ، وقد سبق وجه قوله : (أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) وأنه لجهة نزول القرآن في أوساطهم (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) فعوض أن يهتدوا بالقرآن يزيدهم طغيانا حيث كلما رأوا القرآن صمموا على مقابلته وكفروا بكل ما ينزل منه ، ولا يخفى أن نسبة الزيادة إلى القرآن مجازا ، وإلا فهوى أنفسهم هو الذي يزيدهم كفرا (فَلا تَأْسَ) أي فلا تحزن يا رسول الله (عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) الذين كفروا بعد ما علموا الحق ، وأعرضوا عن الهدى بعد أن رأوه وعرفوه.

[٧٠] وحيث تقدم أن الله لا يهدي القوم الكافرين ، مما كان يوهم أن الكفار غير قابلين للهداية ، ذكر سبحانه أنهم إن آمنوا ـ الملازم لإمكان الإيمان منهم ـ كان لهم ما لغيرهم من المؤمنين من الأجر والمثوبة (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) إيمانا ظاهرا بالشهادتين (وَالَّذِينَ هادُوا) أي اليهود (وَالصَّابِئُونَ) وهم قسم من المسيحيين أو غيرهم ـ كما تقدم في سورة البقرة ـ ورفع «الصابئون» مع أنه عطف على المنصوب ب «إن» للإلفات إلى أن الصابئ الذي لا يرجى فيه خير إن آمن قبل ، فكيف بغيره؟! فهو معطوف على

٦٦٩

وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩) لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠)

____________________________________

محل اسم «إن» حيث كان مبتدأ قبل دخول الناسخ (وَالنَّصارى) ليس اعتبارا بأسمائهم وصبغتهم العامة في النجاة والثواب ، بل (مَنْ آمَنَ) منهم (بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) إيمانا حقيقيا من القلب ، لا يشوبه شرك ونحوه (وَعَمِلَ صالِحاً) أي عمل عملا صالحا (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لا في الدنيا ولا في الآخرة ، أما في الآخرة فواضح ، وأما في الدنيا فلأن الخوف الحقيقي والحزن الواقعي هو الذي لا يرجى دفعه وتداركه ، بينما خوف هؤلاء وحزنهم ليس كذلك ، فإن خوف المؤمن ليس كخوف الكافر ، وكذلك بالنسبة إلى الحزن.

[٧١] إن اليهود لم يكن لهم إيمان صادق من يومهم الأول ، فكيف تأس عليهم يا رسول الله إن لم يؤمنوا بك؟! ف (لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) عهدهم الأكيد حول الإيمان بالله وأنبيائه واتباع أوامره (وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً) يهدونهم إلى الحق ، لكنهم نقضوا الميثاق وخالفوا الأوامر وتجرءوا على أبشع جريمة ف (كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ) ولا تميل إلى ما جاء به ، بأن لم يكن يوافق مرادهم (فَرِيقاً) من الرسل (ذَّبُوا) كالمسيح عليه‌السلام ، حيث نسبوهم إلى الكذب وأنهم ليسوا من قبل الله سبحانه (وَفَرِيقاً) من الرسل (يَقْتُلُونَ) كزكريا عليه‌السلام.

٦٧٠

وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١)

____________________________________

[٧٢] (وَحَسِبُوا) أي ظن هؤلاء اليهود الذين كذبوا الأنبياء عليهم‌السلام وقتلوهم (أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي لا يسبب قتل الأنبياء عليهم‌السلام وتكذيبهم فتنة ، كما هو شأن كل من يقدم على جرم كبير يظن أن الأوضاع تبقى على ما يشتهي ، منتهى الأمر أن ما صدر عن بعض شهواته يزول ويمحى عن الوجود مع أن الأمر بالعكس ، فإن بقاء المجتمع سليما من الأخطار والآفات إنما هو بانتهاج تعاليم الأنبياء ، فإذا أزيح النبي عن القيادة والتوجيه إما بقتله أو تكذيبه ، فإنه سوف تحل بالمجتمع أشد الكوارث ، وتقع أعظم الفتن (فَعَمُوا وَصَمُّوا) عن مناهج الرشد ، بقتلهم الأنبياء وتكذيبهم ، فإن الإنسان يبصر طريقه ويسمع الحق الذي ينفعه ما دام هناك نور يضيء ، ومرشد يدعو ، أما إذا أزال النور ، وأزاح المرشد ، فإنه يعمى عن طريقه حتى يقع في المهالك ، ويصم عن الحق حتى تحلّ به الكوارث (ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ) بإرسال أنبياء آخرين ، والمراد «التوبة» على هذا الجنس لا خصوص من قتل منهم الأنبياء (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا) أيضا عن الحق ، بأن تركوا تعاليم الأنبياء وأخذوا يتيهون في الضلالة (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) إذ بعضهم آمن واهتدى ، ولفظة «كثير» بدل «بعض» عن «كل» لا فاعل ثان (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) فيجازيهم على ما اقترفوا من الآثام واحتقبوا من الاجرام.

[٧٣] هكذا كان حال اليهود ، حيث كفروا بعد أن أرشدهم الله الطريق ، أما النصارى فإنهم كإخوانهم اليهود في العمى عن الحق بعد الرشاد

٦٧١

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ

____________________________________

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) وهؤلاء قالوا : إن الله اتحد بالمسيح فصار شيئا واحدا ، ولا يخفى أن الاتحاد غير معقول إذ لو بقي الشيئان اثنين بعد الاتحاد لم يكن اتحاد وإن عدم أحدهما ، كان الله ، بينما المسيح بنفسه اعترف بأنه عبد الله (وَ) الحال أنه (قالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ) وحده (رَبِّي وَرَبَّكُمْ) فإنا جميعا عبيده (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ) ويجعل له شريكا ، سواء اعترف به وبالشريك ، أم اتخذ إلها غيره ، فإنه أيضا من جعل الشريك لله (فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) فلا يدخله فيها أبدا (وَمَأْواهُ) أي مصيره (النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بالشرك (مِنْ أَنْصارٍ) ينصرونهم من بأس الله وعذابه.

[٧٤] وهناك قسم آخر من النصارى جعلوا الآلهة ثلاثة (لَقَدْ كَفَرَ) النصارى (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) أي أحد آلهة ثلاثة ، وهم : «الأب» أي الله ، و «الابن» أي المسيح ، و «روح القدس» ، قالوا : هذه الثلاثة واحد ، وذاك الواحد ثلاثة ، وحين يسألون : كيف يمكن ذلك وهو تناقض؟ يقولون : إنه فوق مستوى عقولنا ، ولا يلزمنا معرفة الكيفية.

٦٧٢

وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ

____________________________________

وهناك سؤال هو أنه ما الفرق بينكم أنتم المسلمون حيث تقولون بأن الله لا يدرك كنهه ، وبين الذين قالوا إن مشكلة التوحيد والتثليث فوق مستوى عقولنا؟

والجواب : إن الفرق من أوضح الواضحات ، إذ أولئك يقولون بما لا يمكن ولا يعقل ، وما لا يدرك (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) أي ليس للكون إلا إله واحد هو الله سبحانه (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا) أي لم يرجع هؤلاء النصارى القائلون بالتثليث (عَمَّا يَقُولُونَ) أي عن مقالتهم ، وقولهم بالتثليث (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الدنيا والآخرة ، وإنما لم يقل «ليمسنهم» لإفادة أنهم بمقالتهم هذه يكونون كفارا ، تأكيدا لما سبق من قوله : «لقد كفر» وهذا من أساليب البلاغة ، يقال : «اترك هذا الأمر وإلا لسجنت الفاعل له» عوض أن يقول : «لسجنتك» لإفادة أن علة السجن هو الإتيان بذلك العمل.

[٧٥] ثم استفهم سبحانه استفهاما تعجبيا ، وقد تقرأ في الأصول أن أمثال هذه الاستفهامات والتعجبات إنما هي إنشاء مفهوم الاستفهام والتعجب وأمثالهما ، لداعي آخر من ترغيب وإنكار وما أشبه ، فليس استفهامه ولا تعجبه عن جهل وتعجب كما هو عندنا (أَفَلا يَتُوبُونَ) هؤلاء اليهود والمسيحيون (إِلَى اللهِ) ويرجعون عن عقائدهم السخيفة

٦٧٣

وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥)

____________________________________

وأقوالهم المفتعلة (وَيَسْتَغْفِرُونَهُ) لما مضى من كفرهم وعصيانهم (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر لهم إن تابوا أو استغفروا ، ويرحمهم بفضله إن رجعوا وآبوا.

[٧٦] وبعد ما ذكر سبحانه أقوال المسيحيين حول المسيح ، بيّن تعالى واقع المسيح وأنه ليس كما زعموا (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) أي ليس المسيح عليه‌السلام وذكر «ابن مريم» ، لنفي كونه ابن الله ـ في العبادة ـ (إِلَّا رَسُولٌ) فليس هو بإله (قَدْ خَلَتْ) أي مضت وسبقت (مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) فهو رسول كأحدهم ، فكما ليس أولئك بآلهة ، ليس هذا بإله (وَأُمُّهُ) مريم عليها‌السلام (صِدِّيقَةٌ) كانت كثيرة التصديق بالله وآياته ، فليست هي إله كما زعم جماعة من المسيحيين فقالوا بالأب والأم والابن (كانا) المسيح وأمه (يَأْكُلانِ الطَّعامَ) وذلك من صفات المخلوق لا الإله ، إذ آكل الطعام محتاج إلى الطعام ، وله جوف ، وله أجزاء ، وله حالات ، وكل ذلك ينافي كونه إله (انْظُرْ) يا رسول الله (كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ) ونوضح لهؤلاء النصارى (الْآياتِ) الدالة على عدم كون المسيح إلها (ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي كيف يصرفون عن الحق ، يقال : «أفكه يأفكه إفكا» إذا صرفه ، و «أنى» بمعنى «أين» أي أنهم أين يصرفون عن الحق الموضّح بالآيات؟!

٦٧٤

قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ

____________________________________

[٧٧] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء النصارى الذين يعبدون المسيح ويجعلونه إلها (أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي غير الله (ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) فإن شيئا في الوجود لا يملك ضر أحد ولا نفعه إلا بإذن الله ، ومن أضرّ أو نفع بالوسائل الطبيعية ـ كالقاتل والمعطي ـ أو بالوسائل الغيبية كالأنبياء والأئمة ، فإنما ذلك حيث جعل الله المسببات تابعة لأسبابها الخاصة ، وسلط الفاعل على الأسباب ، فهي ترجع أيضا إليه سبحانه (وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ) لأقوالكم (الْعَلِيمُ) بضمائركم وحركاتكم ، فاحذروا مخالفته ، كي لا تقعوا في عقوبته ونكاله.

[٧٨] (قُلْ) يا رسول الله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ) إما عام يشمل اليهود والنصارى ، فالمراد بغلو اليهود : قولهم عزيز ابن الله ، وقولهم أن المسيح ليس نبيا ، فإنه غلوّ معكوس ، أو المراد به النصارى فقط (لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) بأن تقولوا : المسيح هو الله ، أو ثالث ثلاثة ، أو إنه ابن الله (غَيْرَ الْحَقِ) عطف بيان ، إذ كل غلوّ هو غير الحق (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) فإن أسلافكم لو ضلوا في اعتقادهم وغلوا ، فلما ذا تتبعونهم أنتم ، إنهم كانوا من قبل وقد مضوا ، فما بالكم أنتم تقتفون أثرهم الباطل (وَأَضَلُّوا كَثِيراً) من الناس فأوقعوهم في ضلال الكفر والشرك (وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ

٦٧٥

السَّبِيلِ (٧٧) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩)

____________________________________

السَّبِيلِ) أي الجادة المستقيمة. والتكرار إنما هو لاختلاف المتعلق ، فقد تعدّى أحدهما إلى «من قبل» وتعدى الآخر إلى (عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) أو المراد ب «القوم» كبارهم الذين كانوا قبل النبي قائلين بألوهية عيسى ، وأدركوا فلم يؤمنوا ، فإنهم ضلوا من قبل بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقولهم بالتثليث ، وضلوا بعد بعثته لكفرهم به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

[٧٩] (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) فاللعنة عليهم من قديم الزمان حيث لم ينفكّوا يعملون القبائح ويكفرون بالأنبياء وينسبون إلى الله ما لا يليق به (عَلى لِسانِ داوُدَ) النبي عليه‌السلام في الزبور (وَ) على لسان (عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) في الإنجيل ، فقد لعنهم داود عليه‌السلام لما اعتدوا في السبت فصاروا قردة ، ولعنهم عيسى عليه‌السلام لما كفروا بعد فصاروا خنازير (ذلِكَ) اللعن إنما استحقوه (بِما عَصَوْا) أي بسبب عصيانهم (وَكانُوا يَعْتَدُونَ) أي يتجاوزون حدود الله سبحانه.

[٨٠] ثم بيّن سبحانه بعض عصيانهم واعتدائهم بقوله : (كانُوا) أي كان بنو إسرائيل (لا يَتَناهَوْنَ) أي لا ينهى بعضهم بعضا (عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ) فقد تفشت فيهم المنكرات ولم يكن ينهاهم علماؤهم ، فاستحق الجميع العقاب ، أولئك بإتيان المنكر ، وهؤلاء بسكوتهم عن فاعليه (لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) من إتيان المنكر وعدم التناهي عنه.

٦٧٦

تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ

____________________________________

[٨١] (تَرى) يا رسول الله أن تلك الطبيعة العاتية العاصية موجودة فيهم إلى الآن ، فإن (كَثِيراً مِنْهُمْ) أي من بني إسرائيل ـ اليهود ـ (يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي يتخذون الكفار أولياء لهم ، فقد كان اليهود يتولون كفار مكة ويقولون : (هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) (١) ، في حين يجب على المؤمن أن يعادي الكافر الذي لا يعترف بالله وقوانينه (لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ) أي لهؤلاء اليهود (أَنْفُسُهُمْ) أي بئس ما قدموا لمعادهم من الأعمال السيئة (أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ) محله الرفع ب «بئس» فهو كزيد في قولك : «بئس رجلا زيد» أي بئس السخط الذي قدموه لأنفسهم (وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ) فالسخط يؤذي روحهم ، كمن يعلم أن السلطان غاضب عليه ، والنار تؤذي جسمهم كما قال سبحانه في عكس ذلك : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ) (٢) ، فإن أهل النار يعذبون عذابين ، وأهل الجنة ينعمون نعيمين.

[٨٢] (وَلَوْ كانُوا) أي هؤلاء اليهود (يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) إيمانا صادقا (وَ) يؤمنون ب (النَّبِيِ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ) من القرآن الحكيم

__________________

(١) النساء : ٥٢.

(٢) آل عمران : ١٦.

٦٧٧

مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٨١) لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى

____________________________________

(مَا اتَّخَذُوهُمْ) أي لم يتخذوا الكفار (أَوْلِياءَ) لهم ، أو المراد : أنهم لو آمنوا بموسى وكتابه إيمانا صادقا ، لم يتخذوا الكفار أولياء ، إذ الإيمان بهما يمنع من ولاية الكافرين ، فهم كاذبون في دعواهم أنهم مؤمنون بموسى وكتابه (وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ) خارجون عن طاعة الله ورسوله وكتابه ، فإنما يدعون الإيمان باللسان ، وقلوبهم خالية من الإيمان.

[٨٣] ثم ذكر سبحانه فرقا بين اليهود والنصارى ، وأن اليهود طبيعتهم العامة العناد والاستكبار والعداوة ، وأن النصارى ليسوا بتلك المثابة ، إذ فيهم بعض المنصفين من العلماء ، وما أصدق قوله سبحانه ، فإننا نرى ذلك إلى اليوم ، فقد نجد كثيرا من المسيحيين يسلمون ، ولا نجد إلا الشاذ النادر من اليهود يسلمون (لَتَجِدَنَ) يا رسول الله (أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي للمسلمين (الْيَهُودَ) فإنهم من أعدى أعداء المسلمين (وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) أي المشركين ، فإنهم في صف اليهود ـ وبعدهم في الرتبة ـ عداوة للمسلمين.

(وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ) أقرب الناس (مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي حبّا للمؤمنين (الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) فإنهم وإن كانوا نصارى بصرف

٦٧٨

ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢)

____________________________________

اللفظ (قالُوا إِنَّا نَصارى) (١) ، لا أنهم على تعاليم المسيح ودينه حقيقة ، لكنهم من أقرب الناس حبا للمسلمين (ذلِكَ) أي سبب كونهم أقرب (بِأَنَّ مِنْهُمْ) أي من النصارى (قِسِّيسِينَ) أي علماء من «القس» بمعنى نشر الحديث (وَرُهْباناً) أي الزهاد أصحاب الصوامع من «رهب» بمعنى خاف (وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) عن اتّباع الحق والانقياد إليه إذا علموه. وبهذه الصفة خرج من لم يكن كذلك من النصارى ، فإن القيد يخصّص المطلق.

__________________

(١) المائدة : ١٥.

٦٧٩

الفهرس

المقدمة.......................................................................... ٥

كيفيّة الإعجاز................................................................. ١٠

الشيعة والاهتمام البالغ بالقرآن الکریم............................................. ١٨

بعض مفسّري الشيعة........................................................... ٤٠

المصادر....................................................................... ٧٦

المقدمة........................................................................ ٨٠

المدخل........................................................................ ٨١

كتاب كل عصر ومصر......................................................... ٨١

تطبيق الفكر والعمل على القرآن.................................................. ٨٩

فلسفة كاملة عن الحياة.......................................................... ٩٥

سورة البقرة................................................................... ١٠٢

سورة آل عمران............................................................... ٣١٠

سورة النساء.................................................................. ٤٣٩

سورة المائدة.................................................................. ٥٩٥

الفهرس...................................................................... ٦٨٠

٦٨٠