تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ١

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٠

حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦١)

____________________________________

ظلم اليهود لأنبيائهم ولأنفسهم ولغيرهم. بما تقدم من أقسام الظلم (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) فقد أحلّ قسم من الطيبات لهم ، لكنهم لما ظلموا حرّم عليهم تلك الطيبات جزاء على أعمالهم. والمحرمات هي ما بيّن في قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ ..) (١) ، (وَبِصَدِّهِمْ) أي بمنعهم (عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً) عطف على قوله : «فبظلم» فإنهم كانوا يصدون عن سبيل الله ويمنعون الناس عن التدين بدين المسيح ومحمد عليهما‌السلام كما كانوا يحرفون التوراة حسب رغباتهم وأهوائهم.

[١٦٢] (وَ) ب (أَخْذِهِمُ الرِّبَوا) وهو أخذ الزيادة من المقترض ، فقد كان حراما حتى في شريعتهم ولكنهم لم يكونوا يأبهون بالشريعة (وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) أي والحال أنهم كانوا قد نهوا عن أخذ الربا (وَ) ب (أَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) فقد كانوا يأخذون الرشوة في الحكم ويسيطرون على أموال الآخرين بالمكر أو القوة (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ) الذين لم يؤمنوا بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (عَذاباً أَلِيماً) يؤلم أجسامهم وأرواحهم.

[١٦٣] ولما ذكر سبحانه «للكافرين منهم» فهم أن بعضهم ليس كذلك ، وقد

__________________

(١) الأنعام : ١٤٧.

٥٨١

لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ

____________________________________

بيّن ذلك سبحانه بقوله : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ) كعبد الله بن سلام وأصحابه الذين رسخوا في العلم وثبتوا فيه وعرفوا العلم حق المعرفة (وَالْمُؤْمِنُونَ) يعني أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمحتمل أن المراد بهم : المؤمنون بموسى حقيقة ، مقابل سائر اليهود الذين كان إيمانهم مزيفا كاذبا (يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) يا رسول الله من القرآن الحكيم (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) من كتب موسى وعيسى عليهما‌السلام بخلاف اليهود الذين لم يؤمنوا إطلاقا ، وكان إيمانهم بالتوراة كذبا ، كما قال سبحانه : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) (١).

وهنا قد يتساءل البعض : أن اليهود إن كان في طبيعتهم الانحراف كما هو المشهور بين الناس والظاهر من قوله تعالى : (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) (٢) وقوله : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ) (٣) ومن أعمالهم مع أنبيائهم وبالأخص موسى عليه‌السلام ، فكيف يمكن لهم التخلّي عن هذه الطبيعة؟ وكيف يقبلون بالإسلام إذا أسلموا؟ وكيف يمكن التفريق بين من كفر منهم وبين من قال سبحانه عنه «لكن الراسخون ..»؟

والجواب : أن اليهود لهم جهتا انحراف : الأولى طبيعتهم المتحجرة ، والثانية دينهم الباطل الذي يأمرهم بكل منكر ، وتقاليدهم

__________________

(١) الجمعة : ٦.

(٢) البقرة : ٧٥.

(٣) المائدة : ٨٣.

٥٨٢

وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (١٦٢)

____________________________________

البالية السخيفة. ومن المعلوم أن اليهودي إذا أسلم روضت طبيعته وصقلت بالإسلام ، كالجبان الذي يشجع نفسه حتى تصبح له ملكة الشجاعة ، والفاسق الذي يسلك الصلاح حتى تحصل له ملكة العدالة. وكذلك تذهب تقاليده ودينه المحرّف فلا يكون حافز له على الاجرام والرذيلة ، بالإضافة إلى أن الانحراف ليس من طبيعة الكل مطلقا بل الأغلب ، كما لا يخفى.

(وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) عطف على «الراسخون» أي الذين يقيمون الصلاة من اليهود فإن لكل دين صلاة ، وإنما عطف بالنصب والقاعدة الرفع أي «المقيمون» لأنه نصب على المدح ، وهذا تفنّن في الكلام لإزالة الضجر النفسي الذي يحصل من سبك واحد. وقد كانت إقامة الصلاة الدائمة من أقوى العوامل للإيمان بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنها مذكرة مستمرة توجب ملكة طيبة (وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) فقد كان كل دين يأمر بالزكاة بمعناها الأعم (وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) إيمانا حقيقيا لا صوريا ـ كما كان عند غالب اليهود ـ (أُولئِكَ) المتصفون بهذه الصفات (سَنُؤْتِيهِمْ) في الآخرة (أَجْراً عَظِيماً) في جنات النعيم التي فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين وهم فيها خالدون.

ويمكن أن يكون الكلام من قوله : «والمقيمين» استئنافا إلى أن الراسخين في العلم من اليهود والمؤمنين الذين يقيمون الصلاة ـ من المسلمين ـ أولئك نعطيهم الأجر العظيم ، فلا يكون «المقيمين .. إلخ» من صفات اليهود الراسخين في العلم ، وربما يؤيد هذا الوجه نصب

٥٨٣

إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣)

____________________________________

«المقيمين» كأنه أراد بيان الانقطاع عما قبله وأنه في حكم الضمير في «سنؤتيهم» أي سنؤتي المقيمين .. سنؤتيهم أجرا عظيما ، كباب الاشتغال.

[١٦٤] ثم ذكر سبحانه أن مجادلات اليهود باطلة وأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوحي إليه كما أوحي من قبله إلى سائر الأنبياء ، وقولهم بإنزال الكتاب عليهم بحيث قد كثر في الأنبياء السابقين من أوحي إليه ، قال تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) يا رسول الله «الوحي» هو الإلقاء في القلب بواسطة ملك ، أو ابتداء بدون ملك في اليقظة أو المنام (كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد نوح عليه‌السلام. ثم ذكر بعض الأنبياء بالاسم تعظيما وإن كانوا داخلين في عموم النبيين (وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) وقدّم إسماعيل لأنه أرفع شأنا في الإيمان ، وإن كان الثاني أكبر سنا ـ كما هو المشهور ـ (وَيَعْقُوبَ) وهو حفيد إبراهيم ابن إسحاق جدّ اليهود ، كما أن إسماعيل جد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَالْأَسْباطِ) أي : الأنبياء المبعوثون من أولاد يعقوب ، ويسمّون الأسباط لأنهم أحفاد يعقوب كيوسف وغيره عليهم‌السلام (وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ) ولم يذكر موسى عليه‌السلام لأنه نزل عليه الكتاب من السماء الذي كان محل احتجاج اليهود ـ كما تقدم ـ (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) جمع «زبر» أي شيئا فشيئا ، ولم ننزل على هؤلاء الأنبياء كتابا

٥٨٤

وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥)

____________________________________

كاملا بل إما وحيا وإما جزءا ، كداود عليه‌السلام.

[١٦٥] (وَ) أرسلنا (رُسُلاً) بالوحي إليهم (قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ) كيونس عليه‌السلام (مِنْ قَبْلُ) في سائر القرآن (وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) فقد كان عدد الأنبياء ـ على المشهور ـ مائة وأربعة وعشرين ألفا (١) (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) فلم يكن كل ما أتاه بشكل الكتاب ، فموسى عليه‌السلام الذي هو محل احتجاج اليهود كان الله قد كلمه ، والكلام قسم من الوحي ، ولا يخفى أن كلام الله سبحانه إنما هو بخلق الصوت في الفضاء لأنه سبحانه منزّه عن الجسمية ولوازمها.

[١٦٦] (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ) لمن آمن وأطاع بالثواب (وَمُنْذِرِينَ) لمن كفر وعصى بالعقاب (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ) إرسال (الرُّسُلِ) بل لله الحجة البالغة ، والمراد بالناس الغالب لا الكل إذ بعضهم لم تدركه الدعوة كما هو معلوم بالضرورة ، وصرحت بذلك بعض الأحاديث (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) مقتدرا للعقاب والثواب (حَكِيماً) يفعل الأفعال عن مصلحة وحكمة.

[١٦٧] إن اليهود إن لم يشهدوا لك يا رسول الله بالنبوة بحجة مختلقة

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١١ ص ٢٨.

٥٨٥

لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (١٦٦) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا

____________________________________

(لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ) وشهادة الله هي إجراء المعجزة على يد الرسول ولا يكون ذلك إلا لله وحده ، والفرق بين السحر والمعجزة أن السحر يوصل بالأسباب إلى مسبباتها ولو كانت الأسباب ختوما وأورادا ، والمعجزة خرق لنواميس الطبيعة بمجرد إرادة الرسول ومن آتاه الله ذلك. ولا يفرق بين الأمرين إلا أهل المعرفة ، فالرسول يتمكن من إحياء الميت بينما لا يتمكن الساحر من ذلك وهكذا. (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) أي بعلمه أنك أهل للنبوة ، أو أنزله مقترنا بالعلم الذي من لدنه ، أو أن الإنزال كان معلوما لله تعالى لا كما يأمر الآمر وهو غافل أو جاهل أو ناس أو ساه ، والأول أقرب (وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) بما أنزل إليك ، ولعل ذكر الملائكة تشريعي ، أي بشهادة واقعية وإن لم يكن لها أثر ، أو أن الأثر نصرة الملائكة كما رأوا في يوم بدر وكما ظهر بعض الآثار لنزول الملائكة (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) يشهد بأنك رسوله.

[١٦٨] ثم ذكر سبحانه جزاء الكافرين بالرسول بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي منعوا الناس عن الإيمان ومنعوا الإسلام عن التقدم (قَدْ ضَلُّوا) طريق الحق (ضَلالاً بَعِيداً) متباعدا عن الطريق السوي.

[١٦٩] (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله ورسله وما جاءوا به (وَظَلَمُوا) أنفسهم

٥٨٦

لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٦٩) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ

____________________________________

بالعصيان والناس بالحرمان عن طريق الهداية (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) إذا ماتوا على الكفر ، كما يظهر القيد من سائر الآيات (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً) والمراد طريق الجنة.

[١٧٠] (إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ) جزاء لما فعلوا من الكفر والظلم (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) لا زوال للعذاب ولا انقطاع. وقد يتساءل البعض : ولم العذاب الدائم مقابل العمل الذي كانت له مدة محدودة له؟ والجواب : أن العذاب للشر الكامن الذي كان له مظهر ، وذلك باق أبدا ، ولذا قال سبحانه : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) (١) ، (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) لقدرته الكاملة وسلطانه المطلق.

[١٧١] ثم خاطب سبحانه جميع الناس بوجوب الإيمان والتنكّب عن طريق الكفر بقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (بِالْحَقِ) أي مجيئه بالحق ، أو بالدين الذي ارتضاه الله لعباده (مِنْ رَبِّكُمْ) أي من طرفه وجانبه ، فربكم هو الباعث له. وفيه تأكيد لوجوب القبول (فَآمِنُوا) بما أتى به من الأصول ، وأتوا (خَيْراً لَكُمْ) أي خيرا تعود فائدته إلى أنفسكم (وَإِنْ تَكْفُرُوا) فلا تظنوا أن ذلك يضر الله تعالى (فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ

__________________

(١) الأنعام : ٢٩.

٥٨٧

وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ

____________________________________

وَالْأَرْضِ) فلا ينقصه كفركم شيئا (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بمصالحكم ومفاسدكم ، فالرسول آت بما هو الصلاح لكم (حَكِيماً) في أمره ونهيه وتدبيره وتقديره.

[١٧٢] ثم توجه السياق إلى أهل الكتاب الذين تقدم الكلام عنهم ، لكن هنا يراد بهم النصارى فقط ، فقال سبحانه : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) الغلو : هو مجاوزة الحد والارتفاع ، ومنه «غلا في دينه» أي تجاوز الحد إلى الارتفاع ، فقد كان المسيحيون يقولون بتعدد الآلهة : الأب والابن وروح القدس ، ويريدون بالأول هو الله ، وبالثاني المسيح ، وبالثالث جبرائيل عليه‌السلام (وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ) أي لا تفتروا على الله بأن تقولوا : إن الله أمرنا بعبادة آلهة ثلاثة ، أو المعنى : لا تقولوا بالنسبة إلى الله ما ينافي عظمته من قولكم إن له شريكا (إِلَّا الْحَقَ) وهو أنه لا شريك له ولم يأمر إلا بذلك (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ) قيل : إنما سمي بالمسيح لأنه كان يمسح الأرض ويسيح في البلاد ، و «عيسى ابن مريم» بيان لقوله «المسيح» يعني أنه ابن مريم ، لا أنه ابن الله ، و «رسول الله» خبر لقوله «المسيح» (وَكَلِمَتُهُ) أي كلمة الله ، وهذا تشبيه ، فكما أن المتكلم إذا قال القول ، حدث منه في الخارج شبه إلقاء ، كذلك الله سبحانه يلقي الأشياء إلى الخارج فهي كلماته ، ولذا يقال للمخلوقات «كلمات الله» و «إنما» هنا للحصر الإضافي مقابل النبوة والألوهية.

٥٨٨

أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ

____________________________________

(أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) أي أوجدها في رحمها الطاهرة بدون زواج واقتراب من رجل (وَرُوحٌ مِنْهُ) سبحانه و «الروح» هي القوة ـ الطاقة ـ التي تتحرك وتحرك ، والمعنى : أن عيسى روح من قبل الله سبحانه ، ولذا يقال له : «روح الله» ، ومن المعلوم أن الإضافة تشريفية نحو : بيت الله.

(فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) إيمانا صحيحا بالإذعان لوحدانيته ، وأنه لا شريك له ولا ولد ، وأن المسيح رسوله الكريم (وَلا تَقُولُوا) أيها النصارى أن الإله (ثَلاثَةٌ) أب وابن وروح القدس (انْتَهُوا) عن هذا الكلام البشع ، وأتوا (خَيْراً لَكُمْ) في دنياكم وآخرتكم من التوحيد والتنزيه (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) لا شريك له فليس المسيح شريكا له في الألوهية ، فإن من كان له شريك لا يصلح أن يكون إلها إذ الشركة تلازم التركيب ، والتركيب يلازم الحدوث ، فإن كل مركّب لا بد له من مركّب وأجزاء سابقة ـ ولو رتبة ـ وما سبقه غيره ليس بإله (سُبْحانَهُ) أي أسبّحه سبحانه ، بمعنى : أنزهه تنزيها (أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) كما قال المسيحيون من أن المسيح ابن الله ، فإنه لو أريد بالولد المعنى المتعارف مما يستلزم الولادة ، فإن ذلك من صفات الممكن لا من صفات الإله ، إذ لا يعتري الإله التغيير ، وإلا كان حادثا ، ولو أريد المعنى التشريعي كما يقول الشخص الكبير لبعض

٥٨٩

لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٧١) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ

____________________________________

الناس ـ إذا أراد تشريفهم ـ : «فلان ولدي» فإن ذلك لا يجوز بالنسبة إلى الله سبحانه إذ شؤونه كلها توقيفية ، فقد أذن أن يقال : «فلان خليله» ولم يأذن أن يقال : «ابنه أو ولده». والمراد بالآية هو المعنى الأول.

(لَهُ) أي الله تعالى (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ومن يكون كل شيء ملكه ، لا يمكن أن يكون شيء ولدا له ، إذ الولد من جنس الوالد ، وهو جسم فعل لله فليس له نظير ولا شبيه (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نفاذ أمره ، وهو وعيد للقائلين بالتثليث.

[١٧٣] ثم ذكر سبحانه أن المسيح عليه‌السلام يعترف بأنه عبد الله فلم يقول هؤلاء بأنه ابن الله أو شريك الله؟ (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ) أي لن يأنف عيسى عليه‌السلام (أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ) بل اعترف هو عليه‌السلام حين ولادته بذلك (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) (١) ، (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) الذين قربهم سبحانه من ساحة لطفه. ولعل هذا إشارة إلى رد من زعم أنهم أولاد الله كما حكى سبحانه بقوله : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) (٢) ، (وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ) يأنف ويمتنع (عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ) فيرى نفسه أكبر وأعظم من أن يعترف لله بالعبودية

__________________

(١) مريم : ٣١.

(٢) الزخرف : ٢٠.

٥٩٠

فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧٣) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤)

____________________________________

(فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً) الحشر هو الجمع ، أي يجمعهم يوم القيامة جميعا ليجازيهم باستكبارهم. و «إليه» ليس للمكان لأنه سبحانه منزّه عنه ، بل المراد : المحل المعدّ لقضائه وجزائه.

[١٧٤] (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) إيمانا صحيحا (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي الأعمال الصالحات (فَيُوَفِّيهِمْ) أي يعطيهم عطاء كاملا تاما (أُجُورَهُمْ) التي وعد الله لهم (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي يزيدهم على ما كان قد وعدهم به من الجزاء على أعمالهم الحسنة تفضّلا منه وكرما (وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا) عن عبادته وطاعته (فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي مؤلما (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا) يتولى أمورهم وينجيهم من عذاب الله (وَلا نَصِيراً) ينصرهم.

[١٧٥] (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي حجة ودليل يدلّكم على الحق (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) أي نورا واضحا وهو القرآن ، فكما أن النور يهدي الإنسان إلى طريقه في ظلمات الليل ونحوه ، كذلك القرآن يهدي الإنسان إلى طريقه في ظلمات الحياة ، وبهذا

٥٩١

فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (١٧٥) يَسْتَفْتُونَكَ

____________________________________

المعنى يعني (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١).

[١٧٦] (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ) إيمانا صحيحا كما أمر العقل والشرع (وَاعْتَصَمُوا بِهِ) أي تمسكوا بالله في أمورهم ، أو أن الضمير «به» يرجع إلى النور (فَسَيُدْخِلُهُمْ) يوم القيامة (فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ) سبحانه يرحمهم بها ويتفضل عليهم بالجنة (وَفَضْلٍ) أي زيادة على ما استحقوا (وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ) أي يرشدهم إلى نفسه ، كما قال سبحانه : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) (٢) ، (صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي جادة مستقيمة ، فهم يصلون إلى الحقائق والسعادة في صراط مستقيم ، حيث أنهم اتبعوا الدعوة ولبّوا الداعي. ومفهوم الآية : أن الذين كفروا بالله واعتصموا بسواه فسيدخلهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا ويضلهم ضلالا بعيدا. وما في بعض الأخبار من تفسير «النور» بأمير المؤمنين والأئمة الطاهرين عليهم‌السلام فإن ذلك من باب أظهر المصاديق ، كما قد تكرّر بيانه.

[١٧٧] في حديث أن جابر بن عبد الله الأنصاري كان مريضا فعاده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسأل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلا : إن لي كلالة ـ أي أخوات ـ فكيف أصنع في مالي بالنسبة إلى ميراثهن؟ فنزلت الآية (٣) (يَسْتَفْتُونَكَ) أي يطلبون منك الفتوى يا رسول الله ، ولهذه الآية ربط بما سبق في حكم

__________________

(١) النور : ٣٦.

(٢) محمد : ١٨.

(٣) راجع كتاب فقه القرآن : ج ٢ ص ٣٣٨.

٥٩٢

قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ

____________________________________

الكلالة (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً) (١) ، (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ) أي يبيّن لكم الحكم (فِي) مسألة (الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ) أي مات ، وليس معنى «الهلاك» ما يتبادر غالبا من كونه هلاكا سيئا بل مطلقا ، كما قال في قصة يوسف عليه‌السلام (حَتَّى إِذا هَلَكَ) (٢) ، (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) ولا أبوان حتى لا يكون هناك من في الطبقة الأولى كما دل عليه النص والإجماع (وَلَهُ أُخْتٌ) واحدة (فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ) فرضا ، والنصف الآخر ردّا (وَهُوَ يَرِثُها) أي الأخ يرث الأخت ، لو كانت الأخت ميتة والأخ حيا يرث جميع أموالها فرضا (إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ) ولا والدان ، وهذا مع قطع النظر عن الزوجين ، وإلا فهما يرثان نصيبهما الأعلى والباقي للكلالة.

(فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ) أي كان للرجل الميت أختان (فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ) فرضا والثلث الآخر قرابة (وَإِنْ كانُوا) أي الكلالة التي ترث الميت (إِخْوَةً) أي جماعة أكثر من الاثنين (رِجالاً وَنِساءً) بعضهم أخوان وبعضهم أخوات (فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) لكل أنثى سهم واحد ولكل ذكر سهمان اثنان ، وهذا كله في الأخوة من الجانبين

__________________

(١) النساء : ١٣.

(٢) غافر : ٣٥.

٥٩٣

يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦)

____________________________________

أو من جانب الأب ، أما الأخوة من جانب الأم فقد سبق حكمهم في أول السورة (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ) الأحكام (أَنْ تَضِلُّوا) أي لئلا تضلوا ، أو كراهة أن تضلوا. بمعنى : تخطئوا الحكم في مسألة الكلالة (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيعلم الصالح والفاسد ولذا يكون أمره ونهيه وتقديره عن حكمة وصلاح.

قال في «المجمع» : وقد تضمنت الآية التي أنزلها الله في أول هذه السورة بيان ميراث الولد والوالد ، والآية التي بعدها بيان ميراث الأزواج والزوجات والأخوة والأخوات من قبل الأم ، وتضمنت هذه الآية التي ختم بها السورة بيان ميراث الأخوة والأخوات من الأب والأم ، والأخوة والأخوات من قبل الأب عند عدم الأخوة والأخوات من الأب والأم. وتضمن قوله سبحانه : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) (١) ، أن تداني القربى سبب في استحقاق الميراث فمن كان أقرب رحما وأدنى قرابة كان أولى بالميراث من الأبعد ، والله العالم (٢).

__________________

(١) الأنفال : ٧٦.

(٢) مجمع البيان : ج ٣ ص ٢٥٥.

٥٩٤

(٥)

سورة المائدة

مدنية ـ آياتها ١٢١

سميت السورة بالمائدة لاشتمالها على كلمة «المائدة» ، وحيث ختمت السورة المتقدمة ببيان الحكم بين الميت والحي ، تبتدئ هذه السورة ببيان الحكم بين الأحياء ، فقال سبحانه :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) وقد كان لتكرار البسملة أول كل سورة تعليما للناس أنهم إذا أرادوا أن يبتدءوا بعمل أن يقولوا هذه الجملة المباركة.

٥٩٥

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ

____________________________________

[٢] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) سبق أن الأحكام عامة ، وإنما يخاطب المؤمنون بها لكونهم المستفيدين منها (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) «الجمع المحلّى بأل» يفيد العموم ، أي كل العقود و «عقود» جمع عقد ، وهو كل التزام وميثاق بين جانبين ، فتشمل عقود الناس بعضهم مع بعض والمعاهدات الدولية والمواثيق التي بين الله وبين خلقه ، وحيث كانت المواثيق بين الله والخلق أولى العهود بالوفاء ، ابتدأ بها بقوله سبحانه : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) فإن الحلال والحرام وسائر الأحكام عقود بين الله والخلق ، أن يعمل الخلق بالأوامر ويجزيهم الله عوض ذلك الجنة ، كما قال سبحانه : (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ) (١) ، والبهيمة من «الإبهام» يراد بها كل دابة ، والأنعام هي الإبل والبقر والغنم وما أشبهها كالظبأ واليحمور ، وسميت بهيمة لأنها لا تميّز ، والأنعام من «النّعم» لأنها من نعم الله على الخلق ، والمراد ب «الحلية» الحلية ذبحا وأكلا وانتفاعا.

(إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) أي يقرأ عليكم مما هو محرم وهو قوله سبحانه : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) (٢) ، (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) حال من «أحلت» أي أن التحليل في حال كونكم لا تحلّون الصيد في حال الإحرام ، وهذا الحال استثناء يأتي بهذه الصورة كما تقول : «يجوز لك أن تتصرف في أموالي في حال

__________________

(١) التوبة : ١١١.

(٢) المائدة : ٤.

٥٩٦

إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ

____________________________________

كونك لا يجوز لك التصرف في النفائس منها» تريد أن الجواز في غيرها (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) من تحليل وتحريم وسائر الأحكام مما يراه صلاحا.

[٣] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) الشعائر جمع شعيرة ، وهي الأمر المرتبط بشيء كأنه من علائمه ومزاياه ، فشعائر الحج : الأمور المرتبطة بالحج ، وشعائر الله الأمور المرتبطة بالله ، ولعل اشتقاقها من «الشعر» بمعنى ما ينبت من الإنسان ، كأن الشعيرة تلازم الشيء تلازم الشعر ، أو تلازم الشعار ـ الذي هو الثوب الذي على الجسد مقابل الدثار الذي هو الثوب الفوقاني ـ لبدن الإنسان. والشعائر في الآية ـ لكونها مطلقة ـ تشمل كل شيء كان أو أصبح من الأمور المرتبطة بالله مما لم ينه عنه ، فمعالم الحج من الشعائر ، كما أن تشييد القباب على أضرحة الأئمة الطاهرين من الشعائر. والمراد من عدم إحلال الشعائر : خرق حرمات الله.

وقد ورد عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنه قال : «نزلت هذه الآية في رجل من بني ربيعة يقال له الحطم ، وقيل أنه أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسأله عن معالم الإيمان ، ثم أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنه دخل بوجه كافر وخرج بعقب غادر ، ولما وصل إلى سرح ساقه معه بها وأقبل في القابل حاجا قد قلد هديا ، فلما قصد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معاقبته نزلت الآية» (١) يريد بذلك «آمّين البيت الحرام».

__________________

(١) البحار : ج ١٩ ص ١٤٨.

٥٩٧

وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا

____________________________________

(وَلَا) تحلوا (الشَّهْرَ الْحَرامَ) بأن تقاتلوا فيه ، والأشهر الحرم هي : رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم (وَلَا) تحلوا (الْهَدْيَ) وهو الشيء الذي يهديه الحاج إلى بيت الله الحرام للذبح من إبل أو بقر أو غنم ، والمراد : لا تحولوا دون بلوغ ذلك إلى محله (وَلَا) تحلوا (الْقَلائِدَ) وهي جمع قلادة ، ما يقلد به الهدي من الإبل ، وهو أن يقلد في عنقها شيء ليعلم أنه هدي لا يجوز تحليتها إذ بعد تقليدها تكون لله ولا يجوز الرجوع فيها (وَلَا) تحلوا حال كونكم (آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) جمع «آمّ» على وزن «مادّ» من «أمّ» بمعنى قصد أي لا تتعرضوا لمن قصد البيت الحرام لأداء الحج (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً) أي يطلبون بقصدهم الحج الفضل ـ أي الزيادة في الثواب أو المال أو غيرهما ـ من الله ورضاه مقابل من قصد الحج للإفساد فإن صده جائر.

(وَإِذا حَلَلْتُمْ) عن الإحرام (فَاصْطادُوا) الصيد الذي حرمه الإحرام ، والأمر هنا للجواز لأنه في مقام توهم الحضر ، وهذا دفع لما تقدم من قوله سبحانه : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) فقد كان السياق لبيان المحرمات ، ولذا أتت الآية الثانية لبيان سائر المحرمات مما أشير إلى بعضها في الآية الأولى وهو (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ).

ثم إنه لما أنهى سبحانه عن تحليل تلك الحرمات ، بيّن أن هذه الحرمات لا فرق فيها بين من اعتدى عليكم وبين من لم يعتد عليكم ،

٥٩٨

وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ

____________________________________

بقوله : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) أي لا يحملنّكم من «جرمني فلان على أن صنعت كذا» أي حملني (شَنَآنُ) أي بغضاء وعداوة (قَوْمٍ) لكم ب (أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي منعوكم عنه كما في عام الحديبية.

(أَنْ تَعْتَدُوا) عليهم بتحليل المحرمات المذكورة بالنسبة إليهم (وَتَعاوَنُوا) أيها المسلمون (عَلَى الْبِرِّ) أي الخير واجبا كان أو غير واجب (وَالتَّقْوى) وهو اجتناب المحرمات ، بأن يعين بعضكم بعضا في الأعمال الخيرية وترك الآثام (وَلا تَعاوَنُوا) أيها المسلمون (عَلَى الْإِثْمِ) فإذا أراد أحد منكم أن يعمل إثما فلا تعينوه (وَالْعُدْوانِ) أي الظلم والتعدي ، وهذا مرتبط بقوله : «أن تعتدوا» فقد جرت العادة أن يتعاون الناس على الإثم والظلم ، ولذا نهى الله المسلمين عنه (وَاتَّقُوا اللهَ) اجتنبوا مخالفته وعصيانه (إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن خالفه وعصاه.

[٤] وفي سياق المحرمات المرتبطة بالحج ـ غالبا ـ ذكر سبحانه قسما آخر من المحرمات وهو ما استثناه سبحانه في الآية السابقة بقوله : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) فقال : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ) أيها المسلمون (الْمَيْتَةُ) وهي التي لم تمت بسبب شرعي من ذبح ونحر وغيره ، وذلك مختلف ففي

٥٩٩

وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ

____________________________________

الأنعام مثلا تحتاج التذكية إلى فري الأوداج وسائر الشرائط ، وفي الصيد رميه ، وفي السمك موته خارج الماء ، وهكذا .. والمراد بالتحريم : أكلها ، فإن التحريم الشرعي يراد منه : بحسب الأمر المتوقع منه ، فتحريم الحرير يراد به لبسه ، وتحريم الأم يراد به اقترابها ، وتحريم المسكن يراد به سكناه (وَالدَّمُ) وهو ما بيّنه سبحانه في آية أخرى بقوله : (دَماً مَسْفُوحاً) (١) ، أما المقدار المتبقي في اللحم فلا حرمة فيه (وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) وخصّص بالذكر مع كثرة تحريم اللحوم لاعتياد الناس أكله وظنهم طيبه.

ثم لا يخفى أن المحرمات تنقسم إلى قسمين : قسم لما فيه من الإضرار.

أما ما يذكره بعض الناس ـ الآن من العلم الحديث ـ من إمكان التخلص من أضرار لحم الخنزير بالتعقيم ، فليس بمحرم إذا عقّم.

فالجواب عنه : أنه أي دليل لعدم وجود أضرار أخرى فيه بعد التعقيم لم يكشف عنها العلم إلى الآن ، كما لم يهتد العلم طيلة أربعة عشر قرنا لهذا الضرر الذي اكتشف الآن.

وقسم حرم لجهة معنوية ، كالذي لم يسمّ عليه اسم الله سبحانه ، وهذا لا يتوقف تحريمه على الضرر الجسدي بل يحرم لانحرافه عن الميزان المستقيم.

(وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ) الإهلال بالشيء الابتداء به (بِهِ) أي

__________________

(١) الأنعام : ١٤٦.

٦٠٠